د. سلمان بن سعود بن عبد العزيز آل سعود
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
ذكرت في المقال السابق أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ضروري لتحقيق خيرية الأمة الإسلامية وفلاحها وصلاحها، قال جل وعلا: ?وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ? [آل عمران:104].
وقال سبحانه وتعالى: ?يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ? [آل عمران:114].
وقال عز من قائل: ?لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا? [النساء:114].
إلا أن هناك من تعصَّب لمنهجه الذي يسير عليه، ولم ينظر إلى الدليل، ولا سيما في فقه الدعوة، فتجده قد انخرط في مدارس دعوية وارتبط بها إما ارتباطاً كلياً، فلم يعد يأتمر ويأخذ إلا من خلال ما تقرره جماعته أو شيخه، أو ارتباطًا فكريًا, وتتلمذ على كتابات الكُتَّاب والمفكرين الذين أسلم عقله لهم، وإن لم يرتبط بهم، فالحق عنده ما قاله الكاتب الفلاني، أو الشيخ الفلاني, فهو في الحقيقة يعد منتميًا لتلك المدرسة وإن زعم خلاف ذلك، ومثلهم من أعجب برأيه، فالحق ما وصل إليه، وإن خالف الأدلة القطعية، وهؤلاء تكوَّنت لديهم قناعات ومعتقدات بنوا عليها مناهجهم في العمل الإسلامي، مما يجعل مناقشتهم ومناظرتهم في غاية الصعوبة، عدا من تربى منهم على الحق, ولديه ورع يحميه من التعصب الأعمى.
ضوابط ممارسة والي الحسبة للسلطات المخولة له:
أولًا: أن استعمال الحقوق مقيد بعدم الإضرار بالآخرين؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه عبادة بن الصامت -رضي الله عنه-: «لا ضرر ولا ضرار».
ثانيًا: منع استعمال الحق الخاص إذا أدى إلى ضرر عام، أخذا بالقاعدة الأصولية: “درء المفاسد مقدم على جلب المصالح”، وقاعدة: “يتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام”.
ثالثًا: أن الحقوق إنما شرعت لتحقيق المصالح، فإذا استعمل الحق لغير مصلحة، أو لمصلحة غير مشروعة، أو لمصلحة مرجوحة، أو ترتب عليه مفسدة أعظم، كان هذا استعمالاً للحق في غير ما شرع له، فيكون استعمال الحق في هذه الحالة تعسفًا فيه, والتحذير من إساءة استعمال السلطة واستغلال النفوذ ثابت في الشريعة الإسلامية، ويدل على ذلك قوله تعالى: ?يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ? [ص:26].
وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «اللهم من ولي من أمر أمتي شيئًا فشق عليهم فاشقق عليه».
وإنكار المنكر مثل سائر القضايا الدعوية؛ إذ تجد الصالحين على طرفي نقيض، ووسطًا، فمنهم التاركون له، الذين لا يقيمون له وزنًا، وآخرون نادوا به وجعلوه طريق الدعوة، وليس من طرقها ولوازمها, بل الطريق الوحيد، ووصلوا به إلى الاعتداء بالإهانة والضرب والقتل، ولم ينظروا في العواقب, فأنكروا بغير علم وبصيرة وحكمة، وأحدثوا من المنكرات والشر أكثر مما دفعوا.
آداب وصفات الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر:
1) الإخلاص:
يجب على الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يخلص عمله لله تعالى، حتى يُثاب عليه ويؤجر ويُقبل منه، فإن الإخلاص هو أساس أمره ونهيه، قال تعالى: ?وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ? [البينة:5].
وأن ينوي في ذلك وجه الله تعالى، ويجعل نيته خالصة له سبحانه، وأن يقصد بعمله هذا أن تكون كلمة الله هي العليا، وأن يحرر نفسه عند العزم على القيام بهذا العمل من أي نية أخرى، ويجرد نيته من جميع حظوظه الشخصية, فإن الله تبارك وتعالى يقول فيما يخبر عنه الرسول -عليه الصلاة والسلام- في الحديث القدسي: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملًا أشرك فيه غيري، تركته وشركه».
ويتضح مما سبق أن الشخص الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر إذا نوى بعمله في مجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أمورًا شخصية، كأن ينوي بروز شهرته بين الناس، أو ينوي أن يظهر للناس أنه عالم، أو ينوي إبراز قوته وهيمنته وسيطرته, وفرض أوامره على الآخرين، أو ينوي الانتقام والتشفي من شخص معين؛ لأنه يكرهه لسبب من الأسباب، أو ينوي التقليل من قدر شأن كريم محبوب عند الناس ليعلم الناس بفسقه، إذا عمل هذه الأشياء وأمثالها، فإن عمله هذا رياء، ولا يكون من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولكنه المنكر بعينه.
2) العلم والورع:
ليس المقصود هنا أن يكون محيطًا بجميع أحكام الإسلام العامة والخاصة، وإنما يكون عالمًا فيما يأمر به وينهى عنه، فلا يأمر إلا بما أمر به الشارع، ولا ينهى إلا عما نهى عنه الشارع؛ كي يكون على بصيرة بدينه، قال تعالى: ?قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي? [يوسف:108].
وقال جل جلاله: ?قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ? [الزمر:9].
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: “ولا يكون عمله –أي: المحتسب- صالحًا، إن لم يكن بعلم وفقه”.
وكما في حديث معاذ بن جبل –رضي الله عنه-: “العلم إمام العمل، والعمل تابعه”.
كما أن أغلب من يمارس الحسبة في الماضي هم من أهل العلم والفقه في الدين؛ ولذا اشترط بعض الفقهاء أن يكون المحتسب من أهل الاجتهاد، وخالفهم آخرون على الخلاف الجاري في هذه المسألة.
3) الرفق واللطف والرحمة بمن يأمره وينهاه:
من الصفات الكريمة والآداب الحميدة التي يجب أن يتحلى بها من يتصدى لدعوة الناس إلى الخير ونهيهم عن الشر: لين الجانب وحسن الخلق؛ ليكون التأثير أبلغ, والاستجابة أقوى، وهذه الصفة من اللطف والرفق واللين هي من أميز ما يجب أن يظهر به الداعية في طريق الإصلاح والتبليغ والدعوة إلى الله, يقول سبحانه وتعالى مخاطبًا رسوله الكريم -عليه أفضل الصلاة والتسليم-: ?فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ? [آل عمران:159].
وقال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: «ما كان الرفق في شيء إلا زانه, ولا نزع من شيء إلا شانه».
وفي رواية: «ولا عزل عن شيء إلا شانه».
وقال أيضًا -صلى الله عليه وسلم-: «إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله, ويعطي عليه ما لا يعطي على العنف, وما لا يعطي على ما سواه».
وقال سفيان الثوري -رحمه الله-: “لا يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر إلا من كان فيه خصال ثلاث: رفيق بما يأمر, رفيق بما ينهى، عدل بما يأمر, عدل بما ينهى، عالم بما يأمر, عالم بما ينهى”.
وقال الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله تعالى-: “الناس يحتاجون إلى مداراة ورفق في الأمر بالمعروف بلا غلظة، إلا رجلًا مباينًا معلنًا بالفسق، فيجب عليه نهيه وإعلانه؛ لأنه يقال: ليس لفاسق حرمة، فهذا لا حرمة له”.
4) الحلم والصبر:
الصبر من الصفات اللازمة لنجاح الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، وهو فضيلة من الفضائل التي حث عليها القرآن الكريم في مواضع كثيرة، وهو خصلة من خصال أولي العزم من الرسل، وإنه من عزم الأمور, قال تعالى: ?وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ? [الشورى:43].
وقال جل وعلا: ?فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ? [الأحقاف:35].
وقد يواجه الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر -في الأصل- معارضة ممن يأمرهم أو ينهاهم؛ ذلك لأنه ينهاهم عن أمر يخالف أهواءهم وما اعتادوا عليه، وصور المعارضة هذه متعددة، فإما أن تكون على شكل إيذاء وضرب، أو سب وشتيمة.. وغيرها من الصور كثير, ومن عاهد الله أن يكون جنديًا من جنوده، وأخذ على عاتقه دعوة الناس لهذا الخير, فلا بد أن يتحمل أذاهم، وهذا ما أمر به الله سبحانه النبي -صلى الله عليه وسلم- عندما قال له: ?وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا? [المزمل:10].
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية: “أمر الله الرسل، وهم أئمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالصبر”.
فلا بد لمن يقوم بهذه الفريضة أن يكون حليمًا صبورًا؛ فإنه إن لم يكن كذلك فربما يؤول أسلوبه إلى فساد أكثر من الإصلاح؛ ولذلك كانت وصية لقمان لابنه, كما قال الله تعالى: ?وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ? [لقمان:17].
فإن لم يحلم ويصبر، كان ما يُفسد أكثر مما يُصلح, فلا بد من هذه الثلاث: العلم، والرفق، والصبر, العلم قبل الأمر والنهي، والرفق معه، والصبر بعده, وإن كان كل من الثلاثة مستصحبًا في هذه الأحوال, وهذا كما جاء في الأثر عن بعض السلف ورووه مرفوعًا، ذكره القاضي أبو يعلى: “لا يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر إلا من كان فقيهًا فيما يأمر به، فقيهًا فيما ينهى عنه، رفيقًا فيما يأمر به، رفيقًا فيما ينهى عنه، حليمًا فيما يأمر به، حليمًا فيما ينهى عنه”.
5) القدوة فيما يدعو إليه واجتناب ما ينهى عنه:
العدالة ليست شرطًا أساسيًا للقيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإنما هي شرط كمال وأدب, والذي لا شك فيه أن الداعية إلى الله لا يستطيع أن ينفذ بدعوته إلى من يأمرهم وينهاهم ما لم يكن قدوة حسنة، فمسؤولية الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر تجاه أنفسهم أعظم بكثير من مسؤولياتهم تجاه المجتمع، وخطورة التقصير فيما للدعاة أنفسهم من واجبات يفوق خطورة التقصير فيما للمجتمع عليهم من حقوق، فالدعاة إلى الله ينبغي أن يكونوا قدوة حسنة للمجتمع الذي يعيشون فيه، تبدو في حياتهم آثار الرسالة التي يدعون إليها, وقد أنكر المولى عز وجل على أولئك الذين يعظون الناس ولا يتَّعظون، وينهون ولا ينتهون، فقال تعالى: ?أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ? [البقرة:44].
وقال تعالى: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ? [الصف:2-3].
إن الواجب على الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يكون مخلصًا حريصًا على إصلاح سره وجهره، وينبغي أن يخشى الله لا الناس، فلا يكون في ظاهره ملاكًا، وفي باطنه شيطانًا، وليحذر أن يكون ممن عناهم الله بقوله: ?يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ? [النساء:108].
6) الحكمة وحسن الخلق:
هذه من الصفات الأساسية والضرورية لمن يتصدى للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلا تستبد به الحماسة والاندفاع والغيرة فيتجاوز الحكمة في هذا كله وفي سواه, فبهذه المزية يمكن معالجة أعسر الأمور وإصلاحها بإذن الله، وبعدمها قد لا تصلح أيسر الأمور غالبًا, فالدعوة بالحكمة هي الطريقة المثلى إلى الدعوة إلى الله جل جلاله، قال عز من قائل: ?ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ? [النحل:125].
وقد أثنى الله سبحانه وتعالى على نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- لما جبله عليه من الأخلاق العظيمة, فقال: ?وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ? [القلم:4].
7) التريث والتحقق والتثبت وعدم الاستعجال:
لا بد للآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يتحقق من أن ما يريد إنكاره هو منكر محقق, دالٌّ على إنكاره نصٌّ من كتاب الله الكريم، أو سنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-؛ لأن البعض قد يرى فعلًا من الأفعال، أو يسمع قولًا من الأقوال، يظنه منكرًا بحسب ما جرت عليه عادات الناس وتقاليدهم، ولكنه في الشريعة الإسلامية ليس بمنكر, ومن الملاحظ على بعض الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر في هذا الوقت عدم الانطلاق من هذه القاعدة، وانسياقهم وراء الظن والتخمين بدلًا من التأكد والتحقق، والله جل ثناؤه يقول: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ? [الحجرات:12].
كما قال تعالى: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيَّنُواْ? [النساء:94].
وقال سبحانه: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ? [الحجرات:6].
8) ألا يكون متتبعًا لعورات المسلمين بل يكون ساترًا لها:
الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر يجب أن يكون همه إصلاح الناس، وليس تتبع عوراتهم وكشفها، وإصغاء الأذن لكل متكلم، وملاحقة الناس والتنقيب عن زلاتهم وعثراتهم وعوراتهم، بل ما ظهر له أخذ به وما غاب عنه تركه, يقول -صلى الله عليه وسلم-: «… ومن ستر مسلمًا ستره الله يوم القيامة».
وفي حديث آخر: «… ومن ستر مسلمًا ستره الله في الدنيا والآخرة».
فمثل رجل الهيئة كمثل الطبيب في مهنته، قد يطلع على بعض العورات ليعالجها، فيجب عليه سترها وعدم فضح صاحبها، وما حصل ويحصل من ضعف أو خلل أو خطأ في ممارسات بعض الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر يكون سببه -غالبًا- الجهل, أو عدم الالتزام بالصفات التي يجب أن يتحلى بها الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، والله المستعان.
شروط النهي عن المنكر:
إن الأمر بالمعروف ليس له شروط خاصة؛ لأن الأمر بالمعروف نصيحة وإرشاد وتعليم، وكل ذلك جائز في كل وقت وفي كل مناسبة، قال -صلى الله عليه وسلم-: «الدين النصيحة، قلنا لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم».
أما النهي عن المنكر وتغييره فله شروط خاصة يجب توفرها؛ لوجوب النهي أو التغيير، وهذه الشروط هي:
1) وجود منكر:
أي: أن يكون منكرًا يحذره الشرع، ويحذر من الوقوع فيه، ويستوي أن يكون فاعل المنكر مكلفًا أو غير مكلف، فمن رأى صبيًا أو مجنونا يشرب الخمر فعليه أن يُنكر عليه، وكذا إن رأى مجنونًا يزني بمجنونة أو يأتي بهيمة، فعليه أن يمنعه.
2) أن يكون المنكر موجودًا في الحال:
بمعنى أن يكون المنكر راهنًا، وصاحبه إما قد همَّ بفعله، لوجود مقدمات ومؤشرات تدل على ذلك، فللمحتسب عندئذ أن يعظ ويرشد وينصح ويخوف بالله سبحانه ومن عذابه وبطشه، وليكن ذلك بأسلوب فيه لين وإشفاق، وليس فيه تجريح أو رفع صوت أو تشهير، أو يكون متلبسًا به مباشرًا له وقت النهي أو التغيير: كشرب الخمر, وخلوته بأجنبية، فعندها للمحتسب الحق في التغيير بكل وجه أمكنه زواله به، قولًا كان أو فعلًا، وإن كان قد فرغ وانتهى منه ولم يبقَ إلا آثاره، فليس ثمة مكان للنهي عن المنكر أو تغييره, وإنما هناك محل عقاب على المعصية، والعقاب من حق ولي الأمر والسلطات العامة وليس للأفراد.
3) أن يكون المنكر ظاهرًا بغير تجسس:
جاء الإسلام بالحكم على الظاهر، وترك السرائر إلى الله عز وجل، فلم يُبح الإسلام عمومًا كشف الناس عن أسرارهم حتى ولو كانت منكرًا, فلو كان مستترًا فلا يجوز التجسس عليه؛ لأن الله حرم التجسس في قوله تعالى: ?وَلَا تَجَسَّسُوا? [الحجرات:12].
وقال -صلى الله عليه وسلم-: «إن الأمير إذا ابتغى الريبة في الناس أفسدهم».
وفي رواية أخرى: «إنك إن تتبعت عورات الناس أفسدتهم».
فمبدأ التجسس مرفوض في عملية الإنكار، ما دام المنكر مستورًا، والشرع لم يطلب من الدعاة تتبع العورات والتجسس والإنكار على ما سُتر، وإنما أمرهم بالإنكار على ما رئي، فقال -صلى الله عليه وسلم-: «من رأى منكم منكرًا…».
والأصل أن الحرمات مصونة ليس لأحد أن يهتكها, ويستثنى من ذلك حالات بشروطها، فإن من أغلق باب داره وتستَّر بحيطانه فلا يجوز الدخول عليه بغير إذنه؛ لتُعرف المعصية؛ لقوله تعالى: ?وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْاْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ? [البقرة:189].
وقوله عز وجل: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ? [النــور:27].
إلا أن يتضح في الدار أمارة تدل عليها، وآثار ظهرت ظهورًا يعرفه من هو خارج الدار: كظهور رائحة الخمر, وأصوات السكارى، أو أخبر ابتداء من غير استخبار شخصان أو شخص واحد على رأي، بأن فلانًا يرتكب المعاصي في بيته، عندها جاز دخول البيت دون إذن صاحبه، وأما ما لم يظهر من المحظورات فليس للمحتسب أن يتجسس عنها، ولا أن يهتك الأستار حذرًا من الاستتار بها؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: «من أتى من هذه القاذورات شيئًا فليستتر بستر الله، فإنه من يبد لنا صفحته نقم حد الله تعالى عليه».
4) ألا يكون المنكر من المسائل المختلف عليها:
يجب على الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر ألا ينكر على الناس في المسائل المختلف فيها، كأن تكون هذه المسألة جائزة عند بعض الأئمة، وممنوعة عند بعضهم، والفاعل لها مقلدًا لإمامه المجيز لهذه المسألة.
فإذا توافرت شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كان واجبًا، وإذا اختل شرط من شروط الوجوب السابقة سقط الوجوب, وبقي الحكم دائرًا بين الاستحباب أو الحرمة, ويتأكد التحريم إذا ترتب على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر زوال مصلحة أعظم من المأمور بها، أو ترتَّب مفسدة أعظم من المنهي عنها, والله ولي التوفيق.