د. سلمان بن سعود بن عبد العزيز آل سعود
تعريف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لغة واصطلاحًا:
الحمد لله الذي ميّز هذه الأمة بالخيرية على سائر الأمم، بما أولاها من نعمة القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, والدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، ووعدها -إن هي قامت بهذا الواجب العظيم- بالفلاح في الدنيا والآخرة، والتمكين في الأرض؛ قال تعالى: ?كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ? [آل عمران:110].
وقال عز وجل: ?الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ? [الحـج:41].
ولا ريب أن ترك إنكار المنكر سبب لغضب الله ولعنته وعقابه على العموم والخصوص؛ حيث قال الله سبحانه: ?لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ * كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ? (79) سورة المائدة:78-79].
كما أنه سبحانه قد فرّق بين المنافقين والمؤمنين في هذا الصدد, فقال عز من قائل في المنافقين: ?الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ? [التوبة:67].
وقال سبحانه وتعالى في المؤمنين: ?وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ? [التوبة:71].
فجعل تعالى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرقاً بين المؤمنين والمنافقين.
والصلاة والسلام على إمام الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر وسيد الدعاة إلى الله، وقدوة المحتسبين, خير من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر: ?الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ? [الأعراف:157].
وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: «من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده, فإن لم يستطع فبلسانه, فإن لم يستطع فبقلبه, وذلك أضعف الإيمان».
وقال -عليه أفضل الصلاة والسلام-: «والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف, ولتنهون عن المنكر, أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً منه, ثم تدعونه فلا يستجاب لكم».
فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يرتكز على قاعدة قرآنية، وأصل ثابت من الأصول المستقرة بالكتاب والسنة، وهو من أعظم واجبات الشريعة المطهرة، وركن مشيد من أركانها، وبه يكمل نظامها ويرتفع سنامها، وهو مبدأ مسلَّم به من قبل كل من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد -صلى الله عليه وسلم- نبياً رسولاً، ولا خلاف عليه عند ذوي الألباب، بشروطه وآدابه وضوابطه.
ولا ينكر عاقل الجهود الحثيثة المشكورة التي يقوم بها رجال هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مكافحة أصناف المنكر وأنواعه: كالتصدي للسحر والسحرة, ومروجي المخدرات, وأوكار الدعارة, وتصنيع الخمور.. إلى غير ذلك من المنكرات.
وقبل الشروع في تناول الموضوع تناولاً منهجياً علمياً، فلا مناص من تعريف كل مفردة على حدة، والإحاطة بدلالاتها اللغوية؛ حيث إن التعريف اللغوي لأي كلمة في اللغة العربية، هو الذي يحدد مفهوم الكلمة والإطار الذي تدور فيه.
ومن ثم تفنيد الصفات والآداب التي يجب أن تتوافر في الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، والضوابط الشرعية لهذه المهمة النبيلة المهمة، والتي أصبحت -في نظر البعض للأسف- عدواً لدوداً للمجتمع على مختلف شرائحه وأطيافه، وأداة قمعية تعسفية، استغلت مقاصد الشرع؛ لتفرض على المجتمع هيمنة وصرامة ضبط غير مسبوقة في تاريخ الإسلام، يمتهنها رجال غلاظ شداد، دأبوا على إهانة العباد بأسلوب فج، وإرعابهم والتسلط عليهم بطريقة استعلائية، بدلاً من أن تكون السبيل المباشر، والطريق السوي المستقيم لاحتضان المجتمع والإحسان إليه وإهداء الخير للغير.
الأمر: يعني: الطلب، وهو نقيض النهي.
المعروف لغة: يدور معنى المعروف في اللغة غالباً على ما تعارف عليه الناس، وعلموه وعرفوه ولم ينكروه، أو هو كل ما تعرفه الناس من الخير, وتستأنس به وتطمئن إليه، أو هو: اسم لكل فعل يعرف بالعقل أو الشرع حسنه، وهو ضد المنكر.
المعروف اصطلاحاً: هو اسم جامع لكل ما عرف من طاعة الله والتقرب إليه، والإحسان إلى الناس، وكل ما ندب إليه الشرع ونهى عنه من المحسنات والمقبحات، أو هو كل ما أمر به الشارع من اعتقاد أو قول أو فعل أو إقرار، على سبيل الوجوب أو الندب أو الإباحة.
ومعنى الأمر بالمعروف: الدعوة إليه, والترغيب فيه, وتمهيد أسبابه، حتى تتوطد أركانه وتتطرق سبله ويعم الخير به.
النهي: خلاف الأمر.
المنكر لغة: يدور معنى المنكر في اللغة غالباً على ما جهله الناس واستنكروه وجحدوه، أو هو كل فعل يعرف بالعقل أو الشرع قبحه، وهو نقيض المعروف.
والمنكر اصطلاحاً: ضد المعروف، وهو كل ما قبّحه الشرع وحرّمه فهو منكر، أو هو ما عُرف قبحه نقلاً وعقلاً، أو هو كل فعل تحكم العقول الصحيحة بقبحه، أو تتوقف في استباحته واستحسانه العقول، فتحكم الشريعة بقبحه.
ومعنى النهي عن المنكر: الصد عنه, والتنفير منه, ومقاومته, وأخذ السبل عليه؛ حتى لا يقع أصلاً أو يتكرر.
وفي أحيان كثيرة، يصبح من الصعب التفريق بين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لشفافية الحاجز الذي يفصل بينهما, ففي كثير من الأحيان يكون الأمر بالمعروف في حالة من الحالات هو عين الإنكار، وكذلك الإنكار يكون في كثير من الأحيان هو صلب الأمر بالمعروف، وربما كان هذا هو السبب الذي جعل هذين الأمرين متلازمين أينما ذكرا, سواء في كتاب الله أو السنة المطهرة.
وإذا أطلق الأمر بالمعروف من غير أن يقرن بالنهي عن المنكر، فإنه يدخل فيه النهي عن المنكر؛ وذلك لأن ترك المنهيات من المعروف، ولأنه لا يتم فعل الخير إلاّ بترك الشر، ومثال ذلك قول الله تعالى: ?لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ? [النساء:114]، فإن الأمر بالمعروف يتضمن النهي عن المنكر.
وكذلك إذا أطلق النهي عن المنكر -من غير أن يقرن بالأمر بالمعروف- فإنه يدخل فيه الأمر بالمعروف؛ وذلك لأن ترك المعروف من المنكر، ولأنه لا يتم ترك الشر إلاّ بفعل الخير, ومثال ذلك: قوله جل وعلا: ?فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ? [الأعراف:165].
تعريف الحسبة لغة واصطلاحًا:
الحسبة في اللغة بكسر الحاء: اسم من الاحتساب، وهو يطلق على معان كثيرة، ويتفرع عنه عدة اشتقاقات, منها: طلب الأجر والثواب، ويطلق على الإنكار, وعلى الظن, وعلى الاكتفاء, وعلى التدبير وحسن النظر, وعلى العد والاحصاء, وعلى الاختبار والسبر, وعلى الاعتداد.. ومعان أخرى كثيرة أوردها بعض العلماء في مؤلفاتهم, وقد ورد لفظ: “احتسب” في القرآن الكريم ثلاث مرات، ولكن بمعنى “ظن”، وذلك في قوله تعالى: ?وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ? [الطلاق:2-3].
وقوله عز وجل: ?فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ? [الحشر:2].
وقوله سبحانه وتعالى: ?وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ? [الزمر:47].
أما في السنة المطهرة فقد ورد لفظ: “الاحتساب” بمعنى التقرب إلى الله تعالى وطلب الأجر والثواب منه، ومن ذلك قول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: «من صام رمضان إيماناً واحتسابًا غُفر له ما تقدم من ذنبه».
وقوله -عليه أفضل الصلاة والسلام-: «من قام رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه» أي: طلبًا لوجه الله وغفرانه.
وفي الاصطلاح: الحسبة هي من أكثر المصطلحات إن لم تكن أكثرها على الاطلاق، التي اختلف في معناها ومفهومها الاصطلاحي؛ فقد عرّفها بعض الفقهاء بتعاريف عدة، أقربها إلى المعنى المراد بالحسبة أنها: “أمر بالمعروف إذا ظهر تركه، ونهي عن المنكر إذا ظهر فعله”.
والتعريف الوافي بالمعنى المراد بالحسبة في الاصطلاح -فيما يظهر لي والله أعلم- أنها عمل يقوم به المسلم من خلال ولاية رسمية، أو جهد تطوعي -لمن كان عالماً بأصولها، حاذقاً بطرائق تطبيقها- لأمر بمعروف ظهر تركه، ولتغيير منكر ظاهر أو متحقق حصوله، حسب القدرة والحال والمناسبة.
العلاقة بين الحسبة وإنكار المنكر:
من أهل العلم من يفرق بين الحسبة وبين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ حيث يجعل الحسبة هي الولاية الرسمية، وأما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهو يشمل ولاية الحسبة.. وغيرها، ومن أهل العلم من يجعلهما بمعنى شيء واحد، فهما مصطلحان مترادفان لحقيقة واحدة.
وبما أن الاحتساب لغوياً يطلق على معان كثيرة منها: الإنكار، فيقال: احتسب عليه، أي: أنكره، كما أطلقت الحسبة على الولاية؛ لأن المعنى اللغوي لها يراد به حسن التدبير، وكذا الحسبة.
ودلالة الحسبة مقيدة بالولاية، ومستندة إليها، أما إنكار المنكر فهو عام شامل للجهاد والدعوة.
أما من حيث الدلالة العرفية والاصطلاح، فهي مرادفة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند طائفة من أهل العلم, منهم الغزالي في كتابه الشهير: “إحياء علوم الدين”, وجعلها آخرون فرعاً من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فمثلاً الماوردي في مؤلفه المعروف: “الأحكام السلطانية” عرفها بقوله: “هي أمر بالمعروف إذا ظهر تركه، ونهي عن المنكر إذا ظهر فعله”.
وهذا التعريف تفرعت عنه جميع الاختصاصات التي فوض المحتسب بمعالجتها.
ونظام الحسبة هو الجهاز الرقابي الذي بدأ العمل به في تاريخنا الإسلامي، ويرجع ذلك إلى عصر النبوة؛ حيث تولاها النبي -صلى الله عليه وسلم- بنفسه، واستعمل سعيد بن العاص –رضي الله عنه- بعد الفتح، على سوق مكة وفعلها خلفاؤه من بعده.
ولذا نجزم بأن فكرة الحسبة بالمفهوم الفعلي, قد ابتدأت مع البدايات الأولى لنشأة المجتمع الإسلامي في المدينة النبوية، وكانت بداياتها بمنع الغش في الطعام، أو بإظهار عيوبه على الأقل، ثم أخذت تتطور بمحاربة جميع المنكرات, يقول الماوردي: “والحسبة من قواعد الأمور الدينية، وقد كان أئمة الصدر الأول يباشرونها بأنفسهم؛ لعموم صلاحها وجزيل ثوابها؛ ولكن لما أعرض عنها السلطان وندب لها من هان، وصارت عرضة للتكسب وقبول الرشا، لَاْنَ أمرُها, وهان على الناس خطرُها، وليس إذا وقع الإخلال بقاعدة سقط حكمها”.
ونظراً لأن الدولة الوحيدة في العالم التي تقام فيها ولاية الحسبة في العصر الحاضر هي المملكة العربية السعودية، ممثلة في الرئاسة العامة لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ حيث صدر النظام الحالي لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بموجب المرسوم الملكي رقم: م/ (37), وتاريخ: (26/ 10/ 1400ه)، ثم صدرت لائحته التنفيذية بموجب القرار رقم: (2740), وتاريخ: (24/ 12/ 1407ه)، وهو النظام المعمول به حالياً, وعليه فإن نظام هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولائحته هما المصدران التنظيميان الأساسيان لمسؤوليات أعضاء هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وسلطاتهم, أما المصدر التشريعي لهما فهو كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-.
وقد اقتضت احتياجات وظروف العصر توسعًا في الأعمال، وتنوعاً في التخصصات، مع النهضة العارمة والمتزايدة التي شملت كثيراً من مجالات الحياة، وأدت إلى صعوبة، بل استحالة أن يتولى جهاز الحسبة كل المهام المناطة به في أزمان خلت, وأنشئت على أثر ذلك أجهزة ومرافق ومصالح حكومية مختلفة تلبي هذه الاحتياجات، ولمزيد من التركيز على هذه الخدمات وتنوعها، ولتسهل عملية التقييم والمراقبة على أدائها ومخرجاتها من قبل الدولة، ولتكون أكثر دقة في تحصيل المصالح، وتحقيق الأهداف المرسومة.
وعلينا أن ندرك أن المؤسسات الحكومية القائمة اليوم، هي ولايات أنيط بها معظم اختصاصات الحسبة في الماضي، كوزارة الداخلية، ووزارة العدل، ووزارة الصحة، ووزارة الشؤون الاجتماعية، ووزارة الشؤون البلدية والقروية، ووزارة التجارة.. وغيرها من الجهات الإدارية والرقابية والتأديبية تزاول أعمالاً كثيرة كانت في السابق من اختصاصات المحتسب، والتي كانت تشمل جميع جوانب الحياة الدينية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية, وشؤون الإدارة والأعمال والسلوك والآداب العامة, والإشراف على أهل الحرف والصنائع.. وغيرها من الأمور المتعلقة بالمجتمع.
إلا أن مما يؤلم ويحز في النفس، أن يرى المرء نفور قطاع كبير من الناس من رجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل تشعر بالكراهية من خلال مواقفهم وأحاديثهم وكتاباتهم، وإذا تتبعنا السبب عرفنا أن تلك الكراهية وذلك الإعراض والنفور، كان بسبب سماعهم بوقائع، أو تعرضهم لمواقف، أو مصادفتهم لبعض النوعيات من المتحمسين لدينهم، ولكنهم لا يعرفون إلا الحلال والحرام، أو إنهم يخلطون أقوال الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأفعاله، ولا يفرقون بين أنواع الأقوال والأفعال، فكل من ترك مباحاً أو مستحباً كان يفعله الرسول -صلى الله عليه وسلم- يجعلونه من المنكر الذي يجادلون الناس عليه، وترتفع الأصوات, وتحمر الأوجه, وتنتفخ الأوداج، وربما تدخلت الأيدي، بل قد تتطور المسألة إلى إزهاق الأرواح وسفك الدماء التي حرم الله إلا بالحق؛ بسبب ما يعتقدونه من أن ذلك من المنكر الواجب إنكاره، أو من المعروف الذي يحب مخاصمة الناس من أجل نشره، والسبب يعود إلى عدم الكفاءة أو عدم التأهيل، أو كليهما معاً, فلا بد للمتصدر للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يفقه أنواع الحكم التكليفي من إيجاب وتحريم واستحباب وكراهة وإباحة، وأنواع أفعال الرسول -صلى الله عليه وسلم-، حتى يعرف ما ينكر على الناس، وما يغض الطرف عنه، وحتى لا يشق على الناس، ويحملهم أكثر مما يطيقون, فإن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد أوصى الصحابة -رضي الله عنهم- بقوله -صلى الله عليه وسلم-: «بشروا ولا تنفروا, ويسروا ولا تعسروا».
كما أن هناك الكثير من الأمور الخلافية التي يجب أن يكون الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر على إحاطة بها، وأن يتسع صدره لها، وليس له أن يحمل الناس على مذهب واحد، وقول واحد، إذا كانت المسألة تحتمل أكثر من رأي وقول، إلا أن يكون عالماً من أهل الاجتهاد في أحكام الدين؛ ليجتهد رأيه فيما اختلف فيه، كما شرطه بعض الفقهاء.
فليس حراماً كل لفظ تضمن نهياً، وليس فرضاً كل لفظ ظاهره الوجوب، وليس صاحب بدعة كل من ترك مباحاً أو مستحباً, فما كان في دائرة المباح أو المستحب فلا إنكار في تركه، وما كان في دائرة المكروه فلا إنكار في فعله، ولا مانع من الترغيب في تركه؛ نظراً لما يترتب على تركه من الأجر والثواب.
إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر له ضوابطه الشرعية التي دلت النصوص عليها، فيجب التقيد بها، وعدم الخروج عنها, وبما أن حصر المعروف والمنكر مستحيل، فإن المنكرات التي حلت بالأمة ولم يكن لها سابق مثيل، فهذه مثلها مثل سائر المنكرات, التي يجب على رجل الهيئة إنكارها حسب الأصول الشرعية والأنظمة المرعية للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ ولا بد من ارتباط الأمر والنهي وخضوعه للشريعة، فليس الإنكار لمن شاء حسبما شاء وكيفما شاء. كما أن القائم على الأمر والنهي لا بد له من صفات تتوافر فيه، وعليه أن يتصف ويتحلى بآداب تمكنه من القيام بهذه الشعيرة, وتضبط سلوكه وممارساته، وتحد من تعدياته وتجاوزاته، ويجب ألا يترك الأمر لاجتهادات شخصية وتقديرات فردية، قد تؤدي إلى ما لا يحمد عقباه, فالشريعة الإسلامية نظرت إلى مصالح الخلق في دنياهم وآخرتهم، فنظمت أمورهم على نحو ضمنت فيه الراحة والهناء، والطمأنينة والصفاء لجميع البشر, وبطريقة تمنع إيقاع الأذى من أي مكان، على المجتمع الذي يعيش فيه، على أي شكل كان؛ لشمول الحديث الشريف: «لا ضرر ولا ضرار»، أي: لا يحق لأحد أن يحدث ضرراً بغيره، كما لا يحق لأحد أن يقابل الضرر بالضرر؛ فحيث كانت مصلحة الأمر والنهي أعظم من مفسدته فهو مما أمر الله به، وحيث كانت مفسدة الأمر أو النهي أعظم من مصلحته لم يكن مما أمر الشارع به.
وهذا ما سنتناوله في المقال القادم إن شاء الله.. والله ولي التوفيق.