حكم الحسبة:
للعلماء قولان في حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
القول الأول: أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض عين، ومن الأدلة على هذا قوله تعالى: ?وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ? [آل عمران:104].
ووجه الدلالة أن (مِنْ) هنا بيانية, فتكون دلالتها تشمل الأمة جميعاً, كقوله: ?فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ? [الحج:30].
ومن الأدلة على هذا القول حديث أبي سعيد عند مسلم.. وغيره, قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده..» الحديث، وهذا الحديث يدل على عموم وجوب الاحتساب على كل أحد لا يخرج منه أي مسلم.
القول الثاني: وهو الذي اختاره كثير من الفقهاء أنه فرض كفاية، واستدلوا بالآية المتقدمة, وقالوا: إن (مِن) في الآية تبعيضية فتفيد أن هذا الواجب خاص ببعض الأمة وليس جميعها.
والذي يظهر أنه يمكن الجمع بين القولين إذا جعلنا القول الأول منصرفاً إلى الإنكار بصوره كافة, ومنها: الإنكار بالقلب؛ وهذا ممكن تحققه من الجميع, كلٌ بحسب قدرته واستطاعته كما ورد في حديث أبي سعيد –رضي الله عنه- المتقدم، والقول الثاني ينصرف إلى معنى الاحتساب باليد واللسان الذي لا يمكن إلا لبعض الناس ممن تتوافر فيهم شروط معينة، وهو منصرف كذلك إلى ولاية الحسبة كولاية إسلامية شرعية مقصودها تحقيق هذه الشعيرة, وعلى هذا فهي بلا ريب من فروض الكفايات التي يجب على دولة الإسلام القيام بها في الجملة، ولا يتصور تفرغ جميع الناس للقيام بها وإلا تعطلت ولايات الدولة الأخرى، وتعطلت مصالح الناس وسبل معاشهم؛ وهذا ممنوع, يقول تعالى: ?وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ? [التوبة:122].
فخلاصة القول: أن الإنكار واجب عيني بحسب الاستطاعة, لا يعذر أحد بتركه, وأضعف الإيمان أن يكون بالقلب، أما ولاية الحسبة فهي فرض كفاية, وهي من واجبات الدولة المسلمة.
طـرق الاحتسـاب:
هناك خطوات ينبغي للمحتسب اتباعها عند الاحتساب نوردها مرتبة:
أولاً: ينبغي للداعية أن يعلم حكم الشرع في الأمور التي يحتسب فيها:
اشترط العلماء للمحتسب أن يكون عالماً بالمنكرات، عالماً بحكم الشرع فيها, قال شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- بعد أن وضح أن العمل لا يقبل إلا بالإخلاص والموافقة للشرع: “وإذا كان هذا حدّ كل عمل صالح؛ فالآمر بالمعروف والناهي عن المنكر يجب أن يكون هكذا في حق نفسه، ولا يكون عمله صالحاً إن لم يكن بعلم وفقهٍ؛ فإن القصد والعمل إن لم يكن بعلم كان جهلاً وضلالاً، واتباعاً للهوى..، فلا بُدَّ من العلم بالمعروف والمنكر والتمييز بينهما، ولا بُدَّ من العلم بحال المأمور والمنهي، ومن الصلاح أن يأتي بالأمر والنهي بالصراط المستقيم, وهو أقرب الطرق إلى حصول المقصود” [الأمر بالمعروف لشيخ الإسلام ابن تيمية (ص:15-16)].
فالعلم بالمنكر أمر مهم للمحتسب, فقد ينكر ما ليس منهياً؛ لجهله بالحكم، أو يترك إنكار المنهي عنه؛ لجهله بذلك، وهذا موقع في المفاسد التي لا تخفى.
وهذا العلم نوعان:
الأول: علم بحقيقة المنكر؛ حيث ينبغي للمحتسب أن يتعرف على المنكر المقصود إزالته؛ لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، ولا يمكن الاحتساب على منكر لا نعلم عنه شيئاً.
الثاني: علم بحكم الشرع في هذا المنكر, فمن المنكرات ما يكون مكروهاً, ومنه ما يكون محرماً، ومنه ما هو شرك, ومنه ما كبيرة من الكبائر, فيختلف الإنكار ودرجته وطريقته بحسب درجة النهي عن ذلك المنكر.
ثانياً: كيف يكون الإنكار في مسائل الخلاف؟
من المعلوم أن هناك أموراً اختلف العلماء في حكمها، واختلفت أنظارهم.. نحوها؛ ولذا ينبغي للمحتسب النظر إلى هذه القضية من جانبين:
الأول: النظر إلى المحتسب نفسه، فهو إما أن يكون عالماً مجتهداً، أو ليس كذلك، فهل للمحتسب أن يحمل الناس على رأيه واجتهاده فيما ينكره من الأمور أَوْ لا؟
الجواب على قولين عند أهل العلم:
الأول: أن له ذلك إن كان مجتهداً.
الثاني: ليس له ذلك وإن كان مجتهداً، لوجود مجتهدين غيره يخالفونه الرأي، وليس قول مجتهدٍ بحجة على مجتهد آخر.
أما إن كان المحتسب غير مجتهد فليس له ذلك؛ لعدم أهليته للاجتهاد في نفسه فضلاً عن غيره.
النظر الثاني: النظر إلى المسألة نفسها: وهنا قاعدة عند العلماء يجرونها في هذا الموضع, وهي: “لا إنكار في مسائل الخلاف”، ولكن ما هي مسائل الخلاف تلك؟
أقول: لا يخفى أن القول المبني على آية أو حديث أو إجماع لا يعدُّ قولاً للعالم وإنْ ذهب إليه، وإنما هو القول الواجب الاتباع؛ لورود النص فيه, أما إن قام العالم بالاجتهاد في استخراج قول في المسألة بناء على النصوص العامة والقواعد الكلية, ورأى فيها رأياً, ولم يعتمد مباشرة على آية أو حديث أو إجماع هي نص في المسألة؛ فإن هذا الرأي يصبح قوله هو, وينسب إليه، ويسوغ فيه الخلاف.
فالنوع الأول من الأقوال لا يسوغ فيه الخلاف؛ لأن مَن يخالفه يكون مخالفاً لنصوص الكتاب والسنة والإجماع, فلا عبرة حينئذ به, وهذا ما عَبَّر عنه بعض العلماء في تقييد القاعدة السابقة بقولهم: إلا أن يكون الخلاف ضعيفاً, وكل خلاف عارض الكتاب والسنة والإجماع فهو ضعيف الاعتبار.
وعلى ما سبق يكون فهم القاعدة السابقة كالتالي: لا إنكار في المسائل الاجتهادية التي يسوغ فيها الخلاف.
وهذا يعني: أن وجود الخلاف بحدِّ ذاته ليس مسوغاً لترك الإنكار، ولكن الذي يسوغ ترك الإنكار هو وجود خلاف معتبر في مسألة اجتهادية.
وقد نبَّه العلماء على قيد آخر في هذه القضية, وهو: ألا تكون تلك المسألة المختلف فيها ذريعة إلى مفسدة مجمع عليها، فإن كانت كذلك لزم الإنكار؛ اعتباراً بما تؤول إليه المسألة لا باعتبارها في نفسها، وهذه قضية أخرى متعلقة بالمصالح, وستأتي.
ثالثاً: يلزم التثبت من وجود المنكر حال الإنكار:
ينبغي للداعية أن يتثبت من وجود المنكر حال الإنكار، فليس له أن ينكر بمجرد التوهم، أو الظن المرجوح، كما أن الاحتساب على منكر قد فات هو من باب العقوبة الراجعة للولاة، ويدل على هذا ما رواه الإمام مسلم والترمذي عن أبي سعيد الخدري –رضي الله عنه- قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «من رأى منكم منكراً فلينكر بيده..» الحديث.
فجعل النبي -صلى الله عليه وسلم- الإنكار مرتبطاً برؤية المنكر، فمن لم ير منكراً فليس عليه الاحتساب، ويلحق بذلك العلم اليقيني بوجود المنكر لقيامه مقام الرؤية.
فإذا ظن الداعية وجود منكر، فكيف يعمل؟
أقول: إن كان ظنه مرجوحاً يدخل في قبيل الوهم والشك، وذلك عند فَقْد السبب الداعي للظن وفَقْد الأمارات الدالة عليه، فينبغي له هنا عدم الالتفات إليه؛ لأنه من اتباع الظن السيئ بالمسلمين, وهو لا يجوز، قال تعالى: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ? [الحجرات:12].
وروى البخاري ومسلم والترمذي عن أبي هريرة –رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إياكم والظن؛ فإن الظن أكذب الحديث».
وتتبع الداعية لمثل هذا موقع له في المفاسد التي منها: المخالفة لأمر الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، وإحداث العداوة والبغضاء بين المسلمين، والوقوع في اتهام المقاصد والنيات, وتتبع العورات.. وغير ذلك.
أما إن كان ظنه راجحاً وهو أقرب إلى اليقين، فينبغي له عندئذٍ التثبت من كونه منكراً، بأن يتفحص الأمر، ويراعي شواهد الحال, وينظر في القرائن، فإن وجد ما يقوي ظنه ويصدقه؛ أقدم على الإنكار، ولكن لا يعجل بالتأديب إلا بعد استبانة الحال يقيناً.
ويجب ألا يتثبت من وجود المنكر بالتجسس أو تتبع العورات، ومعنى التجسس هو: طلب الأمارات المعرِّفة بالمنكر، ويقصد بتتبع العورات هو: تتبع العورات غير الظاهرة، وكل هذا فساد في نفسه محرم شرعاً، مؤدٍّ للمفاسد، قال تعالى: ?وَلَا تَجَسَّسُوا? [الحجرات:12].
وروى الترمذي عن ابن عمر –رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «يا معشر من قد أسلم بلسانه ولم يُفْضِ الإيمان إلى قلبه، لا تؤذوا المسلمين ولا تعيروهم، ولا تتبعوا عوراتهم؛ فإنه من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله».
ولعل الحكمة من المنع من التجسس في الإنكار هو: أن المعاصي إذا خفيت لم تضر إلا صاحبها، وإذا أعلنت أضرت بالعامة؛ ولذا يحتسب على المنكر الظاهر العلني ولا ينكر على المختفي, وقد تقدم في الأحاديث أن العذاب لا ينـزل إلا على قوم ظهرت فيهم المعاصي ولم يحتسب عليها, وعلى هذا الأئمة من السلف الصالح كما قال الإمام أبو محمد التميمي حاكياً اعتقاد الإمام أحمد -رحمه الله-: “وكان يذهب إلى أنه لا يجوز كشف منكر قد استُسر به، كما لا يجوز ترك إنكاره مع المظاهرة والمجاهرة، ويأمر بأن يُظن بالناس خيراً”.
وفرَّق -رحمه الله- بين ظهور الأمارات أو العلامات الدالة على وقوع منكرٍ، وبين طلب تلك العلامات والبحث عن العورات الذي هو التجسس، قال: “وكان يقول: إن التواري بالمنكر لا يمنع إنكاره إذا ظهرت رائحة أو صوت”, فظهور رائحة المسكر علامة على وجوده.. وهكذا.
وهنا مسألة نبه لها العلماء وهي: إن استسرَّ قوم بمعصية وكانت في تلك المعصية انتهاك حرمة يفوت استدراكها، فإنه يجوز التجسس والكشف عن الحال؛ حذراً من فوات ما لا يستدرك من انتهاك المحرمات، ولو كانت الأمارات الظاهرة ضعيفة، ومثَّل العلماء لذلك: بأن يخبر ثقة عن اختلاء رجل بامرأة ليزني بها، أو برجلٍ ليقتله، فإنه يجوز التجسس لمنع هذه المعاصي التي تفوت بانقضائها, وهذا راجع إلى القاعدة الشرعية: دفع أعلى المفسدتين بارتكاب أخفهما، ولا شك أن مفسدة التجسس أقل من هتك العرض أو قتل النفس.
ومما يلحق بمسألة التثبت: أنه يجوز للمحتسب الإنكار على من وقف في موضع الشبه، ومواطن الريب، قال الماوردي: “ويمنع الناس –أي: المحتسب- من مواقف الريب ومظان التهمة، فقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك», فيقدم على الإنكار ولا يعجل بالتأديب قبل الإنكار” [الأحكام السلطانية للماوردي (ص:402)].
ولأن الوقوع في مواطن الشبهات وقوع في الحرام, كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «ومن وقع في الشبهات فقد وقع في الحرام..» الحديث [متفق عليه].
فالوقوع في مظنة المعصية هو معصية في نفسه، قال الغزالي: “كما أن الخلوة بالأجنبية في نفسها معصية؛ لأنها مظنة وقوع المعصية، وتحصيل المعصية معصية، ونعني بالمظنة: ما يتعرض الإنسان به لوقوع المعصية غالباً؛ بحيث لا يقدر على الانكفاف عنها” [الإحياء للغزالي (2/ 352)].
رابعاً: اعتبار المصالح والمفاسد في الاحتساب:
لقد جاءت الشريعة لتحقيق المصالح ودفع المفاسد، كما تقدم تقريره، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مبني على هذه القاعدة، فينبغي للمحتسب الحكيم العناية بها عند الاحتساب.
وبعد التأمل فإنه يمكن حصر حالات المصلحة والمفسدة في الاحتساب على النحو التالي:
1- أن تتحقق المصلحة من الاحتساب ولا توجد مفسدة، فيحتسب هنا.
2- أن تتحقق المصلحة من الاحتساب مع وجود مفسدة أقل، فيحتسب هنا.
3- أن تتحقق المصلحة من الاحتساب مع تفويت مصلحة أقل، فيحتسب هنا.
4- أن تتحقق المصلحة من الاحتساب مع تفويت مصلحة أعلى، فلا يحتسب هنا.
5- أن تتحقق المصلحة من الاحتساب مع وجود مفسدة أعلى، فلا يحتسب هنا.
6- ألا تتحقق المصلحة من الاحتساب, بل تقع مفسدة، فلا يحتسب هنا.
7- أن تندفع المفسدة الأقل مع وجود مفسدة أعلى، فلا يحتسب هنا.
8- أن تندفع المفسدة الأعلى مع وجود مفسدة أقل, فيحتسب هنا.
9- أن يتساوى تحقيق المصالح والمفاسد، وهنا يتوقف في الاحتساب إلى أن يتبين الراجح, وإلا يعمل بقاعدة: درء المفاسد مقدم على جلب المصالح.
والأمر في الجملة كما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: “أنه لا يجوز إنكار المنكر بما هو أنكر منه”.
ويقول -رحمه الله-: “وجماع ذلك داخل في القاعدة العامة فيما إذا تعارضت المصالح والمفاسد، والحسنات والسيئات، أو تزاحمت؛ فإنه يجب ترجيح الراجح منها فيما إذا ازدحمت المصالح والمفاسد وتعارضت المصالح والمفاسد, فإن الأمر والنهي وإن كان متضمناً لتحصيل مصلحة ودفع مفسدة فينظر في المعارض له، فإن كان الذي يفوت من المصالح أو يحصل من المفاسد أكثر لم يكن مأموراً به، بل يكون محرماً إذا كانت مفسدته أكثر من مصلحته” [الأمر بالمعروف لشيخ الإسلام ابن تيمية (ص:10-11)].
وتقدير المصالح والمفاسد راجع إلى اعتبار الشرع لها، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: “لكن اعتبار مقادير المصالح والمفاسد هو بميزان الشريعة، فمتى قدر الإنسان على اتباع النصوص لم يعدل عنها، وإلا اجتهد برأيه لمعرفة الأشباه والنظائر، وقلَّ أن تعوز النصوص من يكون خبيراً بها وبدلالتها على الأحكام” [الأمر بالمعروف لشيخ الإسلام ابن تيمية (ص:10)].
وعلى هذا ينبغي للمحتسب التفقه في قضية المصالح والمفاسد؛ حتى يقدم على الاحتساب بعلم وحكمة.
خامساً: تشترط قدرة الداعية في الاحتساب:
من المقرر في الشريعة: أن التكليف يسقط بعدم الاستطاعة، لقوله تعالى: ?لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا? [البقرة:286].
ولما كان الاحتساب من أشق التكاليف ومما يلحق صاحبه من جرائه الأذى, كما قال لقمان لابنه في موعظته التي قصَّها القرآن: ?وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ? [لقمان:17].
فأمره بالصبر؛ لأنه يلحقه الأذى بسببه؛ ولذا اشترط في الاحتساب القدرة عليه على وجه مخصوص, قال ابن العربي: “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أصل في الدين.. وهو فرض على جميع الناس مثنى وفرادى, بشرط القدرة عليه والأمن على النفس والمال معه” [عارضة الأحوذي لابن العربي (9/ 11)].
والأصل في هذا الشرط للاحتساب هو قول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده, فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه, وذلك أضعف الإيمان».
فقد علَّق النبي -صلى الله عليه وسلم- الاحتساب على الاستطاعة، وبحسبها تكون مرتبة الاحتساب، تدرجاً من الأقوى إلى الأضعف، فإن عجز الداعية عن الإنكار باليد انتقل إلى الإنكار باللسان, فإن عجز عنه أنكر بقلبه.
وقد وضح الإمام الغزالي -رحمه الله- أنواع العجز المسقط لوجوب الحسبة، ولعله أول من تناول هذه المسألة بالتفصيل والتوضيح، وتتابع العلماء بعده شرحاً وتفصيلاً ونقداً، وأذكر فيما يلي مجمل هذه المسألة؛ لأهميتها العظيمة للمحتسب، فمن خلالها تتحدد قضية أخرى أخطر من ذلك, وهي: متى يجوز السكوت عن الإنكار؟ فأقول: العجز على نوعين:
عجز حسي، وهو أن يكون بالمسلم عاهة مانعة من الاحتساب، أو يكون ضعيف البدن لا يستطيع الإنكار؛ فهذا لا تجب عليه الحسبة؛ لعجزه.
والنوع الثاني: ما يكون في معنى العجز، وهو توقع حدوث مكروهٍ يناله من جراء الاحتساب، وهذا فيه تفصيل سيأتي.
وتوقع المكروه إما أن يكون عن علم أو غلبة ظن, فهذا المعتبر، وإما أن يكون عن ظن مرجوح أو شك أو وهم؛ فلا عبرة به، فإن شك المسلم في حدوث الأذى واحتمل الحال أن يقع المكروه، أو لا يقع، ووقوعه أقل احتمالاً فلا عبرة حينئذٍ بذلك الظن المرجوح.
أما المكروه الذي يكون في معنى العجز، فهذا المكروه إما أن يكون في النفس أو المال أو الجاه.
وإما أن يكون هذا المكروه راجعاً إلى خوف زوال الموجود منها, أو راجعاً إلى امتناع ما هو منتظر مرغوب، فأما امتناع ما هو منتظر فلا يكون مرخصاً لترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأنه لا ضرر في ذلك، وكل الأمر أن هذا المنتظر المرغوب قد يقع فتحصل للشخص زيادة خير، أو لا يقع فلا تحصل له تلك الزيادة، وهذا لا يصلح أن يكون مانعاً من الإنكار على منكر موجود حقيقة والسكوت عنه ضرر موجود، وذلك المنتظر شيء غير موجود وليس فيه مضرة.
أما زوال ما هو موجود منها فيمكن أن يكون مرخصاً لترك الاحتساب، فلو غلب على ظن المحتسب أنه إن أنكر ضُرب ضرباً شديداً، أو قتل أو سلب ماله وخربت داره؛ فهذا يعذر بترك الاحتساب مع بقاء الاستحباب، وإن كان الضرب يسيراً فلا يكون عذراً في سقوط الإنكار.
ولو وقع ذلك الضرر فيما يزيل المروءة فيرخص له في السكوت أيضاً؛ لأن المحتسب مأمور بحفظ مروءته، وأما إن كان ما يقع يسيراً: كالتعرض له باللسان بالسب والشتم والغيبة.. ونحو ذلك فهذا لا يرخص له، فقد فعل برسول الله -صلى الله عليه وسلم- مثل ذلك وأكثر, ولم يردّه ذلك، وكما يقول الغزالي: “ولو تركت الحسبة بلوم لائم، أو باغتياب فاسق أو شتمه أو تعنيفه, أو سقوط المنزلة عن قلبه وقلب أمثاله؛ لم يكن للحسبة وجوب أصلاً؛ إذ لا تنفك الحسبة عنه” [الإحياء للغزالي (2/ 351)].
وهذا الرأي هو قول أكثر العلماء، ورأى شيخ الإسلام ابن تيمية: التفصيل: فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب، ويقابله حصول الأذى وهو محرم، فيوازن حينئذٍ بينهما, فيقصد تحصيل أعلى المصلحتين، ويرتكب أخف الضررين.
وتظهر هنا مسألة: لو خاف الداعية من تعدي الضرر إلى غيره، فما الحكم؟
وذلك أن للمرء التنازل عن مصلحته أو حقه، ولكن ليس له حق التنازل عن الآخرين، والأدلة الشرعية تحرم إلحاق الأذى بالمسلم بأيِّ وجه.
والأصل في هذه المسألة: أن على المحتسب أن يحرص على عدم إلحاق الضرر بغيره من جراء حسبته، ولكن إن لم يمكن الاحتساب إلا مع وجود ضرر للآخرين، فهنا يصار إلى الموازنة بين المصالح والمفاسد, فإن كان المنكر أكبر من ذلك الضرر الحاصل ولو كان على الآخرين، فإنه يهون في سبيل الله كل شيء، والداعية ليس هو المتسبب الرئيس في هذا الأذى، وإنما قام بواجبه تجاه المنكر، وإلحاق الأذى هو من تعدي صاحب المنكر وظلمه.
إلا إن كان المحتسب ضعيفاً ويعيش في موطن ظلم واضطهاد، فإن حسبته حينئذٍ قد لا تنفع ويقع معها الضرر، فلا حسبة حينذاك.
منقول من موقع الرئاسة
http://www.alghat.com/showthread.php?t=30647