بسم الله الرحمن الرحيم
أهمية الحسبة:
نشأة رئاسة الهيئات:
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه, وبعد:
فإن الحسبة من أهم شعائر الدين، التي يتم من خلالها نشر الهدى والخير بين الناس، كما يتم من خلالها المحافظة على المجتمع المسلم من أخطار المعاصي والمنكرات، وبذلك تؤدي الحسبة دوراً هاماً في الدعوة إلى الله وحفظ المجتمع المسلم.
والحسبة وظيفة دينية يقصد بها: القيام بالأمر بالمعروف إذا ظهر تركه، والنهي عن المنكر إذا ظهر فعله.
وللأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مكانة رفيعة في الإسلام، وهو من فروض الكفاية، قال تعالى: ?وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ? [آل عمران:104].
قال ابن العربي: “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أصل في الدين, وعمدة من عمد المسلمين, وخلافة رب العالمين، والمقصود الأكبر من فائدة بعث النبيين، فالحسبة هي أحد مقاصد الأنبياء -عليهم السلام-، وبها يصلح للناس دينهم وديناهم”.
ويزيد هذا المعنى الإمام الغزالي إيضاحاً, ويبين أهمية الاحتساب, فيقول: “إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو القطب الأعظم في الدين, وهو المهم الذي ابتعث الله به النبيين أجمعين، ولو طُوي بساطه, وأُهمل عمله وعلمه لتعطلت النبوة، واضمحلت الديانة، وعمَّت الفترة، وفشت الضلالة, وشاعت الجهالة، وانتشر الفساد، واتسع الخرق، وخربت البلاد، وهلك العباد..”.
وليس فيما قاله الإمام الغزالي مبالغة، بل هو الواقع الذي يُشاهد في الأماكن التي لا يُؤمر فيها بالمعروف ولا يُنهى فيها عن المنكر، فبهما تتم المحافظة على عقائد المسلمين من الانحراف, وعباداتهم من الابتداع، ودنياهم من الفساد، وبهما تتم المحافظة على الآداب العامة والمعاملات التجارية والأمن والسلامة في المجتمعات.
وأذكر فيما يلي شيئاً مما يوضح أهميتها من الكتاب والسنة؛ حتى يدرك الجميع أهمية هذه الشعيرة, وضرورة القيام بها، وأنها شعيرة لا يمكن الاستغناء عنها أو استبدال غيرها بها، وإذا علم المسلم هذه الأهمية وهذه المكانة السامية لشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإنه سيتحمل الأذى الناتج عن القيام بها؛ لأنها من أشد المجالات تعرضاً للابتلاء كما سيأتي إيضاحه.
وتظهر أهمية الحسبة من وجهين، وهما:
الوجه الأول: فضائل القيام بها:
القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من صفات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومهامه العظام التي بُشر بها في الكتب السابقة، كما قال تعالى: ?الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ? [الأعراف:157].
وهو كذلك من صفات عباد الله المؤمنين التي مدحهم بها، والتي تميزهم عن المنافقين، كما قال سبحانه: ?وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ? [التوبة:71].
وقال عن المنافقين: ?الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ? [التوبة:67].
فقد وصف سبحانه المؤمنين بهذه الصفة ووصف المنافقين بضدها، قال القرطبي: “فجعل الله تعالى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرقاً بين المؤمنين والمنافقين، فدلَّ على أن أخص أوصاف المؤمن: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ورأسها الدعاء إلى الإسلام والقتال عليه” [الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (4/ 47)].
وقد ذكر سبحانه أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من صفات الصالحين الذين يطمع كل مسلم أن يكون منهم, فقال: ?لَيْسُواْ سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ? [آل عمران:113-114].
قال الغزالي: “فلم يشهد لهم بالصلاح بمجرد الإيمان بالله واليوم الآخر حتى أضاف إليه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” [الإحياء للغزالي (2/ 334)].
أنهما سبب الخيرية لهذه الأمة، التي جعلها خير الأمم لقيامها بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما قال تعالى: ?كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ? [آل عمران:110].
أنهما سبب للنصر والتمكين، وواجب من واجبات من مكَّنه الله في الأرض، كما يقول تعالى: ?وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ? [الحج:40-41].
فمن نصر دين الله وجاهد أعداءه وأقام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقد نصر الله, وبذلك يستحق النصر من عند الله القوي العزيز، فإذا انتصر فإن الله شرط عليه القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليستمر نصرهم لدين الله فيستمر نصر الله لهم، قال الضحاك: “هو شرط شرطه الله عز وجل على من آتاه الله الملك”.
وروى الترمذي عن عبد الله بن مسعود –رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «إنكم منصورون ومصيبون ومفتوح لكم، فمن أدرك ذلك منكم فليتق الله، وليأمر بالمعروف ولينه عن المنكر..».
فقد وعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أصحابه بالنصر والفتح, واشترط على مَن يدرك النصر أن يتقي الله ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويستمر هذا الوعد على مرِّ العصور.
أنهما سبب لحصول الثواب وتكفير السيئات، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر صدقة يؤجر عليها المسلم، كما روى الترمذي عن أبي ذر –رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «.. وأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر صدقة..» الحديث.
وهو صدقة؛ لأن الآمر قد بذل الخير للآخرين وأرشدهم إلى ما ينفعهم، وحذرهم مما يضرهم، فأجره عظيم؛ لأن نفعه متعدٍ للآخرين.
وقد جعله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من أعظم أنواع الجهاد، كما روى أبو داود والترمذي وابن ماجه عن أبي سعيد –رضي الله عنه- قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إن من أعظم الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر», والجهاد ذِرْوة سَنام الإسلام.
الوجه الثاني: خطورة ترك الاحتساب:
إن ترك الاحتساب سبب للعذاب، فالأمة التي لا يقوم أفرادها بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ تصبح أمةً تعمّها المعاصي والمنكرات، وتتفشى فيها الأمراض الأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية, فتكون أمة لا تستحق البقاء، كما روى أبو داود والترمذي وابن ماجه عن أبي بكر الصديق –رضي الله عنه- أنه قال: «يا أيها الناس! إنكم تقرؤون هذه الآية: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ? [المائدة:105]، وإني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمَّهم الله بعقاب منه».
وفي رواية ابن ماجه: «إذا رأوا المنكر».
وفي رواية عند أبي داود: «ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي ثم يقدرون على أن يغيروا ثم لا يغيروا إلا يوشك أن يعمَّهم الله منه بعقاب».
وروى الترمذي عن حذيفة –رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «والذي نفسي بيده لتأمُرُنَّ بالمعروف ولتنهوُنَّ عن المنكر، أو ليوشكنَّ الله أن يبعث عليكم عقاباً منه, ثم تدعونه فلا يستجاب لكم».
فترك الاحتساب موقع في العذاب والهلاك، وعدم استجابة الدعاء، وهذه سنة الله في الخلق، فأيّ أمة تركت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فسيأتيها العذاب والهلاك، قال سبحانه: ?فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ * وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ? [هود:116-117].
فأخبر سبحانه أنه لو كان في الأمم السابقة من ينهى عن الفساد لنجوا من العذاب الشامل، قال ابن كثير: “أخبر تعالى أنه لم يهلك قرية إلا وهي ظالمة لنفسها ولم يأت قرية مصلحة بأسه وعذابه قط حتى يكونوا هم الظالمين”.
وقال عمر بن عبد العزيز -رحمه الله-: “كان يقال: إن الله تبارك وتعالى لا يعذب العامة بذنب الخاصة، ولكن إذا عمل المنكر جهاراً، استحقوا العقوبة كلهم”.
وروى البخاري ومسلم والترمذي عن زينب –رضي الله عنها- أنها قالت لرسول الله –صلى الله عليه وسلم-: «أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كَثُر الخَبَثُ».
وهذا يعني: أن كثرة الخبث وانتشاره سبب للعذاب، ولا سبيل إلى الحدِّ من انتشاره إلا بإنكار المنكرات ومحاربة أهلها.
وروى الترمذي في حديث آخر عن عمران بن حصين –رضي الله عنه-: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «في هذه الأمة خسف ومسخ وقذف, فقال رجل من المسلمين: يا رسول الله! ومتى ذاك؟ قال: إذا ظهرت القينات والمعازف, وشربت الخمور».
وهذا يعني: أن ظهور المنكرات سبب آخر للعذاب, حتى ولو لم تكن كثيرة، ولعل سبب ذلك أن المنكر لا يكون ظاهراً إلا إذا كان لدى أصحابه من القوة والنفوذ ما يخول لهم القيام بما أرادوا، أو عندما يكون الناس قد بلغوا من الضعف والمهانة إلى درجة مَنْ لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً.
وفي الجملة فعند ظهور المنكرات وانتشارها يحصل الهلاك والعذاب, ويعمّ الصالح والطالح, قال ابن العربي: “وفائدة قوله: «نعم» في هلاك الصالح مع الطالح: البيان بأن الخيِّر يهلك بهلاك الشرير.
وفيه وجهان:
أحدهما: أنه إذا لم يغيِّر عليه خبثه.
أو: إذا غيَّر لكنه لم ينفع التغيير، بل كثر المنكر بعد النكير، فيهلك حينئذٍ القليل والكثير, ويحشر كل أحد على نيته”.
وكلا هذين الوجهين متصور، فيكون الهلاك عند عدم التغيير مطلقاً، وعند عدم فاعلية النكير؛ لقلة من يقوم به وضعفه، وإذا حصل الثاني فإن الأمة جميعاً آثمة؛ لأن فروض الكفاية إذا لم يقم بها من يكفي وقع الإثم على الجميع, إلا من أدى ما عليه فهو خارج من الإثم, وإن كان قد يشمله العذاب إذا جاء عاماً, أو ينجو إن أراد الله له النجاة، كما في قصة أصحاب السبت, فقد نص الله تبارك وتعالى على نجاة المنكرين, فقال: ?فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ? [الأعراف:165].
وقد قال تعالى في موضع آخر: ?وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ? [الأنفال:25].
قال ابن عباس –رضي الله عنهما- في معنى هذه الآية: “أمر الله المؤمنين ألا يقروا المنكر بين ظهرانيهم؛ فيعمّهم الله بالعذاب”.
فليس في الإنكار فتنة, وإنما الفتنة في تركه، كما دلت عليه هذه الآية, ووضحه شيخ الإسلام ابن تيمية في كلام له يطول نقله.
أن تارك الاحتساب ملعون على لسان أنبياء الله ورسله -عليهم السلام-:
قال تعالى: ?لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ * كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ? [المائدة:78-79].
قال ابن عباس –رضي الله عنهما-: “لعنوا على عهد موسى في التوراة، وعلى عهد داود في الزبور، وعلى عهد عيسى في الإنجيل، وعلى عهد محمد في القرآن”.
وهذا يدل على أن من ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واستغنى عن هذه الوسيلة العظيمة من وسائل الدعوة إلى الله سبحانه؛ استحق أن يكون ملعوناً مطروداً من رحمة الله، قال ابن النحاس: “وهذا غاية التشديد ونهاية التهديد لمن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ إذ بيَّن سبحانه أن السبب في لعنهم هو ترك التناهي عن المنكر، وبيَّن أن ذلك عصيان منهم واعتداء، وأن ذلك بئس الفعل، فاعتبروا يا أولي الألباب”.
هذا بعض ما يوضح أهمية الاحتساب ودوره الكبير في إقامة الدين وإصلاح المجتمع، نسأل الله أن يعلمنا ما جهلنا, وأن ينفعنا بما علمنا، إنه سميع مجيب.
المصدر: منقول عن الرئاسة العامة لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر