الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين, وآله وصحبه أجمعين, أما بعد:
فإن الناظر في نصوص الوحيين, والمتأمل لهما في ذكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يجد اهتماماً كبيراً بهذه القضية الحساسة والمهمة, التي هي في حد ذاتها صمام أمان لحماية الأمة جمعاء؛ حيث يهدف الإسلام إلى إيجاد مجتمع آمن مستقر تسوده المحبة, ويجتمع أفراده في التعاون على البر والتقوى، حتى يتمكن الجميع من القيام بواجب الخلافة في الأرض, وتحقيق الغاية الأساسية من خلق الإنسان, وهي عبادة الله تعالى، كما قال تعالى: ?وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ? [ الذاريات:56].
والبشر كلهم محتاجون دائماً إلى نظام يسيرون على هديه، وسلطة تحرص على تحقيق هذا النظام في حياة الناس، فكان لزاماً أن يكون هناك من يذكر الناس بذلك, ويتابع التزامهم به، ومن هنا جاءت أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال تعالى: ?كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ? [آل عمران:110].
فهذه الخيرية لا تتحقق إلا بالإيمان بالله تعالى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في ديننا الحنيف هو وظيفة الرسول -صلى الله عليه وسلم- الأساسية, وجميع أفراد أمته من بعده؛ ذلك لما له من أهمية قصوى في الحفاظ على الكيان الاجتماعي للمسلمين، فهو الوسيلة الأولى لتحقيق مبدأ استخلاف الإنسان في الأرض, والسعي في إصلاحها؛ كي تصبح صالحة لحياة الناس جميعًا؛ لهذا فقد وضع الإسلام أسساً تضمن فعاليته في المجتمع, ويمكن إجمالها فيما يلي:
1- أن الله تعالى جعل ذلك واجباً دينياً على كل فرد من أفراد المجتمع بحسب موقعه وقدرته, قال الله تعالى: ?وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ? [آل عمران:104].
وقال -صلى الله عليه وسلم-: «من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده, فإن لم يستطع فبلسانه, فإن لم يستطع فبقلبه, وذلك أضعف الإيمان» [رواه مسلم].
2- جعله الله تعالى واجباً دينياً ومهمة أساسية للدولة المسلمة، تتوقف صلاحيتها للاستمرار في قيادة الأمة على القيام بهذا الواجب، قال الله تعالى: ?الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ? [الحـج:41].
3- ولاية الحسبة، كولاية رسمية لا بد أن يقوم عليها أشخاص يختارون لها اختيارًا دقيقًا, وفق شروط واضحة, وصفات محددة.
4- جعل الإسلام الغاية من الحسبة تحقيق ما يصلح للناس معاشهم ومعادهم, بالحفاظ على المنافع وتنميتها, ومحاربة المضار وإخمادها؛ لذا قال الله تعالى: ?وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ? [البقرة :251].
5- ربط الله تعالى الحسبة بالوعد والوعيد، فوعد من قام بها بالثواب الجزيل في الدنيا والآخرة، كما أوعد من تخلف عن القيام بها بالعذاب الشديد في الدنيا والآخرة، قال الله تعالى في صفات المؤمنين: ?وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ? [التوبة:71].
وقال الله تعالى في صفات المنافقين: ?الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ? [التوبة:67].
وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف, ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً منه, ثم تدعونه فلا يستجيب لكم».
[رواه أحمد والترمذي وحسنه].
إن الحسبة في جوهرها تقوم كولاية على حماية محارم الله تعالى أن تنتهك، وصيانة أعراض الناس، والمحافظة على المرافق العامة والأمن العام للمجتمع، إضافة إلى الإشراف العام على الأسواق وأصحاب الحرف والصناعات, وإلزامهم بضوابط الشرع في أعمالهم، ومتابعة مدى التزامهم بمقاييس الجودة في إنتاجهم، ونشر الفضائل والآداب العامة, والمحافظة عليها بين جميع طبقات المجتمع المسلم، وكل ذلك يتم بالتنسيق مع الجهات صاحبة الاختصاص, من وزارات ومؤسسات.. وغيرها.
وإذا كان الأمر كما سبق فإن مسؤولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والاحتساب يجب أن يحملها جميع أفراد المجتمع, ولا خيار في ذلك من باب إعمال الحسبة في المحافظة على الضرورات الخمس المأمور بها، قال الإمام الغزالي -رحمه الله تعالى- في هذه المصالح ما نصه: “”إن جلب المنفعة ودفع المضرة مقاصد الخلق، وصلاح الخلق في تحصيل مقاصدهم، لكنا نعني بالمصلحة المحافظة على مقصود الشرع، ومقصود الشرع من الخلق خمسة، وهو أن يحفظ عليهم دينهم، وأنفسهم، وعقلهم، ونسلهم، ومالهم، فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة، ودفعها مصلحة… وهذه الأصول الخمسة حفظها واقع في رتبة الضرورات، فهي أقوى المراتب في المصالح، ومثاله قضاء الشرع بقتل الكافر المضل، وعقوبة المبتدع الداعي إلى بدعته، فإن هذا يفوت على الخلق دينهم، وقضاؤه بإيجاب القصاص؛ إذ به حفظ النفوس، وإيجاب حد الشرب؛ إذ به حفظ العقول التي هي ملاك التكليف، وإيجاب حد الزنا؛ إذ به حفظ النسب والأنساب، وإيجاب زجر النصاب والسراق؛ إذ به يحصل حفظ الأموال التي هي معايش وهم مضطرون إليها، وتحريم تفويت هذه الأمور الخمسة والزجر عنها يستحيل ألا تشتمل عليه ملة من الملل, وشريعة من الشرائع, التي أريد بها إصلاح الخلق, وكذا لم تختلف الشرائع في تحريم الكفر والقتل والزنا والسرقة وشرب المسكر”. ا.هـ.
وعلى كل فنحمد الله تعالى على أن هيأ لهذه البلاد من يحمل راية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وجعل لها ولاية خاصة رسمية تحوطها الدولة برعايتها، وتكلأها بعينها الساهرة على مصالح العباد، وهذا مما يحتم على المسلم الحرص كل الحرص على القيام بواجبه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, كل قدر استطاعته وحسب كلفته التي كلفها الله تعالى بها.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
https://uqu.edu.sa/aenahari/ar/126764