قال تعالى: ?كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ? [آل عمران:110].
قال الإمام أحمد: «قام رجل إلى النبي -صلى اللّه عليه وسلم- وهو على المنبر فقال: يا رسول اللّه! أي الناس خير؟ قال: خير الناس أقرؤهم وأتقاهم للّه, وآمرهم بالمعروف, وأنهاهم عن المنكر, وأوصلهم للرحم».
شرف الله هذه الأمة بالاحتساب لنصرة الدين، ووصفها بالخيرية ما دامت قائمة بالشعيرة المباركة: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هذا في زمن الوحي والخيرية، كيف في زمن الفتن وظهور الفساد، قَالَ عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: “يَا أَيّهَا النَّاس, مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَكُون مِنْ تِلْكَ الْأُمَّة, فَلْيُؤَدِّ شَرْط اللَّه مِنْهَا”.
قال الإمام الطبري: “وَأَصْل الْمَعْرُوف: كُلّ مَا كَانَ مَعْرُوفًا فَفِعْله جَمِيل مُسْتَحْسَن غَيْر مُسْتَقْبَح فِي أَهْل الْإِيمَان بِاَللَّهِ. وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ طَاعَة اللَّه مَعْرُوفًا؛ لِأَنَّهُ مِمَّا يَعْرِفهُ أَهْل الْإِيمَان وَلَا يَسْتَنْكِرُونَ فِعْله. وَأَصْل الْمُنْكَر مَا أَنْكَرَهُ اللَّه, وَرَأَوْهُ قَبِيحًا فِعْله, وَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ مَعْصِيَة اللَّه مُنْكَرًا؛ لِأَنَّ أَهْل الْإِيمَان بِاَللَّهِ يَسْتَنْكِرُونَ فِعْلهَا, وَيَسْتَعْظِمُونَ رُكُوبهَا”.
فالمعروف ما تعارف عليه أهل الإيمان, فهم الحجة والبرهان، والمنكر ما أنكروه واستقبحوا فعله، ففطرهم محروسة, وقلوبهم سليمة، أما المنافقون وأهل الباطل ففطرهم منكوسة, وقلوبهم مريضة، يتبعون الشهوات, ويميلون مع الشبهات، قال شيخ الإسلام ابن تيمية عنهم: “قد نهكت أمراض الشبهات والشهوات قلوب المنافقين فأهلكتها, وغلبت القصود السيئة على إراداتهم ونياتهم فأفسدتها؛ ففسادهم قد ترامى إلى الهلاك, فعجز عنه الأطباء العارفون: ?فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ? [البقرة:10].
مَن علقت مخالب شكوكهم بأديم إيمانه مزقته كل تمزيق، ومن تعلق شررُ فتنتهم بقلبه ألقاه في عذاب الحريق, ومن دخلت شبهات تلبيسهم في مسامعه حال بين قلبه وبين التصديق, ففسادهم في الأرض كثير, وأكثر الناس عنه غافلون: ?وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ? [البقرة:11-12].
لذلك الاحتساب على المنكرات يفسد على أهل الباطل لهوهم، ويحول بينهم وبين الوصول إلى شهواتهم، فلا عجب أن نجدهم يستميتون في الهجوم على المحتسبين، ويتواصون بينهم على إسقاط أهل الحق وإسكات أصواتهم، ويتربصون بهم الدوائر.
قال قتادة عن المنافقين عند قوله تعالى: ?إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا? [آل عمران:120].
فإذا رأوا من أهل الإسلام ألفة وجماعة وظهورًا على عدوهم، غاظهم ذلك وساءهم، وإذا رأوا من أهل الإسلام فرقة واختلافًا، أو أصيب طرف من أطراف المسلمين سرهم ذلك وأعجبوا به وابتهجوا به, فهم كلما خرج منهم قرن أكذب اللهُ أحدوثته، وأوطأ محلته، وأبطل حجته، وأظهر عورته، فذاك قضاء الله فيمن مضى منهم وفيمن بقي إلى يوم القيامة”.
وتعد هذه الأمة أنهم خير الأمم وأنفع الناس للناس؛ لأنهم يسعون لدعوة الناس للخير، ويدفعون عنها الباطل، وينصحون لها، عملًا بقوله -صلى الله عليه وسلم-: «الدين النصيحة».
والاحتساب صمام أمان لهذه الأمة، وسفينة النجاة التي تسير بهم إلى بر الأمان، به تنشر الفضائل, وتمنع الرذائل، فيسعد الناس في حياتهم, ويهنؤون بمعاشهم.
ويصور لنا المصطفى -صلى الله عليه وسلم- هذا الحال, في الحديث الذي رواه النعمان بن بشير عن رسول الهدى -صلى الله عليه وسلم- قال: «مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة, فأصاب بعضهم أعلاها, وأصاب بعضهم أسفلها، فكان الذين أسفلها إذا استقوا الماء مروا على من فوقهم, فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقًا ولم نؤذ من فوقنا، فإن تركوهم هلكوا وهلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعًا».
واليوم الأمة تواجه طوفانًا عاتياً، لو ترك يجري لأغرق الأخضر واليابس، ولأفسد الزرع والنسل، والخطر يكمن في خلخلة القيم، وزعزعة الثوابت، وهدم بنيان الأسرة، ورفع راية المساواة والحرية، فاتخذوا حق المرأة شعارًا، وتمكينها واستقلالها دثارًا، ولو كان في هذا الاستقلال رفعة وعزة، لكانت نساء الغرب ملكات غير متوجات، وقائدات رائدات، ولكننا كل يوم نسمع لهن نحيبًا وعويلًا، واغتصابًا وعنفًا، وظلمًا وقهرًا، ولم نسمع من نسائهن رئيسة لدولة، ولا منصفة مكرمة، بل ما زلن يطالبن بحق مساواة الأجر، وقد أعلن رئيسهم في حسابه على تويتر أن مجلس الشيوخ رفض بـ (56%) قانونًا لمساواة الأجور بين النساء والرجال، لم ينصفوا نساءهم, فكيف يريدون خيراً بنا؟
ولا زالت نسائهن يحلمن بحرية وأمان، ولا عائل لهن ولا معين، بل تكدح النساء لطلب العيش جل يومها، ثم تبحث عن أنيس ورفيق ختام ليلها، ثم تفرح بطفل لا أب له، حتى إذا كبر وشب عن الطوق فارقها ونسيها في زحمة الدنيا، ولا يذكرها إلا يوم عيد الأم بوردة حمراء يرفقها بكلمات صفراء، لم يستشعر حب الأم, ولا عرف قدر البر، ثم يطلبون من أهل الإسلام تقليدهم ومحاكاتهم، بل هم اليوم يطالون بإباحة الشذوذ، وتجريم الزواج الشرعي للصغيرات، ويحرمون التعدد, ويشجعون تعدد العشيقات، ومن أذنابهم من المنافقين وأهل الباطل من يصفق لهم، وينشر أخبارهم, ويمجد أفعالهم، وقد نشروا أخيرًا خبرًا مفاده: “أصبحت طفلة في الـ (12) من عمرها أصغر أم في بريطانيا، فيما أصبح صديقها البالغ من العمر 13 عاماً أصغر أب في البلاد، وذلك بعد أن رزقا بمولود جديد كانت قد حملت به الأم وهي في الـ11 من عمرها فقط”. وقال والد الطفلة البريطانية التي أصبحت أماً: “إنه فخور بها”، مضيفاً: “لم تفعل شيئاً يمكن أن يجلب العار”.
ممارسة الفاحشة لا تجلب العار بينما زواج صغيرة شرعًا يجلب الدمار والاستنكار!!
وجاء في آخر الخبر: “وتشير التقديرات إلى أنه في العام (2012م) تم تسجيل (5432) حالة حمل لفتيات دون سن السادسة عشرة من أعمارهن في بريطانيا، كما تم تسجيل (5991) حالة في العام (2011م)”.
هكذا تغتال الفضيلة وتنشر الفاحشة، ويطبل لها أهل الباطل في صحفهم وقنواتهم، فحسبهم قوله تعالى: ?إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ? [النــور:19].
يا عقلاء قومي! حين تحارب القَوامة وترفع الولاية، ينفرط عقد الأسرة، وحين نطالب بالمساواة والندية، ونتغنى بالحرية، يختل نظام الحياة، ويتصارع الأنداد أيهم له حق البقاء، ومن صاحب السلطة والقيادة، ثم تفترق بهم الطرق فلا استقرار, ولا تطيب لهم الحياة.
ولا يزال قوله تعالى: ?وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى? [آل عمران:36], معيار العدل والإنصاف، وميزان التوازن والاستقرار.
وأخيرًا: لا بد لسفينة النجاة أن تقود مركب الأسرة إلى بر الأمان، وتحمي طاقمها من طوفان الهلاك، ولنرفع شعار: “استقرار الأسرة نجاة للسفينة”.