أهل الاحتساب (1)
الحمدُ لله رَبِّ العالمينِ، والصلاةُ والسلامُ على المبعُوثِ رحمةً للعالمينِ، نبيّنا محمدٍ عليهِ وعلى آلهِ أفضلُ الصلاةِ وأتمُّ التسليمِ، أمَّا بَعد:
سيكون مدار الحديث عن سياحة تفكرية تأملية في آية عظيمة، تتحدث عن فئة عظيمة القدر، نسأل الله عز وجل أن يرفع قدرهم، وأن يعليَ من شأنهم، إنهم أهل الاحتساب، الذين قال الله عز وجل فيهم: ?وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ? [عمران:104].
وقد جمعت هذه الآية العظيمة أموراً عدة، لعل من أهمها:
1- حكم هذه الشعيرة.
2- المخاطب والمأمور بها.
3- مواصفات القائمين بها.
4- وظائف ومهمات أهلها.
5- خطوات إقامة هذه الشعيرة.
6- الثناء على القائمين بها.
7- علاقة الدعوة بهذه الشعيرة.
ولعل هذه الأمور التي أشرت إليها ستأتي من هذا التحليل الدلالي لألفاظ وتراكيب هذه الآية الكريمة، في محاولة منا لبيان عظم مدلول هذه الآية على مكانة هذه الشعيرة العظيمة، وقد نذكر بعض هذه العناصر، وقد ندمج بعضها مع بعض، وسنبدأ من خلال هذه القضايا التي سأعرضها في معرض بيان ما تحتويه هذه الآية من دلالات، وإشارات:
أولاً: الملحوظ في هذه الآية: أنها جاءت بين آيتين تدلان على ضرورة الاتفاق ونبذ الافتراق, فالآية السابقة تدعو للاعتصام والأخوة، قال الله تعالى: ?وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ? [آل عمران:103].
والآية التي تليها تنهى عن مشابهة أهل الفرقة والخلاف، وهي قول الله تعالى: ?وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ? [آل عمران:105].
وهذا مؤشرٌ واضح إلى أنَّ من أعظم المؤثرات في إقامة هذه الشعيرة العظيمة: هو اجتماع الكلمة، ونبذ الاختلاف، كما أنَّ هذه الشعيرة هي من أعظم أسباب تمكين هذا الدين، وقطع بوادر التفرق وذهاب الريح، فكأنَّ التأثير هنا متبادل، لكن لكل مؤثر وجهة معينة في التأثير والتأثر.
ثانياً: قوله تعالى: ?وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ? [آل عمران:104]، نلحظ فيها كيف جاء إيجاب هذه الشعيرة بهذا الأسلوب، بأسلوب المضارع المسبوق بلام الأمر، في قوله تعالى: ?وَلْتَكُن? بسكون اللام، وهذه اللام أفادت الأمر، وهو موجه من أعلى، وهو الله سبحانه وتعالى إلى الأدنى، وهم العباد، وهذا يقتضي الوجوب وضرورة العمل به، إلا أن يأتي ما يصرفه عن هذا الوجوب أو يخصصه، والتعبير بفعل الكون ?وَلْتَكُن? يوحي بالإيجاد لشيء لم يكن موجوداً لحظة الخطاب؛ إذ المعنى على (كان) التامة: ولتوجد منكم أمة يدعون، والفعل المضارع يوحي بالتجدد والاستمرار في هذا العمل، حتى لو حصل فيه انقطاع، بخلاف الأمر لو قيل مثلاً: كونوا أمة داعية إلى الخير.
ثالثاً: تحديد المخاطب بهذا الأمر، بقوله تعالى: ?وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ? [آل عمران:104]، للإشعار بمزية هذه الأمة وشرفها، حيث اختصها الله سبحانه وتعالى واختارها، فكانت الفئة المصطفاة بهذه الشعيرة العظيمة، وذلك في قوله تعالى: ?مِّنكُمْ?، أي: أنتم أيها المخاطبون، ويفهم هذا المعنى من دلالة (مِنْ) الابتدائية، فكأنَّ منطلق ومبدأ هذه الفئة هو أنتم أيها المؤمنون المخاطبون، وهذا في نظري أولى من القول بالتبعيض؛ لأنَّ الابتداء هو معنى من الأصل؛ ولأنَّ عدم لزوم الكل وفرضية الكفاية ليس بالضرورة أنْ يفهم من قوله تعالى: ?مِّنكُمْ?، بل يمكن أن تدل عليه كلمة: ?أُمَّةٌ?، أي: جماعة، تعم وتقصد، فليس هذا الأمر مطلوب من الجميع، على درجة واحدة وفي وقت واحد، وإن كان توجيه الخطاب على من المذكور، هو لكل الأمة، ثم أسندت الدعوة إلى البعض، أي: إلى الأمة المختارة، وهذا فيه إشعار بضرورة اهتمام المؤمنين جميعاً بهذه الشعيرة، وعدم التخلي عنها بحجة قيام جهات معينة بها؛ لأن التوجيه في أصله كان بالعموم، ثم خصت الأمة المختارة على سبيل التكريم، أو على سبيل التحديد، كما يتضح من هذا زيادة على ما ذكر عظم شأن هذه الفئة المختارة لهذه المهمة المحتسبة لها، وعظم فضلها علينا أجمعين؛ إذ بسببها يمكن أن يرفع الإثم عنا، إذا وجب على الجميع مساندتهم والوقوف معهم، لا مضايقتهم وإضعاف شأنهم.
رابعاً: قوله تعالى: ?أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ? [آل عمران:104]، في ظني أنَّ التعبير بـ ?أُمَّةٌ? هنا، له دلالته الخاصة، فما كان القول: (وليكن منكم فريق، أو جماعة، أو فئة.. أو غير ذلك)؛ لأنَّ الأمة تدل على الكثرة من جهة، والتنوع من جهة، وعلى كون أفرادها يؤم ويقصد من جهة ثانية، وهذه المعاني المستقاة من جملة أقوال المفسرين وأهل اللغة تشير إلى أنَّ هناك مواصفات معينة في الذين يتولون هذه المهمة، ويكونون معنيين بها عناية مباشرة، ومن ذلك مثلاً: الكثرة، فلا يصلح أن يكتفى في هذا المرفق العظيم بالعدد القليل، بل لا بد من العناية بهذا المرفق؛ ليكون فيه العدد كافياً لإقامة هذه الشعيرة العظيمة من كل الوجوه، سواءً من الناحية العددية, أم التأهيلية، أم الإدارية، أم الفنية، أم المادية، وأمَّا معنى التنوع فلعله يوحي بضرورة مشاركة الكل، ومن كل الأطياف والجهات في إقامة هذه الشعيرة، كما أنَّه قد يشير إلى التنوع في نوعية العاملين، فقد يكون بعضهم مباشراً لهذا العمل، وبعضهم مسانداً له، وبعضهم داعماً له.. وهكذا، وهذا يعني على ضرورة العمل على العناية على الكوادر اللازمة لإقامة هذه الشعيرة، من الفنيين والإداريين والمتخصصين.. وهكذا.
وأما المعنى الثالث: وهو كونها فئة تؤم وتقصد، فقد يشير هذا إلى كونهم علماء، أو من طلبة علم، أو من العارفين بما يعملون، وهم الذين يحتاج الناس إليهم، ويقصدونهم، أو لكونهم من ذوي المكانة والجاه، أو هم ممن له يد على الناس بمساعدتهم لهم وإحسانهم إليهم، والله أعلم في ذلك.
خامساً: كل ما سبق يوحي بضرورة إيجاد هذا المرفق الحيوي في الدولة المسلمة، وقد جاء في هذه الآية، تحديد المهمات التي يقوم بها هذا المرفق الحيوي، والخطوات التي يتبعها في تنفيذ هذه المهمات الموكلة به، كل ذلك جاء في إيجاز معجز في قوله تعالى: ?يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ? [آل عمران:104]، فلو تأملنا المهمات والوظائف المناطة بهذا المرفق، لوجدناها في هذه الآية بالطريقة الآتية، والترتيب الآتي:
الدعوة إلى الخير، الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.
وقد جاءت هذه المهمات بهذا الترتيب لتمثل أيضاً الخطوات التي ينبغي اتباعها للقائمين بهذه الشعيرة.
وقد جاءت الأفعال كلها بهذه المهمات بصيغة المضارع.
وجاءت أيضاً مُعدَّاة بحروف معينة، فقال سبحانه تعالى: ?يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ?، ?وَيَأْمُرُونَ بِــ?، ?وَيَنْهَوْنَ عَنِ?، ممَّا يُوحي بالتجدد والحركة، وأما تغير حروف الجر التي عديت بها، وهي: (إلى)، و(الباء)، و(عن)، فإنَّ ذلك يدل على أنَّ لكل منها مناسبة معينة، ودلالة خاصة، سيأتي بيانها -إن شاء الله- فيما سيأتي من تعليل وتحليل لهذه الآية العظيمة.