شعيرة من الشعائر
وجوب العمل من الله تعالى يثبت بواحد مما يلي:
1- بالتكليف به: أي الأمر به، وله صور: فإما أن يأمر به، أو يأمر بالأمر به، أو يفعله نبي.
2- بالثناء على من أتى به: وله صور: وصفه بالإيمان، والصلاح، والفلاح، والتقوى، والخير.
3- بالوعد عليه وعداً جميلاً: الجنة، والنصرة.
4- بتوعد من تركه: وله صور، منها: لعنه، أو وصفه بالنفاق، أو تحذيره بالعذاب.
بواحدة من هذه الأربعة يثبت الوجوب، فإذا اجتمع اثنان كان مؤكداً، فالثلاثة آكد، فإذا اجتمعت كلها كان أصلاً وشعيرة من شعائر الدين.
فأي عمل هذا الذي جمع كل أنواع الوجوب الآنفة؟
كلفنا الله تعالى بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
فأمرنا به أمراً، فقال: ?وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ? [آل عمران:104].
وأمرنا بتربية أولادنا عليه: ?يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ? [لقمان:17]، فوصية لقمان لابنه وصية الآباء لأبنائهم، هكذا القرآن: يحكي لنحاكي، ويحذر لنحذر.
وذكر أنه سنة النبي صلى الله عليه وسلم وفعله: ?يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ? [الأعراف:157].
ثم وصف الله تعالى العاملين به بالإيمان، والفلاح، والصلاح، والتقوى، وأنهم مرحومين:
– ?وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ? [التوبة:71].
– ?وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ?[آل عمران:114].
وجعل أمة تقوم بها خير أمة، فقال:
– ?كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ? [آل عمران:110].
ومن وعده الجميل عليه: أنه جعل العاملين به من أهل الجنة، وأهل النصرة:
– ?فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ? [التوبة:111-112].
– ?وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ? [الحج:40-41].
وأما الوعيد لتاركه فقد تجلى في اللعن، والوصف بالنفاق، والعذاب الواقع:
– ?لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ? [المائدة:78-79].
– ?الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ? [التوبة:67].
– قال صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده! لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً منه، ثم تدعونه فلا يستجاب لكم» [رواه الترمذي].
وبهذا يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شعيرة من شعائر الإسلام؛ لجملة أنواع الأدلة الواردة فيها، والتي تدل على مكانتها، فتركها هدم لشعيرة، وإقامتها إقامة لشعيرة.
والأمة التي تقوم بها خير أمة، والتي تعرض عنها ملعونة، موعودة بالعذاب في الدنيا والآخرة.
ليس مؤمن إلا وهو يحب هذه الشعيرة، والقيام بها، ومن قام بها، ومن نصرها.. ويكره من أعرض عنها، أو عطلها، أو سعى فيها بالدوائر، فهذا من علامات الإيمان.
والخطأ ليس مبرراً لتعطيل الواجب، فإذا أخطأ المسلم لم يكن عذراً لإبطال الإسلام، وخطأ المصلين ليس عذراً لتعطيل الجمع والجماعات، حتى أخطاء المجاهدين ليس عذراً في إبطال الجهاد..
فلو أنه كلما أخطأت أمة: نفيت؛ فهل ستبقى أمة؟!
ولو حصل خطأ في أداء عبادة: فألغيت؛ فأي عبادة ستبقى؟!
الخطأ في كل أمر وارد؛ في كل مؤسسة رسمية أو غير رسمية، وفي كل عمل، و قول: الخطأ وارد. فتقدير: أن ما يكون فيه الخطأ، فيجب أن يلغى. يعني إلغاء كل شيء؛ لأن الخطأ واقع فيها كلها.
أما إن كان هذا التقدير خاصاً بهذه الشعيرة، فتكون أخطاء حملتها القائمين بها المنوط بهم مهامها، داعٍ إلى إلغائها، وصرف عمّالها، وتعطيل أعمالها: فهذا يفهم منه، ودليل على رفض هذه الشعيرة في ذاتها وأصلها. حتى لو كان من يقوم بها عنده حكمة الأنبياء، وفقه الرسل، وصبر أولي العزم الرسل!!
أي إن مشكلة هؤلاء -المطالبين بإلغاء العمل بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- مع الشعيرة نفسها، لامع القائمين بها؛ لأن من كانت مشكلته مع العاملين المنفذين يرضى باستبدالهم، وإحلال الأقدر والأكفأ علما وحكمة. أما الذي مشكلته مع الشعيرة نفسها فلا يرضى إلا بتعطيلها كلياً.
وكيف لمؤمن أن يكون له مع شعيرة من شعائر الإسلام مشكلة؟!! إلا أن يكون فيه نفاق، يحب المنكر ويكره المعروف، كما قال تعالى عن المنافقين: ?الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ? [التوبة:67].
في كل حال هذه الشعيرة متعلقة بالأمة كلها، ليست وحدها الجهة المنوط بها هذا العمل مكلفة. فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مراتب، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان».
فمراتب الإنكار ثلاثة: بالقلب، ثم باللسان، ثم باليد.
فالأمة كلها مأمورة بالإنكار بالقلب؛ فمن قدر باللسان فعليه ذلك، ومن بسط الله يده بالحكم والسلطان فباليد، فإذا كانت الجهة الرسمية المنوط بها هذا العمل تختص في الأغلب بمرتبة الإنكار باليد مع العموم.
بالمنع بالطرق المشروعة: فإن الأمة عليها أن تنكر بالقلب، وباللسان متى قدرت، وأما باليد فعلى الخصوص، كالوالد مع ولده، والولي مع موليته.
فلا تسقط هذه الشعيرة بحال، سواء كلفت بها جهة ما أو لم تكلف، فالنصوص المكلفة، والتي تحمد، وتعد وتبشر، وتتوعد وتحذر. لم تنزل على من حمّل هذا العمل بتكليف رسمي، بل نزلت على كل مسلم، عليه من الواجب بقدر ما يستطيع، وفي حدود ما كلف به.
كانت عقوبة أمة تترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيما مضى عقوبة استئصالية تستأصل الأمة الظالمة بكمالها، تميز الناهين عن السوء فتنجيهم، وتمر على الظالمين والساكتين فتأخذهم بغتة؛ بياتاً أو نهاراً، فلا تبقي إلا مساكنهم خاوية على عروشها؛ لتبقى شاهدة وآية على الانتقام.
هذا النوع من العقوبات مضى لم تبق إلا النذر والتحذير، فالأمة تعاقب على تركها هذه الشعيرة، لكن العقوبة تسري فيها ببطء، لا يشعر بها إلا المتيقظون، يأخذ ويعم جميع الناس، يظهر في صور:
– كالفقر والحاجة والضيق في العيش، مع وجود المال، كحال العطشى على نهر.
– والأمراض والأوبئة المستعصية، لا علاج لها.
– وتسلط الظلمة بالعدوان على الحقوق والأنفس، وأكل الأموال بالباطل.
وأنواع أخرى لا يدركها الناس إلا بعد أن تتمكن، كمرض السرطان ونحوه، فتكثر فتنة الناس بها؛ إذ يندر من يعرف ويدرك أنها عقوبات إلهية، أما سائر الناس فلا يفكرون في توبة، بل يطرقون كل الأبواب إلا باب الرجوع إلى الله تعالى، كما قال تعالى في وصف هذه الفئة: ?وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ * وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ * حَتى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا همْ فِيهِ مُبْلِسُونَ? [المؤمنون:75-77].
وكقوم فرعون قبل أن يهلكهم الله تعالى: ?فَلَما جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا همْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ * وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ? [الزخرف:47-48].
ما أشبه هذه العقوبات بحديث السفينة، يخرق بعض الراكبين في موضعهم من السفينة، فإذا فعلوا هلكوا لكن بوصفين: ببطء يهلكون، جميعاً يهلكون. أما إذا منعوا نجوا جميعاً.