ما يتعلق بالمحرم من أحكام
تتصل بالمحرم أحكام كثيرة، وهي تختلف بحسب موضوعها أو متعلقها، وبيان ذلك فيما يلي:
أسباب المحرمية:
سبب المحرمية إما قرابة النسب، أو الرضاع، أو المصاهرة، وثمة اختلاف حول ثبوت حرمة المصاهرة بالزنا، حتى المس بشهوة.
وهناك من فرق أيضاً بين النكاح الصحيح والنكاح الفاسد في ثبوت هذه الحرمة أو عدم ثبوتها(1).
النظر إلى المحرم:
أباح الفقهاء نظر الرجل إلى مواضع الزينة من المحرم؛ لقوله تعالى: ?وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ? [النور:31]، أما حدود الزينة التي يحل النظر إليها ولمسها، فقد ذهب الفقهاء إلى حرمة النظر إلى ما بين السرة والركبة للمحارم، وما عدا ذلك اختلفوا فيه على أقوال تفصيلها في مصطلح (عورة ف 6).
وذهب الحنفية إلى أنه يجوز للرجل أن ينظر من محرمه إلى الرأس والوجه والصدر والساق والعضد إن أمن شهوته، وشهوتها أيضاً، وأصله قوله تعالى: ?وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا? [النور:31]، الآية، وتلك المذكورات مواضع الزينة، بخلاف المظهر ونحوه(2).
قال في الفتاوى الهندية: “ولا بأس للرجل أن ينظر من أمه وابنته البالغة وأخته وكل ذي رحم محرم منه كالجدات والأولاد وأولاد الأولاد والعمات والخالات إلى شعرها وصدرها وذوائبها وثديها وعضدها وساقها، ولا ينظر إلى ظهرها وبطنها، ولا إلى ما بين سرتها إلى أن يجاوز الركبة، وكذلك كل ذات محرم برضاع أو مصاهرة كزوجة الأب والجد وإن علا، وزوجة الابن وأولاد الأولاد وإن سفلوا، وابنة المرأة المدخول بها؛ فإن لم يكن دخل بأمها فهي أجنبية”.
وإن كانت حرمة المصاهرة بالزنا اختلفوا فيها قال بعضهم: “لا يثبت فيها إباحة النظر والمس”.
وقال السرخسي: “تثبت إباحة النظر والمس لثبوت الحرمة المؤبدة. كذا في فتاوى قاضيخان وهو الصحيح. كذا في المحيط”(3).
أما المالكية فيرون جواز النظر من المحرم إلى الذراعين والشعر وما فوق النحر وأطراف القدمين(4)، ففي شرح الزرقاني: “وعورة الحرة مع رجل محرم لها نسباً أو صهراً أو رضاعاً”.
غير الوجه والأطراف، أي: أطراف الذراعين والقدمين وما فوق النحر، وهو شامل لشعر الرأس والذراع من المنكب إلى طرف الأصبع الوسطى، فليس له أن يرى ثديها ولا صدرها ولا ساقها بخلاف شعرها، وترى المرأة من المحرم نسباً أو صهراً أو رضاعاً مسلماً أو كافراً كرجل مع مثله، فترى ما عدا ما بين السرة والركبة(5).
وقال المالكية أيضاً: “لا يجوز ترداد النظر وإدامته إلى شابة من محارمه أو غيرهن إلا لحاجة أو ضرورة كشهادة ونحوها، ويقيد أيضاً بغير شهوة، وإلا حرم حتى لبنته وأمه(6).
أما الشافعية فيجوز عندهم النظر إلى جميع البدن -عدا ما بين السرة والركبة- بشرط أمن الفتنة(7).
وفي قول آخر للشافعية: “أنه يجوز له النظر إلى ما يبدو منها عند المهنة فقط، ولا ضرورة إلى النظر إلى ما زاد على ذلك”، ففي شرح منهاج الطالبين: ولا ينظر من محرمه بين سرة وركبة، أي: يحرم نظر ذلك، ويحل نظر ما سواه، قال تعالى: ?وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ? [النور:31]، والزينة مفسرة بما عدا ما بين السرة والركبة، وقيل: يحل نظر ما يبدو في المهنة، أي: الخدمة فقط كالرأس والعنق والوجه والكف والساعد وطرف الساق؛ إذ لا ضرورة إلى غيره، وسواء فيما ذكر المحرم بالنسب والمصاهرة والرضاع”(8).
وعند الحنابلة يباح للرجل أن ينظر من ذوات محارمه إلى ما يظهر غالباً كالوجه والرقبة والرأس واليدين إلى المرفقين والساق(9).
وفي الإنصاف: “وهذا المذهب وعليه أكثر الأصحاب”(10).
ويكره عندهم النظر إلى الساق والصدر للتوقي لا للتحريم، قال ابن قدامة: “ويجوز للرجل أن ينظر من ذوات محارمه إلى ما يظهر غالباً، كالرقبة والرأس والكفين والقدمين ونحو ذلك، وليس له النظر إلى ما يستر غالباً، كالصدر والظهر ونحوهما”.
قال الأثرم: “سألت أبا عبد الله عن الرجل ينظر إلى شعر امرأة أبيه أو امرأة ابنه؟ فقال: هذا في القرآن: ?وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ? [النور:31]، إلا لكذا وكذا، قلت: فينظر إلى ساق امرأة أبيه وصدرها؟ قال: لا. ما يعجبني”.
ثم قال: “أنا أكره أن ينظر من أمه وأخته إلى مثل هذا، وإلى كل شيء لشهوة”، وقال أبو بكر: “كراهية أحمد النظر إلى ساق أمه وصدرها على التوقي؛ لأن ذلك يدعو إلى الشهوة، يعني أنه يكره ولا يحرم”.
ومنع الحسن والشعبي والضحاك النظر إلى شعر ذوات المحارم(11).
أما نظر المرأة إلى الرجل ففيه روايتان إحداهما: لها النظر إلى ما ليس بعورة، والأخرى: لا يجوز لها النظر من الرجل إلا إلى مثل ما ينظر إليه منها(12).
مس ذوات المحارم:
ذهب الفقهاء إلى أن ما يجوز النظر إليه من المحرم يجوز مسه إذا أمنت الشهوة، لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كان إذا قدم من سفر قبل ابنته فاطمة رضي الله تعالى عنها»(13).
هل الكافر أو الذمي محرم؟
لم يشترط الفقهاء في المحرم أن يكون مسلماً(14)، إلا أن بعض الفقهاء استثنى بعض الأحكام، ومنهم الإمام أحمد، حيث إنه يعد الكافر محرماً في النظر دون السفر، قال البهوتي: “لا تسافر المسلمة مع أبيها الكافر؛ لأنه ليس محرماً لها في السفر. نصاً، وإن كان محرماً في النظر”(15)، ومقتضاه إلحاق سائر القرابة المحرمية الكفار بالأب لوجود العلة.
واستدل الحنابلة بأن إثبات المحرمية يقتضي الخلوة بها، فيجب أن لا تثبت لكافر على مسلمة، كالحضانة للطفل، ولأنه لا يؤمن عليها أن يفتنها عن دينها كالطفل(16).
كما استدلوا بأن أبا سفيان أتى المدينة وهو مشرك فدخل على ابنته أم حبيبة رضي الله عنها فطوت فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لئلا يجلس عليه(17) ولم تحتجب منه، ولا أمرها بذلك النبي صلى الله عليه وسلم.
واستثنى الحنفية المجوسي من السفر مع محرمه، قال الموصلي: “المحرم: كل من لا يحل له نكاحها على التأبيد لقرابة أو رضاع أو صهرية، والعبد والحر والمسلم والذمي سواء، إلا المجوسي الذي يعتقد إباحة نكاحها، والفاسق لأنه لا يحصل به المقصود”(18).
نظر العبد إلى سيدته:
للفقهاء في هذه المسألة قولان:
الأول: أن العبد كالأجنبي بالنسبة لسيدته، فلا يحل له أن ينظر إليها؛ لأنه ليس بمحرم، وبهذا يقول الحنفية، وفي قول عند المالكية، وهو مقابل الأصح عند الشافعية، وهو رواية عن أحمد.
جاء في المبسوط: “والعبد فيما ينظر من سيدته كالحر الأجنبي، معناه أنه لا يحل له أن ينظر إلا إلى وجهها وكفيها عندنا”(19).
وفي مغني المحتاج: الأصح أن نظر العبد إلى سيدته كالنظر إلى محرم، والثاني يحرم نظرهما إلى بعضهما كغيرهما(20).
وقال ابن قدامة: “إن العبد ليس محرماً لسيدته لأنه غير مأمون عليها، ولا تحرم عليه على التأبيد، فهو كالأجنبي”(21).
وقد روي عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «سفر المرأة مع خادمها ضيعة»(22).
القول الثاني: إن عبد المرأة كالمحرم لها، فيجوز أن ينظر إلى وجهها وكفيها، وهذا عند الحنابلة، وهو قول عند المالكية، وهو الأصح عند الشافعية، يقول المرداوي: “الصحيح من المذهب أن للعبد النظر من مولاته إلى ما ينظر إليه الرجل من ذوات محارمه”(23).
واستدلوا بما روى أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى فاطمة بعبد وهبه لها، قال: وعلى فاطمة رضي الله عنها ثوب إذا قنعت به رأسها لم يبلغ رجليها، وإذا غطت به رجليها لم يبلغ رأسها، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ما تلقى قال: «إنه ليس عليك بأس، إنما هو أبوك وغلامك»(24).
المحرم وغسل الميت ودفنه:
جمهور الفقهاء على أن المحارم يقدمون على غيرهم في الأمور التي تجب للميت من غسل وصلاة عليه ودفن، إلا أن بعضهم يقدم الزوجين، ومنهم من يقدم الوصي عليهم، وقد يختلف الحكم في الصلاة عليه وفي الغسل والدفن.
وتفصيل هذه الأحكام في مصطلح (جنائز ف41) و (تغسيل الميت ف11) و (دفن ف6).
لمس المحرم وأثره على الوضوء:
ذهب الحنفية والمالكية في المشهور، وهو الأظهر عند الشافعية إلى أن لمس الرجل امرأة محرماً لا ينقض الوضوء، وكذلك الحكم عند الحنابلة إن كان لغير شهوة.
أما إن كان بشهوة فإنه ينقض الوضوء عند الحنابلة وفي قول للمالكية.
وفي قول عند الشافعية ينتقض الوضوء بلمس المحرم مطلقا.
وينظر تفصيل ذلك في (مس – لمس – وضوء).
_________________
(1) الموطأ 280 – 281، والأم 5/ 159-161، 234، وحاشيتي القليوبي وعميرة 1/ 32، 3/ 208، وفتح القدير 3/ 126-131، والمغني 9/ 493، وأعلام الموقعين 3/ 213.
(2) حاشية ابن عابدين 5/ 235، والمبسوط 10/ 149، وبدائع الصنائع 5/ 120-121.
(3) الفتاوى الهندية 5/ 328.
(4) مواهب الجليل 1/ 500.
(5) شرح الزرقاني على مختصر خليل 1/ 178، وشرح الخرشي على مختصر خليل 1/ 248.
(6) شرح الزرقاني على خليل 1/ 178.
(7) كفاية الأخبار 2/ 44-46، ونهاية المحتاج 6/ 191.
(8) شرح منهاج الطالبين على هامش القليوبي وعميرة 3/ 208-209، والمجموع 16/ 140.
(9) كشاف القناع 5/ 11.
(10) الإنصاف 8/ 20.
(11) المغني 9/ 491-492.
(12) المغني 9/ 506.
(13) حديث: «كان إذا قدم من سفر قبل.. ». أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط (5/ 67) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: رجاله ثقات وفي بعضهم ضعف لا يضر.
(14) حاشية ابن عابدين 2/ 145، وحاشية العدوي بهامش الخرشي 1/ 248، ومغني المحتاج 3/ 133، والمغني 3/ 192، 193 مع الشرح الكبير.
(15) كشاف القناع 5/ 12.
(16) المغني مع الشرح الكبير 3/ 192-193.
(17) أثر: ” أن أبا سفيان أتى المدينة وهو مشرك فدخل على ابنته أم حبيبة.. “. أخرجه ابن سعد في الطبقات الكبرى (8/ 99 – 100) من حديث الزهري مرسلاً.
(18) الاختيار 1/ 141.
(19) المبسوط 10/ 157، والحطاب 2/ 522-523.
(20) مغني المحتاج 3/ 130.
(21) المغني مع الشرح الكبير 3/ 193.
(22) حديث: «سفر المرأة مع خادمها ضيعة». أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط (7/ 334) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وضعفه الهيثمي في مجمع الزوائد (3/ 214).
(23) الإنصاف 8/ 20، وينظر مغني المحتاج 3/ 130، والحطاب 2/ 522-523.
(24) حديث: ” إنه ليس عليك بأس… “. أخرجه أبو داود (4/ 359) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.