لا إكراه في الدين.. الفهم المغلوط
يحتج كثير من العلمانيين والليبراليين وغيرهم من المبطلين على دعوتهم للحريات المنفلتة من عقال الشريعة بقوله تعالى: ?لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ? [البقرة:256]؛ فهذه الآية تدل عندهم على حرية العقيدة والعبادة والسلوك؛ فللمرء أن يكون اليوم مسلماً وغداً يهودياً وبعده ملحداً، وله أن يجاهر بكل ما يعتقد دون وصاية أو رقابة أو تحكم من أحد، فهذا وغيره مما يشبهه تقرره الآية الكريمة بزعمهم!
وأنت إن نظرت في كتاباتهم يخيل إليك أن الله عز وجل لم ينزل في كتابه الكريم إلا هذه الآية، وقولَه: ?فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ? [الكهف:29]، وقولَه: ?لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ? [الكافرون:6]، التي يؤولونها جميعها لتؤدي نفس المعنى الذي يريدون.
وفي الحقيقة فإن التاريخ الإسلامي في عهد النبوة يخطئ هذا الفهم ويكذب هذه الدعاوى؛ والقرآن الكريم نفسه فيه تفنيد لهذه الشبهة.
لقد أرسل الله عز وجل نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بالرسالة الخاتم لتكون آخر صلة بين الأرض والسماء، وأيده جل وعلا بالحجج الباهرات، والآيات النيرات الدالة على صدقه وصدق ما جاء به، وكان من أعظم هذه الحجج القرآن الكريم؛ لأنه الحق المبين الذي ?لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ? [فصلت:42]، ولأنه المعجزة الباقية أبداً إلى يوم الدين.
وحيث كانت رسالات الأنبياء السابقين محصورة في زمان ومكان محددين، لم تكن هناك حاجة لمعجزة دائمة مستمرة، أما ورسالته صلى الله عليه وسلم باقية مستمرة تخاطب الثقلين في كل زمان ومكان، فقد ناسب أن تكون معجزته صالحة متحدية في كل زمان ومكان.
إن للقرآن الكريم حسناً ذاتياً، فهو حجة بذاته على كل صاحب عقل صحيح وقلب سليم، بحيث لا يجد فكاكاً من الإقرار بصدقه وصحة ما يدعو إليه. أما من أبى أن يسلم ويذعن لهذا الدين فهذا إن لم يكن من أهل الكتاب -اليهود والنصارى- فلا يقبل منه إلا الإسلام أو القتال، قال تعالى في حق هؤلاء: ?فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ? [التوبة:5]، وإن كان من أهل الكتاب فتقبل منه الجزية أو يسلم وإلا القتال، قال تعالى: ?قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ? [التوبة:29]، فهؤلاء تعصم دماؤهم ويقرون على دينهم إن أدوا الجزية، ويلحق بهم أيضاً المجوس، ففي صحيح البخاري وغيره عن بَجَالة بن عبدة التميمي قال: “لم يكن عمر أخذ الجزية من المجوس، حتى شهد عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها من مجوس هجر”.
فها أنت ترى آيات الله عز وجل تنادي على القوم ببطلان ما يرمون إليه، ولكن لأن مثل هذه الآيات هي أشد عليهم من وقع النبال وضرب الرماح وطعن السيوف، لا يرفعون بها رأساً، ولا يلقون لها بالاً، ولولا الخوف من الناس لأنكر بعضهم أنها من القرآن الكريم!
فإذا كان الأمر كذلك، فما معنى قوله تعالى: ?لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ?؟
لقد اختلف أهل العلم في سبب نزول هذه الآية، فذهب قوم إلى أنها في قوم بعينهم كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تتعداهم إلى من سواهم، وذهب آخرون إلى أن الآية نسخت بفرض القتال، وقال آخرون إنما المراد أهل الكتاب وغيرهم ممن أقِرَّ على دينه مع أخذ الجزية، وهذا هو الصواب إن شاء الله، وبه تتفق الآيات جميعاً.
قال ابن جرير الطبري رحمه الله: “لما كان المسلمون جميعاً قد نقلوا عن نبيهم صلى الله عليه وسلم أنه أكرهَ على الإسلام قوماً فأبى أن يقبل منهم إلا الإسلام، وحكم بقتلهم إن امتنعوا منه، وذلك كعبدة الأوثان من مشركي العرب، وكالمرتد عن دينه دين الحق إلى الكفر ومن أشبههم، وأنه ترك إكراه الآخرين على الإسلام بقبوله الجزية منهم، وإقرارهم على دينهم الباطل، وذلك كأهل الكتابين ومن أشبههم، كان بيِّناً بذلك أن معنى قوله:?لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ?، إنما هو لا إكراه في الدين لأحد ممن حل قبول الجزية منه بأدائه الجزية، ورضاه بحكم الإسلام”.
ومما ينبغي ملاحظته هنا: أن الكلام إنما هو على الظاهر، فنقبل من المرء ظاهره ونكل باطنه إلى علام الغيوب، فالمقصود هو ألا يخرج أحد من رعايا الدولة الإسلامية عن حكمها ونظامها فيما يظهر للناس، وأما في خاصة نفسه فأمره إلى الله.
أصحاب العقول القاصرة قد يصيحون من هذا الكلام ويتأوهون ويضربون كفاً بكف، ويقيمون المآتم على حرية العقيدة التي كفلتها الدساتير والقوانين والمواثيق الدولية الوضعية!
وإنما قلنا “عقول قاصرة”؛ لأن هؤلاء لا يبالون بما وراء هذه الحياة الدنيا؛ لا يبالون أن يخلد المرء بعد موته في النار -إن كانوا يؤمنون بها- ما دام قد تمتع بحريته واختار بنفسه؛ أما شريعة الإسلام فهي أرحم بهؤلاء -وبغيرهم من الخلق- من أنفسهم، فإن وضع عقوبة دنيوية وتغليظ العقوبة قد يكون رادعاً لكثير من الناس عن الانسياق وراء شياطينهم، كما أن منع أي أحد من نشر معتقده الكفري الفاسد وعرضه على الناس فيه حماية لكثير من ضعاف النفوس وسفهاء العقول، بخلاف ترك الباب مفتوحاً على مصراعيه حيث يمكن أن يقع هؤلاء في حبائل شياطين الإنس والجن وتلبيساتهم، فتكون العاقبة خلوداً في النار والعياذ بالله.
إن هؤلاء المبطلين تغرهم حرية مزعومة فانية تكون عاقبتها حسرة وندامة أبدية باقية، فما قيمة هذه الحرية يا أصحاب العقول؟!