نقاط فوق الحروف واجبات المحتسب
بدأت العناية بسلام الإنسان من الإصابات منذ عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حيث أوصت الأحاديث النبوية بإماطة الأذى والشكوك عن الطريق، وبإخماد النار قبل النوم، وبعدم النوم فوق سطح غير مسور، وبالإمساك برؤوس السهام عند حملها في الطرقات؛ لتجنب جرح الناس بها، وبالتزام النظافة ومكافحة التلوث، وتطبيق مبدأ الحجر الصحي.
فقد جاء الإسلام بالحثِّ على العمل، والصناعة والحِرَف الإنتاجية بدلاً من الخمول والتكسُّب بالحرام، سلبًا ونهبًا، ورذيلة وأكلاً لأموال الناس بالباطل، وفي الوقت نفسه اهتم الشرع بكرامة العُمَّال وسلامتهم وصحتهم، ضمن اهتمامه بكرامة البشر وصحة البيئة.
ومنذ تأسيس الدولة الإسلامية، نجد مسؤولاً عن الأسواق والصناعات يُسمَّى المحتسب يقوم بتطبيق المبادئ الشرعية فيها والأحكام المنظمة، وكان من ضمن اهتماماته العمل على سلامة العمال والسكان المجاورين للصناعات ومرتادي الأسواق.
إن الحديث عن الاهتمام بصحة البيئة في تراثنا الإسلامي حديث طويل؛ فقد بدأ الاهتمام بأمور النظافة والصحة العامة منذ عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي كان يطبق أمور النظافة في حياته اليومية، ورويت عنه عدة أحاديث توصي بالتزام النظافة، وفي عهد عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- نجده يهدم كير حدَّاد كان قد بُنِي في وسط السوق، وذلك لتجنيب أهل السوق الدخان وأخطار الحريق، وفي عهد الوليد بن عبد الملك -رحمه الله- تم عزل المصابين بالأوبئة في مصحات خاصة أُعدت لهذا الغرض، وأجريت عليهم الأرزاق.
ومنذ بدايات عصر النهضة العلمية عند المسلمين بدأت تظهر مؤلفات تهتم بمكافحة التلوث وصحة البيئة.
وبمراجعة كتب التراث الإسلامية نجد أن المحافظة على صحة البيئة ومكافحة التلوث كانت تتم بالوسائل التالية:
1- التركيز على نظافة كافة المنتجات، وخاصة المأكولات، وعلى نظافة العُمَّال الذين يعملون في كل صناعة.
2- الحرص على نظافة الأبنية والأسواق بالتهوية الجيدة فيها.
3- تنقية المياه لجعلها صالحة للاستعمال.
4- الوقاية الطبية من التلوث.
يقول لطف الله قاري في كتابه “إضاءة زوايا جديدة للتقنية العربية الإسلامية”:” لقد كان من أهم موضوعات كتب الحسبة ومن أهم واجبات المحتسب: التركيز على نظافة المنتجات؛ من أغذية، وأطعمة مطبوخة، ونظافة العُمَّال الذين كانوا يعملون بكل صناعة؛ حيث فاضت كتب الحسبة بالحديث عن دور المحتسب ونشاطاته في المجالات الصحية والرقابة الإدارية.
كما بينت كتب الطب أن الذين يسكنون في أماكن محاطة بالمستنقعات وأشجار متعفنة، وفي البيوت المظلمة والأنفاق والغُرف السفلية معرضون للأوبئة؛ بسبب فساد الهواء في تلك الأماكن، وتكثر فيهم الأمراض”.
وقد فصل ابن الرومي -رحمه الله- الصناعات التي يلزم إبعادها عن السكان، وهي التي ينطلق منها الدخان، أو الرائحة الكريهة، أو الصوت المزعج والاهتزازات المؤثرة على سلامة الأبنية، أو السوائل المتسربة على أساسات وجدران البيوت المجاورة، كما بين محمد بن أحمد التميمي -رحمه الله- في كتابه “مادة البقاء بإصلاح فساد الهواء والتحرُّز من ضرر الأوباء”:” إذا اتخذت الاحتياطات اللازمة لمكافحة التلوث بالتزام النظافة لدى العمال والمنتجات من أطعمة وغيرها، وتم تنظيف الشوارع والأسواق والأبنية وتهويتها، وتمت معالجة الماء وتنقيته لجعله صالحًا للشرب، فهذا يعني أنه لم يبق من وسائل مكافحة التلوث إلا تطهير الهواء من الجراثيم، ومنع انتقال العدوى؛ من أجل بيئة صحية سليمة”.
إن مهام المحتسب جليلة مهمة، ومنها: مراعاة سلامة الناس في الأسواق والشوارع من حيث:
إزالة الأجزاء الزائدة من البيوت على السكة النافذة، ومن ذلك الشرفات المنخفضة، وكذلك غرس شجر أمام البيت إذا كان ذلك يُضيِّق الطريق، ويؤدي إلى تعثُّر الناس السائرين في الليل.
منع أصحاب البيوت والصناعات والمتاجر من تلويث الشارع بالنفايات والقمامة أو قذف مياه المجاري إلى الشارع.
منع غمر الشوارع بالماء الكثير؛ لئلا يؤدي ذلك إلى تكون طين ينزلق عليه المارة، ويدخل ضمن مسببات الانزلاق قشر الفواكه.
لف البضائع الحادة عند نقلها من مكان لآخر، وذلك لتلافي جرح الناس بها، ومن تلك البضائع الحطب والشوك.
إلزام أهل المحلات التجارية بتنظيف السوق وإزالة المخلفات.
إزالة البضائع القابلة للكسر، وذلك لئلا يكسرها المارة فتجرحهم ويخسر البائع.
الاحتياط في نقل الأشياء الملوثة، كالسمك، واللحم، والقاذورات، وذلك بوضعها في أوعية محكمة.
منع الدواب من دخول السوق المخصص للمُشاة؛ لكون الدواب تلوث الممرات.
ويقاس على ما سبق ما استجد في الوقت المعاصر، كل ذلك من أجل الاهتمام بسلامة المارة والطرقات والأسواق والشوارع، والبيئة ومكافحة التلوث.