ارتزاق المحتسب
نعني بالرزق: هو ما يرتبه الإمام من بيت المال لمن يقوم بمصالح المسلمين، فإن كان يخرجه كل شهر سمي رزقاً، وإن كان يخرجه كل عام سمي عطاء(1).
فهل يجوز أخذ الأجرة على الحسبة؟
وقبل الجواب لا بد أن نعرف أن الحسبة قسمان:
– حسبة تطوع.
– وحسبة تعيين.
فالمحتسب المتطوع: هو من لم يعينه الإمام في الحسبة، ولا يعني بالمتطوع أنه لا يجب عليه الإنكار إذا رأى منكراً، بل كل مسلم يرى منكراً يجب عليه الإنكار، وإنما نعني بالمتطوع أنه لم يعين من قبل الإمام، ولم يتفرغ لهذا العمل.
والمحتسب المعين: هو والي الحسبة الذي يعينه الإمام أو نائبه؛ ليقوم بأعباء الحسبة في المجتمع الإسلامي، ويكون الاحتساب فرض عين عليه على كل حال، وتكون بيده سلطة تنفيذية، فيغير المنكر بيده، ويعزر في المنكرات الظاهرة، وينظر في أحوال الرعية، ويكشف عن أمورهم ومصالحهم، ويتصفح أحوال السوق في معاملاتهم، واعتبار موازينهم وغشهم، ومراعاة ما يسري عليه أمورهم، واستتابة المخالفين، وتحذيرهم بالعقوبة، وتعزيرهم على حسب ما يليق من التعزير على قدر الجناية.
جاء في (الموسوعة الفقهية): “ولاية الحسبة نوعان: ولاية أصلية مستحدثة من الشرع، وولاية مستمدة، وهي الولاية التي يستمدها من عهد إليه في ذلك من الخليفة أو الأمير، وهو المحتسب”(2).
ارتزاق المحتسب المتطوع:
المحتسب المتطوع ليس له شيء من بيت المال؛ إذ أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على كل مسلم، بدلالة قوله: «من رأى منكم»(3) وهو قربة من القربات، وواجب من الواجبات التي تجب على كل مسلم بعينه، كالصلاة والصيام وغيرها مما الأصل فيه أنه قربة لله، وطلب الأجرة على العمل الواجب والقربات لا يجوز؛ لأن الأجر عليها يطلب من الله تعالى، فهي أعمال ينبغي أن يقوم بها صاحبها قربة لله، فهي تحتاج إلى نية التقرب والإخلاص.
وعدم طلب الأجرة على الدعوة والتبليغ هو شأن الرسل كلهم -عليهم صلوات الله وسلامه- كما قال تعالى: ?اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا? [يس:20-21] وقال تعالى: ?قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ? [الأنعام:90] وقال تعالى في سورة الشعراء: ?وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ? [الشعراء:109] في قصة نوح وهود وصالح ولوط وشعيب -عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام-، وقال في سورة هود عن نوح: ?وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ? [هود:29] الآية، وقال فيها أيضاً عن هود: ?يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلاَ تَعْقِلُونَ? [هود:51].
وقد جاء في آية أخرى ما يوهم خلاف ذلك، وهي قوله تعالى: ?قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى? [الشورى:23]… إلا أن هذا الذي سألهم ليس بأجر على التبليغ؛ لأنه مبذول لكل أحد؛ لأن كل أحد يوده أهل قرابته، وينتصرون له من أذى الناس، وقد فعل له ذلك أبو طالب، ولم يكن أجراً على التبليغ؛ لأنه لم يؤمن، وإذا كان لا يسأل أجراً إلا هذا الذي ليس بأجر تحقق أنه لا يسأل أجراً، كقول النابغة:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم *** بهن فلول من قراع الكتائب
ومثل هذا يسميه البلاغيون تأكيد المدح بما يشبه الذم، وهذا القول هو الصحيح في الآية، واختاره ابن جرير، وعليه فلا إشكال.
وقيل: لا إشكال أيضاً لأن المودة بين المسلمين واجبة فيما بينهم، وأحرى قرابة النبي -صلى الله عليه وسلم- قال تعالى: ?وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ? [التوبة:71] وإذا كان نفس الدين يوجب هذا بين المسلمين تبين أنه غير عوض عن التبليغ.
وقال بعض العلماء: الاستثناء منقطع على كلا القولين، وعليه فلا إشكال، فمعناه على القول الأول: لا أسألكم عليه أجراً، لكن أذكركم قرابتي فيكم، وعلى الثاني: لكن أذكركم الله في قرابتي، فاحفظوني فيهم.
وقال الحسن معنى: ?إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى? أي: ألا تتوددوا إلى الله، وتتقربوا إليه إلا بالطاعة، والعمل الصالح، وعليه فلا إشكال؛ لأن التقرب إلى الله ليس أجر على التبليغ.
وقيل معنى: ?إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى? أي: ألا أن تتوددوا إلى قراباتكم، وتصلوا أرحامكم، ذكر ابن جرير هذا القول عن عبد الله بن القاسم، وعليه فلا إشكال؛ لأن صلة الإنسان رحمه ليست أجراً على التبليغ، فقد علمت الصحيح في تفسير الآية، وظهر لك رفع الإشكال على جميع الأقوال.
وأما القول بأن قوله تعالى: ?إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى? منسوخ بقوله تعالى: ?قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ? فهو ضعيف والعلم عند الله تعالى(4).
قال الغزالي: “وكره السلف أخذ الأجرة على كل ما هو من قبيل العبادات وفروض الكفايات كغسل الموتى ودفنهم، وكذا الأذان، وصلاة التراويح، وإن حكم بصحة الاستئجار عليه، وكذا تعليم القرآن، وتعليم علم الشرع، فإن هذه أعمال حقها أن يتجر فيها للآخرة، وأخذ الأجرة عليها استبدال بالدنيا عن الآخرة، ولا يستحب ذلك(5).
ارتزاق المحتسب المعين:
يعطى المحتسب المنصوب كفايته في بيت المال من الجزية والخراج؛ لأنه يشغله الاحتساب عن القيام بمصالحه؛ ولأنه عامل للمسلمين محبوس لهم، فتكون كفايته في مالهم كالولاة والقضاة والغزاة والمفتين والمعلمين(6).
وكذلك سبيل أرزاق أعوانه سبيل أرزاق الأعوان الذين يوجههم الحاكم في مصالح الناس، تكون لهم من بيت المال كأرزاق سائر العمال والولاة؛ لأن اشتغالهم بذلك يضيع عليهم الزمان في شأنه عن القيام بمعايشهم وطلب أقواتهم(7).
ومما جاء في رد الإمام أبي يوسف على الخليفة هارون الرشيد في كتاب الخراج قوله: “فاجعل -أعز الله أمير المؤمنين بطاعته- ما يجري على القضاة والولاة من بيت مال المسلمين من جباية الأرض، أو من خراج الأرض والجزية؛ لأنهم في عمل المسلمين، فيجرى عليهم من بيت مالهم، يجرى على كل والي مدينة وقاضيها بقدر ما يحتمل، وكل رجل تصيره في عمل المسلمين فأجر عليه من بيت مالهم(8).
إذن: فالاحتساب مما يجوز أخذ الرزق عليه من بيت المال؛ لأن الله تعالى جعل للعاملين على الصدقات سهماً فيها؛ وكذلك يعطى القضاة من بيت المال، وقد استقضى عمر شريحاً، وجعل له في كل شهر مائة درهم رزقاً، فلما أفضت الخلافة إلى علي جعل رزقه في كل شهر خمسمائة درهم، وأخذ زيد بن ثابت على القضاء رزقاً.
ولأنه لما ارتزق الخلفاء الراشدون -رضوان الله عليهم على الخلافة- لانقطاعهم بها عن المكاسب كان المحتسبين بمثابتهم.
إلا أنه لا يجوز للمحتسب، ولا لأحد من أعوانه أخذ المال من الناس لأجل الاحتساب؛ لأنه من قبيل الرشوة، وهي حرام شرعاً؛ لأن ما أخذه المحتسب ينظر فيه إن أخذه ليسامح في منكر، أو يداهن فيه، أو يقصر في معروف فهو أحد أنواع الرشوة وإنها حرام(9).
وإذا جعل لمن ولي في السوق شيء من أهل السوق فيما يشترونه سامحهم في الفساد بما له معهم فيه من النصيب(10) أما إذا لم يكن لهم رزق من بيت المال، أو كان لا يكفيهم فإنه ربما يرخص لهم بقدر ما يكفيهم؛ لأنهم يعملون لهم، فيأخذون كفايتهم(11)، أما الزيادة على الكفاية فلا تجوز؛ لأنه مال مأخوذ من المسلم قهراً وغلبة بغير رضاه؛ لقوله تعالى: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ? [النساء:29] وقد شدد العلماء النكير على أخذ المال من الناس بدون وجه حق.
والخلاصة: أنه ليس هناك بأس من أن يأخذ المسلم من بيت المال ما يعينه على التدريس، أو الوعظ والإرشاد، أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو الإمامة والأذان أو نحوها من جهات البر إذا تفرغ لذلك، وقد أخذ أصحاب الرسول -عليه الصلاة والسلام- في زمنه وزمن خلفائه الراشدين من بيت المال، ما يعينهم على طاعة الله والجهاد في سبيله، وهم أورع الناس وأخشاهم لله، وأعلمهم بشرعه بعد الأنبياء رضي الله عنهم وأرضاهم.
إلا أنه ينبغي التنبيه على أمور، منها:
– أن الأرزاق ليست بمعاوضة ألبتة؛ لجوازها في أضيق المواضع المانعة من المعاوضة وهو القضاء(12) والحكم بين الناس، فلا ورع حينئذٍ في ترك تناول الرزق والأرزاق على الإمامة من هذا الوجه، وإنما يقع الورع من جهة قيامه بالوظيفة خاصة، فإن الأرزاق لا يجوز تناولها إلا لمن قام بذلك على الوجه الذي صرح به الإمام في إطلاقه لتلك الأرزاق(13).
إذن: هذه الأرزاق ليست أجرة، بل هو ارتزاق يكون كالمثوبة والتنويل على الأفعال التي يحمد فاعلوها؛ ليدوموا عليها، ويقوى باعثهم عليها، فهذا الرزق جعالة، وليس أجرة؛ لأن الأجرة مستحقة بعقد لازم، والجعالة مستحقة بعقد جائز، والاحتساب من العقود الجائزة دون اللازمة.
– إذا وجد الإمام متطوعاً بالاحتساب لم يجز أن يعطي على الاحتساب رزقاً، وإن لم يجد متطوعاً به جاز أن يعطي الرزق عليه.
– أن الأولى بالمحتسب إذا استغنى عن الرزق أن يتطوع بعمله لله تعالى التماس ثوابه، أما إن كان انقطاعه لذلك يشغله عن معاشه، وكان فقيراً محتاجاً لما يتعيش به، ولم يكن عنده من المال ما يستغني به عن طلب المعاش، فيجوز له أخذ الأجرة وإلاّ فلا.
– أن يكون رزقه بقدر الكفاية من غير سرف ولا تقتير.
– إذا كانت هناك شبهة فالأولى الترك، ويحرم إذا كان المال يؤخذ لبيت المال من غير وجهه، واختلف إذا كان الغالب حراماً.
– إذا تعينت عليه الحسبة لم يجز طلب الأجرة، كما إذا كان الغسال في القرية واحداً، فإنه يتعين عليه غسل الميت، ولا يجوز له طلب الأجرة.
– أن يكون رزقه بدون اشتراط منه. والله أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
_____________________________________________________
(1) فتح الباري (16/271) والرتاج شرح كتاب الخراج (1/128، 2/414 – 416).
(2) الموسوعة الفقهية الكويتية (17/233).
(3) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان، وأن الإيمان يزيد وينقص، وأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان (ج1/ص50- 186).
(4) انظر: دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب (ج1/ص69).
(5) إحياء علوم الدين ومعه تخريج الحافظ العراقي (ج2/ص392).
(6) نصاب الاحتساب (24) وتحفة الناظر (178) والأحكام السلطانية للماوردي (240) والأحكام السلطانية لأبي يعلى (285) ومعالم القربة (11) والسياسة الشرعية لابن تيمية (48، 50) كتاب الفقه والمتفقه (2/164، 165).
(7) تحفة الناظر (16، 17).
(8) الرتاج شرح كتاب الخراج (2/414 – 415).
(9) نصاب الاحتساب (135، 136) ومعالم القربة (13، 14).
(10) تحفة الناظر (ص17).
(11) نصاب الاحتساب (ص134).
(12) الموسوعة الفقهية الكويتية (17/243).
(13) الفروق (3/4، 5).