التفاؤل في حياة المحتسبين
إن الناظر في حال الأمة اليوم وهي تسبح في مستنقعات المعاصي والمنكرات، والتي تفشت في المجتمع بكافة أشكالها وصورها، ولم تدع بيتاً إلا ودخلته، أو حلت قريباً منه.. من ينظر إلى ذلك تكاد تصيبه حالة من الإحباط، وتخيم على نفسيته الشعور باليأس من إصلاح الأوضاع وتغير الحال، وإزالة تلك المنكرات والأمر بضدها.
ولا شك أن وجود مثل هذه الحالة اليائسة والنفسية المنهزمة أمام أمواج المعاصي والمنكرات؛ تؤدي إلى التقاعس عن القيام بالواجب المطلوب، والدور المنتظر لإنقاذ الأمة مما هي عليه، هذا الدور الذي يحتمه -عليك أيها المحتسب- مسؤوليتك كمسلم غيور على أمته من أن تدنس في براثين الضياع والانحطاط، ومن ثم القيام بالأمانة، لإنقاذ سفينة الأمة.
إنك -أيها المحتسب- عندما تحاول أجواء اليأس أن تحيط بك، لتخنق عزيمتك، وتعكر عليك صفوة نشاطك وحيويتك، فإنك في هذه الحالة أحوج ما تكون إلى الاتصاف والتحلي بخلق التفاؤل والنظرة المشرقة للجانب المظلم من مشكلات الأمة، والبحث عن جوانب الخير والنجاة فيها، وأن تصنع بفألك الحسن بلسماً تداوي به جرحك الذي قد أثلمه خنجر الشؤم، فمهما يكن من نكبات وويلات، ومهما تشتد الأزمات وتهجم المدلهمات، وتستعصي الحلول أمام العاقل الأريب، وتغلق أبواب التغيير في وجه الناصح الأمين، ?فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا? [الشرح:5-6].
من هنا أقف معك -أخي المحتسب- مع رياح التفاؤل التي تحلق في أجواء الإحباط والتشاؤم، علَّ هذه الرياح أن تبعث بنسيمها هواءً عليلاً منعشاً يساعدك في مواصلة طريقك في درب الاحتساب، وإغلاق مداخل الشيطان إلى قلبك، وتسلله إلى فؤادك لقتل عزيمتك، وصد إرادتك عن تحقيق مرادك في تغيير الواقع السيئ للأمة.
الريح الأولى: تعريف التفاؤل:
إن أجمل وأوجز تعريف يمكن أن يقال عن التفاؤل هو تعريف المصطفى -صلى الله عليه وسلم- الذي أوتي جوامع الكلم، وذلك عندما سأل ما الفأل؟ فقال: «الكلمة الصّالحة يسمعها أحدكم»(1).
ولكي نقرب لك معنى هذه الكلمة الصالحة الطيبة عن التفاؤل: “أَنْ يَكُونَ رجُل مَرِيض فيَتَفَاءَلُ بِمَا يَسْمع مِنْ كَلَامٍ، فيَسْمَع آخَرَ يَقُولُ: يَا سَالم، أَوْ يَكُونُ طَالِب ضالَّة فيَسْمع آخَرَ يَقُولُ: يَا واجِد، فيقَع فِي ظَنِّه أَنَّهُ يَبْرأُ مِن مَرَضه ويجِدُ ضَالَّتَه”(2).
أي أن التفاؤل كل ما يبعث عن انشراح النفس وسرور القلب، ونشاط الجسم، وخير ما يبعث على هذه الثأثيرات هي الكلمة الصالحة التي تلقي في روعك -أخي المحتسب- دواعي الأمل والسرور، والبهجة والأنس، ومن ثم تنشط لمواصلة المشاور وقطع المفازة للوصول إلى درب الأمان، وشاطئ الاطمئنان.
الريح الثانية: ما الفرق بين الطيرة والفأل:
لقد فرق بينهما ابن عبّاس-رضي اللّه عنهما- بقوله: “أنّ الفأل من طريق حسن الظّنّ باللّه، والطّيرة لا تكون إلّا في السّوء، فلذلك كرهت”(3).
وبهذا يتبين لك -أخي المحتسب- لماذا كن الفأل ممدوحاً، بل ومطلوب؛ لأنه من كمال التوحيد لوثوق العبد بربه، وحسن ظنه به، وأنه -تعالى- لن يخيب رجاء عبده، وبالتالي يجد العبد على إثر هذا الظن انشراحاً في صدره، وراحة في قلبه، وأُنس بالله -عز وجل- الذي يقذف في قلب عبده من الخير والمبشرات ما تكون عوناً له على مواصلة سيره إليه، وقطع حبائل الشيطان التي تحاول صده عن مبتغاه. على عكس ذلك الطيرة التي يتعلق فيها المرء بغير الله، ويظن بالنفع والضر في ما سوى الله، فيكله الله إلى ذلك، وتكون عاقبته الوحشة والضيق.
قال الحليميّ -رحمه الله-: “كان النّبيّ -صلّى اللّه عليه وسلّم- يعجبه الفأل؛ لأنّ التّشاؤم سوء ظنّ باللّه -تعالى- بغير سبب محقّق. والتّفاؤل حسن ظنّ به، والمؤمن مأمور بحسن الظّنّ باللّه تعالى على كلّ حال”(4).
وقال الخطابي -رحمه الله-: “الفرق بين الفأل والطيرة: أن الفأل إنما هو من طريق حسن الظن بالله، والطيرة إنما هي من طريق الاتكال على ما سواه”(5).
الريح الثالثة: التفاؤل منهج نبوي:
لقد كان -عليه الصلاة والسلام- حريصاً على غرس التفاؤل في نفوس أصحابه، ويحث عليه؛ سواءً في سلمه أم في حربه، لما لذلك من أثر في تقوية العزيمة، وبعث النشاط على الظفر بالمقاصد، وتحقيق المطالب. قال الماوردي -رحمه الله-: “وأما الفأل ففيه تقوية للعزم وباعث على الجد ومعونة على الظفر. فقد تفاءل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في غزواته وحروبه”.(6)
ومن الأحاديث الدالة على ذلك:
1- عن أبي هريرة- رضي اللّه عنه-: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، سمع كلمة فأعجبته، فقال: «أخذنا فألك من فيك»(7).
2- وعنه- رضي اللّه عنه- قال: “كان النّبيّ -صلّى اللّه عليه وسلّم- يعجبه الفأل الحسن، ويكره الطّيرة”.
3- وعنه- رضي اللّه عنه- قال: “سمعت النّبيّ -صلّى اللّه عليه وسلّم- يقول: «لا طيرة، وخيرها الفأل، قيل: يا رسول اللّه! وما الفأل؟ قال: الكلمة الصّالحة يسمعها أحدكم»“(8).
4- وعن أنس- رضي اللّه عنه-: أنّ نبيّ اللّه -صلّى اللّه عليه وسلّم- قال: «لا عدوى ولا طيرة، ويعجبني الفأل الصالح: الكلمة الحسنة»(9)، وفي رواية: «لا عدوى، ولا طيرة، ويعجبني الفأل: الكلمة الحسنة، الكلمة الطيبة»(10).
5- وكان -صلى الله عليه وسلم- إذا خرج لحاجته يعجبه أن يسمع: “يا نجيح، يا راشد”(11).
6- وأنه -صلى الله عليه وسلم- كان لا يتطير من شيء، وكان إذا بعث عاملاً يسأل عن اسمه، فإذا أعجبه فرح به، وإن كره اسمه رؤي كراهة ذلك في وجهه، وإذا دخل قرية سأل عن اسمها…”(12).
من النصوص يتبين لك أخي المحتسب كيف كان التفاؤل في حياته -صلى الله عليه وسلم- سواءً كان في الأسماء، أم في الأدواء، أو في الكلمات الحسنة والعبارات الطيبة التي تحمل في طياتها معاني الأمل، ودواعي الاستبشار بالخير والنصر.
الريح الرابعة: لأن تخطئ في تفاؤلك خير من أن يصيب تطيرك.
نعم أخي المحتسب! لأن الطيرة والتشاؤم تجعلك تعذب نفسك من قبل ومن بعد، هماً وغماً قبل الحوادث، وحزناً وضيقاً بعد المصائب، بخلاف التفاؤل، الذي يؤملك بالخير والفلاح قبل الحوادث، فإن كانت هذه الحوادث كما تفاءلت فقد نلت مناك، وإن لم تكن كما أملت وتفاءلت فيكفي أنك لم تعذب نفسك مرتين ولم تقتلها هماً مسبقاً. يقول ابن الأثير -رحمه الله-: “وإنما أحب الفأل؛ لأن الناس إذا أملوا فائدة الله تعالى، ورجوا عائدته عند كل سبب ضعيف، أو قوي فهم على خير، ولو غلطوا في جهة الرجاء فإن الرجاء لهم خير. وإذا قطعوا أملهم ورجاءهم من الله كان ذلك من الشر. وأما الطيرة فإن فيها سوء الظن بالله، وتوقع البلاء”(13).
الريح الخامسة: ثمار وفوائد التفاؤل(14):
إن التحلي بخلق التفاؤل وتعويد النفس عليه، والعزم على التمسك به، كل ذلك من شأنه أن يثمر لك -أخي المحتسب- ثماراً يانعة، ومن هذه الثمار:
1- تحقيق كمال التوحيد.
2- حسن الظّنّ باللّه تعالى.
3- يبعث على تحقيق التوكل على الله.
4- يجلب السّعادة إلى النّفس والقلب.
5- ترويح للمؤمن وسرور له.
6- في الفأل تقوية للعزائم ومعونة على الظّفر وباعث على الجدّ.
7- في التّفاؤل اقتداء بالسّنّة المطهّرة وأخذ بالأسوة الحسنة، حيث كان المصطفى -صلّى اللّه عليه وسلّم- يتفاءل في حروبه وغزواته.
8- التفاؤل يجعلك إيجابياً وناجحاً.
9- يبعث التفاؤل على الإبداع والتفوق.
10- يحرك الإنسان للعمل ويقضي على البطالة والكسل.
الريح السادسة: كيف تزرع التفاؤل في قلبك؟
وحتى تجني تلك الثمار اليانعة -أخي المحتسب- فلا بدّ من غرس بذرة الفأل في تربة التوحيد، وسقيها بماء اليقين، والمحافظة عليها من آفات اليأس والقنوط، وتجنيبها أشواك الشؤم والتذمر، وكل ذلك يتمثل في:
1- إحسان بالظن بالله تعالى.
2- البحث عن الجوانب المشرقة في المشكلة، والمنح المختبئة وراء المحن.
3- مجالسة أصحاب النفوس العالية، والقلوب المتفائلة، الذين تزيدنا مجالستهم أملاً ويقيناً.
4- ترك مجالسة أهل الإحباط، وأصحاب التشاؤم الذين لا تزيدك مجالستهم إلا شؤماً ويأساً.
5- البحث عن الكلمات والعبارات التي تعث على التفاؤل والأمل: يا نجيح، يا راشد.
6- عدم المبالغة في تقدير أسوأ الاحتمالات، أو من الوضع السيئ القائم، إذ يدع ذلك إلى التهويل والتضخيم، الذي يسترسل في النفس ليصيب القلب بالتشاؤم.
7- القراءة في النصوص الواردة في نصرة الإسلام وتمكين أهله؛ فإنها تبعث على التفاؤل، والأمل والاستبشار.
8- التحلي بخلق اليقين التي يزيد القلب فألاً، وانشراحاً.
9- الابتعاد عما يدعو إلى التشاؤم من أحلام مزعجة، وكلمات مقلقة، ومشاهد مؤثرة.
في الأخير:
لتعلم أخي المحتسب أن الريح الواحدة لن تغني عنك بقدر ما تعينك الرياح الشديدة التي تقتلع خيام الشؤم من أوتادها، ومن ثم تنعم بعدها بهدوء نفسي وراحة قلبية تعينك على مواصلة طريقك نحو القرب من الله عز وجل عبر وظيفتك الاحتسابية.
والحمد لله رب العالمين.
__________________________________________
(1) رواه البخاري في صحيحه، باب الفأل، برقم (5755)، ومسلم، باب الطيرة والفأل ويكون فيه من الشؤم، برقم (2223).
(2) النهاية في غريب الحديث والأثر (3/ 406).
(3) فتح الباري شرح صحيح البخاري، لابن حجر (10/ 215).
(4) المصدر السابق (10/ 215).
(5) عمدة القاري شرح صحيح البخاري (21/ 274).
(6) أدب الدنيا والدين، للماوردي، (ص: 399).
(7) رواه أبو داود، برقم (3917)، وصححه الألباني.
(8) رواه البخاري في صحيحه، برقم (5754)، ومسلم برقم (5931 ).
(9) رواه البخاري في صحيحه، برقم (5756).
(10) رواه مسلم برقم (2224).
(11) أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ رَافِعٍ بِإِسْنَادِهِ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ، انظر: المستخرج من الأحاديث المختارة مما لم يخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما، لضياء الدين المقدسي، برقم (2053).
(12) رواه أبو داود، برقم (3920) وصححه الألباني.
(13) النهاية في غريب الحديث والأثر (3/ 405-406).
(14) أغلب هذه الفوائد مستلة من كتاب: نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم (3/ 1049).