حاجة المحتسب إلى الشعور بالمسؤولية:
أهل الحسبة هم ورثة الأنبياء، ورتبة الأنبياء هي أعلى الرتب والمنازل، ولا درجة أعظم من درجة الوارثين لهذه المنزلة والرتبة الشريفة، وعلى قدر المنزلة تكون المسؤولية.
فالمحتسب متى ما استشعر ما مدى المسؤولية والواجب المناط به نحو جميع الخلق، والأمانة الملقاة على عنقه لهداية الخلق وإرشادهم, كان ذلك سببًا قويًا ودافعًا للمحتسب من القيام بهذا الواجب وأداء تلك الرسالة على أكمل وجه.
فيجب أن يشعر المحتسب بأنه صاحب رسالة يؤديها، ويقصد من خلالها وجه الله، حتى ولو كانت تلك وظيفته التي يقتات منها؛ وذلك لأن صاحب الرسالة يستفرغ كل طاقته في محاولة إيصالها إلى الناس، لا يكل ولا يمل.
والحقيقة إذا ما توافر هذا الشعور في نفس المحتسب فإن النجاح سيكون حليفه، وسيكون من أحسن الناس قولًا، قال الله تعالى: ?وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمسْلِمِينَ? [فصلت:33] فلا أحد أحسن قولًا ممن حمل مشعل القيام بالحسبة، وإلى اتباع منهجه والالتزام بأحكامه وتعاليمه، والواجب على المحتسب أن يعلن هويته وانتماءه بقوله: إنه من المسلمين, بعيدًا عن الفئوية الضيقة والنظرة المحدودة؛ لأن الإسلام هو الأصل وهو الأعم والأشمل, وأما إذا لم يستشعر المحتسب بالمسؤولية والواجب المناط به؛ فإنه لن يتحرك ويعمل كما هو مطلوب منه.
وإن الواجب على أهل الحسبة أن يربوا تلك الصفة في أنفسهم، وفي إخوانهم المحتسبين، وأن الأمر ليس مجرد وظيفة ملقاة على العنق، وأمر المراد منه هو الحصول على أي غرض آخر من أغراض الدنيا، بل الواجب أن ينطلق المحتسب في حسبته برغبة وهمة وإخلاص وتضحية وإتقان.
هذا وقد ورد في الكتاب والسنة من التركيز والتنبيه ما يدل على أهمية الشعور بالمسؤولية:
فمن القرآن:
1- قوله تعالى: ?فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ? [الأعراف:6] فيسأل اللّه تعالى الأمم يوم القيامة عما أجابوا رسله فيما أرسلهم به، ويسأل الرسل أيضاً عن إبلاغ الرسالات، فيسأل الله كل فرد من أفراد الأمم في الآخرة عن رسوله إليه وعن تبليغه لآياته، ويسأل الرسل عن تبليغهم وعن مدى إجابة أقوامهم لهم، وعما صدر منهم من إيمان أو كفر، فهي مسئولية تضامنية عامة, كما قال تعالى: ?وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ? [القصص:65]، وقال: ?يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسلَ فَيَقولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَا إِنكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيوبِ? [المائدة:109]، وقال: ?يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسلٌ منكُمْ يَقصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا? [الأنعام:130]، فهو يوضح هذه المسؤولية بين الراعي والرعية.
2- وقوله تعالى: ?وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفؤَادَ كلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً? [الإسراء:36].
3- وقوله تعالى: ?ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ? [التكاثر:8].
4-وقوله تعالى: ?إِنا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا? [الأحزاب:72].
ومن السنة:
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه: سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كلكم راع ومسئول عن رعيته، فالإمام راع وهو مسئول عن رعيته، والرجل في أهله راع وهو مسئول عن رعيته، والمرأة في بيت زوجها راعية وهي مسئولة عن رعيتها، والخادم في مال سيده راع وهو مسئول عن رعيته. قال: “فسمعت هؤلاء من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحسب النبي صلى الله عليه وسلم قال: والرجل في مال أبيه راع وهو مسئول عن رعيته، فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته».
من الأصول العامة في الإسلام التي تُمثِّل المنهجَ الإسلامي المسؤوليةُ الجماعية والفردية، فهذا الحديث يعطي الأمة قاعدة من قواعد الإصلاح، ومنهجًا من مناهج العطاء المثمر والفلاح المنشود، إنها قاعدة الشعور من كل فرد في الأمة الإسلامية بمسئوليته التي تحمَّلها أمام خالقه، ثم أمام أمته ومجتمعه. المسئولية التي إن قام بها على وجهها بكل قوة وأمانة أفلح ونجح، وإن ضيّعها أو فرّط فيها خاب وخسر.
فالحسبة في الإسلام لها منزلة ومقام رفيع، وهي في نظرة الإسلام مسؤولية عظمى وأمانة كبرى، والأمة اليوم -وهي على مفترق طرق شتى- تتربَّص بها الشرور من كل منعطف وزاوية، يريد الأعداء أن يقوِّضوا رسالتها ويطفئوا مشاعلها بالوسائل المتعددة من قوة معادية، وثقافات مسمومة، ومفاهيم دخيلة مغلوطة، ومناهج ملوثة.
فمسؤولية الحسبة من أكبر المسؤوليات خاصة لمن أحس بروحه واعتقد بها اعتقاداً راسخاً ربانياً، لا يمكن أن يهمل أو يتهاون في هذه المسؤولية, سواءٌ كان بمفرده أو في جماعة ربانية؛ لذا يجب أن يكون في مستوى المعركة التي تواجه الإسلام, وأن يكون في إيمانه أثبت من الرواسي, وفي فهمه أعمق من الحجج, وفي صبره أقوى من الشدائد.
وهكذا يجب أن يتولد للمحتسب شعور ذاتي بأنه مسئول عن الإسلام ويجري في عروقه إحساس رباني بالتكليف.
وهكذا يجب أن يعرف المحتسب أن دوره في ذاته وفي ميدانه, وأن يتحرك وفق الأوامر الربانية دون فتور وانقطاع.
2- عن أبي بكرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «وستلقون ربكم فسيسألكم عن أعمالكم…”».
فعلى المحتسب أن يصل إلى غايته بدعوته و إيمانه وإقناعه بها وكفايته فيها, وانقطاعه إليها بجميع مواهبه وطاقاته ووسائله, وذلك هو الشرط الأساسي والسمة الرئيسية لأهل الحسبة.
والله ولي التوفيق.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) التفسير المنير في العقيدة والشريعة والمنهج (8/ 143) للزحيلي.
(2) صحيح البخاري -كتاب في الاستقراض وأداء الديون والحجر والتفليس باب: العبد راع في مال سيده- حديث:2300، صحيح مسلم -كتاب الإمارة باب فضيلة الإمام العادل- حديث:3496.