الكنز الأكبر في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
الجزء الأول
المؤلف:
هو “عبد الرحمن بن أبي بكر بن داود الشيخ العالم الناسك، مجيد الطريقة، ومعلم الحقيقة، تخرج بجماعة من الشيوخ، منهم والده، ونشأ على طريقة حسنة، ملازمًا للذكر، وقراءة الأوراد التي رتبها والده، وكان محببًا للناس، ويتردد إليه النواب والقضاء والفقهاء من كل مذهب. اشتغل في فنون كثيرة، وأخذ العلم عن جماعة، منهم: العم الشيخ برهان الدين، وكتب بخطه كثيرًا، وكان له قلم حسن، مع جودة الخط، ألف كتبًا عديدة، منها: الكنز الأكبر في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وهو أجلها، وكان بشوشًا، متصدرًا لقضاء الحوائج، وكانت كلمته مسموعة في الدولة الأشرفية والظاهرية، وألزم بالكلام على مدرسة الشيخ أبي عمر والبيمارستان القيمري، فحصل به غاية النفع من عمارة جهاتهما، وعمل مصالحهما، ورغَّب الناس في نفع الفقراء بكل طريق.
توفي ليلة الجمعة، سلخ ربيع الأول، سنة ست وخمسين وثمانمائة، ودفن بالتربة التي أنشأها عند باب الزاوية”([1]).
مولده:
“ولد كما كتبه بخطه في سنة اثنتين وثمانين وسبعمائة، وقال غيره: سنة ثلاث، بجبل قاسيون، من دمشق، ونشأ بها، فحفظ القرآن واشتغل”([2]).
مؤلفاته:
“له الكنز الأكبر في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، في مجلدين، وفتح الأغلاق في الحث على مكارم الأخلاق، ومواقع الأنوار ومآثر المختار، والإنذار بوفاة المصطفى المختار، وتحفة العباد، وأدلة الأوراد في مجلد ضخم، والدر المنتقى المرفوع في أوراد اليوم والليلة والأسبوع، ونزهة النفوس والأفكار في خواص الحيوان والنبات والأحجار، في ثلاث مجلدات، وتسلية الواجم في الطاعون الهاجم، في مجلد، وغير ذلك مما قُرئ عليه جميعه، أو أكثره”([3]).
وفاته:
“مات ليلة الجمعة، سلخ ربيع الأوّل، سنة 856 بعد فراغه من قراءة أوراد ليلة الجمعة بيسير، فجأة، وصُلِّي عليه بعد صلاة الجمعة، بالجامع المظفَّريِّ، في مشهد عظيم جدّاً، ودُفن في قبر كان أعدَّه لنفسه في داخل باب زاويته([4])“([5]).
سبب التأليف:
قال المؤلف: “فلما شاهدتُ نقص الدين، بترك الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر ملمًا، قصدتُ جمع كتاب يفصل ذلك، والتحريض عليه مهمًا؛ وذلك بعد استخارة الله، وسؤاله أن يصحبني توفيقًا، ويفتح لي إلى ذلك المنهج طريقًا”([6]).
وصف الكتاب:
هذا الكتاب من كتب الحسبة الشاملة والموسوعية، وقد قال عنه الشيخ بكر أبو زيد: “هو كتاب جامع شامل، عظيم النفع جدًا، لم أرَ في كتب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر أوسع من سياقه، ولا أكثر من مسائله -رحم الله مؤلفه رحمة واسعة- آمين”([7])، وقال محقق الجزء الثاني منه -حسن حسين تونجبيلك- بعد الكلام عن عدد من المؤلفات في الموضوع أنه وجد ” كتاب الكنز الأكبر في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للشيخ عبد الرحمن بن أبي بكر بن داود الحنبلي هو أوسع هذه الدراسات وأشملها لكل ما يتعلق بقضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من نصوص وأقوال وأحكام، فقد استوعب في مجلديه الكبيرين مادة علمية غزيرة لم تتوفر في غيره من المؤلفات التي كتبت في هذا الموضوع، ولهذا استحق أن يسميه صاحبه بالكنز الأكبر في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”([8]).
اسم الكتاب وتقسيماته:
قال المؤلف: “… وسميته: بالكنز الأكبر في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وجعلته عشرة أبواب، معتمدًا في إنجازه على الكريم الوهاب:
الباب الأول: في فضل الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وبيان فرضيتهما، وبيان ذم تارك ذلك، وتأكيد الإثم على من صد عنه.
الباب الثاني: في بيان أركان الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وشروطه، ودرجاته، ومراتبه.
الباب الثالث: في بيان طبقات الناس من الآمرين، والمأمورين، والمتخلفين، وأن القائمين بذلك -بين أهل الفساد- من الغرباء المكروهين.
الباب الرابع: بيان ما يستحب من الأفعال والأقوال والأحوال في (الأمر) بالمعروف، والنهي عن المنكر.
الباب الخامس: في بيان ما يكره من الأقوال والأفعال والأحوال في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.
الباب السادس: في بيان ما يسقط به وجوب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وما يندب من التخلي عن ذلك في غالب الأحيان، وأكثر الأزمان.
الباب السابع: في عدم الاشتراط للآمر بالمعروف، والناهي عن المنكر أن يكون سليمًا من المعصية، وأن ذلك غير مختص بولاة الأمور، وفيه فصل في ذكر شيء من المنكرات المألوفة بين الناس.
الباب الثامن: في الحث على إقامة الحدود، وبيان تحريم تعطيلها بشفاعة، وغيرها إذا اتصلت بولي الأمر.
الباب التاسع: في فضل الإصلاح بين الناس، واستحباب معونتهم على البر والتقوى.
الباب العاشر: في خاتمة الكتاب، ويشتمل على أربعة فصول معرفات تزيل الاكتئاب، وبها يتم ما قصدته من جمعه، وأردته من تهذيبه ووضعه، والله الموفق لإتمامه وإكمال أمره وإبرامه، وسيأتي فصول منكرات في بعض الأبواب، تمكن من نيل المقصود من فحوى الخطاب”([9]).
وصف الجزء الأول:
هذه النسخة التي بين أيدينا للجزء الأول من “الكنز الأكبر” هي طبعة دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى 1417، بتحقيق الأستاذ الدكتور: مصطفى عثمان صميدة، وهذا الجزء يشتمل على الأبواب الأربعة الأولى من الكتاب، وهي مع التحقيق والفهارس اثنتان وثلاثون وخمسمائة صفحة.
بدأ المؤلف هذا الجزء بقوله: “{وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ، عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88] الحمد لله الذي أمر بالعدل والإحسان، ونهى عن الفحشاء والمنكر والعصيان، قضى بنفع العبد وضره، وأمضى القدر بشره وخيره…”([10]).
وختمه بقوله:
“والحمد لله لا أبغي به بدلًا *** حمدًا كثيرًا دائمًا أبدًا.
ثم الصلاة على خير الورى وعلى *** ساداتنا آله وأصحابه الفضلاء”([11]).
عرض الكتاب:
بدأ المؤلف الكتاب بمقدمة طويلة، أشار فيها لبعض ما يفصّله في أبواب الكتاب، وبدأها بقوله تعالى: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج: 40- 41] ثم ذكر من الأحاديث ما استنبط منها أمورًا:
منها: ظهور الباطل وكثرته؛ لأنه إذا لم يكن على الحق إلا طائفة واحدة، فالباقون على ضلالة.
ومنها: عناية الله بهذا الدين، ولا سيما الأرض التي بارك فيها للعالمين.
ومنها: أن القائم بالحق لا يخاف الضرر، وإن كثر أهل الفساد، فيكون أبدًا مطمئن النفس، منشرح الصدر.
ومنها: من أنكر منكرًا، وبذل جهدًا، وأخلص لله تعالى قصدًا، كان من آخر الصدر الأول عارفًا.
ومنها: الجمع بين الأحاديث في تفضيل صدر هذه الأمة على من بعدها، وما ورد من مشابهة آخر الأمة أولها في الخير، وأن كلها صحيحة، وكل منها ورد على حال خاصة، ووصف خاص، وجملتها تدل على فضيلة هذه الأمة، وأن الأخير منها قد يساوي الأول، مع تجويز أن يفضل قوم من المتأخرين.
ومنها: فضل أيام المتأخرين، مع قلة مددهم.
ومنها: الآمر بالمعروف، والناهي عن المنكر قائم بالركن الأعظم في الدين.
ومنها: غربة الدين.
ثم ذكر ما اشتمل عليه الكتاب من أبواب.
الباب الأول: في فضل الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وبيان فرضيتهما، وبيان ذم تارك ذلك، وتأكيد الإثم على من صد عنه.
بدأ المصنف الباب بذكر آيات تُؤيد ما عنون له، ثم قسّم الباب إلى ثلاثة وأربعين فصلًا، ومما ذكره فيها:
الفصل الأول: حكم الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر فرض عين أم فرض كفاية؟
دار حديثه في هذا الفصل حول قوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 104 -106] وذكر فوائد مستنبطة من الآيتين، ومنها:
- اختلاف أهل العلم في كون الأمر بالمعروف فرض عين أو كفاية، والجمهور على كونه فرض كفاية.
- اختلفوا في كون (من) للتبعيض، أو لبيان الجنس.
- نَقَلَ تعريفات للمعروف والمنكر، ومنها: أن المعروف هو طاعة الله، وقيل: كل ما يستحسنه العقل، والمنكر: هو معصية الله، وقيل: كل ما يستقبحه العقل، وينكره.
- نهي الأمة أن تكون كالسابقين في تفرقهم، وتركهم للأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.
الفصل الثاني: تفضيل أمة محمد عليه السلام بكونها خير أمة لأمر أهلها بالمعروف ونهيهم عن المنكر([12])
وفي هذا الفصل تعرّض لقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110] ومما ذكره من فوائد الآية:
- “كنتم” في الآية المراد بها الخبر، ولا تدل على مضي الزمان.
- خيرية الأمة مشروطة بصفات، ومنها: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
- الإيمان شرط، ولكن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر هو المؤثر لحصول هذه الزيادة للأمة.
الفصل الثالث: دليل كون الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر من أفعال الصالحين، وخلال المتقين:
وفيه تعرّض لقوله تعالى: {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ} [آل عمران: 113، 114] وتعرّض لبعض الأقوال التفسيرية الواردة في الآيتين، وختم بفائدة تُؤكد بما عنون له الفصل، وهو أن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر من أفعال الصالحين، وخلال المتقين.
الفصل الرابع: دليل كون الأمر بالمعروف من أخص الأعمال الصالحة المتقبلة عند الله تعالى:
وفيه تعرّض لقوله تعالى: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 114] حيث نقل تفسير أبي حيان في البحر المحيط، ملخِّصًا لما قال، ومنها:
- اختلافهم في النجوى، فالنجوى السر بين اثنين، وقيل: النجوى: ما ينفرد بتدبير قوم سرًّا، أو جهرًا، وقيل: كلام الجماعة المنفردة، أو الاثنين، سرًّا كان ذلك أو جهرًا.
- المعروف هنا هو ما استحسنه الشرع، وقيل: هو الفرض.
الفصل الخامس: تحذير المحتسب (الآمر الناهي) والحاكم من التأثر ببغضه للبعض عند الحكم تفاديًا للظلم.
تعرّض فيه لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [النساء: 135] وثنى بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8] ومما استنبطه من الآيتين:
- الآية صريحة في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، دالة على وجوبه، حتى على الوالدين والأقربين، وأن يقول الحق على نفسه، وعلى الناس أجمعين.
- لا يحملنكم بغض قوم على ترك العدل فيهم، بل استعملوا العدل في كل أحد، صديقًا كان أو عدوًا.
الفصل السادس: التحذير من الارتداد عن الدين:
تعرّض فيه لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ } [المائدة: 54 – 56] وتعرّض لتفسيرها، ومما ذكره:
- أن الارتداد عن الدين هو الرجوع عن الحق.
- وأخبر سبحانه أن من قدرته العظيمة أن من تولى عن نصرة دينه، وإقامة شريعته، فإنه يستبدل به من هو خير لها منهم، وأشد منعة، وأقوم سبيلًا.
- أن صفة من لا يرتد عن الدين: أن يحب الله، ويحبه الله.
- من صفات المحبين لله: أنهم صلاب في دينه، لا يبالون من لام فيه، فمتى شرعوا في أمر بمعروف، أو نهي عن منكر، أمضوه، لا يمنعهم اعتراض معترض، ولا قول قائل.
الفصل السابع: التحذير من التفريط في الإنكار على فاعل المنكر:
تعرّض فيه لقوله تعالى: {لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [المائدة: 63] وتعرّض لتفسيرها، ومما ذكره:
- في الآية تحضيض يتضمن توبيخ العلماء والعباد على سكوتهم عن النهي عن معاصي الله تعالى، والأمر بالمعروف.
- الربانيون هم العلماء، أرباب الولايات عليهم، والأحبار هم العلماء فقط، وقيل: الرباني من كان لله وبالله، لم تبقَ منه بقية لغير الله.
الفصل الثامن: من صور جزاء التقصير في واجب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر: اللعن، وهو الطرد من رحمة الله:
تعرّض فيه لقوله تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة: 78، 79] وتعرّض لتفسيرها، ومما ذكره:
- اللعن هو الطرد من رحمة الله.
- الإخبار أن أسلاف اليهود والنصارى ملعونون.
- الآية تحتمل أن يكون الله هو اللاعن لهم، أو أن الأنبياء هم اللاعون لهم.
- إذا فُعلت المعاصي جهارًا، وتواطأ الناس على عدم الإنكار، كان ذلك تحريضًا على فعلها، وسببًا لإفشائها.
- من فعل منكرًا، ولم ينه غيره عنه، فقد جمع بين معصيتين: معصية فعل المنكر، ومعصية عدم النهي عنه.
- من أمكنه أن يأمر وينهى ولم يفعل -مع قدرته- استحق التعذيب واللعن والمقت.
الفصل التاسع: دليل كون الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر من شرائع الإيمان، أي: من شروط تمامه:
تعرّض فيه لقوله تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ} [الأعراف: 157] وتعرّض لتفسيرها، ومما ذكره:
- من صفات نبينا -صلى الله عليه وسلم- الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.الفصل العاشر: ثناء الله على طائفة من قوم موسى لاجتهادها في هداية الخلق إلى الحق:
تعرّض فيه لقوله تعالى: {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [الأعراف: 159] وتعرّض لتفسيرها، ومما ذكره:
- من صفات هؤلاء القوم: أنهم يدعون الناس إلى الهداية، ويعدلون في الحكم.الفصل الحادي عشر: وجوب اجتهاد الآمرين الناهين في الأمر والنهي، وإن لم يستجب الجمهور، إقامة للحجة الإلهية لله على خلقه، ولاحتمال ازدجارهم وانتهائهم:
تعرّض فيه لقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف: 164، 165] وتعرّض لتفسيرها، ومما ذكره:
- ذكر جمهور المفسرين: أن بني إسرائيل افترقت ثلاث فرق: فرقة عصت وصادت، وفرقة نهت واعتزلت، وفرقة اعتزلت، ولم تنه، ولم تعصِ.
- اختلف المفسرون فيما حدث للفرقة الثالثة: هل هلكت أم ماذا؟
الفصل الثاني عشر: الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف من أخص أوصاف المنافقين:
تعرّض فيه لقوله تعالى: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [التوبة: 67] وتعرّض لتفسيرها، ومما ذكره:
- ذكور المنافقين وإناثهم ليسوا من المؤمنين.
- ليس المعنى على التبعيض حقيقة.
- للمنافق خمس خصال بنص القرآن:
- يأمر بالمنكر.
- ينهى عن المعروف.
- لا يقوم إلى الصلاة إلا وهو كسلان.
- يبخل بالزكاة.
- يتخلف عن الجهاد إذا أمره الله، ويثبط غيره.
الفصل الثالث عشر: الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر من أخص أوصاف المؤمنين:
تعرّض فيه لقوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 71] وتعرّض لتفسيرها، ومما ذكره:
- المؤمنون بعضهم أولياء بعض في الدين، واتفاق الكلمة، والعون والنصرة.
- والمنافقون بعضهم من بعض؛ إذ لا ولاية لهم، ولا شفاعة لهم، ولا يدعو بعضهم لبعض.
- يتميز المؤمن عن المنافق بخمس، هي:
- الأمر بالمعروف.
- النهي عن المنكر.
- إقام الصلاة.
- إيتاء الزكاة.
- الجهاد، وهو المراد بقوله: {وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}
- أخص أوصاف المؤمنين الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر؛ لتقدمه على بقية الأوصاف.الفصل الرابع عشر: مراتب الجهاد في سبيل الله ثلاثة: جهاد الكفار، وجهاد النفس، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
تعرّض فيه لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة: 111] وتعرّض لتفسيرها، ومما ذكره:
- لم يقل سبحانه: اشترى قلوبهم؛ لأن القلوب وقف على محبة الله، والوقف لا يُشترى، كما قاله أبو علي الدقاق.
- جعل سبحانه العوض على بذل النفس أعلى الأشياء وأغلاها وهو الجنة.
- الجهاد من أفضل ما يعده المرء ليوم فاقته.
- الجهاد أنواع: فتارة يكون في الأعداء من الكفار، وتارة يكون في النفوس، وهي أعدى الأعداء، وتارة يكون في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.
ثم تعرّض لقوله تعالى: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [التوبة: 112] وتعرّض لتفسيرها، ومما ذكره:
- الآمرون بالمعروف أي: بالسنة، وقيل: بالإيمان، والعمل الصالح، وقيل: الذين يدعون الخلق إلى الله، ويحذِّرونهم عن غير الله، يتواصون بالإقبال على الله، وترك الاشتغال بغير الله.
- الناهون عن المنكر، قيل: عن البدعة، وقيل: عن الكفر، وقيل: هو عموم في كل معروف ومنكر، وينهون أنفسهم عن اتباع المنهي عنه والشهوات.
الفصل الخامس عشر: من صور جزاء التقصير في واجب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر: الهلاك في الدنيا فضلًا عن العذاب بالآخرة:
صدّر الفصل بقوله تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} [الأنعام: 116] ولكن تعرّض لتفسير قوله تعالى: {فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ} [هود: 116]، ومما ذكره من فوائد في تعليقه على آية هود:
- القرون: قوم نوح وعاد وثمود.
- البقية هنا يُراد بها الخير والنظر والحزم في الدين؛ وسُمي الفضل والجود بقية؛ لأن الرجل يستبقي مما يخرجه أجوده وأفضله.
- قيل: بقية لأن الشرائع والدول ونحوها قوتها في أولها، فمن ثبت في وقت الضعف، فهو بقية الصدر الأول.
- الظاهر أن الظالمين هم تاركو النهي عن الفساد.
- بيّن سبحانه: أنه أهلك جميعهم إلا قليلًا منهم كانوا ينهون عن الفساد.
- قوله: {مَا أُتْرِفُوا فِيهِ} أي: نُعِّموا فيه، من حب الرئاسة، والثروة، وطلب أسباب العيش الهنيء، ورفضوا ما فيه صلاح دينهم، من الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.
الفصل السادس عشر: أجمع آية في القرآن هي التي تأمر بالعدل والإحسان، وتنهى عن الفحشاء والمنكر والبغي:
صدّر الفصل بقوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ} [الأنعام: 90] ولكن تعرّض لتفسير قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل: 90] ، ومما ذكره من فوائد في تعليقه على آية النحل:
- قال جماعة من العلماء: هذه الآية أجمع آية في القرآن للحث على المصالح كلها، وللزجر عن المفاسد بأسرها.
- قال المفسرون: فقد تضمنت هذه الآية الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وكما أن الله تعالى وحزبه يأمرون بالعدل والإحسان، فالشيطان وحزبه يأمرون بالفحشاء والمنكر.
الفصل السابع عشر: دليل وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأنه فرض عين في حدود القدر المستطاع:
تعرّض فيه لتفسير قوله تعالى: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج: 40، 41] ومما ذكره:
- هذه الآية تدل على وجوب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر؛ إذ قرنا بالصلاة والزكاة.الفصل الثامن عشر: دليل كون المراد بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر هو الأمر بطاعة الله، والنهي عن معصيته:
تعرّض فيه لتفسير قوله تعالى: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [لقمان: 17] ومما ذكره:
- قال الواحدي: وهذه الآية دليل على وجوب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والصبر على المكروه إن أصابه فيهما، وفي هذا دليل على أن خوف المكروه لا ينبغي أن يمنع من الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر إلا أن يخاف مكروهًا لا يطيقه.الفصل التاسع عشر: دليل كون أعلى مراتب الجهاد امتثال أمر الله، واجتناب نهيه:
صدّر الفصل بقوله تعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [البقرة: 78] ولكن تعرّض لتفسير قوله تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ} [الحج: 78]، ومما ذكره من فوائد في تعليقه على آية الحج:
- أي: جاهدوا أنفسكم في طاعة الله، وردوها عن الهوى، وجاهدوا الشيطان في وسوسته، والكافرين في كفرهم، والظلمة في رد ظلمهم، وأهل المعاصي والمنكرات في ترك ما هم عليه.
- هو اجتباكم أي: اختاركم للذب عن دينه، والتزام أمره، واجتناب نهيه.
الفصل العشرون: دليل كون المقصرين في واجب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر في خسر:
صدّر الفصل بذكر سورة العصر، ومما ذكره من تعليق عليها:
- فلا تخف في الله لومة لائم؛ لعلك أن تظفر بالغنائم، استعمل الشجاعة في النهي عن المنكر تنل المطلب الأعلى من الكنز الأكبر، فلله در أقوام فهموا معنى الوجود، وتأملوا عين المقصود، واشتغلوا بطاعة الملك المعبود، فقاموا بالأمر بالمعروف من غير قيود.الفصل الحادي والعشرون: دليل كون الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر أفضل ما يعين المؤمن على تزكية نفسه، ومعالجة ترقيها في الطاعات، وتطهرها من الدنس:
وذكر الأقوال الآتية:
- قال سفيان الثوري وغيره في قوله تعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة: 83] أي: مروهم بالمعروف، وانهوهم عن المنكر.
- وقال ابن عباس -رضي الله عنهما- في قوله تعالى: {أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ} [هود: 78] أي يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر.
- وقال بعض المفسرين في قوله تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ} [آل عمران: 164] يعني: القرآن {وَيُزَكِّيهِمْ} أي: يأمرهم بالمعروف، وينهاهم عن المنكر؛ لتزكو أنفسهم، وتطهر من الدنس والخبث الذي كانوا متلبسين به في حال شركهم.
الفصل الثاني والعشرون: الأحاديث الواردة في فضل الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر:
حيث ذكر جملة من الأحاديث المتعلقة بوجوب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وتأكيد استحبابه، ومما ذكره من فوائد:
بدأ بحديث طارق بن شهاب، قال: أول من بدأ بالخطبة يوم العيد قبل الصلاة مروان، فقام إليه رجل، فقال: الصلاة قبل الخطبة، فقال: قد تُرك ما هنالك، فقال أبو سعيد: أما هذا فقد قضى ما عليه، سمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: “من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان”([13])، ومما ذكره من فوائد هذا الحديث:
- قال النواوي في قوله: (فليغيره): هذا أمر إيجاب بإجماع الأمة، فقد تطابق على وجوب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر الكتاب والسنة، وإجماع الأمة، وهو من النصيحة التي هي الدين([14])، ومن أجله بعث الله رسله، وأنزل كتبه، ووصف هذه الأمة وفضلها لأجله على سائر الأمم التي أخرجت للناس.
- قوله: (فإن لم يستطع فبلسانه) يعني: إن غلب على ظنه أنه إن غيّر بيده يسبب منكرًا أشد منه كف يده، واقتصر على القول باللسان، والوعظ والتخويف، فإن خاف أن يسبب قوله مثل ذلك غيّر بقلبه، وكان في سعة.
- قوله: (فبقلبه) أي: فليكرهه بقلبه؛ وذلك هو الذي في وسعه وطاقته.
- الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر ثلاث مراتب:
- إزالة المنكر باليد؛ وذلك يكون لمن كان له سلطان يُخاف، وإلا قد يأمر وينهى باليد من كان حقيرًا بين الناس، ويأمر كثيرًا؛ فيفضي إلى شر، وقد يفضي إلى تقاتل.ويمكن ذلك لمن له جاه، أو هو رئيس قومه، أو قريته، ومن يكون مطاعًا، ومن كان عالماً قاضيًا، فقد اجتمع في حقه اليد واللسان.
- المرتبة الثانية: إزالته باللسان، وهذه دون الأولى، فهذه يتصف بها العلماء؛ لأنهم أهل اللسان، فيدعون من يتعاطى المنكر، ويأمرونه، وينهونه باللسان، ويستدلون على ذلك.
- المرتبة الثالثة: من لم يكن له سلطان، ولا هو من أهل العلم، بل هو ضعيف الإيمان، ويرى منكرًا لا يقدر على إزالته لا بيد، ولا بلسان، فينكر بقلبه، فذو السلطان له يد، يمكن أن يقيم دين الله تعالى بيده، فله الجهاد بالسيف واللسان والطعن بالخطى والسنان.
- من أمكنه الإنكار باليد، ولم ينكر، فقد عصى، ومن أمكنه الإنكار باللسان، ولم ينكر فقد عصى، ومن لم ينكر بقلبه فقد عصى.
- صفة الإنكار بالقلب: أن يعبس عند رؤية المنكر، ويكره ذلك بقلبه كراهة شديدة.
- قال القاضي أبو يعلى: ويجب فعل الكراهة للمنكر، كما يجب إنكاره؛ لأن الشارع أوجب فعل الكراهة بالقلب، بقوله: (فإن لم يستطع فبقلبه).
- أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر من أعظم الأبواب، فلا يجوز لأحد السكوت عنه أصلًا؛ لأنه واجب بأمر الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-.
- قال القاضي عياض: هذا الحديث أصل في صفة التغيير، فحق المغير أن يغيره بكل وجه أمكنه زواله به، قولًا أو فعلًا، فيكسر آلات الباطل، ويريق المسكر، أو يأمر من يفعله، وينزع الغصوب، ويردها إلى أهلها بنفسه، أو بأمره إذا أمكنه([15]).
- ثم ذكر من الأحاديث ما يدل على أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يغير المناكر بنفسه أحيانًا.
- وذكر حديث عبادة بن الصامت -رضي الله عنه-، قال: «بايعنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على السمع والطاعة في المنشط والمكره، وألا ننازع الأمر أهله، وأن نقوم أو نقول بالحق حيثما كنا، لا نخاف في الله لومة لائم”([16])، وفي رواية: “إلا أن تروا كفرا بواحاً، عندكم من الله فيه برهان”([17]) ومما ذكره من فوائد الحديث:
- قال العلماء: معنى ذلك: أنه تجب طاعة ولاة الأمور فيما يشق وتكرهه النفوس، مما ليس بمعصية.
- قوله: “وعلى أن نقول الحق أينما كنا، لا نخاف في الله لومة لائم” أي: نأمر بالمعروف، وننهى عن المنكر في كل زمان ومكان لا نداهن فيه أحدًا، ولا نخاف، ولا نلتفت إلى لومة لائم.
- لا تنازعوا ولاة الأمور في ولايتهم، ولا تعترضوا عليهم، إلا أن تروا منكرًا محققًا، تعلمونه من قواعد الإسلام، فإذا رأيتم ذلك، فأنكروه عليهم، وقولوا بالحق حيثما كنتم.
- قال أبو العباس تقي الدين أحمد بن تيمية -رحمه الله- في قوله -صلى الله عليه وسلم-: “ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل”([18]): مراده لم يبق بعد هذا الإنكار ما يدخل في الإيمان، حتى يفعله المؤمن، بل الإنكار بالقلب آخر حدود الإيمان، ليس مراده أن من لم ينكر لم يكن معه من الإيمان حبة خردل”([19]).
- وفي تعليقه على حديث: “يا أيها الناس، إن الله -عز وجل- يقول: مروا بالمعروف، وانهوا عن المنكر من قبل أن تدعوني فلا أجيبكم، وتسألوني فلا أعطيكم، وتستنصروني فلا أنصركم”([20])، قال: فلولا أن الأمر بالمعروف فرض لما منع الله تعالى إجابة الدعاء والعطية، والنصر بتضييعه.
- وفي تعليقه على حديث: “شهدتُ حلف المطيبين، مع عمومتي، وأنا غلام، فما أحب أن لي حمر النعم، وأني أنكثه”([21])، قال: “وأصل الحلف المعاقدة والمعاهدة على التعاضد والتساعد والإنفاق، فما كان منه في الجاهلية على الفتن والقتال بين القبائل والغارات، فذلك الذي ورد النهي عنه في الإسلام بقوله -صلى الله عليه وسلم-: “لا حلف في الإسلام”([22]) وما كان منه في الجاهلية على نصر المظلوم، وصلة الأرحام فذلك الذي قال فيه -صلى الله عليه وسلم-: “وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة”([23]) وهذا التحالف كان قبل أن يبعث النبي -صلى الله عليه وسلم- فرآه واجبًا عليه؛ إذ كان من الفرائض التي بُعث بها.
- وفي تعليقه على قوله -صلى الله عليه وسلم-: “لأن من أبواب الصدقة التكبير، وسبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، وأستغفر الله، وتأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر…”([24])، ذكر ما يلي:
- قوله: (وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة) فيه إشارة إلى ثبوت حكم الصدقة في كل فرد من أفراد الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.
- الثواب في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر أكثر منه في التسبيح والتحميد والتهليل؛ لأن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر فرض كفاية، وقد يتعيّن، ولا يتصور وقوعه نفلًا، والتسبيح والتحميد والتهليل نوافل، وأجر الفرض أكثر من أجر النفل.
- وفي تعليقه على قوله -صلى الله عليه وسلم-: “تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودًا عودًا، فأي قلب أشربها، نكت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها، نكت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير على قلبين، على أبيض مثل الصفا، فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود مربادًّا كالكوز، مجخيًا لا يعرف معروفًا، ولا ينكر منكرًا، إلا ما أشرب من هواه”([25])، قال: ومعنى الحديث أن القلب إذا افتتن خرجت منه حرمة المعاصي والمنكرات، وخرج منه نور الإيمان، كما يخرج الماء من الكوز إذا مال.الفصل الثالث والعشرون: ما ورد في فضل الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر:
الحث على تعلم وتطبيق أحكام الشرع؛ لأنها تحيي القلوب.
ذَكَرَ ما ورد من آثار تدل على ذلك، وعلّق على بعضها، ومما ذكره:
- القوي الكامل من أوصل النفع للسالكين، والهداية للحائرين، وكمل به الناقص، ورجع به الناكص، وقوي به المضعوف، واستعان به الملهوف، فهذا من خلفاء الرسل حقًا، والداعي إلى الله صدقًا.
- رجح كثير من العلماء حق المعلم على الوالد؛ وقالوا في الوالد: إنه إنما أوجد نطفة يأكلها الدود غدًا، والمعلم سبب بقاء الروح في النعيم المقيم، بالعلم الذي ألقي إليها.
- من حقوق الإخوة في الدين: التعليم والنصيحة.
- الجود بالعلم أفضل من الجود بالمال.
الفصل الرابع والعشرون: وجوب تبليغ الشرع، وأن ذلك يثمر نضارة الوجه:
وفيه: ذَكَرَ أحاديث وآثار، ثم ختم الفصل بقوله: ففيما تقدم في هذين الفصلين من الأحاديث والآثار دليل وتنبيه على فضيلة الأمر بالمعروف، من الدلالة على الخير، ومساعدة لفاعله، وتعليمه العلم، ووظائف العبادات، لا سيما لمن يعمل بها من المتعبدين.
الفصل الخامس والعشرون: من ذبّ عن عرض مسلم، وهو غائب، وقاه الله النار يوم القيامة:
وفيه ذَكَرَ من الأحاديث ما يُؤيد عنوان الفصل.
الفصل السادس والعشرون: صلاح العباد في طاعة الله، وطاعة الله لا تتم إلا بالاجتهاد في القيام بهذا الواجب:
وذَكَرَ ما يُؤيد ذلك من أحاديث وآثار، ومما نقله:
- قال الإمام أحمد: لا نزال بخير ما كان في الناس من ينكر علينا([26])، وما ذاك إلا لأن صلاح العباد والبلاد في طاعة الله ورسوله، ولا يتم ذلك إلا بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وبه صارت هذه الأمة خير أمة.
- كان شغل الصحابة والتابعين في خمسة: قراءة القرآن، وعمارة المساجد، وذكر الله تعالى، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.
الفصل السابع والعشرون: أجمع العلماء على وجوب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر لتوافر خصوص الأمر به؛ ولتوعد الشارع تاركه بأشد العقوبة:
ومما ذكره من فوائد في هذا الفصل:
- قالت طائفة: هو فرض على الأئمة والأمراء.
- وقالت طائفة: هو فرض على جماعة المسلمين، وهذا القول عليه عامة أهل العلم من الصحابة والتابعين، وغيرهم.
- اختلف العلماء هل هو فرض عين أم كفاية؟ وجمهور العلماء على أنه فرض كفاية، ونقل المصنف بعض أقوال أهل العلم ممن يقول بكونه فرض كفاية، ومن يقول: إنه فرض عين.
الفصل الثامن والعشرون: تأكد وجوب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر على الحكام:
ومما ذكره في هذا الباب من فوائد:
- يتأكد الأمر بالمعروف على أعيان المسلمين، وهم ذوو الولاية والسلطان، فعليهم من الوجوب ما ليس على غيرهم، ثم العلماء، ثم العبَّاد، ثم غيرهم من أهل النفاسة من الأمراء والتجار وغيرهم.
- إنما كثر الفساد والمنكر، وظهر في الناس بسكوت أهل العلم والعبّاد، وأهل الفضل؛ لما تركوا من واجب النصيحة بالأمر والنهي والإنكار على من أظهر المنكر، وجاهر به، والتعليم لأهل الجهل.
- وإنما حل بهم الضعف عن القيام بما أوجب الله -عز وجل- عليهم من ذلك؛ لأنهم جروا معهم في بعض أحوال الجهل، حتى إنك لترى من بعض أهل العلم والفقه النقص في فرائضهم، وقلة العناية بفرائض الله تعالى، ثم في الغيبة والوقيعة، حتى صارت أكثر مجالسهم على ذلك.
- دلت الأدلة على وجوب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر من الكتاب والسنة، وإجماع الأمة، ولم يخالف في وجوبه سوى طائفة من الحشوية، وهم فرقة من الرافضة، فلا يعتد بخلافهم.
- وجوب الأمر بالمعروف ثبت بالشرع، لا بالعقل، خلافًا للمعتزلة.
الفصل التاسع والعشرون: وجوب الإمعان في إنكار البدع المضلة حتى تخمد:
حيث ذكر أن البدع على خمسة أقسام، وهي:
- واجبة: مثل الاشتغال بعلم النحو الذي يُفهم به الكتاب، وتدوين أصول الفقه.
- محرمة: مثل مذاهب القدرية، والجبرية، والجهمية، ونحوهم.
- مندوبة: مثل إحداث الربط، والمدارس، وكل إحسان لم يُعهد في العصر الأول.
- مكروهة: مثل زخرفة المساجد، وتلوين المصاحف.
- مباحة: مثل المصافحة عقيب الصلوات، والتوسع في اللذيذ من المآكل والمشارب.
- قد يختلف نظر العلماء في بعض هذه الأمور، فيجعله بعض العلماء من البدع المكروهة، ويجعله البعض من السنن، كالاستعاذة في الصلاة، والبسملة، وغير ذلك.
- الأمر بالبدع الواجبة واجب، وبالمندوبة مستحب، والنهي عن البدع المحرمة واجب، وعن المكروهة مستحب.
الفصل الثلاثون: قول العز بن عبد السلام: الواجبات والمندوبات ضربان: وسائل / مقاصد، وشرف الوسيلة تابع لشرف مقصدها:
تحدّث عن هذه القاعدة من خلال نص العز بن عبد السلام، وما يؤيده من نقول عن الغزالي، وابن مفلح، ومن فوائد هذه القاعدة:
- الوسائل لها أحكام المقاصد.
- تترتب الوسائل بترتيب المصالح والمفاسد.
- الوسيلة إلى أفضل المقاصد هي أفضل الوسائل، والوسيلة إلى أدنى المقاصد هي أدنى الوسائل.
- يختلف أجر وسائل الطاعات باختلاف فضائل المقاصد، ومصالحها.
- كلما قويت الوسائل في الأداء إلى المصلحة كان أجرها أعظم من أجر ما نقص عنها.
- الأمر بالإيمان أفضل أنواع الأمر بالمعروف.
- الأمر بالفرائض أفضل من الأمر بالنوافل.
- النهي عن المنكر وسيلة إلى دفع مفسدة ذلك المنكر المنهي عنه.
- رتبة النهي عن المنكر في الفضل والثواب مبنية على رتبة مفسدة الفعل المنهي عنه.
- النهي عن الكفر أفضل من كل نهي.
- كل ما وجب على المرء العمل به، أو تركه، فإن الأمر به واجب.
- كل ما كان نافلة، فالأمر به نافلة، إلا عند السؤال عنها مع العلم بها، فتكون النصيحة واجبة.
- ينبغي الاحتياط في جلب المصالح، ودفع المضار:
- فإذا كانت المصلحة بين الإيجاب والندب، فالاحتياط حملها على الإيجاب.
- وإن دارت المفسدة بين الكراهة والتحريم، فللاحتياط تُحمل على التحريم.
- ينبغي أن توضع الأعمال في مواضعها وأوقاتها على حسب مراد الله تعالى منه:
- لا يُقدَّم ما لا يفوت على ما يفوت.
- لا يُقدَّم العمل المفضول على الفاضل.
- إن كان العبد مطالبًا بذلك العمل، فلا يُراعى الجمعية والحال([27]) وإنما يراعي مراد الله ورضاه.
- إذا لم يُطالب بذلك العمل فرعاية الجمعية مع الله أفضل وأولى.
- إن كان الآمر محتاجًا إلى كسب قوت يومه، فهو عذر له في ترك الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.الفصل الحادي والثلاثون: قول العز: من فعل واجبًا متعديًا، أو مندوبًا متعديًا، أو اجتنب محرمًا أو مكروهًا متعديًا، فقد قام بحق نفسه، وحق ربه:
ومما ذكره في هذا الفصل من فوائد:
- كل مطيع لله محسن إلى نفسه، فإن كان إحسانه متعديًا إلى غيره تعدد أجره بتعدد من تعلّق به إحسانه، وكان أجره مختلفًا باختلاف ما تسبب إليه من جلب المصالح، ودرء المفاسد.
- إن قدر على الجمع بين الأمر بمعروفين في وقت واحد لزمه ذلك، وإن تعذر الجمع بينهما لزمه الأمر بأفضلهما.
- من قدر على الجمع بين درء أعظم الفعلين مفسدة، ودرء أدناهما مفسدة جمع بينهما.
- إن قدر على دفع أحدهما دفع الأفسد فالأفسد، سواء ذلك بيده، أو بلسانه، وكذلك تتفاوت كراهة المنكر بالقلوب عند العجز عن إنكاره باليد واللسان.
الفصل الثاني والثلاثون: بيان آراء العلماء في: هل من شروط وجوب إنكار المنكر غلبة الظن في إزالته؟
ومما ذكره في الفصل:
- لا يسقط عن المكلف وجوب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر؛ لكونه لا يفيد، بل يجب عليه فعله.
- اختلف أهل العلم في هل من شروط وجوب إنكار المنكر غلبة الظن في إزالته؟
- لا يسقط وجوب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر زعمًا أن ذلك رضا بقضاء الله وقدره.
الفصل الثالث والثلاثون: عدم سقوط وجوب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر بالعزلة، ما دام قادرًا على الأمر والنهي:
ومما ذكره في الفصل:
- لا يسقط وجوب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر بالعزلة، وعدم الاختلاط بالناس، إذا كان قادرًا على الأمر والنهي، ولم يكن في غيره كفاية.
- فوائد خلطة الناس، هي:
- التعليم والتعلم.
- النفع والانتفاع.
- التأديب والتأدب.
- الاستئناس والإيناس.
- نيل الثواب وإنالته.
- التواضع.
- التجارب.
الفصل الرابع والثلاثون: من تيقن من وجود منكر بالسوق، وكان قادرًا على تغييره لزمه الخروج لتغييره:
ومما ذكره في هذا الفصل بعد ذكر هذه القاعدة:
- إن كان يقدر على تغيير بعض المنكر، ولا يقدر على تغيير البعض، وهو محترز عن مشاهدته لزمه الخروج، ولا يضره مشاهدة ما لا يقدر على تغييره.
- يمنع من الحضور لمشاهدة المنكر من غير غرض صحيح.
- لا يسقط الخروج للأمر والنهي ما دام يبقى على وجه الأرض جاهل بفروض دينه، وهو قادر على السعي إليه بنفسه، أو بغيره، فيعلمه فرضه.
الفصل الخامس والثلاثون: في إنكار المنكر أجر عظيم، وفي عدم إنكاره الإثم الكبير:
ذَكَرَ من الآيات والأحاديث ما يدلِّل لعنوان الفصل، ومما ذكره من فوائد:
- قال ابن عباس -رضي الله عنهما- في قوله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال: 25] أمر الله المؤمنين أن لا يقروا منكرًا بين أظهرهم، فيعمهم العذاب.
- قال العلماء: يكون إهلاك جميع الناس عند ظهور المنكر والإعلان؛ لأن محاربة ذلك وتغييره واجب عليهم، فمن رأى ولم ينكر كمن فعل.
- الهلاك العام يكون طهرة للمؤمنين الطائعين، ونقمة على الفاسقين.
- على كل واحد من الناس الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر على حسب حاله، لا ينبغي أن يسعه السكوت عن ذلك البتة.
- معنى الحديث: “لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليسلطن عليكم شراركم، ثم يدعو خياركم، فلا يستجاب لهم”([28]) أن الله سبحانه: لا يجعل في قلوب الأشرار الرهبة منكم إذا تركتم الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ويجعل في قلوبكم رهبتهم، وإذا ارتفعت من قلوب الأشرار الهيبة من المؤمنين، استجرؤوا عليهم، وتسلطوا عليهم، فإذا دعا خيارهم لم يستجب لهم؛ لأنهم ضيعوا أمر الله، ومن ضيع أمر الله لم يستجب له.
- من لم يأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر خارج عن صفة المؤمنين.
الفصل السادس والثلاثون: إذا تظاهر الناس بالمنكر وجب على كل من يراه أن يغيره في حدود القدر المستطاع:
أورد من الأدلة كقوله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] ما يفهم منه أن العقوبة تتعلّق بصاحب الذنب، وأجيب عن ذلك بأن الساكت عن المنكر عاصٍ برضاه، وقد عدّ العلماء ترك الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر مع القدرة كبيرة من الكبائر.
الفصل السابع والثلاثون: ثبوت عذاب القبر لمن ترك واجب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وعدم قبول شفاعته:
ذَكَرَ من الأدلة ما تُثبت عذاب القبر لمن مر بمظلوم، أو اُغتيب عنده، وقدر على دفع الظلم، ولم ينصره.
الفصل الثامن والثلاثون: الأحاديث والآثار الواردة في ذم تارك الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر:
فَذَكَرَ من الأحاديث الموقوفة، والآثار الواردة -ومنها: ما هو من الإسرائيليات- في ذم تارك الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر:
الفصل التاسع والثلاثون: تارك الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر عاصٍ لوجوه أربعة:
بدأ بذكر هذه الوجوه، وهي:
- أن يكون زاهدًا في ثواب ذلك إما لجهله، أو لعدم إيمانه.
- أن يدعو إلى ترك الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.
- أن يرى منكرًا وهو قادر على أن يغيره فلا يغيره.
- أن يرى قومًا قد أمروا بالمعروف، ونهوا على المنكر، وهم محتاجون إلى معونته، وهو قادر فلا يعينهم.
ثم نَقَلَ رد ابن القيم على ادعاء أهل الإلحاد والكفر من ترك الإنكار على الخلق احتجاجًا بالقدر، وأن وجود المنكرات بإيجاد الله لها، وقد رد ابن القيم على ذلك:
- أن هذا إلحاد وانسلاخ من الدين بالكلية.
- كان الرسل منكرين على أقوامهم، فهذا الادعاء طعن في الرسل.
- أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن المتخلص من مقامات الإنكار الثلاثة ليس معه من الإيمان حبة خردل.
- ادعاؤهم أن هذا مراد الله -عز وجل-، والرد على ذلك: أن الله تعالى له مراد كوني، ومراد شرعي، فمراده الشرعي: هو الإنكار على أصحاب المراد الكوني.
ثم بدأ الجزء الثاني
بالفصل الأربعين: إبطال زعم البعض أن السكوت عن المنكر مقام من مقامات الرضا بالقضاء:
صدّر الفصل بقول البعض: من نظر إلى الناس بعين العلم مقتهم، ومن نظرهم بعين الحقيقة عذرهم، كما قال بعضهم: العالِم ينشقك الخل والخردل، والعارف ينشقك المسك والعنبر، ونَقَلَ رد ابن القيم عليها، ومما قاله:
- معنى هذا أن الناس مع العالم في تعب، ومع العارف في راحة؛ لأن العارف يبسط عذر الخلائق، والعالم يلوم([29]).
- يتضمن هذا الكلام دعوة للانحلال عن الدين.
- ويتضمن عذر اليهود والنصارى، وعباد الأوثان والظلمة والفجرة.
- ويتضمن أن أحكام الأمر والنهي الواردين على ألسنة الرسل للقلوب بمنزلة من يعطي الخل والخردل.
- العالم يلوم بأمر الله، والعارف يرحم بقدر الله، ولا يتنافى عنده اللوم والرحمة.
- من الرحمة عقوبة من أمر الله بعقوبته، وترك عقوبته زيادة في أذاه وأذى غيره.
- الناس مع العالم في تعب يعقبه كل راحة، ومع عارف هؤلاء في راحة، يعقبها كل تعب وألم.
الفصل الحادي والأربعون: من صور جزاء التقصير في واجب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر نزع هيبة الطاعة:
وذَكَرَ من الآثار ما يُؤيد هذا المعنى.
الفصل الثاني والأربعون: توعّد الله المذلين للآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر بإحباط عملهم في الدنيا والآخرة:
وذَكَرَ من الأدلة ما يُؤيد هذا المعنى.
الفصل الثالث والأربعون: من أخص أوصاف المنافقين: الأمر بالمنكر، والنهي عن المعروف، وأن من أمارات الساعة: فساد المسلمين بإمرتهم بالمنكر، ونهيهم عن المعروف.
وذَكَرَ من الأدلة ما يُؤيد هذا المعنى.
الباب الثاني: أركان الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر:
(في بيان أركان الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وشروطه، ودرجاته ومراتبه).
صدّر الكلام بأن الأركان أربعة، هي: الآمر، والمأمور، والمأمور به، ونفس الأمر، ولكل ركن شروطه.
ثم بدأ بالحديث عن الركن الأول: الآمر بالمعروف، والناهي عن المنكر.
الفصل الأول: شروط الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.
لوجوب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر شروط خمسة:
- أن يكون مكلفًا: فغير المكلف لا يلزمه وجوب أمر ولا نهي، وللمميز إنكار، ويُثاب عليه، لكن لا يجب.
- أن يكون مسلمًا.
- العدالة: حيث اعتبرها قوم، والصحيح عدم اعتبارها.
- أن يكون مأذونًا له من الإمام: حيث شرط ذلك قوم، ولم يثبتوا لآحاد الرعية الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وذكر الغزالي: أن هذا شرط فاسد، وقد زاد الرافضة اشتراط خروج الإمام، ثم نَقَلَ كلام الغزالي في مراتب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر
- المرتبة الأولى: التعريف.
- المرتبة الثانية: الوعظ بالكلام اللطيف.
- المرتبة الثالثة: السب العنيف، وليس المقصود به الفحش، وذلك كقول: يا جاهل، يا أحمق، وما يجري مجراه.
- المرتبة الرابعة: المنع بالقهر بطريق المباشرة، ككسر الملاهي.
- المرتبة الخامسة: التخويف والتهديد والضرب، أو مباشرة الضرب له، حتى يمتنع عما هو عليه، وهذا قد يحوج إلى استعانة، وجمع جنود وأعوان من الجانبين، ويجر ذلك إلى القتال، وسائر المراتب لا يخفى وجه استغنائها عن الإذن، إلا هذه المرتبة، ففيها نظر.
- أن يكون قادرًا، فلا إنكار على عاجز إلا بالقلب، والعجز حسي ومعنوي.الفصل الثاني: أخص أوصاف المؤمنين الدالة على صحة عقيدتهم: قيامهم بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر:
ذَكَرَ من أقوال أهل العلم ما يُؤكد هذا المعنى.
الفصل الثالث: الركن الثاني للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (المأمور بالمعروف، والمنهي عن المنكر):
- نَقَلَ عن الغزالي اشتراط أن يكون الفعل الممنوع بصفة يصير فيها في حق الفاعل منكرًا، ولعله يكفي أن يكون إنسانًا، ولا يشترط كونه مكلفًا.
- ونَقَلَ عن ابن مفلح: أنه لا ينكر على غير المكلف إلا تأديبًا وزجرًا.
- ونَقَلَ عن الغزالي: أنه من قدر على حفظ مال غيره من الضياع من غير أن يصيبه تعب في بدنه، أو خسران في ماله، أو نقصان في جاهه، وجب عليه ذلك.
- وتحدث عن الإنكار على النساء كاشفات الوجوه، وأن ستر الوجه مختلف فيه، وبالتالي فالإنكار ينبني على مسألة الإنكار في مسائل الخلاف.
- وتحدّث عن مسألة الإنكار على خلوة رجل بامرأة:
- إن كان الوقوف في طريق سالك، ولم تظهر منهما أمارات الريب، لم ينكر عليهما.
- وإن كان في طريق خالٍ، فخلو المكان ريبة، فينكر، ولكن لا يتعجل التأديب حذرًا من أن تكون ذات محرم.
الفصل الرابع: الإنكار على السلطان إذا عطَّل الحدود في حدود القدر المستطاع:
- العلماء مجمعون على الإنكار على السلطان إذا كان عادلًا.
- العلماء مختلفون في الإنكار عليه إذا كان جائرًا، وذكر المصنف أنّ فرقة رأت الإنكار عليه، ثم ساق من الأدلة ما يُؤيد هذا القول.
الفصل الخامس: دفع التعارض بين أمر خواص الأمة السلطان الجائر بالمعروف، ونهيه عن المنكر، وبين تعريض النفس للتهلكة:
نقل عن الغزالي الرد على هذا القول بقوله: لا خلاف أن المسلم يجوز له أن يهجم على صف الكفار ويقاتل إذا كان فيه قوة، وعلم أنه يقتل.
ثم نقل عن أبي العباس ابن تيمية قوله: نص الأئمة الأربعة على ذلك، ودليلهم من الكتاب والسنة، ثم ذكر هذه الأدلة.
الفصل السادس: سقوط وجوب أمر خواص العلماء الحكام ونهيهم، عند توقع ضر لا يُطاق:
تحدّث في هذا الفصل عن دفع الظن الحاصل عند البعض من تعارض ما ذكره في الفصل الخامس مع قوله تعالى: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195] حيث نقل سبب نزولها، وتفسير العلماء لها، فقيل: الآية في وجوب النفقة، وقيل: في ترك الجهاد، وقيل: أن يذنب العبد ذنبًا، ثم لا يعمل بعده خيرًا؛ فيهلكه الله.
الفصل السابع: تحريم فرار المسلمين من عدوهم إذا كانوا ضِعْفَهم:
حيث استدل بقوله تعالى: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ} [الأنفال: 66] وقال ابن شبرمة: وأرى الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر مثل هذا([30]).
الفصل الثامن: جواز أمر خواص الأمة بالمعروف، ونهيهم عن المنكر، ولو تيقنوا القتل إذا تيقنوا رفع المنكر:
نَقَلَ من النصوص عن أهل العلم ما يُؤيد ذلك، ومما يُستفاد من أقوالهم:
- يجوز للآمر بالمعروف، والناهي عن المنكر، بل يستحب أن يعرض نفسه للضرب والقتل، إذا كان لأمره ونهيه تأثير في رفع المنكر، أو في كسر جاه الفاسق، أو في تقوية قلوب أهل الدين، كما قاله الغزالي.
- أقام أهل العلم الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر مقام الجهاد، كما قاله أبو طالب.
- الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر أعظم أجرًا من الجهاد، كما قاله أبو طالب.
الفصل التاسع: إباحة أمر السلطان ونهيه من خواص الأمة عندما لا يخافون إيذاء لغيرهم نتيجة لنهيهم:
ومقصوده في هذا الفصل: بيان أن السلف من عادتهم الإنكار على الأمراء والسلاطين.
الفصل العاشر: كيفية الإنكار على السلطان تكون بالتعريف والوعظ بالكلام اللين اللطيف، وذكر العاقبة في الدنيا والآخرة:
ومقصوده في هذا الفصل: أنه لا يجوز أن يوعظ السلطان إلا بالمرتبتين، وهما: التعريف والوعظ بالكلام اللطيف، وأما المرتبة الثالثة، فكما قال الغزالي: ففيها نظر؛ لأن الأمر معه أشد من الوالد؛ لما يتوقع في ذلك من الفتن والشرور والحروب، ولا سيما في زماننا هذا.
الفصل الحادي عشر: وجوب وعظ خواص الأمة السلطان سرًا أفضل منه جهرًا:
نَقَلَ من الوقائع والأقوال ما يُؤيد ذلك، ثم ختم الفصل بقوله: “فلا تنظروا إلى الأئمة المضلين إلا بالإنكار عليهم؛ لئلا يحبط أعمالكم، هذا إذا دخل عليه وحده، فأما إن دخل مع حشمه، وأرباب دولته، فلا بأس بالقيام، ولا يعلمه بالظلم إذا خلا به، ولا الخمر، ولا يغير ذلك، إلا إذا خلا به، وعرف أنه ينتفع بأمره، فيخوفه من ركوب المعاصي مطلقًا، ويرشده إلى العدل في الرعية، والإحسان إليهم، كل ذلك بلطف فيما بينه وبينه.
الفصل الثاني عشر: وجوب نصح الولد للوالد بالتعريف والوعظ بالكلام اللين اللطيف:
ومما ذكره في هذا الفصل:
- هل يمنع الوالد بالقهر بطريق المباشرة؟ فذهب الغزالي إلى أن الأظهر في القياس ثبوت ذلك، بل يلزم فعل ذلك، ولا يبعد أن يُنظر إلى قبح المنكر، وإلى مقدار الأذى والسخط من الوالد.
- ذكر الغزالي: أنه ينبغي أن يجري (أي هذا الترتيب) في العبد والزوجة مع السيد والزوج، فهما قريبان من الوالد في لزوم الحق.
- وأما إنكار التلميذ على الأستاذ، فالأمر بينهما أخف من الزوج والسيد، كما قاله الغزالي، وأما النووي فقال: اعلم أنه يستحب للتابع إذا رأى من شيخه وغيره ممن يقتدي به شيئًا في ظاهره مخالفًا للمعروف أن يسأله عنه بنية الاسترشاد، فإن كان قد فعله ناسيًا تداركه، وإن كان فعله عامدًا، وهو صحيح في نفس الأمر بينه له([31]).
- وأما ترك الإنكار على ذي الشيبة حياء منه وإكراما لشيبته فأحسن منه أن يستحي من الله ولا يضيع الأمر والنهي.
الفصل الثالث عشر: وجوب نهي أهل الذمة من المنكر كزواج كتابي مسلمة، أو عرضهم الخمر، ولحم الخنزير للبيع بين المسلمين:
أكثر من نقْل نصوص تتعلق بالإنكار على أهل الذمة، ومن الفوائد المذكورة في كلامهم:
- اختلف أهل العلم في ضمان ما أُتلف من خمر أو خنزير لذمي:
- القول الأول: لا ضمان على المتلف مسلمًا كان أو ذميًا، وهو مما نص عليه أحمد، وذهب إليه الشافعي.
- القول الثاني: يجب الضمان، وقال به: أبو حنيفة ومالك.
- وقال أبو حنيفة: إن كان مسلمًا بالقيمة، وإن كان ذميًا بالمثل.
- قال أبو العباس ابن تيمية: وأهل الذمة إذا أظهروا الخمر فإنهم يُعاقبون بإراقتها، وشق ظروفها، وكسر دنانها، وإن كنا لا نتعرض لهم إذا أسرُّوا ذلك بينهم([32])، وقال ابن مفلح: وهذا ظاهر في إنكار المنكر المستور، ولم نجد فيه خلافًا([33]).
- ومما نقله المصنف عن ابن مفلح:
- إن ترك أهل الذمة التمييز على المسلمين في أحد أربعة أشياء، لباسهم، وشعورهم، وركوبهم، وغير ذلك ألزموا به، وإذا تبايعوا الربا في أسواقنا؛ فالأشهر من مذهب الإمام أحمد منعهم مطلقًا.
- إذا فعلوا محرمًا عندهم غير محرم عندنا لم نتعرض لهم، ولم نعتزلهم، وندعهم على فعلهم، سواء أسروه، أو أظهروه.
- الصغار هو جريان أحكام المسلمين عليهم.
- قال أصحاب أحمد: ولا يمنعون أهل الذمة من نكاح محرم بشرطين:
- أن يرتفعوا إلينا.
- أن يعتقدوا حله في دينهم.ثم ذكر الركن الثالث: المنكر المأمور بإزالته، الموجب للإنكار، ثم نقل عن الغزالي قوله: وهو كل منكر موجود في الحال، ظاهر للمنكِر من غير تجسس، معلوم كونه منكرًا بغير اجتهاد، فهذه أربعة شروط.
الفصل الرابع عشر: الشروط الواجب توافرها في المنكَر حتى يجب النهي عنه:
- الشرط الأول: أن يكون منكرًا، يعني محذورًا في الشرع، ومما ذكره في هذا الشرط:
- المنكر أعم من المعصية، فينكر على الصبي والمجنون وإن كان فعلهما ليس معصية في حقهما.
- لا يختص الإنكار بالكبائر، ولكن يشمل الصغائر، كالخلوة بالأجنبية، والنظر إلى النساء.
- الشرط الثاني: أن يكون المنكر موجودًا في الحال:
- فلا ينكر على من فرغ من شرب الخمر، فهذا ليس للآحاد.
- ولا ينكر على ما سيوجد كمن يُعلم بقرينة الحال أنه يشرب ليلًا، فلا إنكار عليه، إلا بالوعظ، وإن أنكر فلا يوعظ؛ لأن ذلك سيكون من إساءة الظن.
ثم نَقَلَ من كلام العلماء، وختم بكلام الغزالي، حيث ذكر أن المعصية لها ثلاثة أحوال، وهي:
- أن تكون مضت وعقوبتها حد أو تعزير، فالأمر للولاة، لا الآحاد.
- أن تكون المعصية موجودة، وصاحبها مباشر لها، فيجب الإنكار بكل ما أمكن، إلا ما أدى إلى معصية أفحش منها أو مثلها، وهذا للآحاد والرعية.
- أن يكون المنكر متوقعًا، كمن استعد لشرب الخمر؛ ولما تحضر بعد؛ فلا يثبت للآحاد سلطنة على العازم على الشرب إلا بطريق الوعظ والنصح، ولا يجوز التعنيف والضرب للآحاد، ولا السلطنة إلا إذا كانت تلك المعصية معلومة منه بالعادة المستمرة.
الفصل الخامس عشر:
- الشرط الثالث: أن يكون المنكَر ظاهرًا للمنكِر من غير تجسس.والمقصود: أن يكون إنكار المنكر برؤية عين المنكر، أو شهادة عدلين.
الفصل السادس عشر: أصل الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر مبني على الظنون:
والظن هو تجويز لأمرين أحدهما أظهر من الآخر.
ثم نَقَلَ نصًّا للعز بن عبد السلام فيه جواب على سؤال: هل يُبنى إنكار المنكر على الظن كما ذكرتموه في غيره؟ وكان من فوائد ما قال:
- لو رأينا إنسانًا يسلب ثياب إنسان وجب الإنكار بناء على الظن المستفاد من ظاهر يد المسلوب.
- ولو رأينا رجلًا يجر امرأة، ويزعم أنها زوجته، وهي تنكر ذلك وجب الإنكار؛ لأن الأصل عدم ما ادعاه.
- ولو رأينا إنسانًا يقتل إنسانًا، ويزعم أنه كافر حربي، والآخر ينكر ذلك وجب الإنكار؛ لأن الله تعالى خلق العباد حنفاء، والدار دار إسلام، فالغلبة فيها للمسلمين.
- إن أصابت الظنون قامت المصالح التي أوجب الله القيام بها، وحصل الأجر.
- وإن اختلفت الظنون، فالأجر حاصل مع العذر في الخطأ، كما عُذر موسى -عليه السلام- في إنكاره على الخضر بظنه أنها منكرات.
- العمل بالظنون في موارد الشرع ومصادره؛ لأن كذب الظنون نادر، وصدقها غالب.
- لو تُرك العمل بالظنون خوفًا من وقوع نادرها، لتعطلت كثير من المصالح.
- ذم الله تعالى العمل بالظن في موضع يشترط فيه العلم، أو الاعتقاد الجازم لمعرفة الله وصفاته.
- معظم مصالح الواجب والمندوب والمباح مبني على الظنون المضبوطة بالضوابط الشرعية.
- معظم مفاسد المحرم والمكروه مبني على الظنون المضبوطة بالضوابط الشرعية.
- أما قوله تعالى: {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات: 12] فالآية لم يُنه فيها عن ظن، وإنما نهي فيها عن بعضه، وهو أن يُبنى على الظن ما لا يجوز بناؤه عليه، وتقدير الآية: اجتنبوا كثيرًا من اتباع الظن، إن اتباع بعض الظن إثم.
- وفي الحديث: “إياكم والظن؛ فإن الظن أكذب الحديث”([34]) تقديره: إياكم واتباع الظن، وإنما قُدِّر ذلك لإجماع المسلمين على اتباع الظن فيما يجوز فيه.
الفصل السابع عشر: الشرط الرابع من شروط المنكَر أن يكون معلومًا بغير اجتهاد:
- الشرط الرابع من شروط المنكَر: أن يكون معلومًا بغير اجتهاد: ومما ذكره في هذا الفصل:
- قال عبد القادر الكيلاني: والمنكر ينقسم قسمين:
أحدهما: ظاهر، يعرفه العوام والخواص كالزنا، وشرب الخمر، والسرقة، وقطع الطريق، والربا، والغصب، وغير ذلك، فهذا القسم يجب إنكاره على العوام، كما يجب على الخواص من العلماء.
والقسم الثاني: ما لا يعرفه إلا الخواص مثل اعتقاد ما يجوز على الباري -سبحانه وتعالى-، وما لا يجوز عليه، فهذا يختص بالعلماء إنكاره، فإن أخبر أحد من العلماء واحدًا من العوام جاز له، ووجب على العامي الإنكار عند القدرة، ولا يجوز قبل ذلك([35]).
- ثم تحدّث عن أقوال العلماء في الإنكار على مسائل الاجتهادية:
- ذهب قوم إلى أنه لا إنكار في محل الاجتهاد.
- قال أبو العباس ابن تيمية: وقولهم: ومسائل الخلاف لا إنكار فيها ليس بصحيح؛ فإن الإنكار إما أن يتوجه إلى القول بالحكم أو العمل، أما الأول فإن كان القول مخالفًا سنة أو إجماعًا قديمًا وجب إنكاره وفاقًا، وإن لم يكن كذلك فإنه ينكر بمعنى بيان ضعفه عند من يقول: المصيب واحد، وهو عامة السلف والفقهاء.وأما العمل إذا كان على خلاف سنة أو إجماع وجب إنكاره بحسب درجات الإنكار، وأما إذا لم يكن في المسألة سنة ولا إجماع، وللاجتهاد فيها مساغ، فلا ينكر على من عمل بها مجتهدًا أو مقلدًا، وإنما دخل هذا اللبس من جهة أن القائل يعتقد أن مسائل الخلاف هي مسائل الاجتهاد، كما اعتقد ذلك طوائف من الناس([36]).
- وذكر النواوي: أن المختلف فيه لا إنكار فيه([37])، قال: لكن إن ندبه على جهة النصيحة إلى الخروج من الخلاف، فهو حسن محبوب، مندوب إلى فعله برفق([38]).
- وعن أحمد رواية: لا ينكر على المجتهد، بل على المقلد([39]).
- وفي الأحكام السلطانية: ما ضعف الخلاف فيه، وكان ذريعة إلى محظور متفق عليه كربا النقد، والخلاف فيه ضعيف، وهو ذريعة إلى ربا النساء المتفق على تحريمه، وكنكاح المتعة، وربما صارت ذريعة إلى استباحة الزنا، فيدخل في إنكار المحتسب بحكم ولايته([40]).الفصل الثامن عشر: وجوب التزام كل مقلد لمذهب بأحكام مذهبه، وكراهة تقليده غيره إلا لضرورة:
نَقَلَ من نصوص العلماء ما يتعلّق بهذه المسألة، ومما ذكره:
- قال أبو العباس ابن تيمية: هل على العامي أن يلتزم مذهبًا معينًا، يأخذ بعزائمه ورخصه؟ فيه وجهان لأصحاب الإمام أحمد والشافعي، والجمهور من هؤلاء وهؤلاء لا يوجبون ذلك، والذين يوجبونه يقولون: إذا التزمه لم يكره له أن يخرج عنه ما دام ملتزمًا له، أو ما لم يتبين له أن غيره أولى بالالتزام منه، ولا ريب أن التزام المذاهب والخروج عنها إن كان لغير أمر ديني، مثل أن يلتمس مذهبًا لحصول عرض دنيوي من مال أو جاه، أو نحو ذلك، فهذا مما لا يحمد عليه، بل يذم عليه في نفس الأمر، ولو كان ما انتقل إليه خيرًا مما انتقل عنه، وهو بمنزلة من يسلم لا يسلم إلا لغرض دنيوي، وأما إن كان انتقاله من مذهب إلى مذهب لأمر ديني فهو مثاب على ذلك، بل واجب على كل أحد إذا تبين له حكم الله تعالى ورسوله في أمر ألا يعدل عنه، ولا يتبع أحدًا في مخالفة الله ورسوله([41]).الفصل التاسع عشر: ضروب الموجِب للإنكار:
ذَكَرَ في هذا الفصل ضروب مُوجِب الإنكار، وهي:
- ما يُوجِب النهي باللسان، فإن انتهى وإلا وجب على المسلمين منعه بالضرب والقتال، حتى يترك أو يقتل، نحو اغتصاب الأموال، ومد الأيدي إلى الحرام، أو إلى النفس، وإن استمكنوا منه لم يجز قتله.
- الإنكار بالحبس مثل منع الناس حقوقهم من دين، وما أشبهه، فإذا وُعظ فلم يقبل وجب على الحاكم أن يحبسه.
- ما يكون المرء فيه ظالماً لنفسه كإفساد ماله، وترك الصلوات، أو إفطاره في رمضان، أو تضييع الفرائض التي يكون فاسقًا بتركها، فيُنكر المسلمون عليه باللسان، فإن رجع وإلا كان على الحاكم ضربه وحبسه حتى يموت.
- ما سوى الفرائض، وكان بينه وبين ربه تعالى، فيُنكر عليه بالموعظة من غير ضرب ولا حبس، إلا ما فيه حد.الفصل العشرون: الركن الرابع من أركان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
حيث ذَكَرَ أن المقصود بهذا الركن هو نفس الأمر والنهي، وله درجات وآداب.
- ذَكَرَ الدرجات التي ذكرها الغزالي، وهي كالترتيب التالي:
- التعرف([42]).
- التعريف([43]).
- النهي.
- الوعظ والنصح.
- السب والتعنيف.
- التغيير باليد.
- التهديد بالضرب.
- إيقاع الضرب وتحقيقه.
- شهر السلاح.
- الاستظهار بالأعوان، وجمع الجنود.
- وذَكَرَ درجة أخرى غير المذكور، وهي الإنكار بالحال، وذكر لذلك أمثلة.
الفصل الحادي والعشرون: درجات النهي عن المنكر:
الدرجة الأولى: التعرف:
والتعرف هو طلب المعرفة بجريان المنكر، وهو التجسس، وهو منهي عنه.
- قال الغزالي:
- لا ينبغي أن يسترق السمع، ولا أن يستنشق، ولا أن يمس، ولا أن يستخبر أحدًا للتعرف على منكر.
- إن أخبر عدلان ابتداء بالمنكر, فيجوز دخول الدار دون استئذان، ولا إذن من الإمام.
- فإن أخبر عدلان أو عدل واحد، وبالجملة كل من تُقبل روايته دون شهادته؛ ففي جواز الهجوم عليه بقول هؤلاء نظر واحتمال.
- ومما ذكر أبو طالب عمر بن الربيع:
- إن أصاب شخص أحدًا أو دمًّا واعتصم ببيته كان للإمام أن يأمر بالهجوم عليه.
- ولو سرق أو قطع الطريق، ثم صار إلى بيته، كان للإمام أن يهجم عليه في بيته.
- ومن كان يبيع الخمر في بيته أُنكر عليه بالعظة، ولم يُهجم عليه إلا بأمر السلطان وأمرائه.
- إن أمر السلطان بالهجوم وجب الهجوم، وكسر ما أصابوا، وليس لهم العقوبة، فالعقوبة للإمام ولأمرائه.
- إن أظهر المنكر في السوق، وفي الطريق وجب منعه، وليس لهم العقوبة، فالعقوبة للسلطان.
- ثم ذكر قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6] مبينًا سبب النزول، ومما ذكره من فوائد هذه الآية:
- قبول خبر العدل الواحد.
- فساد قول من قال: إن المسلمين كلهم عدول حتى يثبت الجرح؛ لأن الله تعالى أمر بالتثبت قبل إنفاذ الحكم.الفصل الثاني والعشرون: الدرجة الثانية للنهي عن المنكر: التعريف:
ومما ذكره في هذا الفصل:
- يجب التعريف باللطف من غير عنف.
- ليكن الوعظ في هذه الدرجة تعريضًا وإرشادًا من غير تنصيص على شخص.
- قال الغزالي: ومن اجتنب محظور السكوت عن المنكر، واستبدل عنه محظور الإيذاء للمسلم مع الاستغناء عنه؛ فقد غسل الدم بالبول.
- إذا وقعت على خطأ في غير أمر الدين فلا ينبغي أن ترده عليه؛ فإنه يستفيد منك علمًا، ويصير لك عدوًّا، إلا إذا علمت أنه يغتنم العلم؛ وذلك عزيز جدًا.
الفصل الثالث والعشرون: الدرجة الثالثة للنهي عن المنكر: النهي بالوعظ:
ومما ذكره في هذا الفصل:
- النهي بالوعظ والنصح والتخويف بالله -عز وجل-؛ وذلك فيمن يقدم على الأمر، وهو عالم بكونه منكرًا.
- وكذلك فيمن أصر على المنكر بعد أن عرف كونه منكرًا.
- هناك فرق بين الموعظة والملامة:
- فالموعظة: أن تقبح الفعل المذموم وتذمه عند عامله، وقلبك يرحم ويعطف عليه قاصدًا بذلك الذم لنفسه الأمارة بالسوء، وينبغي أن يكون ذلك سرًّا فيما بينه وبينه.
- والفرق بين النصيحة والتوبيخ الإسرار والإعلان، فإن لم يندفع المنكر بإسرار الموعظة، أظهر حينئذٍ ذلك وأذاعه وأعلنه.الفصل الرابع والعشرون: ما ينبغي على الآمر الناهي استخدامه في الوعظ من ذكر آيات وأحاديث وقصص:
حيث ذَكَرَ عن بعض المحققين: أنه ينبغي للآمر الناهي بالوعظ، أن يستعمل في ذلك أربعة أنواع:
- الأول: أن يذكر من الآيات والأحاديث والآثار وأقوال السلف المخوفة للعصاة.
- الثاني: أن يذكر حكايات الأنبياء والسلف، وما جرى عليهم من المصائب بسبب ذنوبهم.
- الثالث: أن يقرر عندهم أن تعجيل العقوبة في الدنيا متوقع على الذنب.
- الرابع: أن يذكر ما وقع من العقوبات على آحاد الذنوب في محله، كالخمر والزنا والسرقة، وغير ذلك.
- لقد بُلِي الخلائق بوعاظ يتكلفون ذكر ما ليس في وسعهم، ويعرضون بذكر العقائد المختلف فيها، ويقذفون العلماء والأخيار من السلف والخلف والأحياء والأموات، بحسب ميل أهويتهم، ووقوع أغراضهم، مما ليس للناس به كثير نفع، بل يكون ذلك في الغالب سببًا لإظهار الخصومات، وتحريك العداوات، وإساءة العقائد والظنونات، فيسقط عن القلوب وقارهم.الفصل الخامس والعشرون: الدرجة الرابعة من درجات النهي عن المنكر: السب والتعنيف:
وأما الدرجة الرابعة من درجات النهي عن المنكر، فهي السب والتعنيف بالقول الغليظ الخشن؛ وذلك يُعدل إليه عند العجز عن المنع باللطف وظهور مبادئ الإصرار والاستهزاء بالوعظ والنصح.
ومما ذكره في هذا الفصل:
- معنى القول الخشن هو:أن يقول: يا فاسق، يا أحمق، يا جاهل، ألا تخاف الله؟! ألا تستحي من الله؟ أو ما في معنى ذلك، وما يجري مجراه.
- يجب أن يكون قصد الآمر الناهي عند تغليظ القول: رجوع المأمور عن ذلك المنكر، لا انتصارًا لنفسه.
- من علامات إخلاص الآمر الناهي عند تغليظ القول:
- سكون غضبه، والإمساك عن الكلام متى زال المنكر.
- أن يستهزئ الواقع في المنكر به فيقوم آخر فيغلظ له القول فيقلع عن منكره، فيسره ذلك ويفرح به أن كفاه الله ذلك بغيره.
- لا يجوز اللعن والطعن في النسب.
- أخبر الغزالي أن لهذه الدرجة أدبين هما:
- ألا يقدم على الفحش من القول إلا عند الضرورة والعجز عن اللطف.
- ألا ينطق إلا بالصدق، ولا يسترسل فيه، فيطلق لسانه بما لا يحتاج إليه، بل يقتصر على قدر الحاجة.
- ولكن إن علم أن إطلاق هذه الكلمات الزاجرات لا تزجره، فليقتصر على إظهار الغضب.
- وإن علم أنه إذا تكلم ضُرب، ولو اكفهر وأظهر الكراهة لزمه ذلك، ولم يكفه الإنكار بالقلب.
الفصل السادس والعشرون: الدرجة الخامسة من درجات النهي عن المنكر: التغيير باليد:
ومما ذكره في هذا الفصل:
- يتصور التغيير باليد في بعض المعاصي دون بعض، معاصي اللسان والقلب فلا يقدر على مباشرة تغييرها.
- من أمثلة ذلك: كسر الملاهي، وإراقة الخمر، وخلع الحرير عن لابسه، ومنعه من الجلوس عليه، ورفعه عن الجلوس على مال الغير، وإخراجه من الدار المغصوبة بالجر برجله، وإخراجه من المسجد إذا كان جالسًا وهو جنب بغير وضوء، وما يجري مجراه.
- قسّم أبو طالب عمر بن الربيع المنكرات إلى:
- ما يقوم به جماعة المسلمين: كإغاثة المظلوم من اعتداء عليه، أو على ماله، أو ولده، أو حرمه، فيجب منع الظالم، وعليهم كسر آلة اللهو، وإراقة الخمر، وخلع الحرير عن لابسه عند الاستطاعة.
- إن كان يمكن منع الظالم دون قتله، فلا يجوز قصد ذلك.
- وإن كان لا يمكن منعه إلا بإتلاف نفسه؛ وجب قتاله.
- ما يجب على فاعله الإنكار بالحبس والتأديب، فلا يقوم به إلا الإمام أو نوابه.الفصل السابع والعشرون: وللمنكِر كسر آلة اللهو وكسر وعاء الخمر:
نَقَلَ العديد من أقوال العلماء في عدة مسائل متعلقة بالفصل، ومنها:
- متى يجوز كسر آلات اللهو؟ ونقل نصوصًا متعلقة بذلك، ومن النصوص الملخِّصة للأقوال في هذه المسألة:
- قال جماعة من أصحاب الإمام أحمد وغيرهم: وللمنكِر كسر آلة اللهو، وصور الخيال، ودق الصنوج([44])، وشق وعاء الخمر، وكسر دنه إن تعذر الإنكار بدون ذلك، وقيل: مطلقًا.
- هل يضمن من كسر هذه الآلات؟
- نَقَلَ من النصوص ما تدل على عدم وجوب الضمان مطلقًا.
- وقيل: يجب الضمان فيما ينقى بالغسل فقط.
- هل يجوز الكسر زجرًا؟ ونَقَلَ ما قاله الغزالي، وهو:
- إنما يكون الزجر عن المستقبل، والعقوبة على الماضي، والدفع عن الحاضر، وليس لآحاد الرعية إلا الدفع، وهو إعدام المنكر، فما زاد على قدر إعدام المنكر، فهو إما عقوبة على جريمة سابقة، أو زجر عن لاحق؛ وذلك إلى الولاة لا إلى الرعية، فللوالي أن يفعل ذلك إذا رأى المصلحة فيه.
- وفي التعليق على ما ورد في صدر الأمة من كسر أوعية الخمر، قال الغزالي: فكأن الفعل المنقول عن العصر الأول كان مقرونًا بمعنيين:
- أحدهما: شدة الحاجة إلى الزجر.
- الآخر: تبعية الظروف للخمر التي هي مشغولة بها، وهما معنيان مؤثران لا سبيل إلى حذفهما.
- ومعنى ثالث: وهو صدور هذا عن رأي صاحب الأمر؛ لعلمه بشدة الحاجة إلى هذا الزجر، وهو أيضًا مؤثر، فلا سبيل إلى إلغائه، فهذه تصرفات دقيقة فقهية، يحتاج الآمر بالمعروف، والناهي عن المنكر لا محالة إلى معرفتها.
- متى يُقال بالضمان لو كسر إناء الخمر تعذرًا في التخلص منها دون كسرها؟
- نَقَلَ كلام ابن مفلح: يقبل قول المنكِر في التعذر؛ لتيقن المنكَر، والشك في موجب التضمين، والأولى أن يُقال: إن كان ثمة قرينة وظاهر حال عمل بها، وإلا احتمل ما قال واحتمل الضمان للشك في وجوب السبب المسقط للضمان، والأصل عدمه([45]).
- تعرّض لما يجوز إتلافه، وهي:
- آلة التنجيم والسحر والتعزيم والطلمسات.
- آلات اللهو، وكما ذكر ابن القيم: يجوز إتلافها عند أكثر الفقهاء([46]).
- الصلبان.
- آنية الذهب والفضة.
- التصاوير.الفصل الثامن والعشرون: وجوب إنكار المستتر:
نَقَلَ من النصوص المتعلقة بإنكار المنكَر المغطَّى، ومما نقله:
- قال الغزالي: فاعلم أنّ من أغلق بابه، وتستر بحيطانه، فلا يجوز الدخول عليه بغير إذنه؛ لتعرف المعصية إلا أن يظهر في الدار ظهورًا يعرفه من هو خارج الدار:
- كأصوات المزامير والأوتار إذا ارتفعت، بحيث يجاوز ذلك حيطان الدار، فإن سمع ذلك فله دخول الدار، وكسر الملاهي.
- وكذلك إذا ارتفعت أصوات السكارى بالكلمات المألوفة بينهم، بحيث يسمعها أهل الشوارع؛ فهذا إظهار موجب الإنكار([47]).
- قال الغزالي: فإذا فاحت روائح الخمر:
- فإن احتمل أن يكون ذلك من الخمر المحترمة، فلا يجوز قصدها بالإراقة.
- وإن علم بقرينة الحال أنها فاحت؛ لتعاطيهم الشراب، فهذا محتمل، والظاهر جواز الإنكار([48]).
- قال الغزالي: فدلالة الشكل كدلالة الرائحة والصوت، وما ظهرت دلالته، فهو غير مستور، بل هو مكشوف، وقد أمرنا بأن نستر ما ستر الله، وأن ننكر على من أبدى لنا صفحته([49]).الفصل التاسع والعشرون: اختلاف الرواية عن أحمد في وجوب تحريق بيوت تجار الخمر:
نَقَلَ من النصوص ما يفيد ثبوت تحريق بيوت تجار الخمر، وعدم التحريق، ونقل الروايتين بنصوص عن الإمامين أحمد ومالك.
الفصل الثلاثون: كراهة النظر إلى التصاوير، وإباحة حكها من على الجدران:
ومما نَقَلَه من النصوص التي تلخِّص رأي الإمام أحمد:
- قال أبو بكر المروذي: قلتُ لأبي عبد الله -رحمه الله-: فالرجل يُدعى إلى وليمة فيرى سترًا فيه تصاوير؟ قال: لا ينظر إليها، فقلتُ: نظرتُ كيف أصنع؟ أحرقه؟ قال: تحرق أشياء الناس؟ ولكن إن أمكنك خلعه خلعته، قلتُ: فالرجل يكتري البيت فيه تصاوير، ترى أن يحكها؟ قال: نعم، وقلتُ: إن دخلت حمامًا فرأيتُ فيه صورة ترى أن أحك الرأس؟ قال: نعم([50]).الفصل الحادي والثلاثون: لا ضمان في تحريق الكتب كالتي فيها الأحاديث المفتراة على رسول الله:
نَقَلَ عن ابن القيم ما يؤكد ذلك، ومنه قوله -رحمه الله-:
- ولا ضمان في تحريق الكتب المضلة وإتلافها([51]).
- والمقصود: أن هذه الكتب المشتملة على الكذب والبدعة يجب إتلافها وإعدامها، وهي أولى بذلك من إتلاف آلات اللهو والمعازف، وإتلاف آنية الخمر، فإن ضررها أعظم من ضرر هذه.
الفصل الثاني والثلاثون: في الدرجة الخامسة أدبان:
ونَقَلَ عن الغزالي قوله في هذين الأدبين:
- أحدهما: ألا يباشر بيده التغيير ما لم يعجز عن التكليف ذلك بنفسه، فإذا أمكنه أن يكلفه المشي في الخروج عن الأرض المغصوبة والمسجد إذا كان جنبًا؛ فلا ينبغي أن يباشر ذلك بنفسه، فإذا لم يتعاط بنفسه ذلك كفى الاجتهاد فيه، وتولاه من لا حجر عليه في ذلك.
- والأدب الثاني: أن يقتصر في طريق التغيير على القدر المحتاج إليه، وهو ألا يأخذ بلحيته في الإخراج، ولا برجله إذا قدر على جره بيده، فإن زيادة الأذى فيه مستغنىً عنه، وألا يمزق ثوب الحرير، بل يحل دروزه فقط، ولا يحرق الملاهي والصليب الذي أظهره النصارى، بل يبطل صلاحيتها للفساد بالكسر، وحد الكسر أن يصير في حالة يحتاج استئناف إصلاحها إلى تعب يساوي تعب عملها في المرة الأولى من الخشب ابتداء([52]).
الفصل الثالث والثلاثون: الدرجة السادسة من درجات النهي عن المنكر: التهديد والتخويف:
وهذا كقول: دع عنك هذا، أو لأكسرن رأسك، أو لأضربن رقبتك، أو لأفعلن بك كذا وكذا، مما يشابه ذلك.
- ومما قاله الغزالي: وهذا ينبغي أن يقدم على تحقيق الضرب إذا أمكن تقديمه، والأدب في هذه الدرجة ألا يهدد بوعيد لا يجوز تحقيقه، كقوله: لأنهبن دارك، أو لأضربن ولدك، أو لأسبين زوجتك، وما يجري مجراه، بل إن قال ذلك عن عزم فهو حرام، وإن قاله عن غير عزم فهو كذب([53]).
- وقال الغزالي: نعم إذا تعرض لوعيده بالضرب والاستحقاق فله العزم عليه إلى حد معلوم، يقتضيه الحال، وله أن يزيد في الوعيد على ما هو في عزمه الباطن، إذا علم أن ذلك مما يقمعه ويردعه، وليس ذلك من الكذب المحذور، بل المبالغة في مثل ذلك معتادة، وهي في معنى مبالغة الرجل في إصلاحه بين شخصين، وتأليفه بين الضرتين، وذلك مما قد رخص فيه للحاجة، وهذا في معناه([54]).
الفصل الرابع والثلاثون: الدرجة السابعة: مباشرة الضرب باليد والرجل بلا شهر سلاح:
ومما ذكره في هذا الفصل:
- وذلك جائز للآحاد بشرط الضرورة، والاقتصار على قدر المنكر.
- كما قال الغزالي: ويراعي في ذلك كله التدريج، وكذلك يسل سيفه، ويقول: اترك هذا المنكر أو لأضربنك، فكل هذا دفع للمنكر، ودفعه واجب بكل ممكن، ولا فرق في ذلك بين ما يتعلق بخاص حق الله، وما يتعلق بالآدميين([55]).
- وقال الغزالي في مسألة: فلو علمنا أنه لو خلا بنفسه لقطع طرف نفسه، فينبغي أن نقتله في الحال؛ حسمًا لباب المعصية: قلنا: ذلك لا يعلم يقينًا ولا يجوز سفك دمه بتوهم معصية، ولكننا إذا رأيناه في حالة مباشرة القطع دفعناه، فإن قاتلنا قاتلناه، ولم نبال ما يأتي على روحه([56]).
- قال بعض العلماء: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باليد على الأمراء، وباللسان على العلماء، وبالقلب على العوام من الناس.
وهذا القول ضعيف فإن الأمر والاستطاعة عامان.
الفصل الخامس والثلاثون: الدرجة الثامنة للنهي عن المنكر الاستعانة بأعوان من أهل الخير لإزالة المنكر:
ومما ذكره في هذا الفصل:
- في هذه الدرجة: ألا يقدر على إزالة المنكر بنفسه، ويحتاج فيه إلى أعوان، يستعين بهم من أهل الخير، فإن لم يزل المنكر فبأعوان السلطان وغيرهم من أهل الشر، يشهرون السلاح، وربما يستمد الفاسق بأعوانه، ويُؤدي ذلك إلى أن يتقابل الصفان ويتقاتلا.
- اختلف العلماء في اشتراط إذن الإمام للقيام بهذه الدرجة، وممن أجاز دون هذا الشرط الغزالي.
- ثم تحدّث عن مسألة الاستعانة بالأعوان:
- فلا يُستعان بأهل الأهواء والبدع في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ولا في شيء من أمور المسلمين.
- ونَقَلَ من النصوص ما يجيز الاستعانة بأهل الكتاب في بعض الأمور التي يسلطون فيها على المسلمين.
الفصل السادس والثلاثون: وترتيب درجات النهي عن المنكر مقتبسة من إشارات بعض آيات التنزيل:
حيث ذكر أنه وجد شاهدًا من القرآن لترتيب هذه الدرجات؛ وذلك في قوله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحديد: 25].
الجزء الثالث:
الباب الثالث: طبقات الناس من الآمرين والمأمورين والمتخلفين:
بعد ذكره لحديث أقسام الناس مع الهدى والعلم الذي جاء به رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ذكر أن أقسام الناس في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر ثلاثة، وهم:
- قسم يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر.
- قسم مأمورون منهيون.
- قسم متخلفون عن ذلك، معرضون عما هنالك.
- وكل قسم من هذه الأقسام ينقسم إلى طبقات معروفة، ومراتب مشهورة مألوفة.
- القسم الأول: عليهم المدار والمعول، وطبقاتهم تختلف بقدر النيات، وتنقسم لثمانية أقسام، وهي:
- الطبقة الأولى: هم العلماء العاملون، والعباد المتزهدون، أرباب القلوب والعزائم، لا تأخذهم في الله لومة لائم، وأصحاب الرفق النبوي.
- الطبقة الثانية: هي من الأولى دانية، وهم قوم من أهل العلم والعمل، والقيام بما يرضي الله -عز وجل-، فاقهون لغوامض الأحكام، سابقون إلى الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ولكن عندهم حدة في التغيير، وفاتهم الرفق.
- الطبقة الثالثة: قوم عالمون بما يأمرون، عارفون بما يقولون ويفعلون، لكنهم بالآفات المفسدة للأمر والنهي جاهلون، فيقعون في إساءة ظن، أو تجسس، أو احتقارًا لمن يُنكر عليه.
- الطبقة الرابعة: قوم صالحون، غير أنهم لا يعرفون قواعد الأمر بالمعروف، ولا يحققون مراتب النهي، فهؤلاء على قسمين:
- عندهم الرفق، والصبر على الأذى.
- تقيمهم الغيرة، ولكن كلامهم يشتمل الطيش والعجلة والعنف، إذا نزل بهم ما يكرهون لا يحتملون، ولا يصبرون، مرتكبون بالسب واللعن والغيبة محظورًا.
- الطبقة الخامسة: قوم من العوام، رُزقوا بين الناس القبول، ويأمرون خبطًا، ولا يعرفون للمأمورات والمنهيات شرطًا، من أرضاهم تركوه، ومن أغضبهم لم يتركوا الإنكار عليه.
- الطبقة السادسة: هم في الجهل بالأمر والنهي كالطبقة الخامسة، ولكنهم أهل الأسواق، وعامة الناس على الإطلاق، يهيجهم على الإنكار عقد الإيمان؛ فينكرونه مع غفلتهم عما يقولون ويفعلون.
- الطبقة السابعة: دون التي قبلها؛ لخستها، ودناءة أهلها، وهم قوم نصبوا أنفسهم لذلك رياء وسمعة، واكتسابًا للمحامد بين الناس والرفعة، واستجلابًا لقلوبهم، وهم فريقان:
- عالمون بما يأمرون.
- جاهلون بما يقولون ويفعلون.
- الطبقة الثامنة: القبيحة، حيث لم يكن لأهلها نية صحيحة، يقومون بذلك على الضعفاء، ويقصرون عن الأقوياء والشرفاء.الفصل الأول: طبقات المنهيين:
الطبقة الأولى: بعض الخلفاء والسلاطين، والأمراء والمتجبرين، وأرباب الحكم والرئاسة، والمنتمين إليهم من أهل الفخر والنفاسة: وكل منهم يقصد أذى من يأمره بحبسه وتجبره، فهذا ممن لا يترك العصيان، ولا يرجع بجبروته عن الطغيان.
- يجب على المأمور بالمعروف، المنهي عن المنكر: أن يتلقى الأمر والنهي بالقبول، من غير أن يتأثر بعزة نفس وتكبر، يمنعه من قبول الحق، وألا يلقى النصح بالشر، فيعمه الذم والتوعد.
- كان السلف يحبون من أمرهم ونهاهم، وأهدى إليهم عيوبهم.
- ذكر الغزالي: أن من ذمك، وأظهر النصح، له ثلاث حالات:
- الحالة الأولى: إن كان صادقًا، وقصده النصح؛ فلا ينبغي أن تذمه، وتغضب عليه وتحقد بسببه، بل ينبغي أن تتقلد منته.
- الحالة الثانية: إن كان قصده التعنت، فأنت قد انتفعت بقوله، وأما قصد العدو التعنت فجناية منه على دين نفسه، وهو نعمة عليك.
- الحالة الثالثة: أن يفتري عليك بما أنت بريء منه عند الله، فينبغي ألا تكره ذلك العيب، ولا تشتغل بذمه، بل تتفكر في ثلاثة أمور:
- أنك خلوت من ذلك العيب، فلا تخلو عن أمثاله، وما ستر الله من عيوبك أكثر، فاشكر الله، إذ لم يطلعه على عيوبك، ودفعه عنك بذكر ما أنت بريء منه عند الله.
- الأمر الثاني: أن ذلك كفارات لبقية مساوئك وذنوبك، وكأنه رماك بعيب أنت بريء منه، وطهرك من ذنوب أنت ملوث بها، وكل من اغتابك فقد أهدى إليك حسناته، وكل من مدحك فقد قطع ظهرك، فما بالك تفرح بقطع الظهر، ولا تفرح بهدايا الحسنات التي تقربك إلى الله.
- الأمر الثالث: أن المسكين جنى على دينه، حتى سقط من عين الله، وأهلك نفسه بافترائه، وتعرّض لعقابه الأليم، فلا ينبغي أن تغضب مع غضب الله، فتشمت الشيطان به، وتقول: اللهم أهلكه، بل ينبغي أن تقول: اللهم أصلحه، اللهم تب عليه([57]).
الطبقة الثانية: من ليس له وجاهة بين العوام، لكنهم أوغاد أغمار لئام، مرفوعون على الناس ببعض وصلة بالدولة، ولكل منهم بحسب إيصاله صولة، ذكرهم بالقبائح قد ملأ الأقطار، ويكفيهم اتسامهم بالأشرار، فإن أُمروا أو نهوا لا يسمعون، وإن أُرهبوا لا يرهبون.
الطبقة الثالثة: قوم طمس الله على قلوبهم، فلم يهدهم إلى نظر عيوبهم، يؤمر أحدهم فلا يسمع، وينهى عن المنكر فلا يرجع، ولا ينزع.
الطبقة الرابعة: قوم أصروا على معاصيهم استكبارًا، يقاتلون من يأمرهم بالقول السيء جهارًا، كما شوهد، ونسمع مرارًا مثل قول بعضهم: صار فرعون مذكّرًا، أو بقي هامان في زماننا آمرًا، ثم يحمله شيطانه إلى التعدي إلى البهتان، فيقول لآمره: نسيت نفسك “لا إله إلا الله” يا فلان.
الطبقة الخامسة: من يقبل الأوامر والنواهي علانية وجهرًا، وإذا ارتكب الذنوب خفية وسرًا، فيكون قبوله للأمر والنهي تقية، وإذا غاب عمن يأمره عاد إلى البرية، حيث لا يكون أحد مما يخافه لديه، فيجعل الله تعالى أهون الناظرين إليه.
الطبقة السادسة: من يسمع ويطيع، وتؤثر فيه المواعظ، والتقريع، فيحدث توبة خالصة في الوقت، رغبة في الثواب، ورهبة في المقت، ولا يتأخر عن ذلك ساعة ولا دقيقة، ويعقد مع الله عهودًا أكيدة ووثيقة بعدم العودة إلى ما كان عليه، وندم على ما أسلف من الذنوب بين يديه.
الفصل الثاني: أقسام التائبين الذين تأثروا بالموعظة:
أهل هذه الطبقة أربعة أقسام:
- تائب يستقيم على التوبة إلى آخر عمره.
- تائب يستمر على الاستقامة مدة، ثم يقارف بعض الذنوب، فيتعدى حده، ويقدم عليها من قصد وشهوة وجرأة وقوة، مع مواظبة على الطاعات، وملازمة كثير من العبادات.
- تائب يستمر على التوبة أيامًا معدودة، ثم يعود إلى مقارفة الذنوب.
الفصل الثالث: المتقاعسون عن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر:
وهم على طبقات، بحسب الغرض، وكلها مذمومة، وبعضها شر من بعض، في ترك القيام بهذا المفترض:
الطبقة الأولى: تركوا القيام بذلك إيثارًا للدنيا على الدين، فإن سنح لأحدهم أن يأمر وينهى، عارضه الخناس بما يلائمه ويهوى، وزين له ترك ما عزم عليه من إنكار المنكر، من وجوه كثيرة لا تحصى ولا تعد.
من أعظمها: أن يقول له: متى أمرت هذا، أو نهيت، أوصلك شره، وقطع عنك خيره وبره؛ فيقبل منه، ويترك الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر بجهله.
الطبقة الثانية: من يخاف على ماله، وذهاب جاهه، وزوال حاله، فتراه شحيحًا بنذر يسير، سخيًا بذهاب دينه الخطير، لا ينكر منكرًا إذا رآه خوفًا على ذهاب دنياه، ولا يتكلم كلمة لله، رهبة من سقوط الجاه.
الطبقة الثالثة: من يروح في بر الجيران، ويغلظ في إحسان الأقران؛ فيسكت عما يراه من المنكرات؛ لما لهم من الأيادي والواصلات.
الطبقة الرابعة: من يرى محبة الناس له على السكوت أكثر، فيترك الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، مصانعة لهم أن لا يمقتوه، وتقية من أن يبغضوه.
الطبقة الخامسة: كالتي قبلها في القرب، من حيث التماس الإكرام والمحمدة والحب، فهم في مدح الخلق على ترك الأمر والنهي يرغبون، وللثناء عليهم بذلك يفرحون، يسر الواحد منهم بقول الناس: فلان عاقل، لا يعترض على أحد؛ فكلما سمع ذلك نفخ فيه الشيطان فأغواه.
الطبقة السادسة: من يترك ذلك تكبرًا وعجبًا، ويقصر عن القيام به فيزداد عن ربه بعدًا، يرى أن القيام بذلك يضيع من قدره، ويهضم من رتبته بين الناس([58]).
الطبقة الثامنة: قوم من أهل الزهادة، والاجتهاد في حسن العبادة، ولكن إذا عرض لأحدهم منكر، لم يشتغل بإزالته خوفًا أن يقطعه ذلك عن عبادته.
الفصل الرابع: غربة الآمرين الناهين بين أهل الفساد:
ذَكَرَ في هذا الفصل من الأحاديث والآثار ما يتعلق بغربة أهل الدين، ومما ذكره من فوائد:
- قوله -صلى الله عليه وسلم-: “بدأ الإسلام غريبًا”([59])، بدأ معناه في آحاد من الناس وقلة، ثم انتشروا وظهر، ثم يلحقه النقص والاختلال، حتى لا يبقى إلا في آحاد من الناس وقلة-أيضًا-كما بدأ.
- الغرباء فقد جاء تفسيرهم في هذه الأحاديث:
- “وهم النزاع من القبائل”([60]): يعني: الذين قلّوا، فلا يوجد في كل قبيلة منهم إلا الواحد والاثنان، وقد لا يوجد في القبائل والبلدان منهم أحد، كما كان في أول الإسلام.
- وفي الحديث: “الذين يصلحون إذا فسد الناس”([61]): يعني: هم قوم صالحون عاملون بالسنة في زمن الفساد.
- وفي حديث آخر: “الذين يُصلحون ما أفسده الناس”([62]) يعني: من السنة.
- وفي رواية: “المتمسكون بما أنتم عليه اليوم”([63]).
- وفي الحديث الآخر: “الذين يزيدون إذا نقص الناس”([64]) يعني: يزيدون خيرًا وإيمانًا وتقى إذا نقص الناس.
- المراد بالسنة: طريقة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وطريقة أصحابه، وهي عبارة عما يسلم من الشبهات في الاعتقادات، ومسائل الإيمان، ومسائل القدر، وغير ذلك.
- الغربة غربتان: غربة ظاهرة، وباطنة:
- الغربة الظاهرة نوعان:
- الأول: غربة الحال([65]).
- الثاني: غربة الحال: والحال هنا هو الوصف القائم به المؤمن من الدين، والتمسك بالسنة وهي غربة أهل الصلاح بين الفساق، وغربة الصادقين بين أهل الرياء والنفاق، وغربة العلماء بين أهل الجهل، وسوء الأخلاق، وغربة علماء الآخرة بين علماء الدنيا، الذين سلبوا الخشية والإشفاق، وغربة الزاهدين بين الراغبين في كل ما ينفد، وليس بباقٍ.
- الغربة الباطنة: غربة الهمة، وهي غربة العارف بين الخلق كلهم، حتى العلماء والعباد والزهاد، فإن أولئك واقفون مع علمهم وعبادتهم وزهدهم، وهؤلاء واقفون مع معبودهم، لا يعرجون بقلوبهم عنه.
- فالغربة ثلاثة: غربة أبدان، غربة أفعال، غربة همم.
الفصل الخامس: ابتلاء الله الفقهاء ببعض العصاة لهم:
ذَكَرَ من الأدلة والآثار ما يُؤكد هذا المعنى، ومما ذكره من فوائد:
- لا يخلو الأنبياء من الابتلاء بالجاحدين، وكذلك لا يخلو الأولياء والعلماء والآمرون بالمعروف، والناهون عن المنكر عن الابتلاء بالجاهلين؛ لأن منزلة الآمرين تلي منزلة الأنبياء.
- من جملة ما يرسله الله -سبحانه وتعالى- إلى عبده من البلاء، أن يقيض له، ويسلط عليه من بعض خلقه من يقصده بالأذى، وكان لنبينا -صلى الله عليه وسلم- أوفى نصيب من ذلك.
- يفعل الله سبحانه بعبده المؤمن رفعًا لدرجاته التي لا يبلغها إلا بفوادح البلاء.
- ينوع الله تعالى على العبد من البلاء حماية له من الافتتان بها، وتزهيدًا له فيها بالبلاء؛ كيلا يطمئن إليها، ويألف محبتها، فيقطعه ذلك عن منازل الآخرة، فيبتليه سبحانه تعويضًا له، وترسيخًا لمقام الولاء؛ ليضعف صورة نفسه، ويذيب صفات بشريته، ويقطع بالفقر والذل عنه مواد الهوى، وزينة الدنيا.
الفصل السادس: ذل المؤمن لغربته بين الفساق:
ومما ذكره في هذا الباب:
- يعظم ذل المؤمن في آخر الزمان لكثرة الفسق وغربته بين أهله، فكلهم يكرهه ويؤذيه؛ لمخالفة طريقه لطريقهم، ومباينته لهم فيما هم عليه، لا سيما إن أمرهم بمعروف، أو نهاهم عن منكر.
- لا يميل أكثر الناس إلا إلى الأسهل والأوفق لطباعهم؛ فإن الحق مر، والوقوف عليه صعب، وإدراكه شديد، وطريقه مستوعر.
الفصل السابع: معاداة العصاة للآمرين بالمعروف، والناهين عن المنكر:
ذَكَرَ من الآيات والآثار والأشعار ما يُؤيد هذا العنوان، ويُؤكد قوله:
- جرت عادة الله التي لا تبدل، وسنته التي لا تحول في خلقه، لا سيما في زماننا هذا: أن من عظمت منزلته، وتزايدت رتبته، وتردد الناس في حوائجهم إليه، وعولّوا في أمورهم على الله، ثم عليه، يقصدهم الأعداء من أمراضهم الكامنة في النفوس، وانحراف كل قلب مسود منكوس.
- أجرى سبحانه عادته في خلقه أيضًا أن الأشرار يكرهون الأخيار، وينفرون لرؤيتهم، لما بينهم من المباينة الظاهرة والباطنة.
الفصل الثامن: حسد الفساق للعلماء، وتمنيهم إضلالهم:
ومما ذكره في هذا الفصل ما صدّر به الفصل من قاعدة تُعدّ تلخيصًا للفصل، وهي:
- في الغالب ما يحمل أهل الفساد إخوان الشيطان على معاداة الصلحاء، لا سيما الآمرين بالمعروف، والناهين عن المنكر، وسلب أعراضهم بالافتراء والبهتان، إلا الحسد المذموم الذي حقيقته التأذي بما يتجدد من نعم الله عليه من خيري الدنيا والآخرة، سواء أراد انتقالها إليه أم لا؛ لأن أعظم النعم الإقبال على الله باجتناب نهيه، وامتثال أمره، وملازمة طاعته، ومداومة ذكره، لكن لكل نعمة حاسد، وعلى كل فضل معاند.الفصل التاسع: وجوب إيثار الآمر الناهي رضا رب العباد على رضا العباد.
لقد صدّر الفصل بجملة تُعدّ تلخيصًا للفصل، وهي:
- الذي يتعيّن على الآمر الناهي: أن يُعرض عن ملاحظة الناس له في المدح والذم، وعن رضاهم عنه، ويؤثر رضا الله سبحانه على رضاهم، مع أن العبد إذا آثر رضا سيده الله كفاه مؤنة غضب الخلق، بل يرضيهم عنه، وإذا آثر رضاهم لم يكفوه مؤنة غضب الله عليهم، بل إذا غضب الله على عبد أغضب عليه عباده.الباب الرابع: بيان ما يُستحب من الأفعال والأقوال والأحوال في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر:
قدّم للباب بمقدمة قبل ذكر فصول الباب، وبيّن أن أول ما يُستحب للآمر الناهي، بل لكل عامل: هو النية الصالحة، ومما ذكره:
- ينبغي للآمر الناهي: أن ينوي إبادة المعاصي، وما يكره الله تعالى، وتنظيف البقاع من المنكرات، وإعلاء كلمة الحق، وإظهارها، والسعي في توبة أهل الجرائم والآثام، وتخليص أديانهم، وأعراضهم من القاذورات التي لا تليق.
- ينبغي للآمر الناهي والمعلم: إخلاص النية في تعليم أحكام ربه تعالى، وإصابة الحق، والصواب في أقواله وأفعاله، وألا يختار بنيته أن يكون هو الذي يأتي الصواب في أقواله وأفعاله، بل يختار إظهار الحق من أي جهة كان.
الفصل الأول: الآمر الناهي كالطبيب:
ومما ذكره في هذا الفصل من فوائد:
- قال أبو العباس ابن تيمية: وهكذا ينبغي أن يكون فيه, وفي الأمر في إقامتها، فإنه متى كان قصده صلاح الرعية، والنهي عن المنكرات، بجلب المنافع إليهم، ودفع المضار عنهم، وابتغى بذلك وجه الله تعالى، كانت نيته صالحة، وسبب التيسير أسباب الخير عليه، وتعظيم حرمته، وزيادة هيبته، ويرضى المأمور بالمعروف المنهي عن المنكر والمحدود غالبًا إذا قام عليه الحد.
- وأما إذا كان غرض الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر العلو في الناس بإقامة رياسته؛ ليعظموه، أو يبذلوا له ما يريد من الأموال، انعكس عليه مقصوده، وتعسرت الأسباب دونه، وقلّت بركته، وتناقصت هيبته في الدنيا، ولم يكن له في الآخرة من نصيب([66]).
الفصل الثاني: يستحب للآمر الناهي العلم والورع، وحسن الخلق:
ومما ذكره في هذا الفصل من فوائد:
- ليكن الآمر الناهي عالماً بمواقع الأمر والنهي وحدوده، ومجاريه، ويقتصر على حد الشرع فيه؛ ليدفع به جهل الجاهلين، وإلا كان ما يفسده أكثر مما يصلحه.
- الورع: هو التوقف في كل شيء، وترك الإقدام عليه إلا بإذن الشرع.
- تظاهرت الأدلة من الكتاب والسنة على استحباب الورع مطلقًا.
الفصل الثالث: تأكد ورع الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر بالإعراض عما في أيدي الناس:
ومما ذكره في هذا الفصل من فوائد:
- يتأكد لزوم الورع للآمر الناهي، سيما بالإعراض عما في أيدي الناس بقطع المطامع؛ لأنها مذهبة للهيبة، حيث كان غضبه لغرض دنيوي، وكذلك سروره.
- الطمع هو تعلق النفس بإدراك مطلوب تعلقًا قويًا.
- الطمع أشد من الرجاء؛ لأنه لا يحدث إلا عن قوة ورغبة، وشدة إرادة، فإذا اشتد صار طمعًا، وإذا ضعف كان رغبة ورجاء.
- من لم يكن متورعًا عما في أيدي الناس، ومتورعًا في أمره ونهيه عن الميل إلى الهوى، فإن كلامه لا يصير مقبولًا، والناس يهزؤون به إذا أنكر عليهم، وربما أورث ذلك جرأة عليه.
الفصل الرابع: وجوب اتصاف الآمر بالمعروف الناهي عن المنكر بحسن الخلق:
ومما ذكره في هذا الفصل من فوائد:
- من شأن المعلم الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر: التحلي بمكارم الأخلاق، وسعة الصدر؛ ليتحمل جفاء العامة، وغلظهم له؛ فوجب أن يكون محل الفضائل، وسعة الصدر.
- لا يتم الأمر والنهي إلا مع حسن الخلق، والقدرة على ضبط الشهوة والغضب، ويحتاج ذلك إلى قوة دينية، وقد جاء ذم سوء الخلق في غير ما حديث مأثور، وأثر صحيح مشهود.
الفصل الرابع (مكرر): في ذم الغضب:
ذكر من الأحاديث ما تحث على ترك الغضب، والمنع منه.
الفصل الخامس: فضيلة كظم الغيظ:
ومما ذكره من فوائد في هذا الفصل:
- المقصود: أنه يحسن الخُلق بكظم الإنسان غيظه، وبه يصير الآمر بالمعروف، الناهي عن المنكر صابرًا على ما أصابه في دين الله تعالى، وإلا فإذا أصيب عرضه، أو نفسه بشتم أو ضرب لنسي الأمر بالمعروف، وغفل عن دين الله تعالى، واشتغل بنفسه، بل ربما يطلب الجاه والاسم، وغير ذلك.
- ليكن الآمر الناهي حذرًا من نفسه، مفتقدًا لمجاري الغضب المفسد للدين، وإلا كان ما يفسده أكثر مما يصلحه.
الفصل السادس: أساليب إذهاب الغضب:
حيث ذَكَرَ أساليب إذهاب الغضب، مستدلًا بما ورد من أحاديث، وهذه الأساليب هي:
- الاستعاذة.
- ذِكْر الله تعالى وذكر وعده ووعيده.
- ذِكْر نار جهنم.
- السكوت.
- الجلوس إذا كان قائمًا، والاضطجاع إذا كان قاعدًا.
- الوضوء.
الفصل السابع: استحباب الغضب عند انتهاك حرمات الله:
- حيث ذَكَرَ من الأحاديث الصريحة بغضب النبي -صلى الله عليه وسلم- في أمور الدين، وما يتعلّق بحقوق المسلمين؛ لأنه كان مع لينه ولطفه إذا انتهكت حرمات الله، لم يقم لغضبه شيء.
- لم يكن النبي -صلى الله عليه وسلم- يواجه أحدًا بما يكره، بل كانت تعرف الكراهة في وجهه.
- ينبغي للمؤمن أن يغضب لله سبحانه إذا انتهكت حرماته، لكن يكون غضبه غير مخرج إلى حد الانحراف، إلى قول ما لا يحل، وفعل ما لا يجوز له.
- قال بعضهم: الفرق بين الغضب للحق والغضب للنفس: أن الغضب للحق كرجل رأى منكرًا فغار لله -عز وجل-، ولمحق ذلك المنكر وإبطاله فهو محمود، والغضب للنفس فهو كرجل رأى منكرًا فحميت نفسه؛ لأنه رجع إلى نفسه، فقال بين يدي مثل هذا؟! ولقد استهزئ بقدري، واجترئ عليّ، فهذا الغضب مردود، والإنكار فيه غير مقبول.
الفصل الثامن: وجوب حذر الغاضب عند انتهاك حرمات الله من الشوائب الدنيوية:
حيث ذَكَرَ أثرًا من الإسرائيليات عن المنكِر على من عبد شجرة، فتربص به الشيطان، وتحايل عليه ليغير نيته، ويدخل فيها من الشوائب، وهذا الأثر يُظهر خطورة انتهاك حرمات الله تعالى، وأثرها في عدم تحقق المراد من الإنكار.
الفصل التاسع: استحباب الحلم والعفو للآمر بالمعروف الناهي عن المنكر:
تعرّض لبعض الآيات التي تدل على ذلك، وتعرّض لتفسيرها، ومما ذكره من الفوائد:
- واجب على الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر عند جهل الجاهلين: الإعراض عنهم، وعدم مقابلتهم، والانتقام منهم لنفسه إذا سفهوا عليه.
- العفو عمن ظلم، والإحسان إلى من أساء من أخلاق الصديقين، لكن إنما يحسن الإحسان إلى من ظلمك، فأما من ظلم غيرك، وعصى الله به، فلا يحسن الإحسان فيه؛ لأن في الإحسان إلى الظالم إساءة إلى المظلوم، وهو أولى بالمراعاة، وتقوية قلبه بالإعراض عن الظالم؛ لأن ذلك أحب إلى الله، فأما إذا كنت أنت المظلوم، فالأحسن في حقك العفو والصفح والاحتمال.
الفصل العاشر: أحاديث في مدح الرفق، وذم تاركه:
ذَكَرَ الأحاديث، ومن الفوائد المذكورة في الفصل:
- ينبغي للآمر بالمعروف، والناهي عن المنكر: أن يستعمل في جميع أموره مراعاة المصالح من الرفق وغيره.
- قال العلماء: الفحش التعبير عن الأمور القبيحة بعبارة صريحة.
الفصل الحادي عشر: تأكد استحباب الرفق للآمر بالمعروف الناهي عن المنكر:
ذَكَرَ الأحاديث، ومما ذكره من فوائد:
- قال الإمام الجويني: الشرع من أوله إلى آخره أمر بالمعروف، ونهي عن المنكر، والدعاء إلى ذلك يثبت لكافة المسلمين، إذا قدموا على بصيرة، وليس للرعية إلا المواعظ والترغيب والترهيب.
- ينبغي لمن سلك طريق أهل الدين أن يكون رفيقًا، لا سيما للمأمور القاصر بالمعصية على نفسه في مبادئ الأمر والنهي، لعل الله تعالى أن يستنقذه مما هو فيه ببركة الرفق؛ لأنه أشرف أخلاق الآمرين والناهين.
الفصل الثاني عشر: وجوب حذر الآمر الناهي من رفق المداهنة لبلوغ غرض دنيوي:
ومما ذكره من الفوائد:
- ليُحذر من آفة الرفق، وهو أن يكون رفقه عن مداهنة، أو استمالة للقلوب، أو الوصول إلى غرض، أو لخوف من تأثير، وخشية بظن قريب أو بعيد، وكل ما يراه أميل إلى هواه وطبعه فالأولى له تركه.
- الكامل من يميز مواضع الرفق عن مواضع العنف، فيعطي كل ذي حق حقه.
- استعمال الرفق واللين في الأمر والنهي إلا لمعلن بالفسق، أو مجاهر بالمعصية؛ لأن الرفق محمود مفيد في أكثر الأحوال، وأغلب الأمور، والحاجة إلى العنف قد تقع.
الفصل الثالث عشر: وجوب اتصاف الآمر بالمعروف الناهي عن المنكر بالحلم والعفو:
ذَكَرَ من الآيات والأحاديث والآثار ما يدل على ذلك.
الفصل الرابع عشر: على الآمر بالمعروف الناهي عن المنكر أن يقابل إساءة المأمورين بالإحسان:
مما ذكره في هذا الفصل من فوائد:
- جميع ما تقدم ذكره في الفصول السابقة يتضمن التغافل، وترك المقابلة على الإساءة، ونسيان الأذى.
- فوق كل ذلك درجة وهي الإحسان إلى من أساء إليك، ومعاملته بضد ما عاملك به، بل يعتذر إليه، ويستغفر لديك.
- تكون هذه المعاملة صادرة عن سماح، وطيب نفس، وانشراح صدر، لا عن كظم غيظ ومصابرة، ولم يكن كمال هذه الدرجة لأحد سوى نبينا -صلى الله عليه وسلم-، ثم للورثة منها بحسب سهامهم من التركة.
- أحاديث حلم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعفوه عند المقدرة، وإحسانه إلى من أساء إليه، أكثر من أن يُؤتى عليها، وكذلك أصحابه والتابعون وتابعوهم والصالحون.
الفصل الخامس عشر: عفو الناهي عن المسيء يورثه عزًّا:
ذَكَرَ من الأحاديث ما يُؤيد ذلك.
الفصل السادس عشر:
صدّره بقوله، ومن أحسن ما نُقل في العفو، ثم ذكر آثار عن الصالحين.
الفصل السابع عشر: استحباب الأناة، والتثبت للآمر الناهي:
مما ذكره من فوائد:
- الأناة هي التثبت في الأمور، والسكون، وترك العجلة، والتأني والمكث والإبطاء، وهي محمودة.
- العجلة هي التقدم فيما لا ينبغي التقدم فيه، وهي مذمومة.
- السرعة محمودة، وهي التقدم فيما ينبغي التقدم فيه.
- الفرق بين المبادرة والعجلة:
- المبادرة هي الإسراع في أمر هو حق الله -عز وجل-، ويخاف عليه الفوت، فالعبد محمود في الإسراع فيه.
- العجلة بالإسراع في أمر على قضاء الشهوة والتهمة، وإدراك المنية، لا لله تعالى، ولا وجهه.
- المقصود: أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يكون بعد البصيرة والمعرفة، والبصيرة تحتاج إلى تأمل ومهلة، والعجلة تمنع من ذلك.
- قال العز بن عبد السلام: الأفعال ضربان:
- أحدهما: ما خفي عنا مصلحته، فلا تقدم عليه، حتى تظهر مصلحته المجردة عن المفسدة، أو الراجحة عليها، وهذا الذي جاءت الشريعة بمدح الأناة فيه، إلى أن يظهر رشده وصلاحه.
- الضرب الثاني: ما ظهرت لنا مصلحته، وله حالان:
- أحدهما: ألا تعارض مصلحته مفسدته، ولا مصلحة أخرى، فالأولى تعجيله.
- والثانية: أن تعارض مصلحته مصلحة هي أرجح منه، مع الخلو عند المفسدة، فيُؤخر عند رجاء الحياة، وإلى تحصيله، وإن عارضته مصلحة تساويه قدمت مصلحة التعجيل لما ذكرناه فيما خلا عن المعارض([67]).
الفصل الثامن عشر: ويستحب للآمر بالمعروف الناهي عن المنكر قصد نصح جميع الأمة:
مما ذكره في هذا الفصل من فوائد:
- يستحب للآمر بالمعروف الناهي عن المنكر قصد نصح جميع الأمة، بأن يريد لغيره من الخير ما يريد لنفسه.
- قال العلماء: النصح إخلاص النية من شوائب الفساد في المعاملة، بخلاف الغش.
- لقد أكرم الله هذه الأمة بالصديقين خاصة، كما خصّ بني إسرائيل بالأنبياء عامة، فجعل المرسلين أهل الشرع، وجعل الأنبياء أهل الإنذار، وجعل الصديقين أهل النصيحة والبيان.
- النصيحة فرض على الكفاية، فيجزئ فيه من قام به، وسقط عن الباقين؛ لأنها محض الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.
- النصيحة لازمة على قدر الطاقة، إذا علم الناصح أنه يُقبل منه نصحه، ويُطاع أمره، وأمن على نفسه المكروه، فإن خشي أذى فهو في سعة.
- قال النووي: اعلم أن هذا الباب تتأكد العناية به؛ فيجب على الإنسان النصيحة والوعظ والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، لكل كبير وصغير، إذا لم يغلب على ظنه ترتب مفسدة على وعظ.
- قال بعض السلف: أحوج الناس إلى النصيحة الملوك؛ لما ابتلاهم الله به من سياسة الخلق، وأوجب عليهم من القيام بالحق.
- وأما ما يفعله كثير من الناس من إهمال ذلك في حق كبار المراتب، ويتوهم أن ذلك حياء فخطأ صريح، وجهل قبيح، فإن ذلك ليس بحياء، وإنما جور ومهانة وضعف وعجز، فإن الحياء خير كله، والحياء لا يأتي إلا بخير، وهذا يأتي بشرٍ فليس بحياء، وإنما الحياء عند المحققين والعلماء الربانيين خلقٌ يبعث على ترك القبيح، ويمنع من التقصير في حق ذي الحق.
الجزء الرابع من الكتاب:
وبدأه بإكمال الفصل الثامن عشر: ويُستحب للآمر بالمعروف الناهي عن المنكر قصد نصح جميع الأمة، ومما ذكره من فوائد:
- قال العلماء: وأما الكافر فليس على المسلم أن ينصحه.
- قال الغزالي: فإن قلتَ: فمتى يصح للإنسان يشتغل بنصح الناس؟
فأقولُ: إذا لم يكن له قصد إلا هداية الخلق لله تعالى، وكان يود لو وجد من يعينه، أو لو اهتدوا بأنفسهم، وانقطع بالكلية طمعه عن شأنهم، وعن أموالهم، فاستوى عنده مدحهم وذمهم، ونظر إليهم كما ينظر إلى السادات وإلى البهائم، أما السادات فمن حيث لا يتكبر عليهم، ويرى كلهم خيرًا منه بجهله بالخاتمة، وأما البهائم فمن حيث المنزلة في قلوبهم([68]).
- ينبغي أن تكون النصيحة سرًا بين الناصح والمنصوح له.الفصل التاسع عشر: ومما يُستحب للآمر بالمعروف أن يكون قصده رحمة الخلق، والنفقة عليهم:
ومما ذكره في هذا الفصل:
- ينبغي للآمر بالمعروف، والناهي عن المنكر: أن يكون كالوالد إذا أدّب ولده، فإنه لو كف عن تأديبه كما تفعل الأم رقة ورحمة لفسد الولد، وإنما يؤدبه رحمة به، وإصلاحًا لحاله، مع أنه يود ويؤثر ألا يحوجه إلى تأديب بعد ذلك.
- ليس من مقتضى رحمة أهل المعاصي ترك الإنكار عليهم، واستيفاء الحدود منهم، وغير ذلك؛ بل من كمال الرحمة الإنكار عليهم.
الفصل العشرون: ومما يستحب للآمر بالمعروف الناهي عن المنكر ستر العورات والعيوب:
مما ذكره في هذا الفصل من فوائد:
- ستر العيوب والتجاهل والتغافل عنها سمة أهل الدين.
- قال النووي:
- وأما الستر المندوب إليه هنا، فالمراد به الستر على ذوي الهيئات ونحوهم، ممن ليس معروفًا بالأذى والفساد.
- وأما المعروف بذلك، فيستحب ألا يستر عليه، بل ترفع قضيته إلى ولي الأمر، إن لم يخف من ذلك مفسدة؛ لأن الستر على هذا يطمعه في الإيذاء والفساد، وانتهاك المحرمات، وجسارة غيره على مثل فعله، وهذا كله في ستر معصية وقعت انقضت.
- أما مسألة معصية يراه عليها، وهو متلبس بها، فتجب المبادرة بإنكارها عليه، ومنعه منها على من قدر على ذلك، ولا يحل تأخيرها، فإن عجز لزمه رفعها إلى ولي الأمر، إذا لم تترتب على ذلك مفسدة([69]).
- وقال النووي: وأما الرواة والشهود والأمناء على الصدقات والأوقاف والأيتام ونحوهم، فيجب جرحهم عند الحاجة، ولا يحل الستر عليهم إذا رأى منهم ما يقدح في أهليتهم، وليس هذا من الغيبة المحرمة، بل من النصيحة الواجبة، وهذا مجمع عليه([70]).
- قال ابن مفلح: ويتوجه أنّ في معنى الداعية من اشتهر وعرف بالشر، يُنكر عليه، وإن أسر المعصية إلا أن يكون داعية([71]).
- اعتبر أبو العباس ابن تيمية: أن المستتر بالمنكر ينكر عليه، ويستر عليه، فإن لم ينته فعل ما ينكف به، إذا كان أنفع في الدين، وأن المظهر للمنكر يجب الإنكار عليه علانية، ولم تبقَ له غيبة، ويجب أن يعاقب علانية بما يردعه عن ذلك، وينبغي لأهل الخير أن يهجروه ميتًا إذا كان فيه كف لأمثاله، ويتركوا تشييع جنازته([72]).
- قال النووي: وحيث قيل بالستر في هذا يكون مندوبًا، فلو رفعه إلى ولي الأمر، لم يأثم بالإجماع، لكن هذا خلاف الأولى، وقد يكون في بعض صوره ما هو مكروه([73]).
الفصل الحادي والعشرون: ومما يُستحب للآمر بالمعروف الناهي عن المنكر: أن يكون مغتمًا بمعصية أخيه المسلم، وأن يكون آسفًا لتعرضه لعقاب الله:
مدار الفصل على قوله:
- إذا رأى الإنسان من أخيه شيئًا يكرهه لله، وأراد وعظه وأمره ونهيه، فلا يفعل ذلك، وهو مسرور باطلاعه على معصيته؛ لينظر إلى الواعظ بعين التعظيم، وينظر الواعظ إليه بعين الاستصغار، ويترفع عليه بدلالة الوعظ والأمر والنهي، بل يكون قصده تخليصه من الإثم، وهو حزين، كما يحزن على نفسه إذا دخل عليه نقصان، فإذا فعل ذلك فقد جمع بين أجر الوعظ، وأجر الغم بمعصيته، وأجر الإعانة على دينه.الفصل الثاني والعشرون: ومما يُستحب للآمر بالمعروف الناهي عن المنكر: أن يكون غيورًا على إخوانه المسلمين، أي غيورًا على دمائهم، وأموالهم، وأعراضهم:
مما ذكره في هذا الفصل من فوائد:
- الغيرة في حق الله تعالى فهو منعه ذلك وتحريمه، ويدل عليه قوله: “ومن غيرته حرم الفواحش”([74]).
- قال القاضي عياض: وقد تكون غيرته تغييره حال فاعل ذلك بعقاب([75]).
الفصل الثالث والعشرون: ومما يُستحب أو يجب على كل مسلم أن يهجر المجاهرين بالمعاصي الفعلية والقولية والاعتقادية للإجماع على وجوب ترك الأرض التي يجاهر فيها بالمعاصي:
ومما ذكره من فوائد:
- قال العلماء: الهجر الشرعي نوعان:
- أحدهما: بمعنى الترك للمنكرات، ومن هذا الباب الهجرة من دار الكفر والفسوق إلى دار الإسلام.الفصل الرابع والعشرون: استحباب هجر المجاهر بالمعصية على جهة التأديب:
- النوع الثاني: الهجر على وجه التأديب والعقوبة، وهو هجر أهل المعاصي والمنكرات، إذا لم يقدر على الإنكار باليد ولا باللسان، أو لم يفد فيهم ذلك.
- قال بعض أصحاب الإمام أحمد: ومن جهر بمعصية من المعاصي غير مكفرة، فهل يسن هجره أم يجب إن ارتدع به، أو مطلقًا إلا من السلام بعد ثلاث، أو ترك السلام فرض كفاية؟ في ذلك أوجه.
- قال القاضي أبو يعلى وغيره: من أسر بمعصية لا يهجر.
- لم يهجر -صلى الله عليه وسلم- من أظهر الإسلام، وإن كان منافقًا.
- كما أمر الله سبحانه بهجر الزوجات إذا خيف عليهن النشوز، والنشوز هو الارتفاع، أي: ينشزن على أزواجهن، فالمرأة الناشز هي المرتفعة على زوجها، التاركة لأمره، المعرضة عنه، المغضبة له.الفصل الخامس والعشرون: استحباب هجر من ترك الفرائض من باب التعزير بترك السلام على تارك الصلاة، وشارب الخمر:
- هذا الهجر بمنزلة التعزير؛ والتعزير يكون لمن ظهر منه ترك الواجبات كالصلاة والزكاة وغيرها، أو فعل المحرمات، كالظلم والفواحش، أو دعا إلى البدع المضللة المخالفة للكتاب والسنة، وإجماع سلف الأمة.
- من لم يهجر من خالف الله ورسوله، وارتكب المعاصي خيف عليه أن يحل به ما حل بأحبار بني إسرائيل، فقد خوفنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يحل بنا ما حل بهم، إن فعلنا مثل فعلهم.
الفصل السادس والعشرون: هجران أهل البدع والمتظاهرين بالمعاصي فرض كفاية:
ومما ذكره من فوائد:
- أهل البدع في الهجر أسوأ حالًا من أهل الذمة.
- الذمي يجوز إجابة دعوته، وترد التحية عليه إذا سلّم، ويجوز قصده في البيع والشراء، فجازت عيادته، وتعزيته كالمسلم، بخلاف من يحكم بكفره من أهل البدع لوجب هجره.
- يتعين على المرء هجر أهل البدع، لا سيما الداعية، وترك مخالطتهم، والتردد إليهم لغير مصلحة؛ فإن في ذلك وزرًا عليه في دينه.
الفصل السابع والعشرون: على الآمر الناهي أن يسلك مع العصاة والفساق مسالك بحسب مراتبهم في مخالفة أوامر الله:
نَقَلَ في هذا الفصل كلام الإمام الغزالي في المخالف لأوامر الله، حيث قسمهم كما يلي:
- مخالف في العقد، وهو إما كافر، أو مبتدع، والمبتدع إما داعٍ، أو ساكت باختياره، أو لعجزه.
- مخالف في العمل.
- ثم قسّم الفساد إلى:
- الأول: الكفر:
- المحارب: فهو مستحق للقتل والإرقاق.
- الذمي: لا يجوز إيذاؤه إلا بالإعراض عنه، والتحقير له، بالاضطرار إلى أضيق الطرق، وترك البداءة بالسلام، فإن قال: السلام عليكم، قيل: وعليك، والأولى الكف عن مخالطته ومعاملته ومؤاكلته، فإنما الانبساط معه، والاسترسال إليه، كما يسترسل الأصدقاء، فهو مكروه كراهة شديدة، يكاد أن ينتهي ما يقوى منها إلى حد التحريم.
- الثاني: المبتدع الذي يدعو إلى بدعة:
- إن كان يكفر بها، فأمره أشد من الذمي؛ لأنه لا يقر بجزية، ولا يسامح بعقد ذمة.
- إن كان ممن لا يكفر به، فأمره بينه وبين الله أخف من أمر الكافر لا محالة، ولكن الأمر في الإنكار عليه أشد منه على الكافر؛ لأن شر الكافر غير متعدٍ، فإن المسلمين اعتقدوا كفره، فلا يلتفتون إلى قوله، وأما المبتدع الذي يدعو إلى بدعته، إما أن يدعو إليه حق، فهو سبب لغواية الخلق، فشره متحد، فالاستحباب إظهار بغضه، ومعاداته، والانقطاع عنه، وتحقيره، والتشنيع عليه ببدعته، وتنفير الناس عنه أشد.
- إن سلّم في خلوة، فلا بأس برد جوابه.
- وإن علمت أن الإعراض عنه، والسكوت عن جوابه يقبح في نفسه بدعته، ويُؤثر في زجره؛ فترك الجواب أولى؛ لأن جواب السلام وإن كان واجبًا فيسقط بأدنى غرض، حتى يسقط بكون الإنسان في الحمام، أو في قضاء حاجته، وغرض الزجر أهم من هذه الأغراض، وإن كان في ملأ فترك الجواب أولى تنفيرًا للناس منه، وتقبيحًا لبدعته في أعينهم.
- القسم الثالث: المبتدع العامي الذي لا يقدر على الدعوة، ولا يُخاف الاقتداء به، فأمره أهون، فالأولى: ألا يتابع بالتغليظ والإهانة، بل يتلطف به في النصح؛ فإن قلوب العوام سريعة التقلب، فإن لم ينفع النصح، وكان الإعراض منه تقبيحًا لبدعته، تأكد الاستحباب في الإعراض، وإن علم أن ذلك لا يؤثر فيه لجمود طبعه، ورسوخ عقده في قلبه، فالإعراض؛ لأن البدعة إذا لم يبالغ في تقبيحها شاعت بين الخلق، وعم فسادها.
- العاصي بفعله وعمله لا باعتقاده، وهذا على ثلاثة أقسام:
- القسم الأول: وهو أشدها: ما تضرر به الناس، كالظلم والغصب وشهادة الزور والغيبة والنميمة، فهؤلاء الأولى الإعراض عنهم، وترك مخاطبتهم، والانقباض عن معاملتهم؛ لأن المعصية شديدة فيما يرجع إلى إيذاء الخلق.- ثم ينقسمون إلى من يظلم في الدماء، وإلى من يظلم في الأموال، وإلى من يظلم في الأعراض، وبعضها أشد من بعض، فالاستحباب في إهانتهم، والإعراض عنهم مؤكد جدًا.
- القسم الثاني: الذي يهيئ أسباب الفساد، ويسهل طرقه على الخلق، فهذا لا يؤذي الخلق في دنياهم، وهو أخف من الأول؛ فإن المعصية بين العبد وبين الله إلى العفو أقرب، ولكن من حيث إنه متعدٍ على الجملة إلى غيره فهو شديد، وهذا أيضًا يقتضي الإهانة والإعراض والمقاطعة، وترك جواب السلام إذا ظن أن فيها نوعًا من الزجر له، أو لغيره.
- الثالث: الذي يفسق في نفسه بشرب خمر، أو ترك واجب، أو مقارفة محظور يخصه، فالأمر فيه أخف:
- ولكن وقت مباشرته إن صودف فيجب منعه بما يمتنع منه، ولو بالضرب والاستخفاف، فإن النهي عن المنكر واجب.
- وإذا فرغ منه، وعلم أن ذلك من عادته، وهو مصر عليه:
– فإن تحقق أن نصحه يمنعه من العود وجب النصح.
– وإن لم يتحقق، ولكنه كان يرجو، فالأفضل النصح والزجر بالتلطف، أو بالتغليظ إذا كان هو الأنفع.
– فأما الإعراض عن جواب سلامه، والكف عن مخالطته، حيث يعلم أنه يضر، وأن النصح ليس ينفعه، فهذا فيه نظر، والصحيح: أن ذلك يختلف باختلاف نية الرجل.
الفصل الثامن والعشرون: تباين درجات الهجر بحسب أحوال المهجورين، فإن كان الهجر يضعف شرهم وجب الهجر، كأسلوب للزجر، وإن كان يزيد من شرهم وجبت مخالطتهم وتعزيرهم:
ومما ذكره في هذا الفصل من فوائد:
- المقصود من الهجر زجر المهجور وتأديبه، وزجر العامي عن مثل حاله.
- إن كان الهجر مصلحته راجحة، بحيث يفضي هجره إلى ضعف الشر وخفته كان مشروعًا.
- وإن كان لا المهجور ولا غيره يرتدع بذلك، بل يزيد الشر، والهاجر يضعف، بحيث تكون مفسدة ذلك راجحة على مصلحته، لم يشرع الهجر، بل يكون التأليف لبعض الناس أنفع.
الفصل التاسع والعشرون: تباين درجات الهجر بحسب درجات اعتقاد وسلوك الجماهير:
وفي هذا الفصل قسّم البطالين إخوان الشر إلى أقسام، كما يلي:
- القسم الأول: كفار معاندون لله ولرسوله، أعداء الله ورسوله، وأعداء عباده المؤمنين.
- القسم الثاني: المنافقون الذين آمنوا في الظاهر، وكفروا في الباطن، فأوهموا المؤمنين أنهم منهم.
- هذان القسمان ينبغي للمؤمن من ألا يجالسهم، ولا يعاشرهم، ولا يركن إليهم.
- القسم الثالث: أن يكون مسلمًا ليس في إيمانه شك، وليس فيه نفاق، ولكنه كثير الغفلة والمعاصي، لا يعتني بالعبادة، ولا يخاف من مواقعة الذنوب.
- وهذا القسم ينبغي التجنب منه؛ لأنه جليس سوء.
- القسم الرابع: قوم مؤمنون موحدون، ليسوا بكفار، ولا منافقين، ولا لهم إرب في فعل المعاصي، والخوض فيما لا يغني، ولكن عندهم كسل وتباطؤ، عن الطاعة مقصرون.
- مجالسة هذا القسم تورث الكسل.الفصل الحادي والثلاثون: لا فرق بين هجر ذي الرحم والأجنبي إذا كان الهجر لتعدي حق الله:
ومما ذكره في هذا الفصل من فوائد:
- لا فرق بين وجوب هجر ذي الرحم والأجنبي إذا كان الحق لله تعالى.
- إذا كان الحق للآدمي كالقذف والسب والغيبة، وأخذ ماله غصبًا، ونحو ذلك:
- إن كان الفاعل لذلك من أقاربه وأرحامه لم يجز هجره.
- وإن كان غيره، ففي هجره روايتان عن الإمام أحمد.
الجزء الخامس:
الفصل الثاني والثلاثون: عدم جواز هجر المسلم للتهمة مداومة للصفاء والمحبة:
ومما ذكره من فوائد:
- لا يجوز الهجر بخبر الواحد بما يوجب الهجر.فصل: ولم يذكر له عنوانًا.
ولكن ذَكَرَ من الآثار ما يفيد:
- عدم هجر الصديق والأخ في الله تعالى إذا ارتكب معصية، ولم يقبل وعظ صديقه.
- قال الغزالي: وهي طريقة لطيفة لما فيها من الرفق والاستمالة والتلطف المفضي إلى الرجوع والتوبة، لاستمرار الحياة عند دوام الصحبة، فمتى قوطع انقطع طمعه عن الصحبة، واستمر في المعصية، وأيضًا فإن عقد الأخوة يُنزّل منازل القرابة، فإذا انعقدت تأكد الحق، ووجب الوفاء بموجبه، ومن الوفاء ألا يهمل أمام حاجته وفاقته، إذ فقر الدين أشد من فقر المال، وقد أصابته جائحة، وألمت به آفة، افتقر بسببها من دينه، فينبغي أن يراقب ويرعى، ولا يهمل، بل لا يزال يتلطف به؛ ليُعان على الخلاص من الواقعة التي ألمت به، والأخوة عدة للنوائب، وحوادث الزمان، وارتكاب المعاصي من أشد النوائب([76]).
الفصل الثالث والثلاثون: هجر المسلم العدل في اعتقاده وأفعاله:
ذَكَرَ من الآثار ما يفيد ما يلي:
- الهجر لحق المسلم حرام، وإنما رخص في بعضه، كما رخص للزوج أن يهجر امرأته في المضجع إذا نشزت.الفصل الرابع والثلاثون:
تحدّث في هذا الفصل عن مسألة: هل يقطع السلام الهجران؟
ونَقَلَ الخلاف عن العلماء في ذلك:
- حيث ذكر النواوي: أن مذهب مالك والشافعي أن الهجر المحرم يزول بالسلام([77]).
- قال القاضي أبو يعلى: ظاهر كلام أحمد -رحمه الله- أنه لا يخرج بمجرد السلام، بل يعود إلى حاله مع المهجور قبل الهجرة([78]).
الفصل الخامس والثلاثون: استحباب التقرب إلى الله بحب أهل الطاعة، وبغض أهل المعصية:
ذَكَرَ من الآثار ما يُؤكد ذلك العنوان، ومما ذكره من فوائد:
- قال العلماء الذين رزقوا نور البصيرة: إنما يبغض من أهل المعاصي الأفعال التي نهى الشرع عنها وذمها؛ لذلك قال الله تعالى: {فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} [الشعراء: 216] ولم يقل: إني بريء منكم.
- ينبغي أن يتوقى الإفراط في المحبة، فإن ذلك يدعو إلى التقصير، فلأن تكون الحالة بينهما نامية أولى من أن تكون متناهية.
الفصل السادس والثلاثون: استحباب تواضع الآمر الناهي في أمره ونهيه بلا افتخار أو تعاظم:
ومما ذكره من الفوائد:
- علماء الآخرة الآمرون بالمعروف الناهون عن المنكر، يُعرفون بسيماهم، في السكينة والذلة والتواضع.
- أجاب الغزالي: فإن قلتَ: كيف التواضع للفاسق والمبتدع، وقد أمرت ببغضهما، والجمع بينهما متناقض؟
فأجاب: فاعلم أن هذا أمر مشتبه، يلتبس على أكثر الخلق، إذ يمتزج غضبك لله في إنكار البدعة والفسق بكبر النفس، والإدلال بالعلم والورع، فكم من عابد جاهل، وعالم مغرور، إذا رأى فاسقًا جلس إلى جانبه أزعجه ذلك، وتنزه منه لكبر باطن في نفسه، وهو ظان أنه غاضب لله؛ وذلك لأن الكبر على المطيع ظاهر كونه شرًا، والحذر منه ممكن، والكبر على الفاسق والمبتدع يشبه الغضب لله، وهو خير، فإن الغضبان أيضًا يتكبر على من غضب عليه، والمتكبر يغضب، وأحدهما يثمر الآخر ويوجبه، وهما ممتزجان ملتبسان لا يميز بينهما إلا الموفقون.
والذي يخلصك من هذا أن يكون الحاضر على قلبك عند مشاهدة المبتدع أو الفاسق أو عند أمرهما بالمعروف، ونهيهما عن المنكر ثلاثة أمور:
- أحدهما: التفاتك إلى ما سبق من ذنوبك وخطاياك؛ ليصغر عند ذلك قدرك في عينك.
- والثاني: أن تكون ملاحظتك لما أنت متميز به من العلم، واعتقاد الحق، والعمل الصالح من حيث إنها نعمة من الله تعالى، وله المنة، لا لك، فترى ذلك منه، حتى لا تعجب نفسك، وإذا لم تعجب لم تتكبر.
- والثالث: ملاحظة إيهام عاقبتك وعاقبته أنه ربما يختم لك بالسوء، ويُختم له بالحسنى، حتى يشغلك الخوف من التكبر عليه([79]).
- قال بعضهم: فالتواضع له طرفان ووسط، فطرفه الذي يميل إلى الزيادة يُسمى تكبرًا، وطرفه الذي يميل إلى النقصان يُسمى تخاسسًا ومذلة، والوسط يُسمى تواضعًا، وهو المحمود، فمن تقدّم على أمثاله فهو متكبر، ومن تأخر عنهم فهو متواضع([80]).
- العالم إذا دخل عليه إسكاف فتنحى له عن موضعه ومجلسه وأجلسه فيه، ثم تقدّم فسوى نعله، وعدا إلى باب الدار خلفه، فقد تخاسس له، وتذلل، وهو غير محمود، بل المحمود أن يعطي كل ذي حق حقه، فينبغي أن يتواضع بمثل هذا لأمثاله، ومن يقرب من درجته.
- وأما تواضعه للسوقي فبالقيام وللبشر بالكلام، والرفق في السؤال، وإجابة دعوته، والسعي في حاجته، وأمثال ذلك.
وألا يرى نفسه خيرًا منه، بل يكون على نفسه أخوف منه على غيره، فلا يحقره، ولا يستصغره، وهو لا يعرف خاتمة أمره.
الفصل السابع والثلاثون: استحباب استعانة الآمر الناهي بالله، والاعتصام به، وخاصة عند عجزه عن مجاهدة نفسه، وعن القيام بحقوق الله:
ومما ذكره في الفصل:
- في استعانة العبد بالله تعالى فائدتان:
- أحدهما: أن العبد عاجز عن الاستقلال بنفسه في عمل الطاعات، وإزالة المنكرات.
- الثاني: لا بد من معين على مصالح دينه ودنياه، ولا يكون ذلك إلا من الله -سبحانه وتعالى-، فمن أعانه الله فهو المعان، ومن خذله فهو المخذول.الفصل الثامن والثلاثون: استحباب طلب الآمر الناهي إعانة الله:
حيث ذَكَرَ من الأدلة ما يدب لذلك، وذَكَرَ أنه يُستحب قول أدعية عند الإنكار، وهي:
- عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا غزا قال: “اللهم أنت عضدي ونصيري، بك أحول، وبك أصول، وبك أقاتل”([81])، وفي رواية: “اللهم أنت عضدي، وأنت نصيري وبك أقاتل”([82]).
- يكثر من قول: حسبنا الله ونعم الوكيل.
- وإذا شرع في الإنكار يقول ما ثبت عن عبد الله -رضي الله عنه- قال: دخل النبي -صلى الله عليه وسلم- مكة يوم الفتح، وحول البيت ستون وثلاثمائة نصب، فجعل يطعنها بعود في يده، ويقول: “جاء الحق، وزهق الباطل، جاء الحق، وما يبدئ الباطل وما يعيد”([83]).
الفصل التاسع والثلاثون: استحباب تحلي الآمر الناهي بالصبر والاحتمال:
ذَكَرَ من الأدلة ما يدل على استحباب التحلي بالصبر مطلقًا، ومما يدل على استحباب الصبر على ما يُصاب به الآمر الناهي، قاله تعالى: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [لقمان: 17].
- في الآية دليل على وجوب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والصبر على المكروه لا ينبغي أن يمنع من الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، إلا أن يخاف مكروهًا لا يُطاق – قاله الواحدي([84]).
- قال الغزالي: واعلم أن الصبر ينقسم باعتبار حكمه إلى فرض ونفل ومكروه ومحرم، فالصبر عن المحظورات فرض، وعن المكروهات نفل، والصبر على الأذى المحظور محرم، كمن تقطع يده، أو يد ولده، فهو يصبر عليه ساكتًا، وكمن يقصد جريمة بشهوة محظورة، فتهيج غيرته، فيصبر على إظهار الغيرة، ويسكت على ما يجري على أهله، فهذا الصبر محرم، والصبر المكروه هو الصبر على أذى يناله بجهة مكروهة في الشرع، فليكن الشرع محك الصبر([85]).فلا ينبغي أن يخيل إليك أن جميع أنواع الصبر محمودة، بل المراد به أنواع مخصوصة منه؛ إذ لا يستغني عن الصبر في مواطنه.
- قال الغزالي: وجميع ما يلقى العبد في هذه الدار لا يخلو عن أحد نوعين:
- النوع الأول: ما يوافق الهوى…، من ملاذ الدنيا، فما أحوج العبد إلى الصبر عليها، فإنه إن لم يضبط نفسه عن الاسترسال، والركون إليها، والانهماك في ملاذها المباحة، أخرجه ذلك إلى البطر والطغيان.
- النوع الثاني: ما لا يوافق الهوى والطبع؛ وذلك على ثلاثة أقسام:
القسم الأول: ما يرتبط باختيار العبد، وهو سائر أفعاله من طاعة ومعصية، وهو ضربان:
- الضرب الأول: الطاعة، فالعبد محتاج إلى الصبر عليها، فالصبر على الطاعة شديد؛ لأن النفس بطبيعتها تنفر عن العبودية، وتشتهي الربوبية؛ ولذلك قال بعض السلف: ما من نفس إلا وهي مضمرة ما أظهر فرعون من قوله: “أنا ربكم الأعلى” ولكن فرعون وجد مجالًا وقبولًا؛ فأظهر.ثم من العبادات ما يُكره بسبب الكسل، كالعبادات البدنية، ومنها ما يكره بسبب البخل، ومنها ما يكره بسببهما كالحج والجهاد، فالصبر على الطاعة صبر على الشدائد، ويحتاج المطيع إلى شدائد.
المراد بقوله تعالى: {نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ * الَّذِينَ صَبَرُوا} [العنكبوت: 58- 59] أي: صبروا تمام الصبر في ثلاثة أحوال:
الأول: قبل الطاعة؛ وذلك في تصحيح النية من شوائب الرياء، ودواعي الآفات.
الثانية: الصبر حالة العمل، كي لا يغفل عن الله في أثناء عمله، ولا يتكاسل عن تحقيق آدابه، وسننه، فيلازم الصبر عن دواعي الفتور إلى الفراغ.
الحالة الثالثة: الصبر بعد الفراغ من العمل عن إفشائه، والتظاهر به للسمعة، والرياء، والنظر إليه بعين العجب، وعن كل ما يبطل العمل ويحبطه.
- الضرب الثاني: المعاصي، فما أحوج العبد إلى الصبر عنها، وقد جمع الله تعالى أنواع المعاصي في قوله: {وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ} [النحل: 90] وأشد أنواع الصبر: الصبر عن المعاصي المألوفة في العادات، فإن العادة طبيعة خامسة([86])، فإذا انضافت إلى الشهوة تظاهر جندان من جنود الشياطين على جند الله تعالى.
القسم الثاني: ما لا يرتبط هجومه باختيار العبد له، وله اختيار في دفعه، كما لو أوذي بفعل أو قول، وجنى عليه في نفسه، أو ماله، فالصبر على ذلك بترك المكافأة، تارة يكون واجبًا، وتارة يكون فضيلة، فالصبر على أذى الناس من أعلى مراتب الصبر؛ لأن باعث الشهوة والغضب يتعاونان على باعث الدين.
القسم الثالث: ما لا يدخل تحت الاختيار أوله وآخره، كالمصائب، مثل موت الأعزة، وهلاك الأموال، وزوال الصحة بالمرض، وفساد الأعضاء، وسائر أنواع البلاء؛ فالصبر على ذلك من أعلى مقامات الصبر([87]).
الفصل الأربعون: صبر النبي على أذى قريش عشرين عامًا، وعفوه عنهم بعد أن أظفره الله بهم:
وذَكَرَ ما تعرّض له النبي -صلى الله عليه وسلم- من أذى في تاريخ دعوته -صلى الله عليه وسلم-.
الفصل الحادي والأربعون: يُبتلى المرء على قدر دينه:
وذَكَرَ من الآثار ما يدل على ذلك، ومما ذكره من الفوائد:
- يُبتلى المرء على قدر دينه ويقينه.
- قال العز بن عبد السلام: وقد ظن بعض الجهلة أن المصاب مأجور على مصيبته، وهذا خطأ صريح؛ فإن المصائب ليست من كسبه بمباشرة ولا تسبب، فمن قُتل ولده، أو غُصب ماله، أو أصيب ببلاء في جسده، فليست هذه المصائب من كسبه، ولا تسببه، حتى يؤجر عليها، بل إن صبر عليها كان له أجر الصابرين، وإن رضي بها كان له أجر الراضين، ولا يؤجر على نفس المصيبة؛ لأنها ليست من عمله، وقد قال تعالى: {إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الطور: 16] كيف والمصائب الدنيوية عقوبات على الذنوب، والعقوبة ليست ثوابًا، ويدل على ذلك قوله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30]([88]).
الفصل الثاني والأربعون: إذا تحقق المصاب من أن المصيبة بتقدير الله وإرادته هانت عليه:
وذَكَرَ من الآثار ما يدل لذلك.
الفصل الثالث والأربعون: وعد الله للمؤمنين الذين يعملون الصالحات باستخلافهم في الأرض، وتمكين دينهم لهم:
وذَكَرَ من الآيات والأحاديث ما يدل على ذلك، ثم تحدّث عن الصبر وفضله.
الفصل الرابع والأربعون: من أخص آداب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر توطين النفس على الصبر، بدليل أن الله قرن الصبر بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
وذَكَرَ ما يدل لذلك من الأدلة.
الفصل الخامس والأربعون: وجوب تحمل الآمر الناهي الصبر المترتب على أمره ونهيه:
ومما ذكره من الفوائد:
- قال ابن تيمية: الصبر على أذى الخلق عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إن لم يستعمل لزم أحد الأمرين: إما تعطيل الأمر والنهي، وإما حصول فتنة ومفسدة أعظم منه، مفسدة ترك الأمر والنهي، أو مثلها، أو قريب منها، وكلاهما معصية وفساد، قال الله تعالى: {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [لقمان: 17] فمن أمر ولم يصبر، أو صبر ولم يأمر، أو لم يأمر ولم يصبر، حصل من هذه الأقسام الثلاثة مفسدة، وإنما الصلاح في أن يأمر ويصبر([89]).الفصل السادس والأربعون:
نَقَلَ المصنف كلام ابن القيم: وللعبد فيما يصيبه من أذى الخلق وجنايتهم عليه أحد عشر مشهدًا:
- المشهد الأول: القدر: وهو أن يعلم أن ما جرى عليه بمشيئة الله وقضائه وقدره، وإذا شهد هذا استراح، وعلم أنه كائن لا محالة، فما للجزع منه وجهٌ.
- المشهد الثاني: الصبر: فيشهده، ويشهد وجوبه، وحسن عاقبته، وعلم أنه إن لم يصبر اختيارًا على هذا، وهو محمود صبر اضطرارًا على أكثر منه، وهو مذموم.
- المشهد الثالث: مشهد العفو والصفح والحلم؛ فإنه متى شهد لذلك وفضله وحلاوته وعزته لم يعدل عنه إلا لغبش في بصيرته.
- المشهد الرابع: وهو مشهد الرضا، وهو فوق مشهد العفو والصفح، وهذا لا يكون إلا للنفوس المطمئنة، سيما إن كان ما أصيبت به سببه القيام لله.
- المشهد الخامس: مشهد الإحسان، وهو أرفع مما قبله، وهو أن يقابل إساءة المسيء بالإحسان، فيحسن إليه، كما أساء هو إليه.
- المشهد السادس: مشهد السلامة، وبرد القلب، وهو مشهد شريف جدًا لمن عرفه، وذاق حلاوته، وهو ألا يشتغل قلبه وسره بما ناله من الأذى، وطلب الوصول إلى درك ثأره، وشفاء نفسه، بل يفرغ قلبه من ذلك، ويرى أن سلامته وبرده وخلوه منه أنفع له.
- المشهد السابع: مشهد الأمن، فإنه إذا ترك المقابلة والانتقام آمن ما هو شر من ذلك، وإذا انتقم واقعه الخوف، ولا بد، فإن ذلك يزرع العداوة، والعاقل لا يأمن عدوه، ولو كان حقيرًا.
- المشهد الثامن: مشهد الجهاد، وهو أن يشهد تولد أذى الناس له من جهاده في سبيل الله، وأمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر، وإقامة دين الله، وإعلاء كلماته.
وصاحب هذا المقام قد اشترى الله منه نفسه وماله وعرضه، بأعظم ثمن، فإن أراد أن يسلم إليه الثمن، فليسلم هو السلعة ليستحق ثمنها، فلا حق له على من آذاه، ولا شيء له قبله إن كان قد رضي بعقد هذا التبايع، فإنه قد وجب أجره على الله.
- المشهد التاسع: مشهد النعمة، وهو من وجوه:
- أحدها: أن يشهد نعمة الله عليه في أن جعله مظلومًا، يترقب النصر، ولم يجعله ظالماً يترقب المقت والأخذ، فلو خُيّر العاقل بين الحالتين، ولا بد من إحداهما لاختار أن يكون مظلومًا.
- ومنها: أن يشهد نعمة الله عليه في التكفير بذلك من خطاياه.
- ومنها: أن يشهد كون تلك البلية أهون وأسهل من غيرها.
- المشهد العاشر: مشهد الأسوة؛ فإن العاقل اللبيب يرضى أن يكون له أسوة برسل الله.
- المشهد الحادي عشر: مشهد التوحيد، وهو أجل المشاهد وأرفعها([90]).
- جهاد النفس على الصبر والاحتمال في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أفضل من الصبر في غيره؛ لأن الأمر والنهي أفضل الجهاد، وبه صلاح العباد والبلاد؛ إذ تغيير المنكر في غالب الأوقات أميز من عبادة المتعبد في كثير من السنوات، فإذا علم العبد ذلك، وتأمله بعد النظر فيه، فجاءه النصر، وحصل له من خيري الدنيا والآخرة ما ليس له حصر.
الفصل السابع والأربعون: وقوع المحن على قدر قوى الآمرين الناهين ومراتبهم والمحن طهارة للصادقين، وكفارة على قدر صدقهم:
ختم الكتاب بهذا الفصل، والذي دار حول ما يلي:
- وقوع المحن على قدر قوى الآمرين والناهين ومراتبهم.
- ووقوعها بالعارفين عند ملاحظتهم أنفسهم في الأمر والنهي.
- ووقوع المحن بالصادقين طهارة لهم وكفارة على قدر قوة صدقهم محبة الله تعالى لهم يعرفهم بها أنفسهم، ويرفعهم في درجاتهم.
- ووقوع المحن ببعض الآمرين طهارة لهم وكفارة وذلة؛ ليزول عنهم العجب بذلك.
- وأما جملة الناس من الآمرين والناهين فإن الله -عز وجل- امتحنهم لتعديهم حدوده، وتضييعهم أمره، وشماتتهم بغيره.
([4]) اتخاذ الزوايا وجعلها مدافن ومساجد، نهى عنها الشرع المطهّر في أحاديث متواترة. في حاشية السحب الوابلة على ضرائح الحنابلة، تحقيق بكر بن عبد الله أبو زيد، عبد الرحمن بن سليمان العثيمين (2/ 481).
([12]) هكذا ودرت ترجمة الفصل في فهرس المواضيع وأما في متن الكتاب فوردت هكذا: الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر فرض عين أم فرض كفاية؟ وهي تكرار لترجمة الفصل الأول، ولعله سهو من الناسخ.
([13]) صحيح مسلم في كتاب الإيمان، باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان، وأن الإيمان يزيد وينقص، وأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان (1/ 69/49).
[16])) صحيح البخاري في كتاب الأحكام، باب كيف يبايع الإمام الناس (9/ 77) (7199) صحيح مسلم في كتاب الإمارة باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية، وتحريمها في المعصية (3/ 1470) (1709).
([17]) صحيح البخاري في كتاب الفتن، باب قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «سترون بعدي أمورا تنكرونها» (9/ 47)
(7056) وصحيح مسلم في كتاب الإمارة، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية، وتحريمها في المعصية (3/ 1470) (1709).
([18]) صحيح مسلم في كتاب الإيمان، باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان، وأن الإيمان يزيد وينقص، وأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان (1/ 69/50).
[20])) مسند أحمد ط الرسالة (42/ 149/25255)، وقال محققوه: حسن لغيره.
(([25] صحيح مسلم في كتاب الإيمان، باب بيان أن الإسلام بدأ غريباً، وسيعود غريباً، وأنه يأرز بين المسجدين (1/ 128/144).
([27]) من مصطلحات الصوفية: “الحال ما يرد على القلب بمحض الموهبة من غير تعمل واجتلاب كحزن وخوف وقبض، وبسط فإذا دام سمي مقاماً” حاشيه الشهاب على تفسير البيضاوي =عنايه القاضي وكفاية الراضي (1/ 377).
([30]) صحيح البخاري في كتاب تفسير القرآن، باب {يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال، إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين، وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون} [الأنفال: 65] (6/ 63) (4652).
([34]) صحيح البخاري في كتاب النكاح، باب لا يخطب على خطبة أخيه حتى ينكح أو يدع (7/ 19) (5143) ومسلم في البر والصلة، باب تحريم الظن والتجسس والتنافس رقم (2563).
([35]) الغنية لطالبي طريق الحق عز وجل في الأخلاق والتصوف والآداب الإسلامية، محيي الدين عبد القادر بن أبي صالح الجيلاني (ص:115- 116).
([43]) التعريف: تعريف الواقع في المنكر بأن ما فعله منكر، فإن المنكر قد يقدم عليه المقدم بجهله، وإذا عرف أنه منكر تركه.
([44]) الصَّنْجُ ما يُتَّخذ من صُفْرٍ مدوَّراً يُضرب أحدُهما بالآخر ومنه قوله وتُكره الصُنوج والكُوباتُ. ينظر: المغرب في ترتيب المعرب ط مكتبة أسامة (1/ 483).
([59]) صحيح مسلم في كتاب الإيمان باب بيان أن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا، وأنه يأرز بين المسجدين(1/ 130) (145).
([60]) سنن ابن ماجه في كتاب الفتن باب بدأ الإسلام غريبا(2/ 1320) (3988) وقال الألباني: “صحيح دون قال: قيل” يعني هذه العبارة: النزاع من القبائل.
([62]) سنن الترمذي في كتاب الإيمان باب ما جاء أن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً (5/ 18) (2630) وقال الشيخ الألباني : ضعيف جداً. لكن بلفظ: “الذين يصلحون ما أفسد الناس من بعدي من سنتي”.
([74]) صحيح البخاري في كتاب تفسير القرآن باب قوله: {ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن} [الأنعام: 151] (6/ 57) (4634) ومسلم في التوبة، باب غيرة الله تعالى وتحريم الفواحش برقم (2760) بلفظ: “لا أحد أغير من الله، ولذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن”.
[81])) سنن الترمذي ت شاكر في أبواب الدعوات (5/ 572) (3584) سنن أبي داود في كتاب الجهاد باب ما يدعى عند اللقاء (3/ 42/2632) ، وصححه الألباني.