احتساب أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه
(40 ق هـ – 18 هـ = 584 – 639 م)
اسمه:
هو عامر بن عبد الله بن الجراح بن هلال الفهري، القرشي، صحابي جليل، من السابقين، ولد بمكة([1]).
مناقبه:
هو الصحابي، الأمير، القائد، فاتح الديار الشامية، كان من دهاة قريش، وكان لقبه أمين الأمة، وشهد المشاهد كلها.
وولاه عمر ابن الخطاب قيادة الجيش الزاحف إلى الشام، بعد خالد بن الوليد، فتم له فتح الديار الشامية، وبلغ الفرات شرقاً، وآسية الصغرى شمالاً، ورتب للبلاد المرابطين والعمال، وتعلقت به قلوب الناس لرفقه وأناته وتواضعه.
وتوفي بطاعون عمواس، ودفن في غور بيسان، وانقرض عقبه.
له (14) حديثاً، وكان طوالاً نحيفاً، معروق الوجه، خفيف العارضين، أثرم الثنيتين “انتزع بأسنانه نصلاً من جبهة النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد، فهتم”([2]).
وهو أحد العشرة المبشَّرين بالجنة.
كما أخرج الترمذي: عن عبد الرحمن بن عوف، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة، وعلي في الجنة، وطلحة في الجنة والزبير في الجنة، وعبد الرحمن بن عوف في الجنة، وسعد في الجنة، وسعيد في الجنة، وأبو عبيدة بن الجراح في الجنة”([3]).
ومن مناقبه:
ما وري عن أنس رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: “لكل أمة أمين، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح”([4]).
وعن ابن أبي مليكة قال: سمعت عائشة، وسئلت: “من كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخلفاً لو استخلفه؟ قالت: أبو بكر، فقيل لها: ثم من؟ بعد أبي بكر، قالت: عمر، ثم قيل لها من؟ بعد عمر، قالت: أبو عبيدة بن الجراح” ثم انتهت إلى هذا([5]).
وعن قتادة، قال: قال: أبو عبيدة بن الجراح: “وددت أني كنت كبشا فيذبحني أهلي يأكلون لحمي ويحسون مرقتي”([6]).
وعن هشام بن عروة، عن أبيه، قال: قدم عمر بن الخطاب رضي الله عنه الشام، فتلقاه أمراء الأجناد، وعظماء أهل الأرض، فقال عمر: أين أخي؟
قالوا: من؟
قال: أبو عبيدة.
قالوا: يأتيك الآن.
فجاء على ناقة مخطومة بحبل، فسلم عليه وسأله، ثم قال للناس: انصرفوا.
فسار معه حتى أتى منزله، فنزل عليه، فلم ير في منزله إلا سيفه، وترسه، ورحله، فقال له عمر: لو اتخذت متاعاً، أو قال شيئاً، فقال أبو عبيدة: يا أمير المؤمنين: إن هذا سيبلغنا المقيل([7]).
سيرته الاحتسابية
كان لأبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه سيرة احتسابية حافلة بالمواقف العظيمة، نذكر طرفاً منها:
1- إنكاره على عمر رضي الله عنهما:
عن الليث، أن يحيى بن سعيد حدثه، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أتي برجل من أصحابه وقد جرح رجلاً من أهل الذمة، فأراد أن يقيده، فقال المسلمون: “ما ينبغي هذا” فقال عمر رضي الله عنه: “إذا نضعف عليه العقل” فأضعفه.
ورواه سليمان بن بلال، عن يحيى بن سعيد، عن إسماعيل بن أبي حكيم، أنه سمع عمر بن عبد العزيز يحدث الناس أن رجلاً من أهل الذمة قتل بالشام عمداً، وعمر بن الخطاب رضي الله عنه إذ ذاك بالشام، فلما بلغه ذلك قال عمر رضي الله عنه: قد وقعتم بأهل الذمة لأقتلنه به، فقال أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه: ليس ذلك لك، فصلى ثم دعا أبا عبيدة، فقال: لم زعمت لا أقتله به، فقال أبو عبيدة رضي الله عنه: أرأيت لو قتل عبداً له أكنت قاتله به؟ فصمت عمر رضي الله عنه، ثم قضى عليه بألف دينار مغلظاً عليه([8]).
2- إنكاره على مَن يسب السلطان:
عن عبد الأعلى بن موسى بن عبد الله بن قيس بن مخرمة، أن إسماعيل بن رافع، مولى المزنيين، أخبره أن زيد بن أسلم، أخبره أن أباه أسلم أخبره أنه، خرج مع عمر بن الخطاب، حتى قدم على أبي عبيدة بن الجراح، وهو بباب الجابية، فقال أبو عبيدة: يا أسلم هل استعملك عمر من مواليه وأهله؟ فقلت: لا، قال: فأشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: ((لا تسبوا السلطان، فإنهم ظل الله في أرضه))([9]).
3- إنكاره على دخول النساء المسلمات الحمامات:
عن عبد الرزاق، عن ابن المبارك، عن هشام بن الغاز، عن عبادة بن نسي، قال ابن الأعرابي: وجدت في كتاب غيري، عن قيس بن الحارث قال: كتب عمر بن الخطاب إلى أبي عبيدة: “بلغني أن نساء من نساء المؤمنين والمهاجرين يدخلن الحمامات، ومعهن نساء من أهل الكتاب، فازجر عن ذلك وحل دونه”.
فقال أبو عبيدة وهو غضبان -ولم يكن غضوباً ولا فاحشاً- فقال: “اللهم أيما امرأة دخلت الحمام من غير علة، ولا سقم تريد بذلك أن تبيض وجهها، فسود وجهها يوم تبيض الوجوه”([10]).
4- إقامته للحدود، وهي نوع من الحسبة:
فعن ابن جريج قال: أخبرت إن أبا عبيدة بالشام وجد أبا جندل بن سهيل بن عمرو، وضرار بن الخطاب المحاربي، وأبا الأزور، وهم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، قد شربوا، فقال أبو جندل: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [المائدة: 93] الآية فكتب أبو عبيدة إلى عمر: إن أبا جندل خصمني بهذه الآية، فكتب عمر: إن الذي زين لأبي جندل الخطيئة زين له الخصومة، فاحددهم، فقال: أبو الأزور أتحدونا، فقال: أبو عبيدة: “نعم” قال: فدعونا نلقى العدو غداً فإن قتلنا فذاك، وإن رجعنا إليكم فحدونا، قال: فلقي أبو جندل وضرار وأبو الأزور العدو فاستشهد أبو الأزور، وحد الآخران، قال: فقال أبو جندل: هلكت، فكتب بذلك أبو عبيدة إلى عمر، فكتب إلى أبي جندل، وترك أبا عبيدة: “إن الذي زين لك الخطيئة حظر عليك التوبة {حم * تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ} [غافر: 1 – 3]… الآية([11]).
وعن الحجاج، عن الوليد بن أبي مالك: أن أبا عبيدة بن الجراح أُتي برجل -أي ليحد- فذهب الرجل ينزع قميصه، وقال: ما ينبغي لجسدي هذا المذنب أن يضرب، وعليه القميص، قال: فقال أبو عبيدة: “لا تدعوه ينزع قميصه” فضربه عليه([12]).
وجاء في المنمق: “وحدّ أبو عبيدة بن الجراح، وهو عامل على الشام أبا جندل بن سهيل بن عمرو أحد بني عامر بن لؤي في الخمر أيضاً، وكان جندل مستهتراً بالخمر، وحدّ أبو عبيدة ضرار بن الخطاب الفهري([13]).
وفي المعارف:
جبلة بن الأيهم، آخر ملوك غسان، أدرك الإسلام، فأسلم في خلافة عمر بن الخطاب، ثم ارتد، وتنصر بعد ذلك ولحق بالروم، وكان سبب تنصره أنه مر في سوق دمشق، فأوطأ رجلاً فرسه، فوثب الرجل فلطمه، فأخذه الغسانيون، فأدخلوه على أبي عبيدة بن الجراح، فقالوا: هذا لطم سيدنا، فقال أبو عبيدة بن الجراح: البينة أنّ هذا لطمك، قال: وما تصنع بالبينة؟ قال: إن كان لطمك لطمته بلطمتك، قال: ولا يقتل؟ قال: لا، قال: ولا تقطع يده؟ قال: لا، إنما أمر الله بالقصاص، فهي لطمة بلطمة، فخرج جبلة، ولحق بأرض الروم، وتنصر، ولم يزل هناك إلى أن هلك([14]).
5- إنكاره على عمر أيضاً:
عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج إلى الشام، حتى إذا كان بسرغ لقيه أمراء الأجناد، أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه، فأخبروه أن الوباء قد وقع بأرض الشام، قال ابن عباس: فقال عمر: ادع لي المهاجرين الأولين، فدعاهم فاستشارهم، وأخبرهم أن الوباء قد وقع بالشأم، فاختلفوا، فقال بعضهم: قد خرجت لأمر، ولا نرى أن ترجع عنه، وقال بعضهم: معك بقية الناس وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا نرى أن تقدمهم على هذا الوباء، فقال: ارتفعوا عني، ثم قال: ادعوا لي الأنصار، فدعوتهم فاستشارهم، فسلكوا سبيل المهاجرين، واختلفوا كاختلافهم، فقال: ارتفعوا عني، ثم قال: ادع لي من كان ها هنا من مشيخة قريش من مهاجرة الفتح، فدعوتهم، فلم يختلف منهم عليه رجلان، فقالوا: نرى أن ترجع بالناس، ولا تقدمهم على هذا الوباء، فنادى عمر في الناس: إني مصبح على ظهر فأصبحوا عليه.
قال أبو عبيدة بن الجراح: أفراراً من قدر الله؟ فقال عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة؟ نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله، أرأيت لو كان لك إبل هبطت وادياً له عدوتان، إحداهما خصبة، والأخرى جدبة، أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله، وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله؟ قال: فجاء عبد الرحمن بن عوف -وكان متغيباً في بعض حاجته- فقال: إن عندي في هذا علما، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها، فلا تخرجوا فراراً منه)) قال: فحمد الله عمر، ثم انصرف([15]).
وروي: أن أبا عبيدة استقبل عمر رضي الله عنهما، فقال: جئت بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تدخلهم أرضًا فيها الطاعون الذين هم أئمة يقتدى بهم؟
قال عمر رضي الله عنه: يا أبا عبيدة، شككت؟ فقال: أشكًّا؟
فقال أبو عبيدة: كأن يعقوب إذ قال لبنيه: {لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ} [يوسف: 67]، فقال عمر: والله لأدخلنها، فقال أبو عبيدة: والله لا تدخلها، فرده([16]).
6- مشاركته في الجهاد، وهو نوع من الحسبة:
فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: “بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مائة راكب، أميرنا أبو عبيدة بن الجراح، نرصد عير قريش، فأقمنا بالساحل نصف شهر، فأصابنا جوع شديد حتى أكلنا الخبط، فسمي ذلك الجيش جيش الخبط، فألقى لنا البحر دابة يقال لها: العنبر، فأكلنا منه نصف شهر، وادهنا من ودكه حتى ثابت إلينا أجسامنا، فأخذ أبو عبيدة ضلعاً من أضلاعه، فنصبه فعمد إلى أطول رجل معه، قال سفيان: “مرة ضلعاً من أضلاعه فنصبه، وأخذ رجلاً وبعيراً فمر تحته” قال جابر: وكان رجل من القوم نحر ثلاث جزائر، ثم نحر ثلاث جزائر، ثم نحر ثلاث جزائر، ثم إن أبا عبيدة نهاه، وكان عمرو يقول: أخبرنا أبو صالح، أن قيس بن سعد قال لأبيه: كنت في الجيش فجاعوا، قال انحر، قال: نحرت، قال: ثم جاعوا، قال: انحر، قال: نحرت، قال: ثم جاعوا، قال انحر قال: نحرت، ثم جاعوا، قال: انحر، قال: نهيت([17](.
7- إنكاره على أبيه:
روي أن أبا عبيدة سمع أباه يسب النبي، فقطع رأسه، وجاء به إلى النبي، وأخبره الخبر([18]).
8- نُصْحه للجُنْد:
أخرج يعقوب بن سفيان بسند مرسل أن أبا عبيدة كان يسير في العسكر، فيقول: ألا رب مبيّض لثيابه، وهو مدنس لدينه، ألا رب مكرم لنفسه، وهو لها مهين، غداً ادفعوا السيئات القديمات بالحسنات الحادثات([19]).
([1]) انظر ترجمته في: الإصابة في تمييز الصحابة (3/ 475) وسير أعلام النبلاء (1/ 5) والبدء والتاريخ (5/ 87) والأعلام للزركلي (3/ 252) وغيرها.
([2]) الأعلام للزركلي (3/ 252).
([3]) سنن الترمذي في أبواب المناقب، باب مناقب عبد الرحمن بن عوف بن عبد عوف الزهري رضي الله عنه (5/ 647-3747) وصححه الألباني.
([4]) صحيح البخاري في كتاب المغازي باب قصة أهل نجران (5/ 172-4382) وصحيح مسلم في كتاب فضائل الصحابة رضي الله تعالى عنهم باب فضائل أبي عبيدة بن الجراح رضي الله تعالى عنه (4/ 1881-2419).
(([5] صحيح مسلم في كتاب فضائل الصحابة رضي الله تعالى عنهم باب من فضائل أبي بكر الصديق رضي الله عنه (4/ 1856-2385).
([6]) جامع معمر بن راشد (11/ 307-20615).
([7]) الزهد لابن أبي الدنيا (ص: 66-116).
([8]) السنن الكبرى للبيهقي (8/ 59-15927).
([9]) شعب الإيمان (9/ 478-6987).
([10]) مصنف عبد الرزاق الصنعاني (1/ 295-1134).
([11]) مصنف عبد الرزاق الصنعاني (9/ 244-17078).
([12]) مصنف ابن أبي شيبة (5/ 495-28322).
([13]) المنمق في أخبار قريش (ص: 396).
([15]) صحيح البخاري في كتاب الطب باب ما يذكر في الطاعون (7/ 130-5729) وصحيح مسلم في كتاب السلام باب الطاعون والطيرة والكهانة ونحوها (4/ 1740-2219).
([16]) التوضيح لشرح الجامع الصحيح (32/ 91).
([17]) صحيح البخاري في كتاب المغازي باب غزوة سيف البحر، وهم يتلقون عيرا لقريش، وأميرهم أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه (5/ 167-4361).