احتساب الإمام أبي حنيفة رحمه الله
(80 – 150 هـ = 699 – 767 م)
اسمه ونشأته:
هو النعمان بن ثابت، التيمي بالولاء، الكوفي، أبو حنيفة، إمام الحنفية، الفقيه المجتهد المحقق، أحد الأئمة الأربعة عند أهل السنة، قيل: أصله من أبناء فارس، ولد ونشأ بالكوفة، وكان يبيع الخز، ويطلب العلم في صباه، ثم انقطع للتدريس والإفتاء، وأراده عمر بن هبيرة -أمير العراقين- على القضاء، فامتنع ورعاً، وأراده المنصور العباسي بعد ذلك على القضاء ببغداد، فأبى، ويُنسب إليه كتاب (الفقه الأكبر) ولم تصح النسبة، توفي ببغداد([1]).
مكانته وعلمه وثناء العلماء عليه:
قال ابن المبارك: أبو حنيفة أفقه الناس.
وقال الشافعي: الناس في الفقه عيال على أبي حنيفة.
وقال يزيد بن هارون: ما رأيت أحداً أورع، ولا أعقل من أبي حنيفة.
وقال صالح بن محمد جزرة وغيره: سمعنا ابن معين يقول: أبو حنيفة ثقة([2]).
وعن شريك قال: كان أبو حنيفة طويل الصمت، كثير العقل([3]).
وعن أحمد بن الصبَّاح قال: سمعتُ الشافعي قال: قيل لمالك بن أنس: هل رأيتَ أبا حنيفة؟ قال: نعم رأيتُ رجلاً لو كَلَّمك في هذه السَّارية أن يَجْعَلَها ذَهَباً لقام بحجته([4]).
وعن ابن المبارك قال: ما رأيتُ رجلاً أوقر في مجلسه، ولا أحسن سمتاً وحلماً من أبي حنيفة([5]).
وقال يحيى القطان: لا نكذب الله ما سمعنا أحسن من رأي أبي حنيفة، وقد أخذنا بأكثر أقواله([6]).
قال ابن عيينة: العلماء أربعة ابن عباس في زمانه والشعبي في زمانه وأبو حنيفة في زمانه والثوري في زمانه([7]).
قال ابن المبارك: رأيتُ الحسن بن عمارة آخذاً بركاب أبي حنيفة، وهو يقول: والله ما أدركنا أحداً تكلم في الفقه أبلغ، ولا أصبر، ولا أحضر جواباً منك، وإنك لسيد من تكلم فيه في وقتك غير مدافع، وما يتكلمون فيك إلا حسداً([8]).
وعن يحيى قال: دخل الخوارج مسجد الكوفة وأبو حنيفة وأصحابه جلوس، فقال أبو حنيفة لا تبرحوا فجاءوا حتى وقفوا عليهم، فقالوا لهم: ما أنتم؟ فقال أبو حنيفة: فنحن مستجيرون، فقال أمير الخوارج دعوهم، وأبلغوهم، واقرؤوا عليهم القرآن، فقرؤوا عليهم، وأبلغوهم مأمنهم([9]).
وعن أبي مطيع البلخي أنه قال: قال أبو حنيفة: دخلتُ على أبي جعفر أمير المؤمنين، فقال: يا أبا حنيفة عن من أخذت العلم؟ قال: قلتُ: عن حماد، عن إبراهيم، عن عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عباس، قال: فقال أبو جعفر: بخٍ بخٍ، استوثقت ما شئت يا أبا حنيفة عن الطيبين المباركين، صلوات الله عليهم.
وعن ابن أبي أويس، قال: سمعتُ الربيع بن يونس، يقول: دخل أبو حنيفة يوماً على المنصور، وعنده عيسى بن موسى، فقال للمنصور: هذا عالم الدنيا اليوم، فقال له: يا نعمان، عن من أخذت العلم؟ قال: عن أصحاب عمر عن عمر، وعن أصحاب عليٍّ عن عليّ، وعن أصحاب عبد الله عن عبد الله، وما كان في وقت ابن عباس على وجه الأرض أعلم منه. قال: لقد استوثقت لنفسك.
وروي عن أبي حنيفة، أنه قال: رأيتُ رُؤيا، فأفزعتني، رأيتُ كأني أنبش قبر النبي -صلى الله عليه وسلم-، فأتيتُ البصرة، فأمرتُ رجلاً أن يسأل محمد بن سيرين، فسأله، فقال: هذا رجل ينبش أخبار رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وفي رواية أنه قال: صاحب هذه الرؤيا يثور علماً لم يسبقه إليه أحدٌ قَبله، قال هشام: فنظر أبو حنيفة، وتكلم حينئذٍ([10]).
وبجانب علم أبي حنيفة الغزير، فلقد كان -رحمه الله- مناظراً لبيباً، ومحاوراً فطناً، ومما يدل على ذلك: ما جاء عن أبي يوسف قال: دعا المنصور أبا حنيفة، فقال الربيع -حاجب المنصور وكان يعادي أبا حنيفة-: يا أمير المؤمنين هذا أبو حنيفة يخالف جدك، كان عبد الله بن عباس يقول: إذا حلف على اليمين ثم استثني بعد ذلك بيوم أو يومين جاز الاستثناء، وقال أبو حنيفة: لا يجوز الاستثناء إلا متصلاً باليمين، فقال أبو حنيفة: يا أمير المؤمنين إنَّ الربيع يزعم أنه ليس لك في رقاب جندك بيعة، قال: وكيف؟ قال: يحلفون لك، ثم يرجعون إلى منازلهم، فيستثنون فتبطل أيمانهم، قال: فضحك المنصور، وقال: يا ربيع لا تعرض لأبي حنيفة، فلما خرج أبو حنيفة قال له الربيع: أردتَ أن تشيط بدمي؟ قال: لا، ولكنك أردتَ أن تشيط بدمي، فخلصتك، وخلصتُ نفسي([11]).
وعن الحسن بن زياد قال: دفن رجل ماله في موضع، ثم نسي أي موضع دفنه، فطلبه، فلم يقع عليه، فجاء إلى أبي حنيفة، فشكا إليه، فقال له أبو حنيفة: ليس هذا بفقه، فأحتال لك، ولكن اذهب فصل الليلة إلى الغد، فإنك ستذكر أي موضع دفنته فيه، ففعل الرجل، فلم يقم إلا أقل من ربع الليل، حتى ذكر أي موضع، فجاء إلى أبي حنيفة، فأخبره، فقال: قد علمتُ أن الشيطان لا يدعك تصلي ليلتك، حتى يذكرك، ويحك فهلا أتممت ليلتك شكراً لله تعالى([12]).
عبادته:
عن أبي عاصم النبيل قال: كان أبو حنيفة يسمى الوتد لكثرة صلاته، ورواها يوسف القطان عن أبي عاصم.
وعن أبي يوسف قال: كان أبو حنيفة يختم القرآن كل ليلة في ركعة.
وروى يحيى بن عبد الحميد الحماني عن أبيه أنه صحب أبا حنيفة ستة أشهر، فما رآه صلى الغداة إلا بوضوء عشاء الآخرة، وكان يختم القرآن في كل ليلة عند السحر([13]).
وعن أسد بن عمرو أن أبا حنيفة صلى العشاء والصبح بوضوء أربعين سنة([14]).
وعن أبي يوسف قال: بينما أنا أمشي مع أبي حنيفة إذ سمعتُ رجلاً يقول لآخر: هذا أبو حنيفة لا ينام الليل، فقال أبو حنيفة: والله لا يتحدث عني بما لم أفعل فكان يحيي الليل صلاة ودعاء وتضرعاً([15]).
وقد روى من وجهين أنه ختم القرآن في ركعة([16]).
وعن مسعر بن كدام قال: دخلتُ ذات ليلة المسجد، فرأيتُ رجلاً يصلي، فاستحليت قراءته فقرأ سبعاً، فقلتُ: يركع، ثم قرأ الثلث، ثم قرأ النصف، فلم يزل يقرأ القرآن حتَّى ختمه كله في ركعة، فنظرت فإذا هو أبو حنيفة([17]).
وعن خارجة بن مصعب قال: ختم القرآن في ركعة أربعة من الأئمة، عثمان بن عفان، وتميم الداري، وسعيد بن جبير، وأبو حنيفة([18]).
سيرته الاحتسابية
لقد كان لأبي حنيفة سيرة احتسابية حافلة بالعطاء، فقد قام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومحاربة البدع والمحدثات خير قيام، ومن مواقفه في ذلك:
1- إنكاره على الجهمية:
عن ابن كرامة- وراق أبي بكر بن أبي شيبة- قال: قدم ابن مبارك على أبي حنيفة، فقال له أبو حنيفة: ما هذا الذي دب فيكم؟ قال له رجل يقال له: جهم، قال: وما يقول؟ قال: يقول القرآن مخلوق، فقال أبو حنيفة: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} [الكهف (5)]([19]).
وعن بشر بن الوليد عن أبي يوسف: أنَّ أبا حنيفة كان يذم جهماً، ويعيب قوله([20]).
وعن بشر بن الوليد قال: سمعتُ أبا يوسف يقول: قال أبو حنيفة: صنفان من شر الناس بخراسان، الجهمية والمشبهة، وربما قال: والمقاتلية([21]).
وعن يحيى بن عبد الحميد بن عبد الرحمن الحماني عن أبيه، قال: سمعتُ أبا حنيفة يقول: جهم بن صفوان كافر([22]).
2- إنكاره على القدرية:
عن محمد بن سماعة عن أبي يوسف، قال: سمعتُ أبا حنيفة يقول: إذا كلمتَ القدري، فإنما هو حرفان، إما أن يسكت، وإما أن يكفر، يقال له: هل علم الله في سابق علمه أن تكون هذه الأشياء كما هي؟ فإن قال: لا، فقد كفر، وإن قال: نعم، يقال له: أفأراد أن تكون كما علم، أو أراد أن تكون بخلاف ما علم؟ فإن قال: أراد أن تكون كما علم، فقد أقر أنه أراد من المؤمن الإيمان، ومن الكافر الكفر، وإن قال: أراد أن تكون بخلاف ما علم، فقد جعل ربه متمنياً متحسراً؛ لأن من أراد أن يكون ما علم أنه لا يكون، أو لا يكون ما علم أنه يكون فإنه متمن متحسر، ومن جعل ربه متمنياً متحسراً، فهو كافر([23]).
3- إنكاره على من قال: القرآن مخلوق:
عن بشر بن الوليد، عن أبي يوسف، عن أبي حنيفة، قال: من قال: القرآن مخلوق، فهو مبتدع، فلا يقولن أحد بقوله، ولا يصلين أحد خلفه([24]).
وعن محمد بن سماعة عن أبي يوسف قال: ناظرتُ أبا حنيفة ستة أشهر، حتى قال: من قال: القرآن مخلوق فهو كافر([25]).
4- إنكاره على مُحدِّث:
قال ابن عيينة: كان داود ممن علم وفقه ونفذ في الكلام، قال: وأخذ حصاة فحذف بها إنسانا، فقال له أبو حنيفة: يا أبا سليمان، طال لسانك، وطالت يدك، فاختلف بعد ذلك سنة لا يسأل ولا يجيب.
فلما علم أَنَّهُ يصبر، عمد إِلَى كتبه فغرقها فِي الفرات، ثم أقبل عَلَى العبادة وتخلى، قال: وكان زائدة صديقا لَهُ، وكان يعلم أَنَّهُ يجيب فِي آية من القرآن يفسرها {الم * غُلِبَتِ الرُّوم} [الروم (1- 2)] فأتاه فصلى إِلَى جنبه فلما انتقل، قال: يا أبا سُلَيْمان {الم * غُلِبَتِ الرُّوم} [الروم (1- 2)] فقَالَ: يا أبا الصلت انقطع الجواب فيها، انقطع الجواب فيها، مرتين([26]).
5- إنكاره على الوضاعين:
قال أبو حنيفة: ما رأيتُ أكذب من جابر الجعفي([27]).
6- إنكاره على مَن لم يُحسن الاستدلال:
روي أنَّ أبا حنيفة كان يتكلم في مسألة من المسائل القياسية، وشخص من أهل المدينة يتسمع، فقال: ما هذه المُقايسة، دعوها، فإن أول من قاس إبليس، فأقبل عليه أبو حنيفة فقال: يا هذا، وضعت الكلام في غير موضعه، إبليس رد على الله تعالى أمره، قال الله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الكهف (50)] وقال تعالى: {فَسَجَدَ المَلائِكَةُ كُلُهم أجْمَعُون * إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ} [الحجر (30-31)] وقال: {إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة (34)] وقال: {أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا} [الإسراء (61)] فاستكبر ورد على الله أمره، وكل من رد على الله تعالى أمره فهو كافر، وهذا القياس الذي نحن فيه نطلب فيه اتباع أمر الله تعالى؛ لأنا نرده إلى أصل أمر الله تعالى في الكتاب، أو السنة، أو إجماع الصحابة والتابعين، فلا نخرج من أمر الله تعالى، ويكون العمل على الكتاب والسنة والإجماع، فاتبعنا في أمرنا إليها أمر الله تعالى، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} إلى قوله: {وَالْيَومِ الآخِرِ} [النساء (59)] فنحن ندور حول الاتباع، فنعمل بأمر الله تعالى، وإبليس خالف أمر الله تعالى، ورده عليه، فكيف يستويان؟ فقال الرجل: غلطتُ يا أبا حنيفة، وتُبتُ إلى الله تعالى، فنور الله قلبك، كما نورت قلبي([28]).
7- إنكاره على ابن هبيرة:
عن يحيى بن أكثم قال: سمعتُ ابن داود يقول: أراد ابن هبيرة أبا حنيفة على قضاء الكوفة، فأبى، وامتنع، فحلف ابن هبيرة إن هو لم يفعل ليضربنه بالسياط على رأسه، فقيل لأبي حنيفة، فقال: ضربة لي في الدنيا أسهل علي من مقامع الحديد في الآخرة، والله لا فعلتُ ولو قتلني، فحكى قوله لابن هبيرة، فقال: بلغ من قدره أن يعارض يميني بيمينه، فدعا، فقال: شفاها وحلف له إن لم يل ليضربن على رأسه حتى يموتـ فقال له أبو حنيفة: هي موتة واحدة، فأمر به فضرب عشرين سوطاً على رأسه، فقال أبو حنيفة: اذكر مقامك بين يدي الله، فإنه أذل من مقامي بين يديك، ولا تهددني، فأني أقول: لا إله إلا الله، والله سائلك عني حيث لا يقبل منك جواباً إلا بالحق، فأومأ إلى الجلاد أن أمسك، وبات أبو حنيفة -رضي الله عنه- في السجن، فأصبح وقد انتفخ وجهه ورأسه من الضرب، فقال ابن هبيرة: إني قد رأيتُ النبي -صلى الله عليه وسلم- في النوم، وهو يقول لي: أما تخاف الله تضرب رجلاً من أمتي بلا جرم، وتهدده، فأرسل إليه، فأخرجه، واستحله([29]).
8- إنكاره على خارجي:
عن أبي الوليد الطيالسي قال: قدم الضحاك الشاري الكوفة، فقال لأبي حنيفة: تب، فقال: مم أتوب؟ قال: من قولك بتجويز الحكمين، فقال له أبو حنيفة: تقتلني أو تناظرني؟ فقال: بل أناظرك عليه، قال: فإن اختلفنا في شيء مما تناظرنا فيه فمن بيني وبينك؟ قال: اجعل أنت من شئت، فقال أبو حنيفة لرجل من أصحاب الضحاك: اقعد فاحكم بيننا في ما نختلف فيه إن اختلفنا، ثم قال للضحاك: أترضى بهذا بيني وبينك؟ قال: نعم، فقال أبو حنيفة: فأنت قد جوزت التحكيم، فانقطع الضحاك([30]).
9- إنكاره على سائل:
عن سليمان بن سيف قال: سمعتُ أبا عاصم يقول: قال رجل لأبي حنيفة: متى يحرم الطعام على الصائم؟ قال: إذا طلع الفجر، قال: فقال له السائل: فإن طلع نصف الليل؟ قال: فقال له أبو حنيفة: قم يا أعرج([31]).
10- إنكاره على شيطان الطاق:
وقعت لشيطان الطاق -محمد بن علي بن النعمان- مناظرة مع أبي حنيفة، في شيء يتعلق بفضائل علي، فقال له أبو حنيفة كالمنكر عليه: عن من رويتَ حديث: رد الشمس لعلي؟ فقال: عن من رويت أنت عنه: يا سارية الجبل([32]).
وعن محمد بن جعفر الأسامي قال: كان أبو حنيفة يتهم شيطان الطاق بالرجعة، وكان شيطان الطاق يتهم أبا حنيفة بالتناسخ، قال: فخرج أبو حنيفة يوماً إلى السوق فاستقبله شيطان الطاق، ومعه ثوب يريد بيعه، فقال له أبو حنيفة: أتبيع هذا الثوب إلى رجوع علي؟ فقال: إن أعطيتني كفيلاً أن لا تمسخ قرداً بعتك، فبهت أبو حنيفة، قال: ولما مات جعفر بن محمد، التقى هو وأبو حنيفة، فقال له أبو حنيفة: أما إمامك فقد مات، فقال له شيطان الطاق: أما إمامك فمن المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم([33]).
11- إنكاره على بعض القضاة:
قال ابن خلكان: وكان بين القاضي محمد بن أبي ليلى وبين أبي حنيفة -رضي الله عنه- وحشة يسيرة، وكان يجلس للحكم في مسجد الكوفة، فيحكى أنه انصرف يوماً من مجلسه، فسمع امرأة تقول لرجل: يا ابن الزانيين، فأمر بها، فأخذت، ورجع إلى مجلسه، وأمر بها فضربت حدين، وهي قائمة. فبلغ ذلك أبا حنيفة فقال: أخطأ القاضي في هذه الواقعة في ستة أشياء: في رجوعه إلى مجلسه بعد قيامه منه، ولا ينبغي له أن يرجع بعد أن قام منه، وفي ضربه الحد في المسجد، وقد نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن إقامة الحدود في المساجد، وفي ضربه المرأة قائمة، وإنما تضرب النساء قاعدات كاسيات، وفي ضربه إياها حدين، وإنما يجب على القاذف إذا قذف جماعة بكلمة واحدة حد واحد، ولو وجب أيضاً حدان لا يوالي بينهما، بل يضرب أولاً، ثم يترك حتى يبرأ من ألم الأمل، وفي إقامة الحد عليها بغير طالب.
فبلغ ذلك محمد بن أبي ليلى، فسير إلى والي الكوفة، وقال: ها هنا شاب يقال له: أبو حنيفة يعارضني في أحكامي، ويفتي بخلاف حكمي، ويشنع علي بالخطأ، فأريد أن تزجره عن ذلك، فبعث إليه الوالي ومنعه عن الفتيا، فيقال: إنه كان يوماً في بيته وعنده زوجته وابنه حماد وابنته، فقالت له ابنته: إني صائمة وقد خرج من بين أسناني دم وبصقته، حتى عاد الريق أبيض لا يظهر عليه أثر الدم، فهل أفطر إذا بلعت الآن الريق؟ فقال لها: سلي أخاك حماداً فإن الأمير منعني من الفتيا.
قال ابن خلكان معلقاً: وهذه الحكاية معدودة في مناقب أبي حنيفة، وحسن تمسكه بامتثال إشارة رب الأمر، فإن إجابته طاعة، حتى إنه أطاعه في السر، ولم يرد على ابنته جواباً، وهذا غاية ما يكون من امتثال الأمر([34]).
12- إنكاره على شريكه:
عن علي بن حفص البزاز، قال: كان حفص بن عبد الرحمن شريك أبي حنيفة، وكان أبو حنيفة يجهز عليه، فبعث إليه أنَّ في ثوب كذا عيباً، فإذا بعته فبيِّن، فنسي حفص، وباعه من غير تبيان، من رجل غريب، وعلم أبو حنيفة، فتصدق بجميع ثمنه([35]).
13- إنكاره على من بال قائماً:
عن القاسم بن عثمان قال: مر أبو حنيفة بسكران يبول قائماً، فقال أبو حنيفة: لو بلت جالساً؟([36]).
14- إنكاره على قتادة بعض قوله:
قال قتادة: والله لا أحدثكم بشيء من الحلال والحرام، سلوني عن التفسير، فقام إليه أَبُو حنيفة فقال له: يا أبا الخطاب ما تقول في قول الله تعالى: {قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} [النحل (40)] قال: نعم، هذا آصف بن برخيا بن شمعيا، كاتب سليمان بن داود، كان يعرف اسم الله الأعظم، فقال أبو حنيفة: هل كان سليمان يعرف الاسم؟ قال: لا، قال: فيجوز أن يكون في زمن نبي من هو أعلم من النبي؟([37]).
أقواله وآراؤه الاحتسابية
كان للإمام أبي حنيفة كثير من الآراء والأقوال المتعلقة بالحسبة والاحتساب، منها:
1- عن إبراهيم بن سعيد قال: سمعتُ وكيعاً يقول: كان أبو حنيفة يقول: لو أن رجلاً كسر طنبوراً ضمن([38]).
2- روى محمد بن الحسن عن أبي حنيفة -رضي الله عنه- في الرجل يدعى إلى وليمة أو طعام، فوجد ثمة لعباً، أو غناء، فلا بأس بأن يقعد، ويأكل؛ قال أبو حنيفة -رضي الله عنه-: ابتليت بذلك مرة([39]).
قال في المحيط البرهاني في الفقه النعماني: واعلم بأن هذه المسألة على وجهين:
الأول: أن يكون اللعب والغناء على المائدة، وفي هذا الوجه لا ينبغي له أن يقعد؛ لقوله تعالى: {فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام (68)] وكذلك إذا كان على المائدة قوم يشربون الخمر، فلا ينبغي له أن يقعد، فقد صح أن رسول الله -عليه الصلاة والسلام- نهى أن يتناول الطعام في مجلس يشرب فيه الشراب، وكذلك إذا كان على المائدة قوم يغتابون لا يقعد، والغيبة أشد من اللهو واللعب.
والوجه الثاني: أن يكون اللعب والغناء في المنزل، وفي هذا الوجه لا بأس بأن يقعد على المائدة ويأكل([40]).
وقال في تبيين الحقائق: “والمحكي عن أبي حنيفة -رحمه الله- كان قبل أن يصير مقتدىً به”([41]).
3- رفقه في الإنكار ويدل على ذلك:
ما جاء في تاريخ بغداد ووفيات الأعيان: أنَّ أبا حنيفة -رضي الله عنه- كان له جار إسكافي يعمل نهاره، فإذا رجع إلى منزله ليلاً تعشى ثم شرب، فإذا دب الشراب فيه غنى وقال:
أضاعوني، وأي فتى أضاعوا *** ليوم كريهةٍ وسداد ثغر
ولا يزال يشرب، ويردد هذا البيت، حتى يأخذه النوم، وأبو حنيفة يسمع صوته كل ليلة.
وكان أبو حنيفة يصلي الليل كله، ففقد أبو حنيفة صوته، فسأله عنه، فقيل: أخذه العسس منذ ليالٍ، فصلى أبو حنيفة الفجر من غده، ثم ركب بغلته، وأتى إلى دار الأمير، فاستأذن عليه، فقال: ائذنوا له، وأقبلوا به راكباً، ولا تدعوه ينزل حتى يطأ البساط، ففعل به ذلك، فوسع له الأمير من مجلسه، وقال له: ما حاجتك؟ قال: أشفع في جاري، فقال الأمير: أطلقوه، وكل من أخذ في تلك الليلة، فخلوهم أيضاً، وذهبوا وركب أبو حنيفة بغلته، وخرج والإسكافي يمشي وراءه، فقال له أبو حنيفة: يا فتى! هل أضعناك؟ فقال: بل حفظت ورعيت، فجزاك الله خيراً عن حرمة الجوار، ثم تاب الرجل، ولم يعد إلى ما كان يفعل([42]).
فهذا جانب يسير من سيرة الإمام أبي حنيفة -رحمه الله تعالى- وهي تحكي مدى حرصه على الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ومحاربة البدع، والرد على أهلها، واتباعه لكتاب الله، وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وقد وردت روايات في ذم الامام أبي حنيفة -رحمه الله-، وأكثرها لا تصح، ومرد ذلك الى النزاع الذي استفحل أمره في القرن الثاني بين مدرسة أهل الرأي التي يتزعمها الإمام أبو حنيفة، ومدرسة أهل الحديث، ولا شك أنَّ هذه الخصومة بين الطرفين نتيجة اجتهاد منهم، وقد خدم الطرفان الشريعة الإسلامية، حيث حفظ المحدثون السنة الشريفة من الضياع والتلاعب، واستنبط الفقهاء منها -ومنهم أهل الرأي- أحكام الشريعة، وهكذا تضافرت جهود الطرفين، فالذي ينبغي أن ننظر الى ثمرات جهودهم، ونذكرهم جميعاً بخير، وندع ما كان بينهم من نزاع بسبب اختلاف اجتهادهم.
وأبو حنيفة شأنه شأن بقية الأئمة المجتهدين أصحاب المذاهب الفقهية كلهم اجتازوا القنطرة.
ولا شك أن بعض ما نقل عن المحدثين من أقوال جارحة، وعبارات قاسية، واتهام بالكفر والفسق والضلال للإمام أبي حنيفة، لا يقبل؛ لأن بعضه من قبيل جرح المتعاصرين، وبعضه قد يكون الباعث عليه نقل غير صحيح لآراء أبي حنيفة وأحواله أغضب بعض المحدثين فجرت على ألسنتهم ألفاظ ما كان ينبغي أن يقولوها.
على أنَّ من نافلة القول هنا: أنه يمكن القول: إنَّ الإمام الجليل أبي حنيفة -رحمه الله- قد كان له ميل زائد للأخذ بالقياس، وهذا مما عابه عليه كثيرون.
حتى ذكر محمد بن شجاع قال: سمعتُ الحسن بن أبي ملك، يقول: أخذ حجام من شعر أبي حنيفة، قال: فكان في لحيته، أو رأسه شعرات بيض، فقال للحجام: القط هذه الشعرات البيض، فقال الحجام: إن لقطتها كثُرت -قال: فلو كان تاركاً قياسه تركه في هذا الموضع- فقال له أبو حنيفة: إذا لقطتَ كثُرت، فالقط السود حتى تكثر([43]).