احتساب سعيد بن جُبير رحمه الله
(45 – 95 هـ = 665 – 714 م)
اسمه ونشأته:
هو سعيد بن جبير الأسدي، بالولاء، الكوفي، أبو عبد الله، تابعيّ، وهو حبشي الأصل، من موالي بني والبة بن الحارث من بني أسد.
أخذ العلم عن عبد الله بن عباس وابن عمر، ثم كان ابن عباس إذا أتاه أهل الكوفة يستفتونه، قال: أتسألونني وفيكم ابن أم دهماء؟ يعني: سعيداً؛ ولما خرج عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث، على عبد الملك بن مروان، كان سعيد معه إلى أن قتل عبد الرحمن، فذهب سعيد إلى مكة، فقبض عليه واليها (خالد القسري) وأرسله إلى الحجاج، فقتله بواسط([1]).
قُتل سعيد وله ثلاثة بنين: عبد الله، ومحمد، وعبد الملك([2]).
سعيد بن جُبير من سادات التابعين العلماء:
كان سعيد بن جبير من كبار العلماء الذين اشتهروا بالعلم والتفسير.
سمع سعيد جماعات من أئمة الصحابة، منهم ابن عمر، وابن عباس، وابن الزبير، وعبد الله بن مغفل، وأبو مسعود البدري، وأنس -رضى الله عنهم-، وجماعات من التابعين.
وروى عنه جماعات من التابعين وغيرهم، وكان سعيد من كبار أئمة التابعين، ومتقدميهم في التفسير، والحديث، والفقه، والعبادة، والورع، وغيرها من صفات أهل الخير([3]).
قال عنه أبو نعيم: ومنهم الفقيه البكاء، والعالم الدعاء، السعيد الشهيد، السديد الحميد، أبو عبد الله جبير بن سعيد([4]).
وقال خصيف: كان أعلمهم بالطلاق سعيد بن المسيب، وأعلمهم بالحج عطاء، وأعلمهم بالحلال والحرام طاوس، وأعلمهم بالتفسير مجاهد، وأجمعهم لذلك كله سعيد بن جبير([5]).
وعن أشعث بن إسحاق، قال: كان يُقال: سعيد بن جبير جهبذ العلماء([6]).
وعن عمرو بن ميمون عن أبيه، قال: لقد مات سعيد بن جبير وما على الأرض أحد إلا وهو مُحتاج إلى علمه([7]).
وعن سعيد بن جُبير قال: كنتُ جالساً عند ابن عباس، فأتاه رجل فسأله فقال: ما تقول يا سعيد؟ قلتُ: أنت ابن عباس وجئتُ أقتبس منك، قال: إذا كان لك جليس فسئل، فإنما هو فهم يُؤتيه الله من يشاء([8]).
وعن مغيرة، قال: قيل لسعيد بن جبير: تعلم أحداً أعلم منك؟ قال: نعم عكرمة، قال: فلما قُتل سعيد، قال إبراهيم: ما خلف بعده مثله([9]).
وعن مجاهد قال: قال ابن عباس لسعيد بن جبير: حدِّث، فقال: أُحدث وأنت ها هنا؟ فقال: أو ليس من نعمة الله عليك أن تتحدث وأنا شاهد، فإن أصبتَ فذاك، وإن أخطأتَ علمتُك؟([10]).
وعن أسلم المنقري عن سعيد بن جبير قال: جاء رجل إلى ابن عمر، فسأله عن فريضة، فقال: ائتِ سعيدَ بن جبير، فإنه أعلم بالحساب مني، وهو يفرض منها ما أفرض([11]).
وعن مالك بن دينار، قال: أما رأيتموهم؟! ثم يرجع إلى نفسه، فيقول: بلى، والله لقد رأيناهم: الحسن، وسعيد بن جبير وأشباههم، الرجل منهم يحيي الله بكلامه الفئام من الناس([12]).
وقال سفيان الثوري بالكوفة: “خذوا التفسير عن أربعة: عن سعيد بن جبير، ومجاهد، وعطاء، وعكرمة([13]).
وعن حبيب بن أبي ثابت، قال: اجتمع عندي خمسة لا يجتمع عندي مثلهم أبداً: عطاء، وطاوس، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وعكرمة([14]).
وعن عمرو بن ثابت عن أبيه، عن سعيد بن جبير، قال: وددتُ أن الناس أخذوا ما عندي من العلم؛ فإنه مما يهمني([15]).
سعيد بن جُبير من العُبَّاد العظام:
عن معتمر عن أبيه، عن صاحب له، عن سعيد بن جبير قال: قرأتُ القرآن في الكعبة في ركعتين([16]).
وعن حماد بن أبي سليمان، قال: سمعتُ سعيد بن جبير، يقول: قرأتُ القرآن في الكعبة في ركعة([17]).
وعن إسحاق مولى عبد الله بن عمر بن هلال بن يساف قال: دخل سعيد بن جبير الكعبة فقرأ القرآن في ركعة.
قلتُ: وهذا -إن ثبت- شيءٌ عَجَبٌ، لا يتسهَّل إلا بفيض رباني، ومدد رحماني.
وعن القاسم بن أبي أيوب الأعرج، قال: كان سعيد بن جبير يبكي بالليل حتى عمش.
وعن القاسم بن أبي أيوب، قال: سمعتُ سعيد بن جبير يردد هذه الآية في الصلاة بضعاً وعشرين مرة {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [البقرة (281)] الآية([18]).
وعن الحسن بن صالح، عن ورقاء، قال: كان سعيد بن جبير يختم القرآن فيما بين المغرب والعشاء في شهر رمضان([19]).
وعن هلال بن خباب، قال: خرجتُ مع سعيد بن جبير في أيام مضين من رجب، فأحرم من الكوفة بعمرة، ثم رجع من عمرته، ثم أحرم بالحج في النصف من ذي القعدة، وكان يخرج كل سنة مرتين، مرة للحج، ومرة للعمرة([20]).
وعن أبي جرير أن سعيد بن جبير قال: لا تطفئوا سرجكم ليالي العشر، تُعجبه العبادة، ويقول: أيقظوا خدمكم يتسحرون لصوم يوم عرفة([21]).
وعن الربيع بن أبي راشد قال: رأيتُ سعيد بن جبير جاءنا وقد صلينا، فسمع مؤذناً، فخرج له([22]).
سعيد بن جُبير من سادات المتوكلين:
عن ضرار بن مرة عن سعيد بن جبير قال: التوكل على الله جماع الإيمان([23]).
وعن إسحاق بن سليمان قال: سمعتُ أبا سنان يحدث، عن سعيد بن جبير: أنه كان يدعو: اللهم إني أسألك صدق التوكل عليك، وحسن الظن بك([24]).
وعن أبي سنان، عن سعيد بن جبير، قال: لدغتني عقرب، فأقسمتْ عليّ أمي أن أسترقي، فأعطيتُ الراقي يدي التي لم تُلدغ، وكرهتُ أن أحنثها([25]).
وعن أبي شهاب موسى بن نافع قال: دخلتُ على سعيد بن جبير بمكة، وقد أخذه صداع شديد، فقال له رجلٌ ممن عنده: هل لك أن نأتيك برجل يرقيك من هذه الشقيقة؟ قال: لا حاجة لي في الرقى([26]).
سعيد بن جُبير من مجابي الدعوة:
عن داود بن أبي هند، قال: لما أخذ الحجاج سعيد بن جبير قال: ما أراني إلا مقتولاً، وسأخبركم، إني كنتُ أنا وصاحبين لي، دعونا حين وجدنا حلاوة الدعاء، ثم سألنا الله الشهادة، فكلا صاحبي رزقها، وأنا انتظرها، قال: فكأنه رأى أن الإجابة عند حلاوة الدعاء([27]).
وعن أصبغ بن زيد، قال: كان لسعيد بن جبير ديك يقوم إلى الصلاة إذا صاح، فلم يصح ليلة من الليالي، فأصبح سعيد ولم يصل، قال: فشق ذلك عليه، فقال له: ما له! قطع الله صوته، قال: فما سمع ذاك الديك يصيح بعدها، فقالت له أمه: أي بني، لا تدعُ على شيء بعدها([28]).
سيرته الاحتسابية
سيرة ابن جبير الاحتسابية سيرة حافلة بالاحتساب، مليئة بالمواقف الاحتسابية، وهاكم لمحة يسيرة من هذه السيرة العطرة:
1- إنكاره على من أساء في صلاته:
عن عبد الله بن العيزار قال: كنتُ أطوف مع سعيد بن جبير، فرأى رجلاً يصلي واضعاً إحدى يديه على الأخرى، هذه على هذه، وهذه على هذه، فذهب ففرق بينهما، ثم جاء([29]).
2- إنكاره على من علَّق على عنقه خرزة:
عن محمد بن سوقة، أنَّ سعيد بن جبير: رأى إنساناً يطوف بالبيت في عنقه خرزة، فقطعها([30]).
3- إنكاره على من يَتْبَعه في المشي:
عن الهيثم بن حبيب، أنَّ سعيد بن جبير، رأى ناساً يتبعونه فنهاهم، وقال: إنَّ هذا مذلة للتابع، فتنة للمتبوع([31]).
4- إنكاره على من يُصلي النافلة وقت الإقامة:
عن فضيل، عن سعيد بن جبير، أنه رأى رجلاً يصلي عند إقامة العصر، قال: يسرك أن يقال: صلى ابن فلانة ستاً، قال: فذكرتُ ذلك لإبراهيم، فقال: كانت تكره الصلاة مع الإقامة([32]).
5- إنكاره على مجالسة أهل البدع:
قال سعيد بن جبير لأيوب: لا تجالس طلق بن حبيب فإنه مرجئ([33]).
وعن أيوب، قال: رآني سعيد بن جبير، جلستُ إلى طلق بن حبيب، فقال لي: ألم أرك جلست إلى طلق بن حبيب؟! لا تجالسنه([34]).
وعن أيوب قال: رآني سعيد بن جبير وأنا جالس إلى طلق بن حبيب، قال أيوب: وما أدركت بالبصرة أعبد منه، ولا أبر بوالديه منه، يعني من طلق، وكان يرى رأي المرجئة، فقال سعيد: ألم أرك جالساً إليه؟! لا تجالسه، قال أيوب: وكان والله ناصحاً، وما استشرته([35]).
5- إنكاره على من يرفع صوته بعد الجنازة:
عن العلاء، عن سعيد بن جبير، قال: كنتُ معه في جنازة، فسمع رجلاً يقول: استغفروا له، غفر الله لكم، فنهاه([36]).
وعن بكير العامري، قال: سمع سعيد بن جبير، رجلاً يقول في جنازة: استغفروا لها، فقال: لا غفر الله لك([37]).
وعن الربيع بن أبي أزهر، أن سعيد بن جبير، سمع رجلاً يقول في جنازة: استغفروا له، غفر الله لكم، فغضب([38]).
وعن العلاء، عن سعيد بن جبير، قال: كنتُ معه في جنازة، فسمع رجلاً يقول: استغفروا له، غفر الله لكم، فنهاه([39]).
وعن بكير بن عتيق، قال: كنتُ في جنازة فيها سعيد بن جبير، فقال رجل: استغفروا له، غفر الله لكم، قال سعيد بن جبير: لا غفر الله لك([40]).
6- إنكاره على التطريب بالقرآن:
عن عطاء بن السائب قال: قال سعيد بن جبير لرجل: ما الذي أحدثتم بعدي؟ قال: لم نُحدث بعدك شيئاً، قال: بلى، الأعمى، وابن الصيقل، يغنيانكم بالقرآن!([41]).
7- إنكاره على من يغتاب الناس:
عن مسلم البطين، عن سعيد بن جبير أنه كان لا يدع أحداً يغتاب عنده أحداً، يقول: إن أردتَ ذلك ففي وجهه([42]).
8- إنكاره على الكلام بعد ركعتي الفجر:
وعن حصيف قال: سألتُ سعيد بن جبير عن آية بعد الركعتين فلم يجبني، قال: فلما صلَّى قال: إنه ليكره الكلام بعد الركعتين، قلتُ: يقول الرجل لأهله: الصلاةَ، قال: لا بأس([43]).
وعن خصيف، قال: سألتُ سعيد بن جبير عن آية بعد ركعتي الفجر، فلم يجبني، فلما صلى قال: إن الكلام يكره بعدهما([44]).
وعن خصيف، قال: رأيتُ سعيد بن جبير صلى ركعتين خلف المقام قبل صلاة الصبح، قال: فأتيته، فصليتُ إلى جنبه، وسألته عن آية من كتاب الله، فلم يجبني، فلما صلى الصبح قال: إذا طلع الفجر فلا تتكلم إلا بذكر الله، حتى تُصلي الصبح([45]).
9- إنكاره على الصلاة قبل صلاة عيد الفطر:
عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، قال: كنتُ معه جالساً في المسجد الحرام يوم الفطر، فقام عطاء يُصلي قبل خروج الإمام، فأومأ إليه سعيد: أن اجلس، فجلس عطاء، قال: فقلتُ لسعيد: عمن هذا يا أبا عبد الله؟! فقال: عن حذيفة وأصحابه([46]).
10- إنكاره على مس الحصى أثناء خطبة الجمعة:
عن سعيد بن عبد الله بن يسار، قال: كنتُ مع سعيد بن جبير يوم الجمعة والإمام يخطب، فمسستُ الحصى، فضرب يدي([47]).
11- إنكاره على النوم في حجر البيت:
عن أيمن بن نابل، قال: رآني سعيد بن جبير، وأنا نائم في الحجر، فأيقظني، وقال: مثلك ينام ها هنا؟!([48]).
12- إنكاره على من أدخل رأسه بين الستر والبيت:
عن عبد العزيز بن أبان، ثنا إسرائيل، عن أبي عبد الله قال: كنتُ مع سعيد بن جبير، فرأى رجلاً يدخل رأسه بين الستر والبيت، فنهاه، وقال: سمعتُ ابن عباس يقول: نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يدخل المحرم رأسه بين الستر والبيت([49]).
13- إنكاره على إعادة الوتر:
عن أبي شهاب موسى بن نافع الكوفي الأسدي، قال: ذكرتُ لسعيد بن جبير إني تركتُ بالكوفة ناساً يُوترون قبل أن يناموا، مخافة أن لا يستيقظوا للوتر، فيرزقهم الله قياماً من الليل فيصلون شفعاً ما بدا لهم، ثم يعيدون وترهم، فقال: هذا من البدع، إذا أنتَ أوترتَ قبل أن تنام، ثم رزقك الله قياماً بعد وترك، فصلِ شفعاً ما بدا لك، ولا تعد وترك، واكتف بالذي كان([50]).
14- إنكاره على التماوت:
روي أنَّ سعيد بن جبير رأى رجلاً متماوتاً في العبادة، فقال: يا ابن أخي، إن الإسلام حيّ فأحيه، ولا تمته، أماتك الله ولا أحياك، وكان يقول: من ذم نفسه في الملأ فقد مدحها وبئس ما صنع([51]).
15- إنكاره على من لم يُحسن الاستئذان:
عن صالح العدوي، قال: بعثني أهلي إلى سعيد بن جبير بهدية، فانتهيتُ إلى الباب، وهو يتوضأ، فقلتُ: أدخلُ؟ فسكتَ ثلاثاً، قال: قل: السلام عليكم، قال: فدخلتُ، فقال: لم أرك تهتدي إلى السنة فعلمتك([52]).
16- إنكاره على من لبس خاتم ذهب:
عن عبد الملك، قال: رأى سعيد بن جبير على شاب من الأنصار خاتماً من ذهب، فقال: أما لك أخت؟! قال: بلى، قال: فأعطه إياها([53]).
17- إنكاره على مَن بكى عليه:
عن الربيع بن أبي صالح، قال: دخلتُ على سعيد بن جبير، حين جيء به إلى الحجاج، قال فبكى رجل من القوم، فقال سعيد: ما يبكيك؟! قال: لما أصابك، قال: فلا تبكِ، كان في علم الله أن يكون هذا، ثم قرأ: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [الحديد (22)]([54]).
18- إنكاره على من يتكفأ في صلاته:
عن عبد الله بن مسلم بن هرمز، عن سعيد بن جبير أنه كان ينكر أن يتكفأ الرجل في صلاته، قال: وما رأيته قط يُصلي إلا كأنه وتد([55]).
19- إنكاره على من أنكر عليه:
عن ابن جريج قال: عن رجل عن سعيد بن جبير، وجاء مقبرة مكة، فقيل له: أتطأ على القبر؟! قال: فأين أطؤها؟ ها هنا؟ وأشار إلى ثنية المدنيين([56]).
20- إنكاره على صيد الجراد في الحرم:
عن الوليد بن عبد الله قال: رأيتُ سعيد بن جبير بمكة يخرج فيرى في أيدي الصبيان الجراد فيقتله من أيديهم، وكان يراه صيداً([57]).
21- إنكاره على اتباع الجنائز بالنار:
عن عبد الأعلى قال: كنتُ مع سعيد بن جبير، وهو يتبع جنازة، معها مجمر، يتبع بها، فرمى بها، فكسرها، وقال: سمعتُ ابن عباس يقول: “لا تشبهوا بأهل الكتاب”([58]).
22- إنكاره على من أراده أن يُفسر القرآن برأيه:
عن مروان الأصفر، قال: كنتُ عند سعيد بن جبير جالساً، فسأله رجل عن آية من كتاب الله -عز وجل-، فقال له سعيد: الله أعلم، فقال له الرجل: قل فيها أصلحك الله برأيك، فقال: أقول في كتاب الله برأيي؟! فردده مرتين أو ثلاثاً، ولم يجبه بشيء([59]).
23- إنكاره على من أصابه الجزع:
عن أبي الحسن المدائني، قال: رأى ابن جبيرٍ رجلاً يطوف بالبيت، متقنعاً، فقال سعيدٌ: ما لك؟ قال نُعي إلي أبي! قال: الاستكانة من الجزع([60]).
24- إنكاره على من ينظر للنساء غير نظر الفجأة:
عن موسى الجهني، قال: كنتُ مع سعيد بن جبير في طريق، فاستقبلتنا امرأة، فنظرنا إليها جميعاً، قال: ثم إن سعيداً غض بصره، فنظرتُ إليها، قال: فقال لي سعيد: الأولى لك، والثانية عليك([61]).
25- إنكاره على مُحْرم غطَّى رأسه:
عن عمار قال: رأى سعيد بن جبير محرماً، قد عصب رأسه بسير، فقطعه([62]).
26- إنكاره على رمى نعامة حية:
عن النعمان بن علي قال: مرَّ سعيد بن جبير على نعامة، ملقاة على الكناسة، تتحرك، فقال: ما هذه؟! فقالوا: نخاف أن تكون موقوذة؟ فقال: كدتم تدعوها للشيطان، إنما الوقيذ ما مات في وقيذه([63]).
27- إنكاره على مَن أهمل التلبية:
عن أيوب قال: رأيتُ سعيد بن جبير يُوقظ ناساً من أهل اليمن، في المسجد، ويقول: قوموا لبوا، فإن زينة الحج التلبية([64]).
28- إنكاره على مُحْرم:
عن ابن سوقة، قال: رأى عليَّ سعيد بن جبير طيلساناً كان فيه أزرار ديباج نزعتها، فقال: لم نزعتها؟ قلتُ له: قال لي أصحابي: أتلبس هذا وأنت محرم؟ قال: وما يضرك؟!([65])
29- إنكاره على امرأة تعد الأشواط بحصى في يدها:
عن أبي بشر، أن سعيد بن جبير، رأى امرأة تطوف بيدها حصيات تعد الطواف، فضرب يدها([66]).
30- إنكاره على من لبس الخز (حرير مخلوط بغيره):
عن عبد الكريم الجزري، قال: رأيتُ على أنس بن مالك جبة خز، وكساء خز، وأنا أطوفُ مع سعيد بن جبير بالبيت، فقال سعيد: لو أدركه السلف لأوجعوه([67]).
31- إنكاره على من يتقلب في مُعتقده:
عن حمزة الزيات، عن أبي المختار، قال: شكا ذرٌ سعيدَ بن جبير، إلى أبي البختري الطائي، قال: مررتُ فسلمتُ، فلم يرد عليَّ، فقال أبو البختري لسعيد بن جبير، فقال سعيد بن جبير: إنَّ هذا يُجددُ في كل يوم دِيناً، لا والله، لا كلمته أبداً([68]).
آراؤه وأقواله ومروياته الاحتسابية
1- عن مالك، عن ربيعة، قال: سمعتُ سعيد بن جبير، يقول: ليس الذي يقول الخير ويفعله بخير ممن يسمعه ويتقبله حين يسمعه([69]).
2- وعن عبد الكريم أبي أمية، عن سعيد بن جبير، ومجاهد أن ابن عمر، تبع جنازة، فرأى نساء يتبعنها ويصرخن، فأقبل عليهن وقال: أف لكن، أذى على الميت، وفتنة على الحي، ثلاث مرات([70]).
3- وعن هلال بن خباب، قال: قلتُ لسعيد بن جبير: ما علامة هلاك الناس؟! قال: إذا ذهب أو هلك علماؤهم([71]).
4- وعن الربيع بن أبي راشد، عن سعيد بن جبير، في قوله تعالى: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ} [العنكبوت (56)] قال: إذا عمل في أرض بالمعاصي، فاخرجوا([72]).
5- وعن سعيد بن جبير، عن ابن عمر، أنه رأى رجلاً يجهر بالقراءة نهاراً، فدعاه، فقال: إن صلاة النهار لا يجهر فيها، فأسر قراءتك([73]).
6- وعن أسلم المنقري، قال: كان سعيد بن جبير إذا مرَّ على أصحاب النرد لم يسلم عليهم([74]).
7- وعن عمار صاحب السابري، قال: سمعتُ سعيد بن جبير، يسأل عن السلم في الحيوان فنهى عنه، فقال: قد كنتَ بأذربيجان سنتين تراهم يفعلونه ولا تنهاهم، فقال سعيد: أنشر بزي عند من لا يريده، كان حذيفة بن اليمان ينهى عنه([75]).
8- وعن حسان بن أبي يحيى، قال: سأل رجل سعيد بن جبير عن الصدقة، قال: هي إلى ولاة الأمر، قال: فإن الحجاج يبني بها القصور، ويضعها في غير مواضعها، قال: ضعها حيث أُمرت به([76]).
9- وعن إبراهيم بن مهاجر، قال: كان الحجاج يُؤخر الجمعة، فكنتُ أنا أصلي وإبراهيم وسعيد بن جبير، فصلينا الظهر، ثم نتحدث وهو يخطب، ثم نصلي معهم، ثم نجعلها نافلة([77]).
10- عن ابن علية قال: قلتُ لسعيد بن جبير: أدع أحداً يمر بين يدي؟ قال: لا، قلتُ: فإن أبى؟ قال: فما تصنع؟ قلتُ: بلغني أن ابن عمر كان لا يدع أحداً يمر بين يديه، قال: إن ذهبتَ تصنع صنيع ابن عمر دق أنفك([78]).
11- وعن ابن جريج، عمن حدَّثه أنَّ سعيد بن جبير كان يتكلم إذا قُرئت الصحف يوم الجمعة([79]).
12- وعن سعيد بن جبير قال: من قطع تميمة من الإنسان كان كعدل رقبة([80]).
13- وعن أيوب، عن سعيد بن جبير، أن قريباً لعبد الله بن مغفل خذف، قال: فنهاه، وقال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى عن الخذف، وقال: ((إنها لا تصيد صيداً، ولا تنكأ عدواً، ولكنها تكسر السن، وتفقأ العين)) قال: فعاد، فقال: أحدثك أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى عنه، ثم تخذف، لا أكلمك أبداً([81]).
14- وعن سعيد بن جبير قال: قال رجل لابن عباس: آمر أميري بالمعروف؟ قال: إن خفتَ أن يقتلك فلا تؤنِّب الإمام، فإن كنتَ لا بد فاعلاً، فيما بينك وبينه([82]).
15- قال مالك: قال سعيد بن جبير: لو كان المرء لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر حتى لا يكون فيه شيء ما أمر أحد بمعروف، ولا نهى عن منكر، قال مالك: ومن هذا الذي ليس فيه شيء؟!([83]).
16- وعن معاوية بن إسحاق، قال: سمعتُ سعيد بن جبير، قال: سألتُ ابن عباس، قلتُ: أميري آمره بالمعروف، وأنهاه عن المنكر؟ قال: إن خشيتَ أن يقتلك، فلا([84]).
17- وعن معاوية بن إسحاق، عن سعيد بن جبير قال: قلتُ لابن عباس: آمر أميري بالمعروف وأنهى عن المنكر، فقال: إن خفتَ أن يقتلك، فلا تعنف السلطان، فإن كنتَ لا بد فاعلاً، ففيما بينك وبينه([85]).
قصة مقتله –رحمه الله–
عن إسماعيل بن زربي، قال: سمعتُ سعيد بن جبير، يقول: ما زال البلاء بأصحابي حتى رأيتُ أن ليس لله فيَّ حاجة، حتى نزل بي البلاء([86]).
وعن حفص بن خالد قال: حدثني مَن سمع سعيد بن جبير يقول يوم أُخذ: وَشَى بي واشٍ، في بلد الله الحرام، أكله إلى الله([87]).
وذكروا أنَّ مسلمة بن عبد الملك كان والياً على مكة -قبل خالد القسري-؛ فبينا هو يخطب على المنبر، إذ أقبل خالد بن عبد الله القسري من الشام والياً عليها، فدخل المسجد؛ فلما قُضي مسلمة خطبته، صعد خالد المنبر، فلما ارتقى في الدرجة الثانية تحت مسلمة، أخرج طوماراً ففضه، ثم قرأه على الناس، فإذا فيه: “بسم الله الرحمن الرحيم: من عبد الملك بن مروان أمير المؤمنين إلى أهل مكة، أما بعد: فإني وليتُ عليكم خالد بن عبد الله القسري، فاسمعوا له وأطيعوا، ولا يجعلن امرؤ على نفسه سبيلاً؛ فإنما هو القتل لا غيره، وقد برئت الذمة من رجل آوى سعيد بن جبير، والسلام”.
ثم التفتَ إليهم خالد، فقال: والذي يُحلف به، ويُحج إليه، لا أجده في دار أحد إلا قتلته، وهدمتُ داره، ودار كل من جاوره، واستبحتُ حرمه، وقد أجلتُ لكم فيه ثلاثة أيام، ثم نزل ودعا مسلمة برواحله، ولحق بالشام، فأتى رجل إلى خالد، فقال له: إنَّ سعيد بن جبير بوادي كذا، من أودية مكة، مختفياً بمكان كذا؛ فأرسل خالد في طلبه، فأتاه الرسول، فلما نظر إليه قال لي: إنني أُمرتُ بأخذك، وأتيتُ لأذهب بك، وأعوذُ بالله من ذلك، فألحق بأي بلد شئتَ، وأنا معك، فقال سعيد بن جبير: ألك ها هنا أهل وولد؟ قال: نعم، قال: إنهم يُؤخَذُون بعدك، وينالهم من المكروه مثل الذي كان ينالني، قال: وإني أكلهم إلى الله -عز وجل-، قال سعيد: لا يكون هذا؟ فأتى به إلى خالد فشدجه وثاقاً، ثم بعث به إلى الحجاج؛ فقال له رجل من أهل الشام: إنَّ الحجاج قد أنذر به، وأشعر قبلك، فما عرض له، فلو جعلته بينك وبين الله تعالى، لكان أزكى من كل عمل يُتقرب به إلى الله -عز وجل-، قال خالد -وظهره إلى الكعبة وقد استند إليها-: والله لو علمتُ أن عبد الملك لا يرضى إلا بنقض هذا البيت حجراً لنقضته في مرضاته([88]).
وعن عون بن أبي شداد العبدي، قال: بلغني أن الحجاج بن يوسف لما ذُكر له سعيد بن جبير أرسل إليه قائداً من أهل الشام من خاصة أصحابه، يُسمى المتلمس بن الأحوص، ومعه عشرون رجلاً من أهل الشام، من خاصة أصحابه، فبينما هم يطلبونه إذا هم براهب في صومعة له، فسألوه عنه، فقال الراهب: صفوه لي، فوصفوه له، فدلهم عليه، فانطلقوا، فوجدوه ساجداً يناجي بأعلى صوته، فدنوا منه، فسلموا عليه، فرفع رأسه، فأتم بقية صلاته، ثم رد عليهم السلام، فقالوا: إنا رسل الحجاج إليك، فأجبه، قال: ولا بد من الإجابة؟! قالوا: لا بد من الإجابة، فحمد الله، وأثنى عليه، وصلى على نبيه، ثم قام فمشى معهم، حتى انتهى إلى دير الراهب، فقال الراهب: يا معشر الفرسان، أصبتم صاحبكم؟ قالوا: نعم، فقال لهم: اصعدوا الدير، فإن اللبوة والأسد يأويان حول الدير، فعجلوا الدخول قبل المساء، ففعلوا ذلك، وأبى سعيد أن يدخل الدير، فقالوا: ما نراك إلا وأنت تريد الهرب منا، قال: لا، ولكن لا أنزل منزل مشرك أبداً، قالوا: فإنا لا ندعك، فإنَّ السباع تقتلك، قال سعيد: لا ضير، إن معي ربي، فيصرفها عني، ويجعلها حرساً حولي يحرسونني من كل سوء -إن شاء الله-، قالوا: فأنت من الأنبياء؟ قال: ما أنا من الأنبياء، ولكن عبد من عبيد الله، خاطئ مذنب، قال الراهب: فليعطني ما أثق به على طمأنينته، فعرضوا على سعيد أن يعطي الراهب ما يريد، قال سعيد: إني أعطي العظيم الذي لا شريك له، لا أبرح مكاني حتى أصبح -إن شاء الله-، فرضي الراهب ذلك، فقال لهم: اصعدوا، وأوتروا القسي لتنفروا السباع عن هذا العبد الصالح، فإنه كره الدخول عليَّ في الصومعة لمكانكم، فلما صعدوا، وأوتروا القسي إذا هم بلبوة قد أقبلت، فلما دنت من سعيد تحاكت به، وتمسحت به، ثم ربضت قريباً منه، وأقبل الأسد وصنع مثل ذلك، فما رأى الراهب ذلك، وأصبحوا نزل إليه، فسأله عن شرائع دينه، وسنن رسوله محمد -صلى الله عليه وسلم-، ففسر له سعيد ذلك كله، فأسلم الراهب، وحسن إسلامه، وأقبل القوم على سعيد يعتذرون إليه، ويُقبلون يديه ورجليه، ويأخذون التراب الذي وطئه بالليل، فصلوا عليه، فيقولون: يا سعيد، قد حلفنا الحجاج بالطلاق والعتاق إن نحن رأيناك لا ندعك حتى نشخصك إليه، فمرنا بما شئت، قال: امضوا لأمركم، فإني لائذ بخالقي، ولا راد لقضائه، فساروا حتى بلغوا واسطاً، فلما انتهوا إليها، قال لهم سعيد: يا معشر القوم، قد تحرمت بكم وصحبتكم، ولست أشك أن أجلي قد حضر، وأن المدة قد انقضت، فدعوني الليلة آخذ أهبة الموت، وأستعد لمنكر ونكير، وأذكر عذاب القبر، وما يحثى علي من التراب، فإذا أصبحتم فالميعاد بيني وبينكم الموضوع الذي تريدون، قال بعضهم: لا نريد أثراً بعد عين، وقال بعضهم: قد بلغتم أملكم، واستوجبتم جوائزكم من الأمير، فلا تعجزوا عنه، فقال بعضهم: يعطيكم ما أعطى الراهب، ويلكم أما لكم عبرة بالأسد، كيف تحاكت به، وتمسحت به وحرسته إلى الصباح؟! فقال بعضهم: هو عليَّ أدفعه إليكم -إن شاء الله-، فنظروا إلى سعيد قد دمعت عيناه، وشعث رأسه، وأغبر لونه، ولم يأكل، ولم يشرب، ولم يضحك منذ يوم لقوه وصحبوه، فقالوا بجماعتهم: يا خير أهل الأرض، ليتنا لم نعرفك، ولم نسرح إليك، الويل لنا ويلاً طويلاً، كيف ابتلينا بك، اعذرنا عند خالقنا يوم الحشر الأكبر، فإنه القاضي الأكبر، والعدل الذي لا يجور، فقال سعيد: ما أعذرني لكم وأرضاني لما سبق من علم الله تعالى فيَّ، فلما فرغوا من البكاء والمجاوبة والكلام بما بينهم، قال كفيله: أسألك بالله يا سعيد لما زودتنا من دعائك وكلامك، فإنا لن نلقى مثلك أبداً، ولا نرى أنا نلتقي إلى يوم القيامة، قال: ففعل ذلك سعيد، فخلوا سبيله، فغسل رأسه ومدرعته وكساءه، وهم مختفون الليل كله، ينادون بالويل واللهف، فلما انشق عمود الصباح جاءهم سعيد بن جبير، فقرع الباب، فقالوا: صاحبكم ورب الكعبة، فنزلوا إليه، وبكوا معه طويلاً، ثم ذهبوا به إلى الحجاج، وآخر معه، فدخلا إلى الحجاج، فقال الحجاج: أتيتموني بسعيد بن جبير؟ قالوا: نعم، وعاينا منه العجب، فصرف بوجهه عنهم، قال: أدخلوه عليَّ، فخرج الملتمس، فقال لسعيد: استودعتك الله، وأقرأ عليك السلام، قال: فأدخل عليه، قال له: ما اسمك؟ قال: سعيد بن جبير، قال: أنت الشقي بن كسير، قال: بل كانت أمي أعلم باسمي منك، قال: شقيتَ أنت وشقيتْ أمك، قال: الغيب يعلمه غيرك، قال: لأبدلنك بالدنيا ناراً تلظى، قال: لو علمتُ أن ذلك بيدك لاتخذتك إلهاً، قال: فما قولك في محمد؟ قال: نبي الرحمة، إمام الهدى -عليه الصلاة والسلام-، قال: فما قولك في علي، في الجنة هو أو في النار؟ قال: لو دخلتها رأيتُ أهلها عرفتُ مَن بها، قال: فما قولك في الخلفاء؟ قال: لستُ عليهم بوكيل، قال: فأيهم أعجب إليك؟ قال: أرضاهم لخالقي، قال: فأيهم أرضى للخالق، قال: علم ذلك عند الذي يعلم سرهم ونجواهم، قال: أبيتَ أن تصدقني، قال: إني لم أحب أن أكذبك، قال: ما بالك لم تضحك؟ قال: وكيف يضحك مخلوق خلق من الطين، والطين تأكله النار، قال: ما بالنا نضحك؟ قال: لم تستوِ القلوب، قال: ثم أمر باللؤلؤ والزبرجد والياقوت فجمعه بين يدي سعيد بن جبير، فقال له سعيد: إن كنتَ جمعتَ هذه لتفتدي به من فزع يوم القيامة فصالح، وإلا ففزعة واحدة تذهل كل مرضعة عما أرضعت، ولا خير في شيء جمع للدنيا إلا ما طاب وزكا، ثم دعا الحجاج بالعود والناي، فلما ضرب بالعود، ونفخ بالناي بكى سعيد بن جبير، فقال له: ما يبكيك؟ هو اللهو؟ قال سعيد: بل هو الحزن، أما النفخ، فقد ذكرني يوماً عظيماً يوم ينفخ في الصور، وأما العود فشجرة قُطعت في غير حق، وأما الأوتار فإنها معاء الشاء، يُبعث بها معك يوم القيامة، فقال الحجاج: ويلك يا سعيد، فقال سعيد: الويل لمن زحزح عن الجنة، وأدخل النار، قال الحجاج: اختر يا سعيد أي قتلة تريد أن أقتلك؟ قال: اختر لنفسك يا حجاج، فو الله ما تقتلني قتلة إلا قتلك الله مثلها في الآخرة، قال: أفتريد أن أعفو عنك؟ قال: إن كان العفو فمن الله، وأما أنت فلا براءة لك ولا عذر، قال: اذهبوا به فاقتلوه، فلما خرج من الباب ضحك، فأخبر الحجاج بذلك فأمر برده، فقال: ما أضحكك؟ قال: عجبتُ من جراءتك على الله، وحلم الله عنك! فأمر بالنطع فبسط، فقال: اقتلوه، قال سعيد: وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً مسلماً وما أنا من المشركين، قال: شدوا به لغير القبلة، قال سعيد: أينما تولوا فثم وجه الله، قال: كبوه لوجهه، قال سعيد: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} [طه (55)] قال الحجاج: اذبحوه، قال سعيد: أما إني أشهد وأحاج أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، خذها مني حتى تلقاني يوم القيامة، ثم دعا سعيد الله، فقال: اللهم لا تُسلطه على أحد يقتله بعدي، فذُبح على النطع -رحمه الله-، قال: وبلغنا أن الحجاج عاش بعده خمسة عشر ليلة، ووقع الأكلة في بطنه، فدعا بالطبيب لينظر إليه، ثم دعا بلحم منتن فعلق في خيط، ثم أرسله في حلقة فتركها ساعة، ثم استخرجها وقد لزق به من الدم، فعلم أنه ليس بناج، وبلغنا أنه كان ينادي بقية حياته: ما لي ولسعيد بن جبير، كلما أردتُ النوم أخذ برجلي([89]).
قال سفيان: لم يقتل بعد سعيد بن جبير إلا رجلاً واحداً([90]).
وعن أنس بن أبي شيخ قال: لما أُتِيَ الحجاجُ بسعيد بن جبيرٍ قال: لُعِنَ ابنُ النَّصرانية، يعني خالداً القسري، وكان هو الذي أَرسَلَ به مِن مكة، أَمَا كنتُ أعرفُ مكانَه؟! بلى واللهِ، والبيتَ الذي هو فيه بمكة([91]).
وعن خلف بن خليفة، عن أبيه، قال: شهدتُ مقتل سعيد بن جبير، فلما بان رأسه قال: لا إله إلا الله، لا إله إلا الله، ثم قالها الثالثة فلم يتمها([92]).
وعن عمرو بن سعيد، قال: دعا سعيد بن جبير ابنه حين دعي ليقتل، فجعل ابنه يبكي، فقال: ما يبكيك؟! ما بقاء أبيك بعد سبع وخمسين سنة؟!([93]).
قال ابن خلكان: ولما قتله سال منه دم كثير، فاستدعى الحجاج الأطباء، وسألهم عنه، وعمن كان قتله قبله، فإنه كان يسيل منهم دم قليل، فقالوا له: هذا قتلته ونفسه معه، والدم تبع للنفس، ومن كنتُ تقتله قبله، كانت نفسه تذهب من الخوف، فلذلك قل دمهم.
وقيل للحسن البصري: إن الحجاج قد قتل سعيد بن جبير، فقال: اللهم ايتِ على فاسق ثقيف، والله لو أنَّ من بين المشرق والمغرب اشتركوا في قتله لكبهم الله -عز وجل- في النار.
ويقال: إن الحجاج لما حضرته الوفاة كان يغوص ثم يفيق، ويقول: ما لي ولسعيد بن جبير، وقيل: إنه في مدة مرضه كان إذا نام رأى سعيد بن جبير آخذاً بمجامع ثوبه يقول له: يا عدو الله، فيم قتلتني؟! فيستيقظ مذعوراً، ويقول: ما لي ولسعيد بن جبير! ويقال: إنه رئي الحجاج في النوم بعد موته، فقيل له: ما فعل الله بك؟! فقال: قتلني بكل قتيل قتلته قتلة، وقتلني بسعيد ابن جبير سبعين قتلة([94]).
رحمه الله، وتقبله في الشهداء.