احتساب أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه
(000 – 52 هـ = 000 – 672 م)
اسمه:
هو خالد بن زيد بن كليب بن ثعلبة بن عبد عوف بن غنم بن مالك بن النجار، أبو أيوب الأنصاري، معروف باسمه وكنيته.
وأمه هند بنت سعيد بن عمرو، من بني الحارث بن الخزرج([1]).
فضله ومكانته:
أبو أيوب الأنصاري صحابي جليل، من السابقين، شهد العقبة وبدراً، وما بعدها.
ونزل عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- لمّا قدم المدينة، فأقام عنده حتى بنى بيوته ومسجده، وآخى بينه وبين مصعب بن عمير.
وشهد الفتوح، وداوم الغزو، واستخلفه عليّ على المدينة لما خرج إلى العراق، ثم لحق به بعد، وشهد معه قتال الخوارج([2]).
وكان شجاعاً صابراً تقياً محباً للغزو والجهاد، عاش إلى أيام بني أمية، وكان يسكن المدينة، فرحل إلى الشام، ولما غزا يزيد القسطنطينية في خلافة أبيه معاوية، صحبه أبو أيوب غازياً، فحضر الوقائع، ومرض فأوصَى أن يوغل به في أرض العدو، فلما توفي دفن في أصل حصن القسطنطينية.
وله مناقب جمة، منها:
نزول النبي في منزله:
فقد خصَّه النبي -صلى الله عليه وسلم- بالنزول عليه في بني النجار، وأقام عنده شهراً، إلى أن بنيت له مساكنه ومسجده([3]).
فهذه من أعظم المناقب لأبي أيوب الأنصاري.
وقد كان الصحابة يقدرون لأبي أيوب هذه المنقبة، فقد جاء عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: أنه كان أميراً على البصرة لعلي، وأن أبا أيوب الأنصاري وفد عليه، فبالغ في إكرامه، وقال: لأجزينك على إنزالك النبي -صلى الله عليه وسلم- عندك، فوصله بكل ما في المنزل، فبلغ ذلك أربعين ألفاً([4]).
علمه:
أبو أيوب الأنصاري من علماء الصحابة.
روى عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وعن أبي بن كعب.
فقد روى عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مائة وخمسين حديثًا، اتفق البخاري ومسلم على سبعة منها، وانفرد البخاري بحديث، ومسلم بخمسة.
روى عنه البراء بن عازب، وجابر بن سمرة، والمقدام بن معدي كرب، وأبو أمامة الباهلي، وزيد بن خالد الجهني، وابن عباس، وعبد الله بن يزيد الخطمي، وكلهم صحابة.
وسعيد بن المسيب، وسالم بن عبد الله، وعروة بن الزبير، وعطاء بن يزيد الليثي، وعبد الله بن حنين، وخلائق سواهم([5]).
سيرته الاحتسابية
كان لأبي أيوب الأنصاري -رضي الله عنه- سيرة احتسابية حافلة بالمواقف العظيمة، نذكر طرفاً منها:
1- إنكاره على تأخير صلاة المغرب:
فعن مرثد بن عبد الله، قال: لما قدم علينا أبو أيوب غازياً، وعقبة بن عامر يومئذٍ على مصر فأخر المغرب، فقام إليه أبو أيوب، فقال: له ما هذه الصلاة يا عقبة؟!
فقال: شُغلنا، قال: أما سمعتَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((لا تزال أمتي بخير -أو قال: على الفطرة- ما لم يؤخروا المغرب إلى أن تشتبك النجوم))([6]).
وفي مسند أحمد:
فحبس عقبة بن عامر بالمغرب، فلما صلى قام إليه أبو أيوب الأنصاري، فقال له: يا عقبة، أهكذا رأيتَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصلي المغرب؟! أما سمعته من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((لا تزال أمتي بخير أو على الفطرة، ما لم يؤخروا المغرب، حتى تشتبك النجوم؟)).
قال: فقال: بلى، قال: فما حملك على ما صنعت؟ قال: شغلت، قال: فقال أبو أيوب: أما والله ما بي إلا أن يظن الناس أنك رأيتَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصنع هذا!([7]).
2- إنكاره على مروان:
عن محمد بن كعب قال: كان أبو أيوب يخالف مروان، فقال: ما يحملك على هذا؟!
قال: إني رأيتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصلي الصلوات، فإن وافقته وافقناك، وإن خالفته خالفناك([8]).
3- إنكاره على القتل صبراً:
عن عبيد بن يعلى، قال: غزونا مع أبي أيوب الأنصاري صاحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وعلى الناس عبد الرحمن بن خالد، فأمرهم بالنبل، حتى قتلوا صبراً، فقال أبو أيوب الأنصاري: لقد سمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ينهى عن صبر الدابة، وما أحب أني صبرتُ دجاجة([9]).
وعند البيهقي: عن عبيد بن يعلى، عن أبي أيوب -رضي الله عنه-، قال: أدربنا مع عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، وهو أمير الناس يومئذٍ على الدروب، قال: فنزلنا منزلاً من أرض الروم، فأقمنا به، قال: وكان أبو أيوب قد اتخذ مسجداً، فكنا نروح، ونجلس إليه، ويصلي لنا، ونستمتع من حديثه، قال: فو الله إنا لعشية معه إذ جاء رجل، فقال: أتى الآن الأمير بأربعة أعلاج من الروم، فأمر بهم أن يصبروا، فرموا بالنبل حتى قتلوا، فقام أبو أيوب فزعاً حتى جاء عبد الرحمن بن خالد، فقال: أصبرتهم؟ لقد سمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ينهى عن صبر الدابة، وما أحب أن لي كذا وكذا، وأني صبرت دجاجة.
قال: فدعا عبد الرحمن بن خالد بغلمان له أربعة، فأعتقهم مكانهم، قال أبو زرعة: عبيد بن يعلى من أهل فلسطين منزله عسقلان، ورواه أيضا عمرو بن الحارث، عن بكير([10]).
4- إنكاره على ستر الجدران:
عن سالم بن عبد الله، قال: أعرستُ في عهد أبي، فأذن أبي الناس، وكان أبو أيوب فيمن آذنا، وقد ستروا بيتي ببجاد أخضر، فأقبل أبو أيوب، فدخل، فرآني قائماً، فاطلع، فرأى البيت مستتراً ببجاد أخضر، فقال: يا عبد الله أتسترون الجدر؟
قال أبي واستحيا: غلبننا النساء يا أبا أيوب، قال: من خشي أن يغلبنه النساء فلم أخش أن يغلبنك، ثم قال: لا أطعم لكم طعاماً، ولا أدخل لكم بيتاً، ثم خرج -رحمه الله-([11]).
5- إنكاره على التفريق بين الأمة وولدها:
عن أبي عبد الرحمن الحبلي، قال: كنا في البحر، وعلينا عبد الله بن قيس الفزاري، ومعنا أبو أيوب الأنصاري، فمر بصاحب المقاسم، وقد أقام السبي، فإذا امرأة تبكي، فقال: ما شأن هذه؟!
قالوا: فرَّقوا بينها وبين ولدها، قال: فأخذ بيد ولدها حتى وضعه في يدها، فانطلق صاحب المقاسم إلى عبد الله بن قيس فأخبره، فأرسل إلى أبي أيوب، فقال: ما حملك على ما صنعت؟ قال: سمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((من فرَّق بين والدة وولدها فرَّق الله بينه وبين الأحبة يوم القيامة)))([12]).
6- ثناؤه وتشجيعه للمحتسبين:
فعن مجاهد عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: جاء رجل فمدح رجلاً في المسجد، فقام إليه المقداد، فحثا في وجهه التراب، فقال: ما أنت بمنتهٍ، أما أنا فلا أدع شيئاً سمعته من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((احثوا في وجوه المداحين التراب)).
فقال أبو أيوب: أما هذا فقد قضى ما عليه([13]).
أقواله وآراؤه الاحتسابية
كان لأبي أيوب الأنصاري -رضي الله عنه- أقوال وآراء احتسابية كثيرة، منها:
1- عن مالك، عن عمارة بن صياد، أن عطاء بن يسار أخبره، أن أبا أيوب الأنصاري أخبره، قال: كنا نضحي بالشاة الواحدة يذبحها الرجل عنه، وعن أهل بيته، ثم تباهى الناس بعد فصارت مباهاة([14]).
2- وعن عمرو بن الحارث أن بكيراً حدثه، أن أبا إسحاق مولى بني هاشم، حدثه أنهم ذكروا يوماً ما ينتبذ فيه، فتنازعوا في القرع، فمر بهم أبو أيوب الأنصاري، فأرسلوا إليه إنساناً، فقال أبو أيوب: سمعتُ النبي -صلى الله عليه وسلم- ينهى عن كل مزفت ينتبذ فيه، لم يزد عليه([15]).
وعند أحمد: عن أبي إسحاق مولى بني هاشم، حدثه، أنهم ذكروا يوماً ما ينتبذ فيه، فتنازعوا في القرع، فمر بهم أبو أيوب الأنصاري، فأرسلوا إليه إنساناً، فقال: يا أبا أيوب، القرع ينتبذ فيه؟ قال: سمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ينهى عن كل مزفت ينتبذ فيه، فرد عليه القرع، فرد أبو أيوب مثل قوله الأول([16])([17]).
3- وكان يرى استخدام الشدة أحياناً لمن لم ينفعه اللين:
فعن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم عن أبيه قال: انضم مركبنا إلى مركب أبي أيوب الأنصاري في البحر، وكان معنا رجل مزاح، فكان يقول لصاحب طعامنا: جزاك الله خيراً وبراً، فيغضب، فقلنا لأبي أيوب: هنا من إذا قلنا له: جزاك الله خيراً يغضب، فقال: اقلبوه له، فكنا نتحدث: إن من لم يصلحه الخير أصلحه الشر.
فقال له المزاح: جزاك الله شراً وعراً، فضحك، وقال: ما تدع مزاحك([18]).
وفي رواية: قال: وكان معنا رجل مزاح يقول لرجل أصاب طعامنا: جزاك الله خيراً وبراً، فغضب عليه حين أكثر عليه، فقال لأبي أيوب: ما ترى في رجل إذا قلت له: جزاك الله خيراً وبراً، غضب وشتمني؟ فقال أبو أيوب: إنا كنا نقول: إن من لم يصلحه الخير أصلحه الشر، فاقلب عليه، فقال له حين أتاه: جزاك الله شراً وعراً، فضحك ورضي، وقال: ما تدع مزاحك، فقال الرجل: جزى الله أبا أيوب الأنصاري خيراً([19]).
مروياته الاحتسابية
كان لأبي أيوب الأنصاري -رضي الله عنه- مرويات احتسابية، منها:
1- عن أبي سلمة عن أبي أيوب أنه قال: سمعتُ نبي الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((ما بعث الله من نبي ولا كان بعده من خليفة إلا وله بطانتان: بطانة تأمره بالمعروف، وتنهاه عن المنكر، وبطانة لا تألوه خبالاً([20])، فمن وُقي بطانة السوء فقد وُقي))([21]).
2- وعن أبي أيوب الأنصاري، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال: ((لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال، يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام))([22]).
وفاته:
مات أبو أيوب -رضي الله عنه- سنة خمسين، وقيل: سنة اثنتين وخمسين، وصلى عليه يزيد، ودفن بأصل حصن القسطنطينية([23]).
([1]) انظر ترجمته في: الإصابة في تمييز الصحابة (2/ 199) وأسد الغابة (5/ 25) وسير أعلام النبلاء (4/ 52) وغيرها.
([2]) الإصابة في تمييز الصحابة (2/ 200).
([3]) سير أعلام النبلاء ط الحديث (4/ 52).
(([4] سير أعلام النبلاء (4/ 53).
([5]) تهذيب الأسماء واللغات (2/ 177) والإصابة في تمييز الصحابة (2/ 200) وسير أعلام النبلاء (4/ 52).
([6]) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب في وقت المغرب (1/ 113-418) وقال الألباني في صحيح سنن أبي داود (ص: 2-418): “حسن صحيح”.
([7]) أخرجه أحمد (28/ 564-17329) وقال محققو المسند: “إسناده حسن”.
([8]) سير أعلام النبلاء (4/ 56).
([9]) مسند ابن أبي شيبة (1/ 29-5).
([10]) السنن الكبرى للبيهقي (9/ 121-18060).
([11]) المعجم الكبير للطبراني (4/ 118-3853) ومصنف ابن أبي شيبة (5/ 204-25252) والورع لأحمد رواية المروزي (ص: 152-461).
([12]) أخرجه أحمد (38/ 485-23499) وقال محققو المسند: “حسن بمجموع طرقه وشواهده”.
([13]) معجم الصحابة للبغوي (5/ 296-2122).
([14]) مسند الموطأ للجوهري (ص: 482-611).
([15]) المعجم الكبير للطبراني (4/ 158-4000).
([16]) مسند أحمد (38/ 495-23512).
قال النووي: “وأما معنى النهي عن هذه الأربع فهو أنه نهى عن الانتباذ فيها وهو أن يجعل في الماء حبات من تمر أو زبيب أو نحوهما ليحلو ويشرب وإنما خصت هذه بالنهي لأنه يسرع إليه الاسكار فيها فيصير حراما نجسا وتبطل ماليته فنهى عنه لما فيه من إتلاف المال ولأنه ربما شربه بعد إسكاره من لم يطلع عليه ولم ينه عن الانتباذ في أسقية الأدم بل أذن فيها لأنها لرقتها لا يخفى فيها المسكر بل إذا صار مسكرا شقها غالبا ثم إن هذا النهي كان في أول الأمر ثم نسخ بحديث بريدة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال كنت نهيتكم عن الانتباذ إلا في الأسقية فانتبذوا في كل وعاء ولا تشربوا مسكرا رواه مسلم في الصحيح” شرح النووي على مسلم (1/ 185)
([18]) سير أعلام النبلاء (4/ 56).
([19]) المعجم الكبير للطبراني (4/ 180-4076) والأدب المفرد (ص: 317-922) ومسند الحارث = بغية الباحث عن زوائد مسند الحارث (2/ 856-910).
([20]) قوله: “لَا تأْلوه خبالاً” أي: لا تُقصِّرُ في إِفْسَادِ أَمْرِهِ، ومنه قوله سبحانه وتعالى: {لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالا} [آل عمرَان (118)] والخبالُ والْخَبَلُ: الفسادُ، وقد يكون ذلك في الأفعال، والأبدان، والعقولِ، وبه يُسَمَّى الجنُّ: الخبل، يقال: خبله الجنُّ. انظر: شرح السنة للبغوي (10/ 75).
([21]) المعجم الكبير للطبراني (4/ 131-3895) والمعجم الأوسط (8/ 309-8720) والسنن الكبرى للبيهقي (10/ 190-20318) وشرح مشكل الآثار (5/ 355-2112) وشرح السنة للبغوي (10/ 75-2485).
([22]) أخرجه البخاري في كتاب الأدب، باب الهجرة (8/ 21-6077) ومسلم في كتاب البر والصلة والآداب باب تحريم الهجر فوق ثلاث بلا عذر شرعي (4/ 1984-2560).
([23]) سير أعلام النبلاء (4/ 58) والإصابة في تمييز الصحابة (2/ 201).