احتساب أبي حازم سلمة بن دينار رحمه الله
(000 – 140 هـ = 000 – 757 م)
اسمه:
هو سلمة بن دينار المخزومي، أبو حازم، ويقال له: الأعرج، فارسي الأصل([1]).
فضله ومناقبه:
هو عالم المدينة، وقاضيها، وشيخها، كان زاهدًا عابدًا.
سمع سهل بن سعد، وسعيد بن المسيب، والنعمان بن أبي عياش، وأبا صالح السمان، وأبا إدريس الخولاني، وأبا سلمة وعطاء بن يسار وخلقًا.
وعنه: الزهري، ومعمر، ومالك، وابن إسحاق، والحمَّادان، وابن عيينة، والثوري، وأبو معشر، وابنه عبد العزيز بن أبي حازم، وأبو ضمرة أنس بن عياض، وآخرون([2]).
قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: “ما رأيت أحدًا الحكمة أقرب إلى فيه من أبي حازم”([3]).
قدم سليمان بن هشام بن عبد الملك المدينة فأتاه الناس، وبعث إلى أبي حازم فأتاه، وساءله عن أمره وعن حاله، وقال له: يا أبا حازم ما مالك؟ قال: لي مالان، قال: ما هما؟ قال: الثقة بالله، واليأس مما في أيدي الناس.
وعن ليث بن سعد، عن أبي حازم، قال: إني لأدعو الله في صلاتي حتى بالملح.
وقال محمد بن عمر: قالت امرأة أبي حازم لأبي حازم: هذا الشتاء قد هجم علينا، ولا بد لنا مما يصلحنا فيه، فذكرت الثياب والطعام والحطب، فقال: من هذا كله بد، ولكن خذي ما لا بد منه، الموت، ثم البعث، ثم الوقوف بين يدي الله، ثم الجنة والنار”([4]).
وقال سفيان: “قال بعض الأمراء لأبي حازم: ارفع إليّ حاجتك، قال: هيهات هيهات رفعتها رفعتها، إلى من لا تختزل الحوائج دونه، فما أعطاني منها قنعت، وما زَوَى عني منها رضيت”([5]).
سيرته الاحتسابية
كان لأبي حازم سلمة بن دينار رحمه الله سيرة احتسابية حافلة بالأمر والنهي، نذكر شيئًا منها:
1- إنكاره على امرأة
عن عبد الرحمن بن أبي الخنبش، قال: “خرج أبو حازم يرمي الجمار، ومعه قوم متعبدون، وهو يكلمهم، ويحدثهم، ويقص عليهم، فبينا هو يمشي، وأولئك معه؛ إذ نظروا إلى فتاة مستترة بخمارها، وهي التي ليس على نحرها منه شيء، ترمي الناس بطرفها يمنة ويسرة، وقد شغلت الناس، وهم ينظرون إليه مبهوتين، وقد خبط بعضهم بعضًا في الطريق، فرآها أبو حازم، فقال: يا هذه اتقي الله، إنك في مشعر من مشاعر الله عظيم، وقد فتنت الناس، فاضربي بخمارك على جيبك، فإن الله يقول: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور: 31] فأقبلت تضحك من كلامه، وقالت: إني والله يا أفزر([6]) :
من اللائي لم يحججن يبغين حسبة *** ولكن ليقتلن البرئ المغفلا”([7])
2- إنكاره على امرأة أخرى:
عن عبد العزيز بن أبي حازم، قال: “مشيتُ مع أبي يومًا، فلقينا امرأة تدق برجلها، ويصلصل حجلاها، فقال لها: أي لا يسرك حسن حجلتك، فإن ساقيك لو كفلتا الحجلين ما سمع حسهما”([8]).
3- جملة مواقف من حسبته:
فعن عبد الجبار بن عبد العزيز بن أبي حازم، عن أبيه قال: “بعث سليمان بن عبد الملك إلى أبي حازم فجاءه، فقال له: يا أبا حازم، ما لنا نكره الموت؟
فقال: لأنكم أخربتم آخرتكم، وعمرتم دنياكم، فأنتم تكرهون أن تنتقلوا من العمران إلى الخراب، قال: صدقت، فكيف القُدوم على الله؟ قال: أما المحسن فكالغائب يَقْدَم على أهله، وأما المسيء فكالعبد الآبق يقدم على مولاه، فبكى سليمان، وقال: ليت شِعري، ما حالنا، أو ما لنا عند الله؟ فقال: اعرض عملك على كتاب الله، فإنك تعلم ما لك عند الله، قال: يا أبا حازم، وأين أُصيب ذلك؟ قال: عند قوله تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار: 13، 14] قال سليمان: فأين رحمة الله؟ قال: {قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: 56] قال: ما تقول فيما نحن فيه؟ قال: أعفني من هذا، قال سليمان: إنها نصيحة تُلقيها إلي.
قال أبو حازم: إن ناسًا أخذوا هذا الأمر عَنوة من غير مشورة من المسلمين، ولا اجتماع من رأيهم، فسفكوا الدّماء على طلب الدنيا، ثم ارتحلوا عنها، فليت شِعري ما قالوا وما قيل لهم. فقال بعض جُلَساء سليمان: بئس ما قلتَ أيها الشيخ.
فقال أبو حازم: كذبتَ، إن الله أخذ الميثاق على العلماء ليُبَيِّنُنَّه للناس، ولا يكتمونه، فقال سليمان: اصْحَبْنا يا أبا حازم تُصِب منّا، ونُصِبْ منك، قال: أعوذ بالله من ذلك، قال: ولم؟ قال: أخاف أن أَركن إليكم شيئًا قليلًا؛ فيُذيقني ربّي ضِعْفَ الحياة، وضِعفَ الممات، قال سليمان: فأشِرْ عليّ، قال: اتَّقِ الله أن يراك حيث نَهاك، وأن يفقدك حيث أمرك، قال: يا أبا حازم، ادْعُ لي بخير، فقال: اللهم إن كان سليمان وليَّك فيسِّره للخير، وإن كان عدوَّك فخُذْ إلى الخير بناصيته، فقال سليمان: يا غلام، مائةَ دينار، فلما أحضرها قال: خذها يا أبا حازم، قال: لا حاجةَ لي فيها، إني أخاف أن تكون ثمنًا لما سمعتَ من كلامي.
فكأن سليمان أُعجب بأبي حازم، وكان الزهري حاضرًا فقال: إنه لَجاري منذ ثلاثين سنة، ما كلَّمتُه قط، فقال أبو حازم: إنك نسيتَ الله فنسيتني، ولو أحببتَ الله لأحببتني، قال الزهري: أتشتمني؟ فقال سليمان: بل أنت شتمتَ نفسَك، أما علمتَ أن للجار على جاره حقًّا، فقال أبو حازم: إن بني إسرائيل لما كانوا على الصواب كانت الأمراء تحتاج إلى العلماء، وكانت العلماء تفِرُّ بدينها من الأمراء، فلما رأى ذلك قوم من أراذل الناس تعلَّموا العلم، وأتوا به إلى الأمراء، فاستغنوا به عن العلماء، واجتمع القوم على المعصية فسقطوا وانتكسوا، ولو كان علماؤنا يصونون علمَهم لم تزل الأمراء تهابهم، فقال الزهري: كأنك إياي تريد، وبي تُعرِّض، قال: هو ما تسمع”([9]).
4- إنكاره على من خاف على ولده الضيعة:
مر أبو حازم على أبي جعفر المدائني، وهو مكتئب حزين، فقال: “لعلك ذكرت ولدك من بعدك فحزنت، قال: نعم.
قال: فلا تفعل، إن كانوا لله أولياء، فلا تخف عليهم الضيعة، وإن كانوا لله أعداء، فلا تبال ما لقوا بعدك”([10]).
5- إنكاره على من يزكّي نفسه:
عن عبد الرحمن بن زيد، قال ابن المنكدر لأبي حازم: “ما أكثر من يلقاني فيدعو بالخير، ما أعرفهم، وما صنعت إليهم خيرًا قط.
قال: لا تظن أن ذلك من عملك، ولكن انظر إلى الذي ذاك من قبله فاشكره، وقرأ ابن يزيد: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} [مريم: 96]([11]).
6- إنكاره على من خاف غلا الأسعار:
وقيل لأبي حازم: “قد غلا السعر.
قال: وما يغمكم من ذلك؟ إن الذي يرزقنا في الرخص يرزقنا في الغلاء”([12]).
7- إنكاره على الزهري:
قال سفيان بن عيينة: قال أبو حازم: وجدت الدينا([13])شيئين، فتكلم بكلام طويل، فقال الزهري: إنه لجاري، وما كنت أرى أن هذا عنده، قال أبو حازم: ولو كنت غنيًا لعرفتني([14]).
وكتب أبو حازم إلى الزهري: “عافانا الله وإياك من الفتن، ورحمك من النار، قد أصبحت بحال ينبغي لمن عرفك أن يرحمك، أصبحت شيخًا كبيرًا، قد أثقلتك نعم الله عليك، بما أصح من بدنك، وأطال من عمرك، وعلمت حجج الله بما حملك من كتابه، وفقهك فيه من دينه، وفهمك من سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ابتلى في ذلك شكرك…، فانظر أي رجل تكون إذا وقفت بين يدي الله، فسألك عن نعمه إليك كيف رعيتها؟ وعن حججه عليك كيف قضيتها؟ ولا تحسبن الله راضيًا منك بالتعذير، ولا قابلًا منك بالتقصير، ليس كذاك أخذ على العلماء في كتابه فقال: {لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ} [آل عمران: 187]
تقول: إنك جدل ماهر عالم، قد جادلت الناس فجادلتهم إدلالًا منك بفهمك، واقتدارًا برأيك، فأين تذهب عن قول الله تعالى: {هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا} [النساء: 109] اعلم أن أدنى ما ارتكبت، وأعظم ما احتقبت أن آنست الظالم، وسهلت له طريق الغي بدنوك، حين أدنيت، وإجابتك حين دعيت، فما أخلقك أن ينوه بإثمك غدًا على الجرمة، وأن تسأل عما أردت بإغضائك عن ظلم الظلمة، إنك أخذت ما ليس لمن أعطاك، ودنوت ممن لا يريد حقًّا، ولا يريد باطلًا حين أدناك، وأجبت من أراد التدليس بدعائه إياك حين دعاك، جعلوك قطبًا تدور عليه رحا باطلهم، وجسرًا يعبرون بك إلى بلابلهم، وسلمًا إلى ضلالتهم، يقتادون بك قلوب الجهال، ويدخلون بك الشك على العلماء، فلم يبلغ أخص وزرائهم، ولا أقوى أعوانهم إلا دون ما بلغت من استصلاح فسادهم، واجتلاب الخاصة والعامة إليهم، فما أيسر ما عمروا لك في جنب ما خربوا عليك، وما أقل ما أعطوك في قدر ما أخذوا منك، فانظر لنفسك، فإنه لا ينظر لها غيرك، وحاسبها حساب رجل مسئول، وانظر كيف شكرك لمن غذّاك بنعمه صغيرًا وكبيرًا، واستحملك كتابه، وأودعك علمه، مالك لا تنتبه من نعستك، ولا تستقيل من عثرتك“([15]).