احتساب أبي ذر الغفاري رضي الله عنه
(000 – 32 هـ = 000 – 652 م)
اسمه ونسبه:
هو جُندب بن جُنادة بن سفيان بن عبيد، من بني غِفار، من كنانة بن خزيمة، أبو ذر، وفي اسمه، واسم أبيه خلاف([1]).
مكانته وفضله:
أبو ذر صحابي جليل، من كبارهم، قديم الإسلام، يقال: أسلم بعد أربعة، وكان خامساً، يُضرب به المثل في الصدق، وهو أول من حيا رسول الله -صلّى الله عليه وسلم- بتحية الإسلام، وهاجر بعد وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى بادية الشام، فأقام إلى أن تُوفي أبو بكر وعمر، وولي عثمان، فسكن دمشق، وكان له رأيٌ خاصٌ به -رحمه الله-، وهو القول بكراهية كنز الأموال، ومشاركة الفقراء الأغنياء في أموالهم، فشكاه معاوية (وكان والي الشام) إلى عثمان (الخليفة) فاستقدمه عثمان إلى المدينة، فقدمها، واستأنف نشر رأيه في تقبيح منع الأغنياء أموالهم عن الفقراء، فعلت الشكوى منه، فأمره عثمان بالرحلة إلى الرَّبَذَة (من قرى المدينة) فسكنها إلى أن مات، وكان كريماً لا يخزن من المال قليلاً، ولا كثيراً؛ ولما مات لم يكن في داره ما يكفن به، روى له البخاري ومسلم (281) حديثاً([2]).
وفضائله كثيرة، ومنها:
أنه من أصدق الناس لهجة:
فعن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنه-، قال: سمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((ما أظلت الخضراء، ولا أقلت الغبراء، أصدق من أبي ذر))([3]).
قال الطيبي: “يمكن أن يراد به أنه لا يذهب إلى التورية والمعاريض في الكلام، فلا يرخي عنان كلامه، ولا يحابي مع الناس، ولا يسامحهم، ويظهر الحق البحت، والصدق المحض”([4]).
أنه مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في الجنة:
فعن عبد الله بن الصامت، عن أبي ذر -رضي الله عنه-، أنه قال: يا رسول الله: الرجل يحب القوم، ولا يستطيع أن يعمل كعملهم؟ قال: ((أنت يا أبا ذر مع من أحببت)) قال: فإني أحب الله ورسوله قال: ((فإنك مع من أحببت)) قال: فأعادها أبو ذر، فأعادها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-([5]).
علمه الغزير:
يقول عنه الإمام علي -رضي الله عنه-: وعى أبو ذر علماً، عجز الناس عنه، ثم أوكأ عليه، فلم يخرج شيئاً منه…، وقال أبو ذر: “لقد تركنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وما يحرّك طائر جناحيه في السماء إلا ذكرناه منه علماً([6]).
سيرته الاحتسابية
كان أبو ذر -رضي الله عنه- من الصادعين بالحق، الذين لا يخافون في الله لومة لائم، ومن الآمرين بالمعروف، والناهين عن المنكر، حيث كانت له مواقف مشهودة في صدعه بالحق، ومنها:
ما أخرجه البخاري في صحيحه، عن أبي ذر -رضي الله عنه- أنه قال: “لو وضعتم الصمصامة على هذه -وأشار إلى قفاه-، ثم ظننتُ أني أنفذُ كلمة سمعتها من النبي -صلى الله عليه وسلم- قبل أن تجيزوا علي لأنفذتها”([7]).
قال ابن بطال معلقاً: “ففى هذا من الفقه: أنه يجوز للعالم أن يأخذ فى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر بالشدة، والعزيمة مع الناس، ويحتسب ما يصيبه فى ذلك على الله تعالى، ومباح له أن يأخذ بالرخصة فى ذلك، ويسكت إذا لم يطق على حمل الأذى فى الله، كما قال أبو هريرة: لو حدثتكم بكل ما سمعتُ من رسول الله لَقُطِعَ هذا البلعوم([8]).
ومن أدلة صدعه بالحق:
ما أخرجه البخاري أيضاً عن أبي جمرة، قال: قال لنا ابن عباس -رضي الله عنهما-: ألا أخبركم بإسلام أبي ذر؟ قال: قلنا: بلى، قال: قال أبو ذر: كنتُ رجلاً من غفار، فبلغنا أن رجلاً قد خرج بمكة، يزعم أنه نبي، فقلتُ لأخي: انطلق إلى هذا الرجل كلمه، وأتني بخبره، فانطلق فلقيه، ثم رجع، فقلتُ ما عندك؟ فقال: والله لقد رأيتُ رجلاً يأمر بالخير، وينهى عن الشر، فقلتُ له: لم تشفني من الخبر، فأخذتُ جراباً وعصا، ثم أقبلتُ إلى مكة، فجعلتُ لا أعرفه، وأكره أن أسأل عنه، وأشرب من ماء زمزم، وأكون في المسجد، قال: فمر بي علي، فقال: كأن الرجل غريب؟ قال: قلتُ: نعم، قال: فانطلق إلى المنزل، قال: فانطلقتُ معه، لا يسألني عن شيء، ولا أخبره، فلما أصبحتُ غدوتُ إلى المسجد لأسأل عنه، وليس أحد يخبرني عنه بشيء، قال: فمر بي علي، فقال: أما نال للرجل يعرف منزله بعد؟ قال: قلتُ: لا، قال: انطلق معي، قال: فقال ما أمرك، وما أقدمك هذه البلدة؟ قال: قلتُ له: إن كتمتَ علي أخبرتك، قال: فإني أفعل، قال: قلتُ له: بلغنا أنه قد خرج ها هنا رجل يزعم أنه نبي، فأرسلتُ أخي ليكلمه، فرجع، ولم يشفني من الخبر، فأردتُ أن ألقاه، فقال له: أما إنك قد رشدت، هذا وجهي إليه، فاتبعني، ادخل حيث أدخل، فإني إن رأيتُ أحداً أخافه عليك، قمتُ إلى الحائط، كأني أصلح نعلي، وامض أنت، فمضى ومضيت معه، حتى دخل ودخلتُ معه على النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقلتُ له: اعرض علي الإسلام، فعرضه فأسلمتُ مكاني، فقال لي: ((يا أبا ذر، اكتم هذا الأمر، وارجع إلى بلدك، فإذا بلغك ظهورنا فأقبل)) فقلتُ: والذي بعثك بالحق، لأصرخن بها بين أظهرهم، فجاء إلى المسجد، وقريش فيه، فقال: يا معشر قريش، إني أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، فقالوا: قوموا إلى هذا الصابئ، فقاموا فضربتُ لأموت، فأدركني العباس، فأكب علي، ثم أقبل عليهم، فقال: ويلكم، تقتلون رجلاً من غفار، ومتجركم وممركم على غفار، فأقلعوا عني، فلما أن أصبحتُ الغد رجعتُ، فقلتُ مثل ما قلتُ بالأمس، فقالوا: قوموا إلى هذا الصابئ فصنع بي مثل ما صنع بالأمس، وأدركني العباس، فأكب علي، وقال مثل مقالته بالأمس، قال: فكان هذا أول إسلام أبي ذر -رحمه الله-([9]).
ومن مواقفه الاحتسابية:
1- إنكاره على من يغري المشتري بسلعته:
عن عمرو بن قيس، قال: خرج عمر -رضي الله عنه-، ومعه أبو ذر، فمرَّ على مولى له فقال: إذا نشرتَ ثوباً كبيراً، فانشره، وأنت قائم، وإذا نشرتَ ثوباً صغيراً، فانشره وأنت قاعد، فقال أبو ذر -رضي الله عنه-: اتقوا الله يا آل عمر، فقال عمر -رضي الله عنه-: “إنه لا بأس أن تزين سلعتك بما فيها”([10]).
2- إنكاره على أبي هريرة رضي الله عنه:
فعن يحيى بن عبد الواحد الثقفي، قال: سمعتُ أبا مجيب، قال: كان نعل سيف أبي هريرة من فضة، فنهاه عنها أبو ذر، قال: سمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((من ترك بيضاء أو صفراء كوي بهما))([11]).
وعن أبي المجيب، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن أبا ذر -رضي الله عنه- نظر إلى أبي هريرة، وعليه سيف محلى بفضة، فقال: إني سمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((ما من أحد يدع صفراء أو بيضاء إلا كوي به يوم القيامة)) قال: فطرحه([12]).
وفي مسند أحمد: عن شعبة، عن رجل من ثقيف يقال له: فلان بن عبد الواحد، قال: سمعتُ أبا مجيب، قال: لقي أبو ذر أبا هريرة، وجعل -أراه قال-: قبيعة سيفه فضة، فنهاه، وقال أبو ذر: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((ما من إنسان، أو قال: أحد، ترك صفراء أو بيضاء إلا كوي بها))([13]).
3- إنكاره على العجلة إلى الصلاة:
عن عبد الله بن الصامت قال: خرجتُ إلى المسجد يوم الجمعة، فلقيتُ أبا ذر -رضي الله عنه-، فبينما أنا أمشي؛ إذ سمعتُ النداء، فرفعتُ في المشي؛ لقول الله -عز وجل-: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة (9)] فجذبني جذبة، كدتُ أن ألاقيه، فقال: أولسنا في سعي؟([14]).
وفي السنة ما يُؤكد ذلك.
4- إنكاره على من يضرب غلامه:
عن الثوري قال: أخبرني عن إبراهيم التيمي، قال: مرَّ أبو ذر على رجل يضرب غلاماً له، فقال له أبو ذر: إني لأعلم ما أنت قائل لربك، وما هو قائل لك، تقول: اللهم اغفر لي، فيقول: “أكنتَ تغفر” فتقول: اللهم ارحمني، فيقول: “أكنتَ ترحم”([15]).
5- إنكاره على رجل:
عن مرثد (أبو كبير) عن أبيه، عن أبي ذر، أن رجلاً أتاه، فقال: إن مصدقي عثمان ازدادوا علينا، أنغيب عنهم بقدر ما ازدادوا علينا؟ فقال: “لا، قف مالك، وقل ما كان لكم من حق فخذوه، وما كان باطلاً فذروه، فما تعدوا عليك جعل في ميزانك يوم القيامة” وعلى رأسه فتى من قريش، فقال: أما نهاك أمير المؤمنين عن الفتيا؟ فقال: “أرقيبٌ أنت علي؟ فو الذي نفسي بيده لو وضعتم الصمصامة ههنا، ثم ظننتُ أني منفذ كلمة سمعتها من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبل أن تحتزوا لأنفذتها”([16]).
6- إنكاره على امرأته:
عن أبي أسماء الرحبي أنه دخل على أبي ذر، وهو بالربذة، وعنده امرأة له سوداء، مشنفة، ليس عليها أثر المجاسد، ولا الخلوق، قال: فقال: ألا تنظرون ما تأمرني به هذه السويداء؟! تأمرني أن آتي العراق، فإذا أتيتُ العراق، مالوا علي بدنياهم، ألا وإن خليلي عهد إلي أن دون جسر جهنم طريقاً ذا دحض ومزلة، وإنا أن نأتي عليه وفي أحمالنا اقتدار، أحرى أن ننجو من أن نأتي عليه ونحن مواقير([17]).
7- إنكاره على من يذم عثمان رضي الله عنه:
عن الوليد بن سويد: أن رجلاً من بني سليم، قال: كنتُ في مجلس فيه أبو ذر، وأنا أظن في نفسي أن في نفس أبي ذر على عثمان معتبة؛ لإنزاله إياه بالربذة، فلما ذكر له عثمان عرَّض له بعض أهل المجلس بذلك، فقال أبو ذر: لا تقل في عثمان إلا خيراً، فإني أشهد لقد رأيتُ منظراً، وشهدتُ مشهداً لا أنساه، كنتُ التمستُ خلوات النبي -صلى الله عليه وسلم- لأسمع منه، فجاء أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، قال: فقبض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على حصيات، فسبحن في يده، حتى سمع لهن حنين كحنين النحل، ثم ناولهن أبا بكر، فسبحن في كفه، ثم وضعهن في الأرض، فخرسن، ثم ناولهن عمر، فسبحن في كفه، ثم أخذهن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فوضعهن في الأرض فخرسن، ثم ناولهن عثمان فسبحن في كفه، ثم أخذهن منه، فوضعهن فخرسن([18]).
8- إنكاره على يزيد:
وعن سعيد بن عبد الكريم بن سليط، أنه سمع عوف بن أبي جميلة يحدث عن المهاجر أنه حدث أبو العالية، قال: لما كان زمن يزيد بن أبي سفيان بالشام غزا الناس، فغنموا، وكانت في غنائمهم جارية نفيسة، فصارت لرجل في قسمه، فأرسل إليه يزيد، فانتزعها، وأبو ذر يومئذٍ بالشام، فاستعان الرجل بأبي ذر، فانطلق معه، فقال: رد على الرجل جاريته، فتلكأ يزيد، فقال: أما والله لئن فعلت لقد سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((إن أول من يبدل سنتي رجل من بني أمية)) ثم ولى، فلحقه، فقال: أذكرك الله أهو أنا؟ قال: اللهم لا، فرد على الرجل جاريته([19]).
9- إنكاره وجهره بالإسلام في مكة:
“بعد أن ضيف أبو بكر الصديق أبا ذر في منزله أقام أيَامًا ثمّ رأى امرأة تطوف بالبيت وتدعو بأحسن دُعاء في الأرض تقول: أعْطني كذا وكذا، وافعلْ بي كذا وكذا، ثمّ قالت في آخر ذلك: يا إساف ويا نائلة، قال أبو ذرّ: أنْكِحي أحدهما صاحبه، فتعلّقت به، وقالت: أنت صابئٌ، فجاء فِتْيَةٌ من قريش فضربوه، وجاء ناس من بني بكر بن عبد مناة بن كنانة -وبنو غفار من بني بكر- فنصروه، وقالوا: ما لصاحبنا يُضرَبُ وتتركون صُباتَكم؟ فتحاجَزوا فيما بينهم، فجاء إلى النبيّ صَلَّى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! أمّا قريش فلا أدعُهم حتى أثْأرَ منهم، ضربوني، فخرج حتى أقام بعسفان، وكلّما أقبلت عِيرٌ لقريش يحملون الطعام يُنَفِّرُ بهم على ثنيّة غَزال فتلقى أحمالها فجمعوا الحِنَطَ، قال: يقول أبو ذرّ لقومه: لا يمسّ أحد حَبّة حتى تقولوا: لا إله إلاّ الله، فيقولون: لا إله إلا الله، ويأخذون الغرائر”([20]).
10- إنكاره على معاوية رضي الله عنه:
عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ، قَالَ: “مَرَرْتُ بِالرَّبَذَةِ فَإِذَا أَنَا بِأَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقُلْتُ لَهُ: مَا أَنْزَلَكَ مَنْزِلكَ هَذَا؟ قَالَ: كُنْتُ بِالشَّأْمِ، فَاخْتَلَفْتُ أَنَا وَمُعَاوِيَةُ فِي: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة:34] قَالَ مُعَاوِيَةُ: نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الكِتَابِ، فَقُلْتُ: نَزَلَتْ فِينَا وَفِيهِمْ، فَكَانَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ فِي ذَاكَ، وَكَتَبَ إِلَى عُثْمَانَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- يَشْكُونِي، فَكَتَبَ إِلَيَّ عُثْمَانُ: أَنِ اقْدَمِ المَدِينَةَ فَقَدِمْتُهَا، فَكَثُرَ عَلَيَّ النَّاسُ حَتَّى كَأَنَّهُمْ لَمْ يَرَوْنِي قَبْلَ ذَلِكَ، فَذَكَرْتُ ذَاكَ لِعُثْمَانَ فَقَالَ لِي: إِنْ شِئْتَ تَنَحَّيْتَ، فَكُنْتَ قَرِيبًا، فَذَاكَ الَّذِي أَنْزَلَنِي هَذَا المَنْزِلَ، وَلَوْ أَمَّرُوا عَلَيَّ حَبَشِيًّا لَسَمِعْتُ وَأَطَعْتُ”([21]).
في هذا الموقف يتبين لنا احتساب أبي ذر على الصغير والكبير والرئيس والمرؤوس فيما يعتقد أنهم على غير الصواب، مع التزامه بأدب الخلاف، وعدم الخروج على الولاة؛ امتثالا لأمر النبي -صلى الله عليه وسلم-.
11- موقفه من آخذي العطاء ومن كانزي الذهب والفضة.. وغيرهما وإن أُدي زكاته:
عَنْ الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ: “قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ وَأَنَا أُرِيدُ الْعَطَاءَ مِنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، فَجَلَسْتُ إِلَى حَلْقَةٍ مِنْ حِلَقِ قُرَيْشٍ، فَجَاءَ رَجُلٌ عَلَيْهِ أَسْمَالٌ لَهُ قَدْ لَفَّ ثَوْبًا عَلَى رَأْسِهِ، قَالَ: بَشِّرِ الْكَنَّازِينَ بِكَيٍّ فِي الْجِبَاهِ، وَبِكَيٍّ فِي الظُّهُورِ، وَبِكَيٍّ فِي الْجُنُوبِ. ثُمَّ تَنَحَّى إِلَى سَارِيَةٍ، فَصَلَّى خَلْفَهَا رَكْعَتَيْنِ، فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ فَقِيلَ: هَذَا أَبُو ذَرٍّ، فَقُلْتُ لَهُ: مَا شَيْءٌ سَمِعْتُكَ تُنَادِي بِهِ؟ قَالَ: مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا شَيْئًا سَمِعُوهُ مِنْ نَبِيِّهِمْ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ لَهُ: يَرْحَمُكَ اللهُ، إِنِّي كُنْتُ آخُذُ الْعَطَاءَ مِنْ عُمَرَ، فَمَا تَرَى؟ قَالَ: خُذْهُ، فَإِنَّ فِيهِ الْيَوْمَ مَعُونَةً، وَيُوشِكُ أَنْ يَكُونَ دَيْنًا، فَإِذَا كَانَ دَيْنًا فَارْفُضْهُ”([22]).
وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “يَا أَبَا ذَرٍّ أَتُبْصِرُ أُحُدًا؟ قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا، أُنْفِقُهُ كُلَّهُ، إِلَّا ثَلاَثَةَ دَنَانِيرَ. قَالَ أَبُو ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَإِنَّ هَؤُلاَءِ لاَ يَعْقِلُونَ، إِنَّمَا يَجْمَعُونَ الدُّنْيَا، لاَ وَاللَّهِ، لاَ أَسْأَلُهُمْ دُنْيَا، وَلاَ أَسْتَفْتِيهِمْ عَنْ دِينٍ، حَتَّى أَلْقَى اللَّهَ”([23]).
قَالَ شَدَّادُ بْنُ أَوْسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: “كَانَ أَبُو ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَسْمَعُ الْحَدِيثَ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ الشِّدَّةُ، ثُمَّ يَخْرُجُ إِلَى قَوْمِهِ يُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرَخِّصُ فِيهِ بَعْدُ، فَلَمْ يَسْمَعْهُ أَبُو ذَرٍّ، فَيَتَعَلَّقَ أَبُو ذَرٍّ بِالْأَمْرِ الشَّدِيدِ”([24]).
وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الصَّامِتِ ابْنِ أَخِي أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: “دَخَلْتُ مَعَ عَمِّي عَلَى عُثْمَانَ، فَقَالَ لِعُثْمَانَ: ائْذَنْ لِي فِي الرَّبَذَةِ، فَقَالَ: نَعَمْ، وَنَأْمُرُ لَكَ بِنَعَمٍ مِنْ نَعَمِ الصَّدَقَةِ تَغْدُو عَلَيْكَ وَتَرُوحُ، قَالَ: لَا حَاجَةَ لِي فِي ذَلِكَ، تَكْفِي أَبَا ذَرٍّ صِرْمَتُهُ، ثُمَّ قَامَ فَقَالَ: اعْزِمُوا دُنْيَاكُمْ، وَدَعَوْنَا وَرَبَّنَا وَدِينَنَا، وَكَانُوا يَقْتَسِمُونَ مَالَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَكَانَ عِنْدَهُ كَعْبٌ فَقَالَ عُثْمَانُ لِكَعْبٍ: مَا تَقُولُ فِيمَنْ جَمَعَ هَذَا الْمَالَ فَكَانَ يَتَصَدَّقُ مِنْهُ وَيُعْطِي فِي السُّبُلِ وَيَفْعَلُ وَيَفْعَلُ؟ قَالَ: إِنِّي لَأَرْجُو لَهُ خَيْرًا، فَغَضِبَ أَبُو ذَرٍّ وَرَفَعَ الْعَصَا عَلَى كَعْبٍ وَقَالَ: وَمَا يُدْرِيكَ يَا ابْنَ الْيَهُوَدِيَّةِ؟ لَيَوَدَّنَّ صَاحِبُ هَذَا الْمَالِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَوْ كَانَتْ عَقَارِبُ تَلْسَعُ السُّوَيْدَاءَ مِنْ قَلْبِهِ”([25]).
12- إصراره على قول الحق مهما كان:
ذكر البخاري رحمه الله تعالى بعد قوله: “بَابٌ: العِلْمُ قَبْلَ القَوْلِ وَالعَمَلِ”: وَقَالَ أَبُو ذَرٍّ: “لَوْ وَضَعْتُمُ الصَّمْصَامَةَ عَلَى هَذِهِ -وَأَشَارَ إِلَى قَفَاهُ- ثُمَّ ظَنَنْتُ أَنِّي أُنْفِذُ كَلِمَةً سَمِعْتُهَا مِنَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَبْلَ أَنْ تُجِيزُوا عَلَيَّ لَأَنْفَذْتُهَا”([26]).
وَفِي الأثر دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ تَبْلِيغِ مَا صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقول كلمة الحق والاحتساب في ذلك مهما كلف الأمر.
13- موقفه ممن يستعمل أو يتوسع في البناء والأموال:
قَالَ حُسَيْنٌ المُعَلِّمُ، عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ قَالَ: “لَمَّا قَدِمَ أَبُو مُوْسَى لَقِيَ أَبَا ذَرٍّ فَجَعَلَ أَبُو مُوْسَى يُكْرِمُهُ، وَكَانَ أَبُو مُوْسَى قَصِيْراً خَفِيْفَ اللَّحْمِ، وَكَانَ أَبُو ذَرٍّ رجلًا أسود كث الشعر، فيقول أَبُو ذَرٍّ: إِلَيْكَ عَنِّي، وَيَقُوْلُ أَبُو مُوْسَى: مَرْحَباً بِأَخِي، فَيَقُوْلُ: لَسْتُ بِأَخِيْكَ؛ إِنَّمَا كُنْتُ أَخَاكَ قَبْلَ أَنْ تَلِيَ”([27]).
وَقَالَ ثَابِتٌ البُنَانِيُّ: “بَنَى أَبُو الدَّرْدَاءِ مَسْكَناً فَمَرَّ عَلَيْهِ أَبُو ذَرٍّ فَقَالَ: مَا هَذَا! تُعَمِّرُ دَاراً أَذِنَ اللهُ بِخَرَابِهَا، لأَنْ تَكُوْنَ رَأَيْتُكَ تَتَمَرَّغُ فِي عَذِرَةٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَكُوْنَ رَأَيْتُكَ فِيْمَا رَأَيْتُكَ فِيْهِ”([28]).
14- إصراره على الأمر بالمعروف والنهي عن المُنْكَر وإن ابتعد عنه الصديق:
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خراش الْكَعْبِيُّ: “وَجَدْتُ أَبَا ذَرٍّ فِي مِظَلَّةِ شَعْرٍ بِالرَّبَذَةِ تَحْتَهُ امْرَأَةٌ سَحْمَاءُ، فَقُلْتُ: يَا أَبَا ذَرٍّ تَزَوَّجُ سَحْمَاءَ! قَالَ: أَتَزَوَّجُ مَنْ تَضَعُنِي أَحَبُّ إِلِيَّ مِمَّنْ تَرْفَعُنِي، مَا زَالَ لِيَ الأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنِ الْمُنْكَرِ حَتَّى ما ترك لي الحق صديقًا”([29]).
15- امتناعه عن موافقة زوجته من الذهاب إلى العراق لما هم عليه من الدنيا:
عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ، عَنْ أَبِي أَسْمَاءَ: “أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى أَبِي ذَرٍّ بِالرَّبَذَةِ، وَعِنْدَهُ امْرَأَةٌ لَهُ سُوَدَاءُ مُشَعَّثَةٌ، لَيْسَ عَلَيْهَا أَثَرُ المَجَاسِدِ وَالخَلُوْقِ. فَقَالَ: أَلاَ تَنْظُرُوْنَ مَا تَأْمُرُنِي بِهِ؟ تَأْمُرُنِي أَنْ آتِيَ العِرَاقَ، فَإِذَا أَتَيْتُهَا مَالُوا عَلَيَّ بِدُنْيَاهُمْ، وَإِنَّ خَلِيْلِي عَهِدَ إليَّ: إِنَّ دُوْنَ جِسْرِ جَهَنَّمَ طَرِيْقاً ذَا دَحْضٍ وَمَزَلَّةٍ”، وَإِنَّا أَنْ نَأْتِيَ عَلَيْهِ وَفِي أَحْمَالِنَا اقْتِدَارٌ أَحْرَى أَنْ ننجو، من أن نأتي عليه نحن مَوَاقِيْرُ”([30]).
أقواله وآراؤه واجتهاداته الاحتسابية
كان لأبي ذر -رضي الله عنه- كثيرٌ من الأقوال، والآراء، والاجتهادات، المتعلقة بالحسبة، نذكر جانباً منها:
1- عن موسى بن عبيدة قال: حدثني عبد الله بن خراش الكعبي، قال: وجدتُ أبا ذر في مظلة شعر بالربذة، تحته امرأة سحماء، فقلتُ: يا أبا ذر تزوج سحماء؟! قال: أتزوج من تضعني أحب إلي ممن ترفعني، ما زال لي الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، حتى ما ترك لي الحق صديقاً([31]).
2- وقال الفضيل: بلغني أن أبا ذر قال: تركني الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومالي من صديق([32]).
3- وقال أبو ذر: أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ألا نغلب على أن نأمر بالمعروف، وننهى عن المنكر، ونعلم الناس السنن([33]).
4- قال عبد الله بن أبي قيس: خرجنا مع غضيف بن الحارث، نريد بيت المقدس، فأتينا أبا الدرداء، فسلمنا عليه، فقال أبو الدرداء: القِ أبا ذر، فقل: يقول لك أبو الدرداء: اتقِ الله، وخف الناس، فقال أبو ذر: اللهم غفراً، إن كنا قد سمعنا فقد سمع، وإن كنا قد رأينا فقد رأى، أو ما علم أني بايعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على ألا تأخذني في الله لومة لائم([34]).
5- وقال أبو ذر: أوصاني رسول الله أن أقول الحق، وإن كان مراً، وأن لا أخاف في الله لومة لائم([35]).
6- وعن عبد الله بن الصامت، عن أبي ذر -رضي الله تعالى عنه- قال: أوصاني خليلي -صلى الله عليه وسلم- بست: حب المساكين، وأن أنظر إلى من هو تحتي، ولا أنظر إلى من هو فوقي، وأن أقول الحق وإن كان مراً، وأن لا تأخذني في الله لومة لائم([36]).
7- وعن عبد الله بن صامت، قال: لما قدم أبو ذر على عثمان قال: أخفتني، فو الله لو أمرتني أن أتعلق بعروة قتب حتى أموت لفعلت([37]).
8- وعن عبد الله بن سيدان، عن أبي ذر، قال: لو أمرني عثمان أن أمشي على رأسي لمشيت([38]).
9- وعن عبد الله بن الصامت، قال: دخلتُ مع أبي ذر -رضي الله عنه- على عثمان -رضي الله عنه-، قال: وعلى أبي ذر عمامة فرفع العمامة عن رأسه، وقال: إني والله يا أمير المؤمنين ما أنا منهم -قال ابن شوذب: يعني من الخوارج- ولو أمرتني أن أعض على عرقوبي قتب لعضضت عليهما، حتى يأتيني الموت، وأنا عاض عليهما، قال: صدقت يا أبا ذر، إنا إنما أرسلنا إليك لخير، لتجاورنا بالمدينة، قال: لا حاجة لي في ذاك، ايذن لي في الربذة، قال: نعم، ونأمر لك بنعم من نعم الصدقة تغدو عليك وتروح، قال: لا حاجة لنا في ذاك، يكفي أبا ذر صرمته، قال: ثم خرج، فلما بلغ الباب التفت إليهم، فقال: يا معاشر قريش اعذموها ودعونا وديننا، قال: ودخل عليه وهو يقسم مال عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنه- بين ورثته، وعنده كعب، فأقبل عثمان -رضي الله عنه-، فقال: يا أبا إسحاق ما تقول في رجل جمع هذا المال فكان يتصدق منه، ويحمل في السبيل، ويصل الرحم؟ فقال: إني لأرجو الجنة، فغضب أبو ذر، ورفع عليه العصا، وقال: ما يدريك يا ابن اليهودية ليودن صاحب هذا المال يوم القيامة أن لو كان عقارب تلسع السويداء من قلبه([39]).
10- وعبد الجبار بن النضر السلمي عن بعض رجاله، قال: جاء غلام لأبي ذر، قد كسر رجل شاة له، فقال له أبو ذر: من كسر رجل هذه الشاة؟ قال: أنا، قال: ولم؟ قال: لأغيظك، فتضربني، فتأثم، فقال أبو ذر: لأغيظن من حرضك على غيظي، قال: فأعتقه([40]).
11- عن أبي عمران الجوني، قال: سمعتُ عبد الله بن الصامت، قال: قدم أبو ذر على عثمان بن عفان من الشام، فقال: افتح الباب، حتى يدخل الناس، أتحسبني من قوم أحسبه قال: يقرؤون القرآن، لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية، ثم لا يعودون حتى يعود السهم على فوقه، هم شر الخلق والخليقة، والله لو أمرتني أن أقعد لما قمت أبداً، ولو أمرتني أن أقوم، لقمتُ ما ملكتني رجلاي، ولو ربطتني على البعير، لم أطلق نفسي حتى تكون أنت الذي تطلقني، قال: ثم استأذنه، أن يأتي الربذة، فأتاها([41]).
مروياته الاحتسابية
لقد كان لأبي ذر -رضي الله عنه- كثير من المرويات المتعلقة بالحسبة، منها:
1- عن عبد الله بن الصامت، عن أبي ذر، قال: قال لي رسول الله: كيف أنت إذا كانت عليك أمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها؟ أو يميتون الصلاة عن وقتها؟)) قال: قلتُ: فما تأمرني؟ قال: ((صلِ الصلاة لوقتها، فإن أدركتها معهم، فصل، فإنها لك نافلة))([42]).
وعند البيهقي عن أبي العالية، عن عبد الله بن الصامت قال: كان أمير من الأمراء يؤخر الصلاة فسألتُ أبا ذر، فضرب فخذي، فقال: سألتُ خليلي، يعني النبي -صلى الله عليه وسلم-، فضرب فخذي، فقال: ((صلِ الصلاة لميقاتها، فإن أدركت فصل معهم، ولا تقل: إني قد صليت، فلن أصلي معهم))([43]).
2- وعن المعرور بن سويد، قال: لقيتُ أبا ذر بالربذة، وعليه حلة، وعلى غلامه حلة، فسألته عن ذلك، فقال: إني ساببتُ رجلاً فعيرته بأمه، فقال لي النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((يا أبا ذر أعيرته بأمه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية، إخوانكم خولكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده، فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم))([44]).
3- وعن القاسم بن عوف الشيباني، عن أبي ذر، قال: سمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((من كان عليه سلطان، فأراد أن يذله، نزع الله ربقة الإسلام من عنقه، حتى يعود فيكون فيمن يعزه))([45]).
4- وعن يحيى بن يعمر، عن أبي ذر، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال: ((يصبح على كل سلامى من ابن آدم صدقة، تسليمه على من لقي صدقة، وأمره بالمعروف صدقة، ونهيه عن المنكر صدقة، وإماطته الأذى عن الطريق صدقة، وبضعة أهله صدقة)) قالوا: يا رسول الله، يأتي شهوة، وتكون له صدقة، قال: ((أرأيتَ لو وضعها في غير حقها، كان يأثم؟)) قال: ((ويجزئ من ذلك كله ركعتان من الضحى))([46]).
5- وعن أبي عبد الرحمن الحبلي، عن أبي ذر، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((أيما رجل كشف ستراً، فأدخل بصره من قبل أن يؤذن له، فقد أتى حداً، لا يحل له أن يأتيه، ولو أن رجلاً فقأ عينه، لهدرت، ولو أن رجلاً مر على باب لا ستر له، فرأى عورة أهله، فلا خطيئة عليه، إنما الخطيئة على أهل البيت))([47]).
6- وعن أبي سلام، قال أبو ذر: على كل نفس في كل يوم طلعت فيه الشمس صدقة منه على نفسه، قلت: يا رسول الله، من أين أتصدق وليس لنا أموال؟ قال: ((لأن من أبواب الصدقة التكبير، وسبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، وأستغفر الله، وتأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، وتعزل الشوكة عن طريق الناس، والعظم والحجر، وتهدي الأعمى، وتسمع الأصم والأبكم حتى يفقه، وتدل المستدل على حاجة له قد علمت مكانها، وتسعى بشدة ساقيك إلى اللهفان المستغيث، وترفع بشدة ذراعيك مع الضعيف، كل ذلك من أبواب الصدقة منك على نفسك، ولك في جماعك زوجتك أجر)) قال أبو ذر: كيف يكون لي أجر في شهوتي؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((أرأيت لو كان لك ولد فأدرك ورجوت خيره فمات، أكنت تحتسب به؟)) قلت: نعم، قال: ((فأنت خلقته؟)) قال: بل الله خلقه، قال: ((فأنت هديته؟)) قال: بل الله هداه، قال: ((فأنت ترزقه؟)) قال: بل الله كان يرزقه، قال: ((كذلك فضعه في حلاله وجنبه حرامه، فإن شاء الله أحياه، وإن شاء أماته، ولك أجر))([48]).
7- عن مالك بن مرثد، عن أبيه، قال: قال أبو ذر: قلت: يا رسول الله ماذا ينجي العبد من النار؟ قال: ((الإيمان بالله)) قلت: يا نبي الله، إن مع الإيمان عمل، قال: ((يرضخ مما رزقه الله)) قلت: يا رسول الله أرأيت إن كان فقيراً، لا يجد ما يرضخ به؟ قال: ((يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر)) قلت: يا رسول الله، أرأيت إن كان عيياً، لا يستطيع أن يأمر بالمعروف، ولا ينهى عن المنكر؟ قال: ((يصنع لأخرق)) قلت: أرأيت إن كان أخرق لا يستطيع أن يصنع شيئاً؟ قال: ((يعين مغلوباً)) قلت: أرأيت إن كان ضعيفاً، لا يستطيع أن يعين مظلوماً؟ فقال: ((ما تريد أن تترك في صاحبك، من خير تمسك الأذى، عن الناس)) فقلت: يا رسول الله إذا فعل ذلك دخل الجنة؟ قال: ((ما من مسلم يفعل خصلة من هؤلاء، إلا أخذت بيده حتى تدخله الجنة))([49]).
وفاته -رضي الله عنه-:
عن محمد بن كعب القرظي، قال: لما نفى عثمان أبا ذر نزل أبو ذر الربذة، فأصابه بها قدره، ولم يكن معه أحد إلا امرأته وغلامه، فأوصاهما أن غسلاني وكفناني، ثم ضعاني على قارعة الطريق، فأول ركب يمر بكم فقولوا: هذا أبو ذر صاحب رسول الله، فأعينونا على دفنه، فلما مات فعلا ذلك به، ثم وضعاه على قارعة الطريق، فأقبل عبد الله بن مسعود، ورهط من أهل العراق عماراً، فلم يرعهم إلا بجنازة على الطريق، قد كادت الإبل تطؤها، وقام إليهم الغلام، فقال: هذا أبو ذر صاحب رسول الله، فأعينونا على دفنه قال: فاستهل عبد الله بن مسعود يبكي، ويقول: صدق رسول الله ((تمشي وحدك، وتموت وحدك، وتبعث وحدك)) ثم نزل هو وأصحابه فواروه([50]).
وفي تاريخ الطبري في ذكر خبر وفاة أبي ذر قال: كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عطية عن يزيد الفقعسي، قال: لما حضرت أبا ذر الوفاة، وذلك في سنة ثمان في ذي الحجة، من إمارة عثمان، نزل بأبي ذر، فلما أشرف قال لابنته: استشرفي يا بنية فانظري، هل ترين أحداً! قالت: لا، قال: فما جاءت ساعتي بعد، ثم أمرها فذبحت شاة، ثم طبختها، ثم قال: إذا جاءك الذين يدفنون، فقولي لهم: إن أبا ذر يقسم عليكم ألا تركبوا حتى تأكلوا، فلما نضجت قدرها، قال لها: انظري هل ترين أحداً؟ قالت: نعم، هؤلاء ركب مقبلون، قال:
استقبلي بي الكعبة، ففعلت، وقال: بسم الله، وبالله، وعلى مله رسول الله، ثم خرجت ابنته فتلقتهم، وقالت: رحمكم الله! اشهدوا أبا ذر – قالوا: وأين هو؟ فأشارت لهم إليه وقد مات- فادفنوه، قالوا: نعم ونعمة عين! لقد أكرمنا الله بذلك، وإذا ركب من أهل الكوفة فيهم ابن مسعود، فمالوا إليه وابن مسعود يبكي، ويقول: صدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((يموت وحده، ويبعث وحده)) فغسلوه، وكفنوه، وصلوا عليه ودفنوه، فلما أرادوا أن يرتحلوا، قالت لهم: إن أبا ذر يقرأ عليكم السلام، وأقسم عليكم ألا تركبوا حتى تأكلوا، ففعلوا، وحملوهم حتى أقدموهم مكة، ونعوه إلى عثمان، فضم ابنته إلى عياله، وقال: يرحم الله أبا ذر، ويغفر لرافع ابن خديج سكونه([51]).
([1]) انظر: الاستيعاب في معرفة الأصحاب (4/ 1652) والطبقات الكبرى (4/ 169) وتاريخ الطبري = تاريخ الرسل والملوك، وصلة تاريخ الطبري (2/ 317) والمعارف (1/ 252) والأعلام للزركلي (2/ 140) وغيرها.
([3]) أخرجه الترمذي، ت: شاكر، في أبواب المناقب، باب مناقب أبي ذر الغفاري -رضي الله عنه- (5/ 669-3801) وصححه الألباني في صحيح الجامع (2/971-5537).
([5]) أخرجه أبو داود، في أبواب النوم، باب إخبار الرجل الرجل بمحبته إياه (4/ 333-5126) وقال الألباني في صحيح سنن أبي داود (ص: 2-5126): “صحيح الإسناد”.
([6]) الاستيعاب في معرفة الأصحاب (4/ 1655).
([7]) أخرجه البخاري في كتاب العلم، باب العلم قبل القول والعمل (1/ 25).
([8]) شرح صحيح البخارى لابن بطال (1/ 152).
([9]) أخرجه البخاري في كتاب المناقب، باب قصة زمزم (4/ 184).
([10]) تاريخ المدينة لابن شبة (2/ 748).
([11]) السنن الكبرى للبيهقي (4/ 243-7583).
([12]) السنن الكبرى للبيهقي (4/ 243-7582).
([13]) أخرجه أحمد، ط: الرسالة (35/ 380-21480) وقال محققو المسند: “إسناده ضعيف لجهالة فلان بن عبد الواحد الثقفي”.
([14]) السنن الكبرى للبيهقي (3/ 322-5869).
([15]) مصنف عبد الرزاق الصنعاني (9/ 446-17958).
([16]) حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (1/ 160).
([17]) الطبقات الكبرى (4/ 178).
([18]) تاريخ الإسلام (3/ 473) والبداية والنهاية (6/ 146) والسنة لابن أبي عاصم (2/ 543-1146) والسنة لأبي بكر بن الخلال (1/ 288-351) والمعجم الأوسط (4/ 245-4097) ومسند الشاميين للطبراني (4/ 246-3198) وشرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (4/ 886-1485) ومسند البزار = البحر الزخار (9/ 431-4040) وابن عساكر في تاريخ دمشق (ص: 109) وخيثمة الأطرابلسي في فضائل الصحابة (3/108).
([19]) تاريخ دمشق لابن عساكر (65/ 250) والبداية والنهاية (8/ 254).
([20]) الطبقات الكبرى لابن سعد (4/ 168-169).
([21]) صحيح البخاري في كتاب الزكاة، باب ما أدي زكاته فليس بكنز (2/ 107-1406).
([22]) أحمد في المسند بإسناد صحيح (35/ 384-385) رقم: (21485).
([23]) صحيح البخاري في كتاب الزكاة باب ما أدي زكاته فليس بكنز (2/ 107-1408).
([24]) مسند أحمد (28/ 360-361)، وهو حديث حسن.
([25]) حلية الأولياء (1/ 160).
([27]) سير أعلام النبلاء (3/ 386-387).
([28]) سير أعلام النبلاء (3/ 386).
([29]) الطبقات الكبرى لابن سعد (4/ 178).
([30]) أخرجه أحمد في المسند (35/ 329) وهو صحيح.
([31]) الطبقات الكبرى (4/ 178).
([32]) الأمر بالمعروف لعبد الغني المقدسي (ص: 54-76).
([33]) تاريخ دمشق لابن عساكر (66/ 192).
([34]) تاريخ دمشق لابن عساكر (66/192-193).
([35]) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لابن أبي الدنيا (ص: 85-42) والتمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد (23/ 282).
([36]) حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (1/ 159).
([37]) جامع معمر بن راشد (11/ 332-20690).
([38]) مصنف ابن أبي شيبة (7/ 523-37700).
([39]) تاريخ المدينة لابن شبة (3/ 1036-1037) وتاريخ دمشق لابن عساكر (66/ 197) وسير أعلام النبلاء (3/ 382).
([40]) تاريخ دمشق لابن عساكر (66/ 211).
([41]) الأموال لابن زنجويه (1/ 74-27).
([42]) أخرجه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب كراهية تأخير الصلاة عن وقتها المختار، وما يفعله المأموم إذا أخرها الإمام (1/ 448-648).
([43]) السنن الكبرى للبيهقي (2/ 425-3636).
([44]) أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب المعاصي من أمر الجاهلية، ولا يكفر صاحبها بارتكابها إلا بالشرك (1/ 15-30) ومسلم في في الإيمان والنذور باب إطعام المملوك مما يأكل (3/ 1283-1661).
([45]) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لابن أبي الدنيا (ص: 114-81).
([46]) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لابن أبي الدنيا (ص: 127-102).
([47]) أخرجه أحمد، ط: الرسالة (35/ 451-21572) وقال محققو المسند: “إسناده ضعيف”.
([48]) أخرجه أحمد، ط: الرسالة (35/ 383-21484) وقال محققو المسند: “إسناده صحيح، رجاله ثقات رجال الصحيح”.
([49]) المعجم الكبير للطبراني (2/ 156-1650).
([50]) تاريخ الطبري = تاريخ الرسل والملوك، وصلة تاريخ الطبري (3/ 107).
([51]) تاريخ الطبري = تاريخ الرسل والملوك، وصلة تاريخ الطبري (4/ 308).