احتساب أبي مسلم الخولاني رحمه الله
(000 – 62 هـ = 000 – 682 م)
اسمه ونشأته:
هو أبو مسلم الخولاني، اليماني، الداراني، الزاهد، عبد الله بن ثوب (بضم، ففتح) وقيل: ابن ثواب، ويقال: ابن أثوب، ويقال: ابن عبد الله، ويقال: ابن عوف، ويقال: ابن مشكم، ويقال: اسمه يعقوب بن عوف، والمشهور: الأول، وقد غلبت عليه كنيته.
تابعيّ، فقيه، عابد، زاهد، أصله من اليمن، من المخضرمين، أدرك الجاهلية، وأسلم قبل وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولم يره، فقدم المدينة في خلافة أبي بكر، وهاجر إلى الشام، وفي أكثر المصادر: أن وفاته بدمشق، وقبره بداريا([1])، ([2]).
لكن قد قال ابن تيمية: “ومنها قبر أبي مسلم الخولاني الذي بداريا اختلف فيه”([3]).
مكانته وفضله وعبادته:
نعته الإمام الذهبي (بريحانة الشام) حيث قال: “أبو مسلم الخولاني الفقيه، العابد، الزاهد، ريحانة الشام”([4]).
وقال أيضاً: “وفيها توفي أبو مسلم الخولاني، الزاهد، سيد التابعين بالشام، وفد على أبي بكر مسلماً، وله مناقب غزيرة، وكرامات”([5]).
ويُروى عن مالك بن دينار أنَّ كعباً رأى أبا مسلم الخولاني، فقال: من هذا؟ قالوا: أبو مسلم الخولاني، قال: هذا حكيم هذه الأمة([6]).
وعدَّه السمعاني ممن أُتي الحكمة، حيث قال: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ} [لقمان (12)] ثمانية نفر: أولهم أويس، ثم عامر بن عبد قيس، ثم هرم بن حيان، ثم أبو مسلم الخولاني، ثم الأسود، ثم مسروق بن الأجدع، ثم الربيع بن خثيم، ثم الحسن([7]).
وعن علقمة بن مرثد، قال: “انتهى الزهد إلى ثمانية: عامر بن عبد الله بن عبد قيس، وأويس القرني، وهرم بن حيان، والربيع بن خثيم، ومسروق بن الأجدع، والأسود بن يزيد، وأبو مسلم الخولاني، والحسن بن أبي الحسن”([8]).
وقال عنه اليافعي في مرآته: “وتُوفي أبو مسلم الخولاني بن مخلد، السيد الجليل، ذو المناقب والمحاسن، في الظاهر والباطن، والكرامات العديدة، والسيرة الحميدة، اليمني، من سادات التابعين، لا يكاد يوجد له منهم نظير، إلا نادراً جداً قليلاً”([9]).
وقال أيضاً: “ذكر جماعة من مشاهير اليمن: من كبار قدماء اليمن وأوليائهم ورؤسائهم وعلمائهم مجموعين، وإن كان قد مضى ذكرهم متفرقين، فمنهم السادة الأجلاء، والنخبة الأصفياء، أبو موسى الأشعري الصحابي -رضي الله تعالى عنه-، وأويس القرني، وأبو مسلم الخولاني…”([10]).
وقال عنه يوسف بن تغري بردي: “أبو مسلم الخولاني اليماني، الزاهد، سيد التابعين بالشام”([11]).
وقال عنه ابن العماد: “وأبو مسلم الخولاني اليمني، من سادات التابعين، صاحب كرامات”([12]).
وقال عنه البخاري: “عبد الله بن ثوب، أبو مسلم الخولاني، قارئ أهل الشام”([13]).
وقال العجلي: “أبو مسلم الخولاني، شامي، تابعي، ثقة، من كبار التابعين، وعبادهم”([14]).
وقال عنه ابن حبان: “أبو مسلم الخولاني…، كان من عباد أهل الشام، وزهادهم”([15]).
وقال عنه ابن عبد البر: ” أبو مسلم الخولاني، العابد…، معدود في كبار التابعين…، كان فاضلاً ناسكاً عابداً، وله كرامات، وفضائل، روى عنه أبو إدريس الخولاني، وجماعة من تابعي أهل الشام”([16]).
وقال أيضاً: “من كبار التابعين…، وإن كان ليس بصاحب؛ لأنه لم يرَ النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا أنه شرطنا فيمن كان مسلماً على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-“([17]).
وقال عنه ابن الأثير: “كان فاضلاً عابداً ناسكاً، له فضائل كثيرة، وهو من كبار التابعين”([18]).
وقال عنه العلائي: “عبد الله بن ثوب، أبو مسلم الخولاني، تابعي كبير، ذكره بن عبد البر في الصحابة، لكونه أسلم على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم-، وليست له رؤية، فحديثه مرسل”([19]).
وقال عنه أبو نعيم: “أبو مسلم عبد الله بن ثوب، حكيم الأمة، وممثلها، ومديم الخدمة ومحررها”([20]).
وعن علقمة بن مرثد، قال: “انتهى الزهد إلى ثمانية من التابعين، منهم أبو مسلم الخولاني”([21]).
وقال أبو هارون موسى بن أبي عيسى: كان يقال: “إن أبا مسلم الخولاني ممثل هذه الأمة”([22]).
وقال ابن كثير: “قدم على الصديق، فأجلسه بينه وبين عمر، وقال له عمر: الحمد لله الذي لم يمتني حتى أرى في أمة محمد من فعل به كما فعل بإبراهيم الخليل، وقبله بين عينيه، وكانت له أحوال ومكاشفات”([23]).
وقال عبد الله بن عمير: كان إذا استسقى سقي([24]).
والقصد: أن صاحب الترجمة كان من سادات التابعين، علماً، وعملاً، واتباعاً، وعبادةً، وذكراً، فقد كان رحمه الله- على جانب عظيم كبير من العبادة، وفي الحلية: عن سعيد بن عبد العزيز، قال: قال أبو مسلم الخولاني: “لو قيل: إن جهنم تسعر ما استطعت أن أزيد في عملي”([25]).
وكان ربما صام وهو مسافر، فيقال له: ما حملك على الصيام وأنت مسافر؟ قال: لو حضر قتال لأفطرت ولتهيأت له وتقويت، إن الخيل لا تجري الغايات وهي بدن، إنما تجري وهي ضمر، ألا وإن أمامنا باقية جائية لها نعمل([26]).
وكان كثير الذكر لدرجة لا توصف، فعن عقيل عن لقمان بن عامر عن أبي مسلم الخولاني: أن رجلاً أتاه، فقال له: أوصني يا أبا مسلم، قال: اذكر الله تحت كل شجرة وحجر، فقال: زدني، قال: اذكر الله حتى يحسبك الناس من ذكر الله مجنوناً، قال: فكان أبو مسلم يكثر ذكر الله -عز وجل-، فرآه رجل يذكر الله -عز وجل-، فقال: أمجنون صاحبكم هذا؟ فسمعه أبو مسلم، فقال: ليس هذا بالجنون يا ابن أخي، لكن هذا دواء الجنون([27]).
علمه:
كان من علماء التابعين الكبار، والمحدثين العظام، الثقات، وهو من رجال مسلم، فقد روى عن عمر، ومعاذ، وأبي عبيدة، والكبار، حدث عنه: أبو إدريس الخولاني، وأبو العالية الرياحي، وجبير بن نفير، وعطاء، وأبو قلابة، وطائفة، وثقه ابن معين، وغيره([28]).
وروى له مسلم، والأربعة([29]).
لكن ليست له رؤية، فحديثه مرسل([30]).
من كراماته:
كان -رحمه الله- عابداً، زاهداً، كريماً، مستجاب الدعوة، له كرامات كثيرة، وعجيبة، منها: ما أخرجه ابن عساكر عن حميد بن هلال العدوي، قال: حدثني ابن عمي، قال:
خرجتُ مع أبي مسلم الخولاني في جيش، فأتينا على نهر عجاج، منكر، فقلنا لأهل القرية: أين المخاضة؟ فقالوا: ما كانت ههنا مخاضة قط، ولكن المخاضة أسفل منكم على ليلتين، فقال أبو مسلم: اللهم أجزت بني إسرائيل البحر، وإنا عبادك، في سبيلك، فأجزنا هذا النهر اليوم، ثم قال: اعبروا بسم الله، قال ابن عمي: وأنا على فرس فقلت: لأقذفنه أول الناس خلف أبي مسلم، قال: فو الله ما بلغ الماء بطون الخيل، حتى عبر الناس كلهم، ثم وقف فقال: يا معشر المسلمين هل ذهب لأحدكم شيء، فأدعو الله تعالى يرده([31]).
وأخرج هذه القصة –السابقة- ابن كثير أيضاً، نقلاً عن ابن عساكر، ثم قال ابن كثير: “فهذه الكرامات لهؤلاء الأولياء، هي معجزات لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، كما تقدم تقريره؛ لأنهم إنما نالوها ببركة متابعته، ويمن سفارته؛ إذ فيها حجة في الدين، أكيدة للمسلمين، وهي مشابهة نوح -عليه السلام- في مسيره فوق الماء بالسفينة التي أمره الله تعالى بعملها، ومعجزة موسى -عليه السلام- في فلق البحر، وهذه فيها ما هو أعجب من ذلك، من جهة مسيرهم على متن الماء من غير حائل، ومن جهة أنه ماء جار والسير عليه أعجب من السير على الماء القار الذي يجاز، وإن كان ماء الطوفان أطم وأعظم، فهذه خارق، والخارق لا فرق بين قليله وكثيره، فإن من سلك على وجه الماء الخضم الجاري العجاج فلم يبتل منه نعال خيولهم، أو لم يصل إلى بطونها، فلا فرق في الخارق بين أن يكون قامة، أو ألف قامة، أو أن يكون نهراً أو بحراً، بل كونه نهراً عجاجاً كالبرق الخاطف، والسيل الجاري، أعظم وأغرب”([32]).
ومن كراماته: أنه أخذ درهماً يشتري لأهله دقيقاً، وأخذ معه مزوداً، فألح عليه سائل، كلما وقف على مكان يريد أن يشتري، قال له السائل: تصدق علي، قال: فيتحول من ذلك الموضع إلى موضع آخر، فيتبعه، يقول: تصدق علي، فيفر منه إلى موضع آخر فيلحقه، فلما أكثر عليه أعطاه الدرهم، ثم جاء إلى موضع النجارين، فملأ مزوده من نشارة الخشب، ثم ربطه فأتى به البيت، فأدخله سراً من أهله، ثم خرج فعمدت امرأته إلى المزود، ففتحته، فإذا فيه دقيق حوارى، فعجنت وخبزت، فلما ارتفع النهار جاء أبو مسلم، وهو خائف من امرأته، فأتته بالمائدة، وأتت بطعام فأكل، فلما فرغ، قال لها: من أين لكم هذا؟ قالت: هذا من الذي جئت به، فجعل يأكل ويبكي([33]).
فهذه بعض كراماته، وقد ذكر له شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- عدداً من الكرامات، انظرها في مجموع الفتاوى([34]).
سيرته الاحتسابية
كان أبو مسلم الخولاني -رحمه الله- من العلماء الربانيين، والمحتسبين المصلحين، ممن لا يجامل ولا يدهن في دين الله تعالى، ولا يخاف في الله لومة لائم، فلقد كانت له مواقف احتسابية عظمية، منها:
1- إنكاره على من قتلوا عثمان:
قوله حين رأى الوفد الذين قدموا من قتل عثمان: إنكم مثلهم، أو أعظم جرماً، أما مررتم ببلاد ثمود؟ قالوا: نعم! قال: فأشهد أنكم مثلهم، لخليفة الله أكرم عليه من ناقته([35]).
وسياق ابن عساكر: قال أبو مسلم الخولاني: يا أهل المدينة كنتم بين قاتل وخاذل، فكلاً جزى الله شراً، يا أهل المدينة، والله لأنتم أعظم جرماً عند الله من ثمود، فإن ثموداً قتلوا ناقة الله، وأنتم قتلتم خليفة الله، وخليفة الله أكرم على الله -عز وجل- من ناقته([36]).
2- إنكاره على من كان يلعن عثمان -رضي الله عنه-:
عن ابن أبي السائب عن أبيه عن أبي مسلم الخولاني قال: سمع مكفوفاً بالمدينة، وهو يقول: اللهم العن عثمان، وما ولد، قال: يا مكفوف ألعثمان تقول هذا؟ يا أهل المدينة كنتم بين قاتل وخاذل، فكلاً جزى الله شراً، يا أهل المدينة لأنتم شر من ثمود إن ثموداً قتلوا ناقة الله، وانتم قتلتم خليفة الله، وخليفة الله أكرم على الله من ناقته، يا أهل المدينة لو لم يكن في عثمان إلا أني رأيت في المنام كأن السماء([37])، فإذا النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر عن يمينه، وعمر عن يساره، وإذا السماء تقطر دماً، وقائل يقول: هذا دم عثمان قُتل مظلوماً([38])
3- إنكاره على الأسود العنسي المدعي للنبوة:
لما تنبأ الأسود بن قيس العنسي باليمن، فأرسل إلى أبي مسلم الخولاني، فقال له: أتشهد أن محمدا رسول الله؟ قال: نعم، قال: أتشهد أني رسول الله؟ قال: ما أسمع، فأعاد عليه، فقال: ما أسمع، فأمر بنار عظيمة، فأججت، وطرح فيها أبو مسلم، فلم تضره، فقيل له: لئن تركت هذا في بلادك أفسدها عليك، فأمره بالرحيل، فقدم المدينة، وقد قبض رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، واستخلف أبو بكر، فقام إلى سارية من سواري المسجد يصلي، فبصر به عمر فقال: من أين الرجل؟ قال: من اليمن، قال: ما فعل عدو الله بصاحبنا الذي حرقه بالنار، فلم تضره؟ قال: ذاك عبد الله بن ثوب، قال: نشدتك بالله أنت هو؟ قال: اللهم نعم، قال: فاعتنقه ثم بكى، ثم ذهب به حتى أجلسه بينه وبين أبي بكر الصديق، وقال: الحمد لله الذي لم يمتني حتى أراني في أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- من فعل به كما فعل بإبراهيم، خليل الرحمن -عليه السلام-([39]).
4- إنكاره على من خببت عليه امرأته:
عن بقية عن محمد بن زياد، عن أبي مسلم الخولاني: إن امرأة خببت عليه امرأته، فدعا عليها، فذهب بصرها، فأتته، فاعترفت، وقالت: إني لا أعود، فقال: اللهم إن كانت صادقة، فاردد بصرها، فأبصرت([40]).
5- إنكاره على ولده:
قال ابن عساكر: انصرف أبو مسلم الخولاني إلى منزله فإذا جاريته تبكي، فقال لها: يا بنية ما يبكيك؟ فقالت: ضربني سيدي ابنك، فدعا ابنه، فقال: كيف ضربك؟ قالت: لطمني، قال لابنه: اجلس، فجلس، فقال لها: الطميه كما لطمك، فقالت: لا ألطم سيدي، فقال لها: عفوت عنه؟ قالت: نعم، قال: لا تطلبينه في الدنيا ولا في الآخرة؟ قالت: نعم، قال: اذهبي حتى تشهدي على ما تقولين، فدعت رجلاً من الجانب، فقال لهم أبو مسلم: إن ابني لطمها لطمة فدعوتها لتقتص من ابني فأبت أن تقتص، فزعمت أنها قد عفت عنه، لا تطلبه لا في الدنيا ولا في الآخرة، فكذلك، قالت: نعم، قال: أشهدكم أنها حرة لوجه الله، فأقبل عليه بعض القوم، فقال: اعتقتها من أجل أن لطمها ابنك، وليس لك خادم غيرها، قال: دعونا عنكم أيها القوم، ليتنا نفلت كفافاً، لا لنا، ولا علينا([41]).
6- إنكاره على من يذم عائشة -رضي الله عنها-:
عن عائذ الله بن عبد الله أبو إدريس الخولاني: أنَّ أبا مسلم الخولاني قال لأهل الشام، وهم ينالون من عائشة في شأن عثمان -رضوان الله عليهما-: يا أهل الشام أضرب لكم مثلكم ومثل أمكم هذه، مثلها ومثلكم كمثل العين في الرأس، تؤذي صاحبها، ولا يستطيع أن يعاقبها إلا بالذي هو خير لها([42]).
وقال معمر، عن الزهري قال: كنتُ عند الوليد بن عبد الملك، فكان يتناول عائشة -رضي الله عنها-، فقلت: يا أمير المؤمنين ألا أحدثك عن رجل من أهل الشام، كان قد أُوتي حكمة؟ قال: من هو؟ قلتُ: أبو مسلم الخولاني، سمع أهل الشام ينالون من عائشة، فقال: ألا أخبركم بمثلي ومثل أمكم هذه، كمثل عينين في رأس يؤذيان صاحبهما، ولا يستطيع أن يعاقبهما إلا بالذي هو خير لهما، فسكت([43]).
7- إنكاره على قوم من أهل العراق:
عن محمد بن عثمان وزعم أنه من بني مرة الخولاني عن شرحبيل بن مسلم الخولاني قال: قدم وفد من أهل العراق على معاوية، فقام رجل منهم، فقال: يا أمير المؤمنين إنَّ لسلطان الله بهاء، فلو اتخذت أقواماً لهم بهاء، كأنه يزري على أهل الشام، فرفع أبو مسلم الخولاني، فقال: ممن الرجل؟ فقال: من أهل العراق، فقال: نعم ما رأيتُ قوماً أمد أجساماً، ولا أخرب قلوباً، ولا أسأل عن علم، ولا أترك له، من أهل العراق، فقال له أصحابه: يا أبا مسلم إنه لا يقول شيئاً، فقال أبو مسلم: فعما سمع جواباً([44]).
وقال أبو مسلم الخولاني: ما رأيتُ قوماً أسأل عن صغيرة، ولا أركب لكبيرة منكم يا أهل العراق([45]).
8- إنكاره ونصحه لمعاوية -رضي الله عنه-:
عن أبي عبد الله الحرسي -وكان من حرس عمر بن عبد العزيز- قال: دخل أبو مسلم الخولاني على معاوية بن أبي سفيان، فقال: السلام عليك أيها الأجير، فقال الناس: الأمير يا أبا مسلم، ثم قال: السلام عليك أيها الأجير، فقال الناس: الأمير، فقال معاوية: دعوا أبا مسلم فهو أعلم بما يقول، قال أبو مسلم: إنما مثلك مثل رجل استأجر أجيراً فولاه ماشيته، وجعل له الأجر على أن يحسن الرعية، ويوفر جزازها وألبانها، فإن هو أحسن رعيتها، ووفر جزازها، حتى تلحق الصغيرة، وتسمن العجفاء، أعطاه أجره، وزاده من قبله زيادة، وإن هو لم يحسن رعيتها، وأضاعها، حتى تهلك العجفاء، وتعجف السمينة، ولم يوفر جزازها وألبانها، غضب عليه صاحب الأجر، فعاقبه، ولم يعطه الأجر، فقال معاوية: ما شاء الله([46]).
وعن ابن أبي عبلة: أن أبا مسلم الخولاني دخل على معاوية، فقال له: ما اسمك؟ قال: اسمي معاوية، قال: لا، بل اسمك أحدوثة، فإن جئت بشيء فلك شيء، وإن لم تأت بشيء فلا شيء لك يا معاوية، إنك لو عدلت بين جميع قبائل العرب، ثم ملت على أقلها قبيلة مال جورك بعدلك([47]).
وفي سير أعلام النبلاء: “وحدثني يعلى بن عبيد، قال: حدثنا أبي، قال: قال أبو مسلم الخولاني وجماعة لمعاوية: أنت تنازع علياً أم أنت مثله؟ فقال: لا والله إني لأعلم أن علياً أفضل مني، وأحق بالأمر مني، ولكن ألستم تعلمون أن عثمان قتل مظلوماً، وأنا ابن عمه، وإنما أطلب بدمه، فأتوا علياً فقولوا له، فليدفع إليّ قتلة عثمان، وأسلم له. فأتوا علياً فكلموه بذلك، فلم يدفعهم إليه([48]).
وعن عبد الله بن عروة، عن أبي مسلم الخولاني، عن معاوية بن أبي سفيان: أنه خطب الناس، وقد حبس العطاء شهرين أو ثلاثة، فقال له أبو مسلم: يا معاوية إن هذا المال ليس بمالك، ولا مال أبيك، ولا مال أمك، فأشار معاوية إلى الناس أن امكثوا، ونزل فاغتسل ثم رجع، فقال: أيها الناس إن أبا مسلم ذكر أن هذا المال ليس بمالي ولا بمال أبي ولا أمي، وصدق أبو مسلم، إني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((الغضب من الشيطان، والشيطان من النار، والماء يطفئ النار، فإذا غضب أحدكم فليغتسل))([49])، اغدوا على عطاياكم على بركة الله -عز وجل-([50]).
وعن الزهري، عن أبي إدريس الخولاني، قال: دخل معاوية على أبي مسلم الخولاني يعوده، فلم يعرفه فقال: يا أبا مسلم، أما تعرفني؟ أتجهلني؟ سل يا أبا مسلم أمير المؤمنين؟ قال: فقال له: اعلم أنك لو وليت أمر الأمة، فعدلت، إلا على قبيلة هي أذلها وأحقرها، مال حيفك بعدلك، فاستقم كما أمرت([51]).
فانظر كيف حث أبو مسلم الخولاني معاوية -رضي الله عنه- على الاهتمام بأمر الرعية، وحذره من التهاون، أو التفريط في إصلاح شؤونهم؛ وذلك عن طريق ضرب المثل تقريباً للصورة، وتشبيهاً للحال.
وانظر أيضاً في هذه المواقف إلى عظمة الناصح، وعظمة المنصوح، والمحتسِب والمحتسَب عليه، تجد أن كليهما مما يقول بالحق، ويقبله، فمع أنَّ أبا مسلم كان هذه مواقفه الجريئة مع معاوية -رضي الله عنه-، إلا أن معاوية يقول عنه لما مات، كما جاء عن سعيد بن هانئ قال: قال معاوية: “إنما المصيبة كل المصيبة لموت أبي مسلم الخولاني، وكريب بن سيف الآنصاري”([52]).
ويقول أبو مسلم لمعاوية -رضي الله عنه-: “فلا والله ما أبغضناك منذ أحببناك، ولا عصيناك منذ أطعناك، ولا فارقناك منذ جامعناك، ولا نكثنا بيعتنا منذ بايعناك، سيوفنا على عواتقنا، إن أمرتنا أطعناك، وإن دعوتنا أجبناك، وإن سبقتنا أدركناك، وإن سبقناك نظرناك”([53]).
فرضي الله عن الجميع.
9- إنكاره على المشتغلين بالدنيا:
عن الحسن بن ثوبان أن أبا مسلم الخولاني دخل المسجد، فنظر إلى نفر قد اجتمعوا جلوساً فرجا أن يكونوا على ذكر، على خير، فجلس إليهم، فإذا بعضهم يقول: قدم غلام لي فأصاب كذا وكذا، وقال الآخر: وأنا قد جهزت غلامي، فنظر إليهم، فقال: سبحان الله، هل تدرون يا هؤلاء ما مثلي ومثلكم، كمثل رجل أصابه مطر غزير وابل، فالتفت فإذا هو بمصراعين عظيمين، فقال: لو دخلتُ هذا البيت، حتى يذهب عني أذى هذا المطر، فدخل، فإذا بيت لا سقف له، جلست إليكم وأنا أرجو أن تكونوا على خير على ذكر، فإذا أنتم أصحاب دنيا، فقام عنهم([54]).
10- إنكاره على جاريته، ثم عفوه عنها:
عن أبي زرعة قال: قال أبو مسلم لجارية له: لولا أن الله تعالى يقول: {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ} [الجاثية (14)] لأوجعتك، قال: فقالت: يرحمك الله، فو الله إني لممن يرجو أيامه، فما لك لا توجعني، فقال: إن الله يأمرني أن أغفر للذين لا يرجون أيامه، فعمن يرجو أيامه أحرى، انطلقي، فأنت حرة([55]).
وقال: السري بن يحيى، ثنا به، قال: قالت جارية أبي مسلم الخولاني قد صنعت لك السم في طعامك فلم يضرك قال: ولم؟ قالت: أردت أتعجل العتق قال: اذهبي فأنت حرة([56]).
11- إنكاره على وضع الستر على جدار البيت:
عن ابن عياش، وهو إسماعيل عن شرحبيل بن مسلم الخولاني، عن أبي مسلم الخولاني: أنه انصرف إلى منزله، فإذا هو بالبيت قد ستر، فقال: إن كان بيتكم هذا ليجد القر فأدفئوه، وإلا فلا أبرح حتى تنزعوه، فنزعوا الستر، ثم دخل([57]).
من أقواله الاحتسابية
1- عن عبد الرحمن بن جبير، قال: شكا رجل إلى أبي مسلم الخولاني ما يلقى من الناس من الأذى، فقال له أبو مسلم: “إن تناقد الناس يناقدوك، وإن تتركهم لا يتركوك، وإن تفر منهم يدركوك، قال: فما أصنع؟ قال: “هب عرضك ليوم فقرك، وخذ شيئاً من لا شيء، يعني الدنيا”([58]).
2- وعن سليم، عن أبي مسلم الخولاني، قال: “كان الناس ورقاً لا شوك فيه، وأنتم اليوم شوك لا ورق فيه، إن ساببتهم سابوك، وإن نافرتهم نافروك، وإن تركتهم لم يتركوك، وإن فررت منهم أدركوك، فهب لهم عرضك ليوم فقرك”([59]).
3- وقال كعب الأحبار لأبي مسلم الخولاني: كيف منزلتك من قومك؟ قال: حسنة، قال كعب: إن التوراة لتقول غير ذلك، قال: وما تقول؟ قال: تقول: إن الرجل إذا أمر بالمعروف ونهى عن المنكر ساءت منزلته عند قومه، فقال: صدقت التوراة، وكذب أبو مسلم([60]).
وعن أبي الدهماء قال: لقي أبو مسلم الخولاني أبا مسلم الجليلي فقال أبو مسلم الجليلي: كيف منزلك من قومك؟ قال: إنهم ليعرفون حقي، ويعرفون شرفي، فقال الجليلي: ما هكذا تقول التوراة، فقال الخولاني: وكيف تقول التوراة؟ فقال: تقول: إن أشد الناس بغضاً للمرء الصالح قومه ومن بين أظهرهم، وإن أشد الناس له حباً أبعد الناس منهم، فقال أبو مسلم الخولاني: صدقت التوراة، وكذب أبو مسلم([61]).
4- وعن أبي قلابة عن أبي مسلم الخولاني قال: “مثل الإمام ومثل الناس مثل الفسطاط، لا يقوم إلا بعمود، ولا يقوم العمود إلا بأوتاد، ولا يصلح الناس إلا الإمام، ولا يصلح الإمام إلا بأعوان”([62]).
5- وعن أبي قلابة، عن أبي مسلم الخولاني، قال: “مثل الإمام كمثل عين عظيمة صافية طيبة، الماء يجري منها إلى نهر عظيم، فيخوض الناس النهر، فيكدرونه، ويعود عليهم مقر العين، فإذا كان الكدر من قبل العين فسد النهر” قال: “ومثل الإمام والناس كمثل فسطاط مستقيم -أو قال-: “لا يستقيم إلا بعمود، ولا يقوم العمود إلا بأطناب -أو قال-: “بأوتاد، فكلما نزع ازداد العمود وهنا، فلا يصلح الناس إلا بالإمام، ولا يصلح الإمام إلا بالناس”([63]).
6- وعن شرحبيل بن مسلم، عن أبي مسلم الخولاني، أنه كان يقول: “يا معشر خولان، زوجوا شبابكم وأيامكم، فإن النعظ([64]) أمر عارم، فأعدوا له عدته، واعلموا أن ليس لمنعظ إذن([65])“([66]).
7- عن كلثوم بن زياد، عن أبي مسلم الخولاني، قال: “من صبر نفسه على الأذى لم يجد للأذى مساً”([67]).
8- وعن عبد الملك بن عمير، عن أبي مسلم الخولاني؛ قال: “أربع لا يقبلن في أربع: السرقة، والخيانة، والغلول، ومال اليتيم؛ في الحج، والعمرة، والصدقة، والنفقة في سبيل الله -عز وجل-“([68]).
9- عن كلثوم بن زياد، عن أبي مسلم الخولاني، قال: “نوم الصائم تسبيح، وأين الصائم؟ إلا من لزم الصمت، وأقل من فضول الكلام”([69]).
10- وعن الحسن، عن أبي مسلم الخولاني، قال: “مثل العلماء في الأرض كمثل النجوم في السماء، إذا ظهرت لهم شاهدوا، وإذا غابت عنهم تاهوا”([70]).
11- وعن أبي قلابة، عن أبي مسلم الخولاني، قال: “العلماء ثلاثة: رجل عاش بعلمه وعاش الناس معه، ورجل عاش بعلمه ولم يعش الناس معه، ورجل عاش الناس بعلمه وأهلك نفسه”([71]).
12- وقال أبو مسلم الخولاني لمعاوية: “لا تحسب أن الخلافة جمع المال وتفريقه إنما هي القول بالحق والعمل بالمعدلة وأخذ الناس في ذات الله”([72]).
13- موقفه من القدرية: ففي الإبانة عن أبي قلابة عبد الله بن يزيد الجرمي، عن أبي مسلم الخولاني قال: “إن آخر ما جف به القلم خلق آدم، وإن الله -عز وجل- لما خلقه نشر ذريته في يده، وكتب أهل الجنة وأعمالهم، وكتب أهل النار وأعمالهم، ثم قال: هذه لهذه ولا أبالي، وهذه لهذه ولا أبالي”([73]).
وفاته:
توفي -رحمه الله- سنة اثنتين وستين من الهجرة.
وذكر الحافظ الذهبي قال: قال الإمام أحمد: حدثت عن محمد بن شعيب عن بعض مشيخة دمشق قال: أقبلنا من أرض الروم، فمررنا بالعمير، على أربعة أميال من حمص في آخر الليل، فاطلع الراهب من صومعته، فقال: هل تعرفون أبا مسلم الخولاني؟ قلنا: نعم، قال: إذا أتيتموه فأقرؤوه السلام، فإنا نجده في الكتب رفيق عيسى بن مريم، أما إنكم لا تجدونه حياً، فلما أشرفنا على الغوطة بلغنا موته، قال الحافظ ابن عساكر: يعني سمعوا ذلك، وكانت وفاته بأرض الروم كما حكينا([74]).
وفي تاريخ داريا: ذكر عمرو بن عبد الخولاني قال أبو علي: وكان عمرو بن عبد الخولاني تزوج بزوجة أبي مسلم الخولاني بعد وفاته، فسمعتُ من أدركتُ من شيوخنا يذكر أن أم مسلم سُئلت، أو قيل لها: أي الرجلين كان أفضل؟ فقالت: أما أبو مسلم، فإنه لم يكن يسأل الله شيئاً إلا أعطاه إياه، وأما عمرو بن عبد، فإنه كان ينار عليه في محرابه، حتى إني كنتُ أختدم([75]) على ضوء ناره، من غير مصباح([76]).
فرحمه الله رحمة واسعة، فقد كان عالماً عاملاً، محتسباً ناصحاً، زاهداً متوكلاً، متعلقاً بربه، فكان يقول -كما جاء عن ابن أبي الزناد قال: قال أبو مسلم الخولاني-: مثل هذه من توفيق -وعقد طرف أصبعه- خير من مثل هذا من عقل -وفرج بين يديه-“([77]).
([1]) داريا: هي بفتح الدال، وسكون الألفين، بينهما راء مفتوحة، وفي آخرها مثناة تحتانية مشددة، قرية من غوطة دمشق، على دون ثلاثة أميال منها، انتسب إليها جماعة كثيرون قديماً وحديثاً، أفرد ابن عساكر جملة من أحاديثهم في عدة أجزاء، وفيها أيضاً قبر أبي مسلم الخولاني، بل ممن سكنها من الصحابة بلال المؤذن -رضي الله عنه-، والنسبة إليها بإثبات النون وحذفها، كالأسماء التي بآخرها ألف مقصورة، قال أبو الفتح الهمداني: داريا وزنها فعليا من الدار والألف للتأنيث، وإنما زيدت فيها هذه الزوائد دلالة على التكثير؛ لأنها كانت مجمعاً لدور آل جفنة الغسانيين، ومنازلهم، ومثلها من الكلام مرحيا وبرديا، حكاهما سيبويه، وقد كتب بها أبو سعد بن السمعاني عن شيخين له شيئاً من الشعر، وأوردها السلفي في بلدانياته، وكذا الذهبي، ثم العراقي، وآخرون. انظر: البلدانيات للسخاوي (ص: 170-171).
([2]) انظر: تاريخ الإسلام (2/ 745) وتاريخ دمشق لابن عساكر (67/ 220) وأسد الغابة (3/ 88) وفوات الوفيات (2/ 169) والبداية والنهاية (8/ 156) والطبقات الكبرى (7/ 312) وسير أعلام النبلاء (4/ 512) وسير السلف الصالحين لإسماعيل بن محمد الأصبهاني (ص: 872) وطبقات الحفاظ للسيوطي (ص: 21) والأعلام للزركلي (4/ 75).
([23]) البداية والنهاية (8/ 156) وانظر: ميزان الاعتدال (2/ 267) حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (2/ 129).
([33]) تاريخ الإسلام (5/ 178) وتاريخ دمشق لابن عساكر (27/ 215) وسير السلف الصالحين لإسماعيل بن محمد الأصبهاني (ص: 877-878).
([40]) تاريخ الإسلام (5/ 296) وتاريخ دمشق لابن عساكر (27/ 213) وسير السلف الصالحين لإسماعيل بن محمد الأصبهاني (ص: 876) كرامات الأولياء للالكائي من شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي (9/ 210-145) وغيرها.
([46]) تاريخ دمشق لابن عساكر (27/ 223) وتاريخ الإسلام (5/ 297) وحلية الأولياء وطبقات الأصفياء (2/ 125) وغيرها.
([49]) أخرجه أبو داود في كتاب الأدب باب ما يقال عند الغضب (4/ 249-4784) بلفظ: ((إن الغضب من الشيطان، وإن الشيطان خلق من النار، وإنما تطفأ النار بالماء، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ)) وضعفه الألباني في ضعيف الجامع (ص: 217-1510).
([64]) يقال: نعظ الذكر أي انتشر، وأنعظ أي اشتهى الجماع، والإنعاظ: الشبق، يعني أنه أمر شديد.. انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر (5/ 82) وغريب الحديث لابن الجوزي (2/ 420).
([65]) في المصباح المنير في غريب الشرح الكبير (2/ 613) وتاج العروس (20/ 285) ولسان العرب (7/ 465): “فليس لمنعظ رأي” بدل إذن.