احتساب أبي وائل شقيق بن سلمة رحمه الله
(ت: 82 هـ)
اسمه:
هو شقيق بن سلمة، أبو وائل، الأسدي، من أصحاب عبد الله بن مسعود، من كبار التابعين، أدرك الجاهلية، وكان ممن سكن الكوفة، وورد المدائن مع علي بن أبي طالب، حين قاتل الخوارج بالنهروان([1]).
فضله ومناقبه:
أدرك أبو وائل رحمه الله رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يلقه، وكان من أئمة الدين.
سمع عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وعمار بن ياسر، وخباب بن الأرت، وأبا موسى الأشعري، وأسامة بن زيد، وحذيفة بن اليمان، وابن عمر، وابن عباس، وجرير بن عبد الله، وأبا مسعود الأنصاري، والمغيرة بن شعبة.
روى عنه: أبو منصور بن المعتمر، وعمرو بن مرة، والحكم بن عتيبة، وحبيب بن أبي ثابت، وحماد بن أبي سليمان، وسعيد بن مسروق، ومغيرة بن مقسم، ومهاجر أبو الحسن، وسليمان الأعمش، وغيرهم([2]).
وعن يحيى بن معين أنه قال: “أبو وائل ثقة لا يسأل عنه”([3]).
وقال ابن سعد: “كان ثقة، كثير الحديث”([4]).
وعن محمد بن فضيل: عن أبيه، عن أبي وائل: أنه تعلم القرآن في شهرين.
وقال عمرو بن مرة: من أعلم أهل الكوفة بحديث ابن مسعود؟ قال: أبو وائل.
قال الأعمش: قال لي إبراهيم النخعي: عليك بشقيق، فإني أدركت الناس وهم متوافرون، وإنهم ليعدونه من خيارهم.
وروى مغيرة عن إبراهيم -وذُكر عنده أبو وائل- فقال: إني لأحسبه ممن يدفع عنا به،
وعنه، قال: أما إنه خير مني.
وقال عاصم بن أبي النجود: “ما سمعت أبا وائل سب إنسانًا قط، ولا بهيمة”([5]).
وعن إبراهيم، قال: “ما من قرية إلا وفيها من يدفع عن أهلها به، وإني لأرجو أن يكون أبو وائل منهم”([6]).
وعن رباح بن زيد قال: بلغني أن أبا وائل شقيق بن سلمة كان يأخذ العصا في زمان الحجاج أحسب أنه قال: فلما مات الحجاج وضعها، قال: وبلغني أن ابن عون أخذها في زمان جعفر قال أبو عبد الله: لئلا يستعان به في عمل”([7]).
وقال عنه الذهبي: “الإمام الكبير، شيخ الكوفة، أبو وائل الأسدي؛ أسد خزيمة، الكوفي، مخضرم، أدرك النبي صلى الله عليه وسلم، وما رآه”([8]).
وعن عاصم، قال: “ما رأيت أبا وائل يلتفت في صلاة، ولا في غيرها قط، ولا قائلًا لأحد كيف أمسيت، وكيف أصبحت؟”([9]).
وقال عاصم: “مررت يومًا مع أبي وائل في السوق، فسمع الناس يقولون: دانق وقيراط، فقال لي: يا عاصم أيهما أكثر؟ قلت: الدانق، قال: الأخرى ما أدري”([10]).
وقال الأعمش عن شقيق: “خرجنا في ليلة مخوفة، فمررنا بأجمة فيها رجل نائم، وقد قيد فرسه، فهي ترعى عند رأسه، فأيقظناه، فقلنا: تنام في مثل هذا المكان؟ فرفع رأسه، فقال: إني لأستحي من ذي العرش أن يعلم أني أخاف شيئًا دونه، ثم وضع رأسه فنام”([11]).
وعن عاصم بن أبي النجود، قال: “كان عطاء أبي وائل ألفين، فإذا خرج أمسك ما يكفي أهله سنة، وتصدق بما سوى ذلك”([12]).
وعن عاصم بن بهدلة، قال: “لما مات أبو وائل قبل أبو بردة جبهته”([13]).
سيرته الاحتسابية
كان لأبي وائل شقيق بن سلمة رحمه الله، سيرة احتسابية حافلة بالمواقف الاحتسابية، نذكر طرفًا منها:
1- إنكاره على ابن زياد:
عن عامر بن شقيق: أنه سمع أبا وائل يقول: استعملني ابن زياد على بيت المال، وأتاني رجل بصك فيه أعط صاحب المطبخ ثمان مائة درهم، فقلت له: مكانك، فدخلت على ابن زياد، فحدثته، فقلت له: إن عمر استعمل عبد الله بن مسعود على القضاء، وعلى بيت المال، وعثمان بن حنيف على ما سقى الفرات، وعمار بن ياسر على الصلاة والجند، ورزقهم كل يوم شاة، فجعل نصفها وسقطها، وأكارعها لعمار؛ لأنه على الصلاة والجند، ثم جعل لعبد الله بن مسعود ربعها، وجعل لعثمان بن حنيف ربعها، ثم قال: إن مالًا يؤخذ منه كل يوم شاة إن ذلك فيه لسريع، فقال لي ابن زياد: ضع المفاتيح، واذهب حيث شئت”([14]).
2- ومن مواقفه معه:
عن الأعمش، قال: قال أبو وائل: دخلت على ابن زياد وعنده مال. فقال: يا أبا وائل هذه ثلاثة آلاف ألف خراج أصبهان، فما ظنك بمن مات وهذا عنده؟ قال: قلت: أصلح الله الأمير فكيف أيضًا إذا كان من خيانة؟([15]).
عن الأعمش، عن أبي وائل، قال: دخلت على عبد الله بن زياد بالبصرة مع مسروق، فإذا بين يديه تل من ورق، ثلاثة آلاف ألف من خراج أصبهان، قال: فقال: يا أبا وائل، ما ظنك برجل يموت ويدع مثل هذا؟ قال: فقلت: “فكيف إذا كان من غلول”.
قال: فذاك شر على شر، قال: وقال لي: إذا أتيت الكوفة فائتني لعلي أصيبك بمعروف، قال: فلما رجعت، قلت: لو أني شاورت علقمة في ذلك، قال: فأتيته، فقلت: إني دخلت على ابن زياد، فقال لي: كذا، فكيف ترى؟ قال: “لو أتيته قبل أن تستأمرني لم أقل لك شيئاً، فأما إذا استأمرتني، فإني حقيق أن أنصحك، ووالله ما يسرني أن لي ألفين مع ألفين، فإني أكره الناس عليه، قال: قلت: لم يا أبا شبل؟ قال: إني أخاف أن ينقصوا مني أكثر مما انتقص منهم”([16]).
3- إنكاره على الحجاج:
عن إبراهيم مولى صخير عن أبي وائل، قال: أرسل إليَّ الحجاج، فدخلت عليه، فقال لي: ما اسمك؟ قال: قلت: ما بعثت إلا وقد عرفت اسمي، قال: إني أريد أن أستعملك على بعض عملي، قال: قلت: أما والله إني لأذكرك في بعض الليل فأؤرق بك سائر ليلتي، فكيف إلي لك عملًا؟! قال: أما لئن قلت ذاك، إنا لنقتل الرجال على شيء قد كان من قبلنا يهاب القتل على مثله”([17]).
عن عاصم، قال: ما رأيت أبا وائل ملتفتًا في صلاة، ولا في غيرها، ولا سمعته يسب دابة قط، إلا أنه ذكر الحجاج يومًا، فقال: “اللهم أطعم الحجاج من ضريع لا يسمن، ولا يغني من جوع، ثم تداركها، فقال: إن كان ذاك أحب إليك، فقلت: وتستثني في الحجاج، فقال: نعدها ذنبًا”([18]).
4- إنكاره على الخوارج:
عن عبد الملك بن عمير، قال: قيل لأبي وائل: ألم تر إلى خارجيّ خرج على الناس في السوق، فعدا عليه أهل السوق، فضربوه بالكراسي حتى قتلوه؟ فقال أبو وائل: والله ما عز هذا لله دينًا، ولا رد مظلمة مظلوم”([19]).
5- إنكاره على ابنه:
عن المعلى بن عرفان، قال: سمعت أبا وائل، وجاءه رجل، فقال: ابنك استعمل على السوق. فقال: “والله لو جئتني بموته كان أحب إلي، إن كنت لأكره أن يدخل بيتي من عمل عمله”([20]).
وعن عاصم، قال: كان أبو وائل يقول لجاريته: “يا بركة، إذا جاء يحيى، يعني ابنه، بشيء فلا تقبليه، وإذا جاءك أصحابي بشيء فخذيه” قال: وكان يحيى ابنه قاضيًا على الكناسة”([21]).
وعن المعلى بن عرفان، أن رجلًا أتى أبا وائل، فقال: إن ابن أخيك استعمل على السوق، فقال: لو جئتني بموته كان أحب إلي ما أحب أن يدخل بيتي شيء من لحمي ودمي في عملهم.
وعن عاصم، قال: لما وُلِّي وائل القضاء، قال أبو وائل: يا بركة، إن جاء وائل بشيء فلا تطعمني منه شيئا يجيء به”([22]).
6- إنكاره على الزبرقان:
عن الزبرقان، قال: كنت عند أبي وائل، فجعلت أسب الحجاج، وأذكر مساوئه، فقال: “لا تسبه، وما يدريك لعله قال: اللهم اغفر لي، فغفر له”([23]).
7- إنكاره على رجل:
عن عاصم، قال: قلت لأبي وائل: إن قومًا يقولون: إن الله يدخل المؤمنين النار، فقال: “لعمرك إن لها لحشوًا غير المؤمنين”([24]).
8- إنكاره على القراء:
عن عاصم، قال: قال لي أبو وائل: “أتدري ما أشبه قراء أهل زماننا؟ قلت: ومن يشبههم؟ قال: أشبههم برجل أسمن غنمًا، فلما أراد ذبحها وجدها غثًّا، لا تنقى، أو رجل عمد إلى دراهم فلوس، فألقاها في زئبق، ثم أخرجها، فكسرها، فإذا هي نحاس”([25]).
وعن الأعمش، عن شقيق بن سلمة، قال: “مثل قراء أهل هذا الزمان، كمثل غنم ضوائن، ذات صوف، فغبط شاة منها، فإذا هي لا تنقى، ثم غبط أخرى، فإذا هي كذلك، فقال: أف لك سائر اليوم”([26]).
مروياته الاحتسابية
كان لأبي وائل شقيق بن سلمة رحمه الله الكثير من المرويات الاحتسابية، منها:
1- عن أبي وائل، عن حذيفة رضي الله عنه، قال: قال عمر رضي الله عنه: أيكم يحفظ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الفتنة؟ قال: قلت: أنا أحفظه كما قال، قال: إنك عليه لجريء، فكيف؟ قال: قلت: “فتنة الرجل في أهله، وولده، وجاره، تكفرها الصلاة، والصدقة والمعروف -قال سليمان: قد كان يقول: الصلاة والصدقة والأمر بالمعروف- والنهي عن المنكر ” قال: ليس هذه أريد، ولكني أريد التي تموج كموج البحر، قال: قلت: ليس عليك بها يا أمير المؤمنين بأس، بينك وبينها باب مغلق، قال: فيكسر الباب، أو يفتح؟
قال: قلت: لا بل يكسر، قال: فإنه إذا كسر لم يغلق أبدًا، قال: قلت: أجل، فهبنا أن نسأله من الباب، فقلنا لمسروق: سله، قال: فسأله، فقال: عمر رضي الله عنه، قال: قلنا: فعلم عمر من تعني؟ قال: نعم، كما أن دون غد ليلة، وذلك أني حدثته حديثًا ليس بالأغاليط([27]).
2- وعن أبي وائل، قال: قيل لأسامة: لو أتيت فلانًا فكلمته، قال: إنكم لترون أني لا أكلمه إلا أسمعكم، إني أكلمه في السر دون أن أفتح بابًا، لا أكون أول من فتحه، ولا أقول لرجل أن كان عليّ أميرًا: إنه خير الناس، بعد شيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: وما سمعته يقول؟ قال: سمعته يقول: “يجاء بالرجل يوم القيامة، فيلقى في النار، فتندلق أقتابه في النار، فيدور كما يدور الحمار برحاه، فيجتمع أهل النار عليه فيقولون: أي فلان ما شأنك؟ أليس كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ قال: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه”([28]).
3- وعن أبي وائل، عن عبد الله رفعه، قال: “الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها، إلا أمرًا بالمعروف، أو نهيًا عن المنكر، أو ذكر الله”([29]).
4- وقال أبو وائل عن أبي الدرداء: إني لآمركم بالأمر، وما أفعله، ولكن لعل الله يأجرني فيه([30]).
5- وعن أبي وائل، عن حذيفة، رأى رجلًا لا يتم ركوعه ولا سجوده، فلما قضى صلاته قال له حذيفة: “ما صليت؟” قال: وأحسبه، قال: “لو مت مت على غير سنة محمد صلى الله عليه وسلم”([31]).
أقواله المأثورة
كان لأبي وائل شقيق بن سلمة رحمه الله الكثير من الأقوال المأثورة، منها:
1- قال أبو وائل: “لا تجالسوا أهل الرأي، فليس لكم أن تتعلقوا بما رويتم، إلا ولنا أن نتعلق بما روينا”([32]).
2- وقال أبو وائل: “شهدت صفين، وبئست صفون”([33]).
3- وعن الأعمش، قال لي أبو وائل: يا سليمان، ما في أمرائنا هؤلاء واحدة من اثنتين: ما فيهم تقوى أهل الإسلام، ولا عقول أهل الجاهلية([34]).
4- وقال أبو وائل: لا تقاعد أصحاب: أرأيت أرأيت([35]).
5- وعن مهاجر أبي الحسن، قال: أتيت أبا وائل وأبا بردة بزكاة، وهما على بيت المال فأخذاها مني، ثم جئت مرة أخرى بزكاة إلى أبي وائل، فقال: ردها، فضعها حيث أمر الله، قلت: فكيف أصنع بنصيب المؤلفة قلوبهم والعاملين عليها؟ قال: رده على الآخرين([36]).
6- وعن أبي وائل، قال: “إن أهل بيت يضعون على مائدتهم رغيفًا حلالًا لأهل بيت غرباء”([37]).
7- وعن زبيد، قال: سألت أبا وائل عن المرجئة، فقال: حدثني عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر”([38]).
8- وعن الأعمش، قال: قال أبو وائل: “يا سليمان، نعم الرب ربنا، لو أطعناه ما عصانا”([39]).