احتساب أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها
(9 ق هـ – 58 هـ = 613 – 678 م)
اسمها ونسبها:
هي الصديقة بنت الصديق، أم المؤمنين، عائشة بنت أبي بكر الصديق، عبد الله بن أبي قحافة بن عامر بن عمرو بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب، القرشية التيمية -رضي الله عنها-([1]).
كنيتها:
كنيتها أم عبد الله، وتكنى أيضاً بأم المؤمنين.
كناها النبي -صلى الله عليه وسلم- بابن أختها عبد الله بن الزبير، فعن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: يا رسول الله كل صواحبي لهن كُنى، قال: ((فاكتني بابنك عبد الله)) يعني: ابن أختها ([2]).
وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: يا نبي الله ألا تكنيني؟ فقال: ((اكتني بابنك)) ([3])، يعني: عبد الله بن الزبير، فكانت تُكنى: أم عبد الله.
وعن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: “لما ولد عبد الله بن الزبير أتيت به النبي -صلى الله عليه وسلم- فتفل في فيه، فكان أول شيء دخل جوفه، وقال: ((هو عبد الله، وأنت أم عبد الله)) فما زلتُ أكنى بها، وما ولدتُ قط([4]).
قول آخر في سبب تكنيتها بأم عبد الله:
جاء في معجم ابن الأعرابي: أنها جاءت بسقط، فسماه النبي -صلى الله عليه وسلم- عبد الله، وكناها به([5])، وفي إسناده نظر؛ لأن مداره على داود بن المحبر([6])، صاحب كتاب العقل، وهو ضعيف.
عائشة تلتقي مع النبي بالجد الثامن:
تجتمع عائشة مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في الأب الثامن([7]). وهو (مُرة).
فهو -صلى الله عليه وسلم-: محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان. هذا المتفق عليه([8]).
وهي: عائشة بنت أبي بكر بن أبي قحافة -وهو عثمان- بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب([9]).
أمها:
أم رومان، واسمها: زينب بنت عامر بن عويمر بن عبد شمس بن عتاب بن أذينة بن سبيع بن دهمان بن الحارث بن غنم بن مالك بن كنانة، وهي إحدى الصحابيات الجليلات([10]).
في معنى عائشة في اللغة:
عاشَ عيشاً من باب: سار سيراً، أي: صار ذا حياة، فهو (عائِشٌ) والأنثى: (عائِشةٌ) و(عَيَّاشٌ) أيضاً مبالغة، و(المَعِيشُ) و(المَعِيشَةُ) مكسب الإنسان، الذي يَعِيشُ به، والجمع (المَعَايِشُ) هذا على قول الجمهور إنه من (عاش) فتكون الميم زائدة([11]). ويحمل هذا الاسم مشاعر طيبة متفائلة، بعيش هنئ، والتفاؤل بالبقاء.
ولادة عائشة:
ولدت في الإسلام بمكة، قبل الهجرة بتسع سنوات، يعني بعد البعثة النبوية بأربع أو خمس سنوات([12]).
صفتها:
يقول الإمام الذهبي -رحمه الله-: “وكانت امرأة بيضاء جميلة، ومن ثم يقال لها: الحميراء”([13]). وكانت أقرب إلى الطول؛ لأنها كانت في صباها نحيلة، أو أقرب إلى النحول.
معنى حميراء:
قال السيوطي في النهاية: “الحميراء تصغير الحمراء، يريد البيضاء”([14])؛ لأن العرب تسمي الأبيض المشبب بالحمرة: أحمر، ومن الجهل الكبير أن يقال: إن حميراء تصغير حمارة.
كل حديث ورد فيه (الحميراء) فهو ضعيف:
قال ابن القيم: “كل حديث فيه: يا حميراء، أو ذكر الحميراء، فهو كذب مختلق…”([15]). وقال السندي في حاشيته على ابن ماجه: “وقال بعضهم: كل حديث ورد فيه (الحميراء) ضعيف”([16]).
قلتُ: ويُستثنى من قولهم: “كل حديث ورد فيه (الحميراء) فهو ضعيف” ما أخرجه النسائي: عن عائشة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- قالت: “دخل الحبشة المسجد يلعبون، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((يا حميراء، أتحبين أن تنظري إليهم؟…))([17]). فهو حديث صحيح، وقال الحافظ بعد أن ذكر رواية النسائي هذه: “ولم أرَ في حديث صحيح ذكر الحميراء إلا في هذا”([18]).
ما يُنقل عن الشيعة في هذا الباب:
ذكر عنهم شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة أن من حماقتهم أنهم يأتون في يوم من السنة بشاة حمراء لكون عائشة -رضي الله عنها- تسمى الحميراء، فيجعلونها عائشة، ويعذبونها بنتف شعرها، وغير ذلك، ويرون أن ذلك عقوبة لعائشة([19]).
علمها (عائشة أفقه نساء الأمة):
كانت عائشة أفقه النساء -رضي الله عنها وأرضاها-، يقول الحافظ ابن حجر -رحمه الله-: “عائشة بنت أبي بكر الصديق، أم المؤمنين، أفقه النساء مطلقاً”([20]).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: “فإنها كانت أفقه النساء، وأعلم النساء بسنة الرسول -عليه الصلاة والسلام-“([21]).
وقال الذهبي: “أفقه نساء الأمة على الإطلاق…، ولا أعلمُ في أمة محمد، بل ولا في النساء مطلقاً امرأةً أعلمَ منها”([22]).
ومما يدل على علمها الغزير:
أ- استقلالها ببعض الآراء الفقهية:
فقد استقلت السيدة عائشة ببعض الآراء الفقهية التي خالفت بها آراء الصحابة، ومن هذه الآراء:
1 – كانت ترى جواز التنفل بركعتين بعد صلاة العصر:
فعن عمرو بن الحارث عن بكير أن كريباً مولى ابن عباس حدثه أن ابن عباس وعبد الرحمن بن أزهر والمسور بن مخرمة أرسلوا إلى عائشة -رضي الله عنها- فقالوا: اقرأ عليها السلام منا جميعاً، وسلها عن الركعتين بعد العصر، فإنا أخبرنا أنك تصلينهما، وقد بلغنا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عنهما…”([23]). متفق عليه.
قال الحافظ: “فهمت عائشة -رضي الله عنها- من مواظبته -صلى الله عليه وسلم- على الركعتين بعد العصر أن نهيه -صلى الله عليه وسلم- عن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس مختص بمن قصد الصلاة عن غروب الشمس لا إطلاقه، فلهذا قالت ما تقدم نقله عنها، وكانت تتنفل بعد العصر، وقد أخرجه المصنف في الحج من طريق عبد العزيز بن رفيع، قال: رأيتُ ابن الزبير يصلي ركعتين بعد العصر، ويخبر أن عائشة حدثته أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يدخل بيتها إلا صلاهما، وكأن ابن الزبير فهم من ذلك ما فهمته خالته عائشة، والله أعلم([24]).
2 – وكانت ترى أن عدد ركعات قيام رمضان إحدى عشرة ركعة مع الوتر، مستدلة بصلاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ وذلك عندما سألها أبو سلمة بن عبد الرحمن: كيف كانت صلاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في رمضان؟ فقالت: ما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يزيد في رمضان، ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة، يصلي أربعاً، فلا تسل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعاً، فلا تسل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي ثلاثاً، قالت عائشة: فقلتُ: يا رسول الله أتنام قبل أن توتر؟ فقال: ((يا عائشة إن عيني تنامان ولا ينام قلبي))([25]).
فكان الصحابة -رضي الله عنهم- يصلونها عشرين ركعة؛ لأن فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- لهذا العدد لا يدل على نفي ما عداه([26]).
ب: استدراكها على أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم-:
أخرج البخاري ومسلم عن عروة عن عائشة أنها قالت: إن أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- حين توفى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أردن أن يبعثن عثمان بن عفان إلى أبي بكر يسألنه ميراثهن من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقالت لهن: “قد قال رسول الله: ((لا نورث، ما تركناه صدقة))([27]).
جوانب مشرقة من حسبتها
لقد كان للسيدة عائشة -رضي الله عنها- مواقف احتسابية كثيرة، لا يمكن استقصاؤها بمقال ولا مقالين، ولكن نذكر منها جزءاً:
1- إنكارها وشدتها على اليهود، ومدافعتها عن رسول الله:
فعن عروة بن الزبير -رضي الله عنه- أن عائشة -رضي الله عنها- قالت: دخل رهط من اليهود على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقالوا: السام عليكم، قالت عائشة: ففهمتها، فقلتُ: وعليكم السام واللعنة، قالت: فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((مهلاً يا عائشة، إن الله يحب الرفق في الأمر كله)) فقلتُ: يا رسول الله أو لم تسمع ما قالوا؟! قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((قد قلتُ: وعليكم))([28]).
فهؤلاء الرهط من اليهود، وهم ما دون العشرة من الرجال لا يكون فيهم امرأة، كما في طرح التثريب([29])، دخلوا على النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: “السام عليكم” وهو دعاء منهم على النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقد اُختلف في معنى السام في قولهم، فقال الجمهور: مرادهم به الموت، ومنه الحديث: ((ما أنزل الله داء إلا أنزل له دواء، إلا السام)) قالوا: يا رسول الله وما السام؟ قال: ((الموت))([30]).
وقيل: مرادهم بالسام السآمة، وهي الملال، وأن معناه تسأمون دينكم، وهذا تأويل قتادة، وهو مصدر سئمت سآمة وسآماً، مثل لدادة ولداد، ورضاعة ورضاع([31]).
قال القاضي عياض: “وقد جاء مثل هذا مفسراً من قول النبي -صلى الله عليه وسلم-، وكذلك رواه ابن مخلد في تفسيره أنه قال في معناه: تسأمون دينكم”([32]).
فقالت عائشة: “ففهمتُها” وإنما عبرت بهذه العبارة؛ لأن حذف اللام في مثل هذا، يخفى غالباً، وبتقدير الفطنة له، فلا يظن السامع إلا أن ذلك من التفاف الحرف عن غير قصد، ففهمت عائشة -رضي الله عنها- حذف هذا الحرف، وأنه عن قصد، وأنهم ليس مرادهم بذلك التحية، وإنما مرادهم به الدعاء على النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه -رضي الله عنهم- لما تعلم من خبث باطنهم، وقبح طويتهم، وسوء مقاصدهم([33]).
فأنكرت عليهم ذلك، وردت بقولها: “وعليكم السام واللعنة”.
كأنهم لما لبسوا كلامهم بالسلام ردته عليهم على طبق ردّ السلام، فوضعت اللعنة موضع الرحمة في السلام اتهاماً، كأنه ردّ للتحية بأحسن منها، وفيه تهكم بهم واستهزاء، مثل الاستهزاء في قوله تعالى: {فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ} [الانشقاق (24)]([34]).
قال العراقي: “زادتهم عائشة -رضي الله عنها- على ما قالوه اللعنة، وهم مستحقون لها إن ماتوا على ما هم عليه من الخبث والكفر، فيحتمل أن يكون إنكاره -عليه الصلاة والسلام- عليها من أجل إطلاقها لعنتهم من غير هذا التقييد، ويحتمل أن يكون سببه إرادة ملاطفتهم، واستئلاف قلوبهم، رجاء إيمانهم، ويحتمل أن يكون سببه حفظ اللسان وصونه عن الفحش ولو مع من يستحقه”([35]).
وفي الحديث:
أن حقد اليهود عظيم، وأنهم قومٌ بهت، وأنهم يبغضون النبي -صلى الله عليه وسلم- ودينه، وأمته عموماً.
وأنه إذا كان أعداء الإسلام يقدحون في النبي -صلى الله عليه وسلم- في حياته، بل وبمحضره، فليس غريباً عليهم أن يقدحوا فيه بعد مماته؛ ولهذا ما حصل من قدح في النبي -عليه الصلاة والسلام- على تقادم الأزمان ليس غريباً، فقد قدحوا فيه بمحضره -صلى الله عليه وسلم-، وهذا دليل على عظم دينه، وعظم شأن النبي -صلى الله عليه وسلم-.
وفيه: عظيم كيد أهل الضلال، وأنهم قد يؤذون داعية الخير، ولو في عقر داره، انظر: جاءوا إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- في بيته أضيافاً عليه، وكان -عليه السلام- أكرم الناس، فأدخلهم في داره، ومع هذا آذوه بالقول، كما آذوه من قبل ومن بعد بالفعل، فعلى داعي الخير أن يوطن نفسه، قد يؤذى في بيته، يهان في شخصه، في سمعته، فإذا كان على خير فلا ضير([36]).
وفيه: كيفية رد السلام على أهل الذمة([37])، قال العراقي: “وفيه الرد على أهل الكتاب إذا سلموا، وقد قال أكثر أهل العلم من السلف والخلف بوجوبه، ومنعه طائفة من العلماء، فقالوا: لا يرد عليهم، ورواه ابن وهب وأشهب عن مالك، أما ابتداؤهم بالسلام فمنعه أكثر العلماء، وذهبت طائفة إلى جوازه، وروي ذلك عن ابن عباس وأبي أمامة وابن محيريز، وهو وجه لبعض أصحابنا حكاه الماوردي، لكنه قال: يقول: السلام عليك، ولا يقول: السلام عليكم بالجمع، وتمسك هؤلاء بعموم أحاديث إفشاء السلام، وكيف يصح التمسك بها مع ورود المخصص؟! وهو قوله -عليه الصلاة والسلام-: ((لا تبدؤوا اليهود ولا النصارى بالسلام))”([38]) ([39]).
وفيه: جواز انخداع الرجل الشريف لمكايد أو عاص، ومقارضته من حيث لا يشعر إذا رجا رجوعه وتوبته([40])، قال القاضي عياض: “وفي الحديث انخذال أهل الفضل، وتغافلهم عن أهل السفه”([41]).
وفيه: الانتصار للسلطان، ووجوب ذلك على حاشيته وحشمه([42])، قال القاضي عياض: “في الحديث الانتصار للسلطان، وأهل الفضل، ووجوب ذلك على حراسهم وغيرهم من المسلمين”([43]).
وفيه: الحض على محاسن الأخلاق، وترك فحش الكلام([44]). قال العراقي: “وفي الحديث حث على الرفق والصبر والحلم وملاطفة الناس ما لم تدع حاجة إلى المخاشنة”([45]).
2- إنكارها على مولاتها مدافعتها الرجال واستلام الركن:
فقد أخرج البيهقي وغيره، عن منبوذ بن أبي سليمان، عن أمه، أنها كانت عند عائشة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- أم المؤمنين -رضي الله عنها-، فدخلت عليها مولاة لها، فقالت لها: يا أم المؤمنين طفتُ بالبيت سبعاً، واستلمتُ الركن مرتين أو ثلاثاً, فقالت لها عائشة -رضي الله عنها-: “لا أجرك الله، لا أجرك الله، تدافعين الرجال, ألا كبرت ومررت؟ وروينا عن سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- أنه كان يقول لهن: “إذا وجدتن فرجة من الناس فاستلمن، وإلا فكبرن وامضين”([46]).
فقد أنكرت عائشة -رضي الله عنها- في هذا الحديث على هذه المرأة مزاحمتها للرجال، ومدافعتهم، وهذا منكر واضح.
قال ابن الأثير: “وهذا الحديث مسوق لبيان أن النساء يستحب لهن أن يطفن من وراء الرجال؛ لئلا يزدحمن مع الرجال، وفيه: بيان أن من زحم عن البيت كفاه أن يطوف ويشير إلى الركن”([47]).
قلتُ: فإذا كان هناك زحام، وكان المسلم يؤذي ويتأذى، لو اشتغل بالاستلام، فلا يؤمر به، ولا يجوز له الإيذاء، فهذا في حق الرجال، فكيف بالنساء؟!
3- موقفها الحازم من تبرج النساء:
فعن عمرة بنت عبد الرحمن أنها سمعت عائشة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- تقول: “لو أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رأى ما أحدث النساء لمنعهن المسجد، كما مُنعت نساء بني إسرائيل”.
قال: فقلتُ لعمرة: أنساء بني إسرائيل منعن المسجد؟ قالت: نعم([48]). متفق عليه.
فقولها: “لو رأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما أحدث النساء…” تريد: ما اتخذن من حسن الملابس، والطيب، والزينة، وإنما كان النساء يخرجن في المروط والشِّمَال([49]).
قال ابن رجب -رحمه الله-: “تشير عائشةُ -رضي الله عنها- إلى أن النبي كان يرخص في بعض ما يرخص فيه حيث لم يكن في زمنه فسادٌ، ثم يطرأ الفساد، ويحدث بعده، فلو أدرك ما حدث بعده لما استمر على الرخصة، بل نهى عنه؛ فإنه إنما يأمرُ بالصلاح، وينهى عن الفساد، وشبيهٌ بهذا ما كان في عهد النبي، وعهد أبي بكرٍ وعمر من خروج الإماء إلى الأسواق بغير خمارٍ، حتى كان عمر يضرب الأمة إذا رآها منتقبةً، أو مستترةً؛ وذلك لغلبة السلامة في ذلك الزمان، ثم زال ذلك وظهر الفساد وانتشر، فلا يرخص حينئذٍ فيما كانوا يرخصون فيه”([50]).
وفي الحديث من الفقه:
أن أحوال الناس تغيرت بعد موت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نساء ورجالاً؛ لقول عائشة في هذا الحديث: “لو أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رأى ما أحدث النساء لمنعهن المسجد، كما منعت نساء بني إسرائيل”.
وروي عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أنه قال: “ما نفضنا أيدينا عن قبر رسول الله -صلى الله عليه و سلم- حتى أنكرنا قلوبنا”([51]).
وفيه: جواز خروج النساء إلى مسجد الجماعة؛ لأنه لو كان ممنوعاً عليهن، لم يؤمر الرجال بالإذن لهن إذا استأذن([52])، قال ابن عبد البر: “الحديث دليل على أن النساء كن يشهدن مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الصلاة”([53]).
قلتُ: ولكن خروجهن إلى السجد مشروط بشروط، وهي:
1- أن لا تكون متطيبة.
2- ولا متزينة.
3- ولا ذات خلاخل يُسْمع صوتها.
4- ولا ثياب فاخرة.
5- ولا مختلطة بالرجال (سواء كان اختلاطهن بالرجال في المسجد أو في الطريق).
6- وأن لا يكون في الطريق مَنْ يُفْتتن بها.
7- وأن لا يكون في الطريق ما يخاف به مفسدة ونحوها([54]).
قال القاضي عياض: “ونهى النبي -صلى الله عليه وسلم- للنساء عن الخروج إلى المساجد إذا تطيبن، أو تبخرن؛ لأجل فتنة الرجال بطيب ريحهن، وتحريك قلوبهم وشهواتهم بذلك، وذلك لغير المساجد أحرى، وفى معنى الطيب ظهور الزينة، وحسن الثياب، وصوت الخلاخيل والحلي، وكل ذلك يجب منع النساء منه إذا خرجن بحيث يراهن الرجال، وقد قال محمد بن سلمة: يمنع الخروج إلى المسجد الجميلة المشهورة؛ لما يخشى من فتنتها”([55]).
وأضاف بعض العلماء شرطاً وهو:
حسن المقصد من الخروج.
فمن علم من امرأته حسن المقصد في خروجها إلى الصلاة فلا يمنعها([56]).
قلتُ: ولحسن المقصد علامات، منها:
“ترك الزينة والطيب، والمبالغة في الاستتار، ومن لم يجد ذلك منهن جاز له المنع، فقد قالت عائشة -رضي الله عنها-: “لو علم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما أحدث النساء بعده لمنعهن المسجد” وقد تكون المرأة حسنة المقصد غير أنها تكون ذات هيكل فتؤذي من يراها، فالاستتار لتلك أولى، وقد كان عمر بن الخطاب يكره خروج امرأته، ويغار من ذلك ولا ينهاها لأجل هذا الحديث، وكان عمر يحرص على نزول الحجاب حتى قال يوماً لسودة: “قد عرفناكِ” لئلا تخرج”([57]).
الحكم في خروجهن إذا فسد الزمان:
قال العيني: “والفتوى في هذا الزمان على عدم الخروج في حق الكل مطلقاً لشيوع الفساد، وعموم المصيبة([58]).
قلتُ: فإذا كان هذا كلام العيني، وهو المتوفى سنة (855هـ) فما بالك في زماننا! فماذا عسانا أن نقول فيما وصلت إليه الأمة اليوم؟! فإلى الله المشتكى.
والمقصود: أن في الحديث دليل على أنه لا ينبغي للنساء أن يخرجن إلى المساجد إذا حدث في الناس الفساد([59]).
وأنه إذا “قويت خشية الفتنة عليهن لتزينهن وتبرجهن حرم عليهن الخروج، وعلى الزوج الإذن لهن، ووجب على الإمام أو نائبه منعهن من ذلك([60])؛ لأن درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة، كما هو معلوم.
4- إنكارها على ابن أخيها الصلاة بحضرة الطعام، ولحنه في الكلام:
فعن يعقوب بن مجاهد عن ابن أبى عتيق، قال: تحدثتُ أنا والقاسم عند عائشة -رضي الله عنها- حديثاً، وكان القاسم رجلاً لحانة، وكان لأم ولد، فقالت له عائشة: ما لك لا تحدث كما يتحدث ابن أخي هذا؟ أما إني قد علمتُ من أين أُتيت؟ -أي أُبتليتَ- هذا أدبته أمه، وأنت أدبتك أمك، قال: فغضب القاسم، وأضب عليها -أي غضب وحقد-، فلما رأى مائدة عائشة قد أتي بها قام، قالت: أين؟ قال: أصلي، قالت: اجلس، قال: إني أصلي، قالت: اجلس غُدر، إني سمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((لا صلاة بحضرة الطعام، ولا وهو يدافعه الأخبثان))([61]).
ابن أبي عتيق: هو عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر.
والقاسم هذا: هو ابن محمد بن أبي بكر الصديق، وكانت أمه أُمَّ ولدٍ([62]).
“وكان القاسم رجلاً لحانة” كذا للسمرقندي، وهو للمبالغة؛ كما يقال: علاَّمة ونسَّابة، ووقع للعذري:”لُحْنة” بسكون الحاء، وضم اللام، ومعناه: أنه يلحن في كلامه، ويُلَحِّنُه الناس؛ كَخُدْعَة للذي يُخدع، وهُزْأة للذي يُهزأ به([63]).
وقد أنكرت أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- على ابن أخيها لحنه في الكلام معها؛ وهو في حجرتها، ولم يك على المنبر! لعظم هذا الأمر، وفداحته، فكيف باللحن على المنابر وعبر أجهزة الإعلام المختلفة؟!
وفي الحديث: أن ما صدر من عائشة للقاسم، إنما كان منها لإِنْهاض هِمَّتِه؛ وليحرص على التعلُّم، وعلى تثقيف لسانه([64]).
وقولها: “اجلس غُدر” معنى غُدَر: يا غادر، وعُدِلَ به عنه لزيادة معنى التكثير، والغدر في الأصل: تركُ الوفاءِ، وأكثر ما يستعمل هذا اللفظ في النداء بالشتم، وإنما قالت له: غُدَر لأنه مأمور باحترامها لأنها أم المؤمنين، وعمته، وأكبر منه، وناصحة له ومؤدبة، فكان حقه أن يحتملها، ولا يغضب عليها([65]).
قال القاضي عياض: “وإنما سمته غدر لما أظهر من أن تركه طعامها من أجل قيامه للصلاة لا لأجل حقده عليها، مما قالت له، وعيرته به من لحنه، وتأديب أمه له”([66]).
فقد أنكرت عليه عائشة الصلاة بحضرة الطعام؛ لورود النهي عن ذلك من النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله: ((لا صلاة)) ولا: نافية، والنفي هنا يتضمن النهي، أي: لا يصلِّ إنسان، والنفي عند البلاغيين أبلغ من النهي؛ لأن فيه تقريراً لاجتنابه، كأنه أمر لا يمكن أن يكون([67])، وقال الشيخ الخضير -حفظه الله-: “(لا) هنا نافية، والمنفي هنا الصلاة الشرعية، فقد توجد صورتها، لكن حقيقتها الشرعية المسقطة للطلب التي تبرأ بها الذمة منفية كما في حديث المسيء: ((صلِ فإنك لم تصلِ))([68]) ([69]).
وقد اختلاف العلماء في صحة صلاة من صلى في حضرة طعام، أو وهو يدافع الأخبثين:
فالجمهور على أن هذا النفي نفي للكمال، وأنه يكره أن يصلي في هذه الحال، ولو صلى فصلاته صحيحة، قال الشيخ عبد العزيز بن باز: “وهذا أظهر؛ لأن له نظائر، مثل: ((لا إيمان لمن لا صبر له))([70])، ومثل: ((والله لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه))([71])، ونحو ذلك مما يراد به نفي الكمال فهذا مثله.
وقال بعض أهل العلم: إنه نفي للصحة فلو صلّى في هذه الحال فصلاته محرمة، فتكون باطلة؛ لأن الأصل في نفي الشرع أن يكون لنفي الصحة، وهذا هو قول الظاهرية”([72]).
وفيه: أن ذكر عائشة للحديث يدل أن مذهبها الأخذ بظاهره([73]).
قال ابن الجوزي: “ظن قوم أن هذا من باب تقديم حق العبد على حق الله وليس كذلك، وإنما هو صيانة لحق الحق ليدخل الخلق في عبادته بقلوب مقبلة”([74]).
5- إنكارها التشبه بأهل البدع في التشدد والتنطع في السؤال:
فعن عاصم، عن معاذة، قالت: سألتُ عائشة، فقلتُ: ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ فقالت: أحرورية أنت؟ قلتُ: لست بحرورية، ولكني أسأل، قالت: كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصوم، ولا نؤمر بقضاء الصلاة”([75])، وهذا الحديث اجتمع على تخريجه الأئمة الستة.
فقولها: “أحرورية أنتِ؟!”:
الهمزة فيه للاستفهام على سبيل الإنكار، أي: هذه طريقة الحرورية، وبئست الطريقة…، وكان عندهم من التشدد في الدين ما هو معروف، فلما رأت عائشة -رضي اللّه عنها- هذه المرأة تشدد في أمر الحيض شبهتها بالحرورية وتشددهم في دينهم، وقيل: إنها خالفت السُّنَّة وخرجت عن الجماعة، كما خرجوا عن جماعة المسلمين، وقيل: كانوا يرون على الحائض قضاء الصلاة، وشذّوا في ذلك عن سلف الأمة، فخشيت عائشة -رضي الله عنها- أن تكون تعتقد مذهب الحرورية في ذلك، فقرعت لها الحجة التي لا يجوز خلافها([76]).
وكأنها قالت لها: أتعتقدين مثل ما يعتقدون، وتشددِين كما يُشدون؟! أي: تريدين أن تقيسي بعقلك وتقضين الصلاة أيضاً؟! فهذا ديننا والدين لا نسأل فيه ولا نجادل، وفي هذا تعليمها التسليم، والانقياد للنص.
قال سليمان بن سحمان: “وإنما ذَكرتْ ذلك أيضاً لأن معاذة أوردت السؤال على غير جهة السؤال المجرد، بل صيغتها قد تشعر بتعجب أو إنكار، فقالت لها عائشة ذلك، فأجابتها بأن قالت: لا ولكني أسأل، أي أسأل سؤالاً مجرداً عن الإنكار والتعجب، بل لطلب مجرد العلم بالحكمة، فأجابتها عائشة -رضي الله عنها- بالنص، ولم تتعرض للمعنى؛ لأنه أبلغ وأقوى في الردع عن مذهب الخوارج، وأقطع لمن يعارض بخلاف المعاني المناسبة، فإنها عرضة للمعارضة”([77]).
وفي الحديث من الفقه:
أن الحائض تقضي الصوم، ولا تقضي الصلاة، قال ابن حجر في شرح الحديث: “قوله: باب لا تقضِ الحائض الصلاة، نقل ابن المنذر وغيره إجماع أهل العلم على ذلك، وروى عبد الرزاق عن معمر أنه سأل الزهري عنه، فقال: اجتمع الناس عليه، وحكى ابن عبد البر عن طائفة من الخوارج أنهم كانوا يوجبونه”([78]).
وقال النووي: “أجمع المسلمون على أن الحائض والنفساء لا تجب عليهما الصلاة والصوم في الحال”([79]).
ومن الأدلة على ذلك قوله -صلى الله عليه وسلم-: ((أليس إذا حاضت لم تصلِّ ولم تصم؟))([80]).
والحكمة في أن الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة:
قد ذكر العلماء -ومنهم ابن القيم- أن الحكمة في أن الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة أن الصلاة تتكرر كل يوم، والحيض يتكرر كل شهر غالباً، فالإلزام بقضائها فيه مشقة، كما أن في صلاتها أيام الطهر ما يغنيها عن صلاة أيام الحيض، فيحصل لها مصلحة الصلاة في زمن الطهر لتكررها كل يوم، بخلاف الصوم فإنه لا يتكرر، بل هو شهر واحد في العام، فلو سقط عنها فعله بسبب الحيض لم يكن لها سبيل إلى تدارك نظيره، وفاتت عليها مصلحته، فأمر بقضاء ما فاتها لتحصل مصلحة الصوم([81]).
وفيه أيضاً: أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- ربى زوجته عائشة -رضي الله عنها- وعلمها وحذرها من الأهواء والفتن، كما جاء في الحديث الآخر الذي خرجه البخاري عنها أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تلا قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فيَتَّبِعُون مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ} إلى قوله: {أُولُو الأَلْبَابِ} [آل عمران (7)] فقالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم))([82])، وهكذا ينبغي على أهل العلم أن يحذروا الناس من الأهواء والبدع.
وفيه: أن التحذير من البدع وأهلها دين وديانة، ولو كان السؤال عن الطهارة والاستحاضة.
وأن هذا الأصل -وهو التحذير من الأهواء والبدع- كان منهجاً شائعاً معروفاً في زمانها، وأهل العلم كانوا يحذرونهم من هذه الأهواء، ويتكلمون عن هذه الفرق الباطلة بين العامة والخاصة؛ ليعلم الناس الضلال وأهله، فيكونوا منه على حذر.
6- إنكارها على من يتشاءم بالشهور:
كما في قولها -رضي الله عنها-: “تزوجني رسول الله في شوال، وبنى بي في شوال، فأي نسائه كان أحظى عنده مني؟!”([83]).
تريد أن تبين أن تخصيص الشؤم بزمان دون زمان، كصفر أو غيره غير صحيح.
وكانت الجاهلية تكره هذا، وتطير من ذلك؛ لما في اسم شوال من قولهم: شالت نعامتهم، وشالت النوق بأذنابها إذا رفعتها([84]).
وهذا يدل على قوة عقيدتها، وصدق يقينها، ومما يدل على ذلك أيضاً:
– قولها -رضي الله عنها-: “من زعم أنه يعلم -تعني النبي -صلى الله عليه وسلم- ما يكون في غد، فقد أعظم على الله الفرية؛ لأن الله تعالى يقول: {قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [سورة النمل (65)]([85]).
– وقولها -رضي الله عنها- في قصة الإفك لما قالت لها أمها: “قومي إليه، فقلتُ: والله لا أقوم إليه، فإني لا أحمد إلا الله -عز وجل-…”([86])، حيث أن فرحتها ببراءتها لم تنسها صاحب الفضل الحقيقي، وهو الله تعالى، فأرجعت الفضل والحمد له -عز وجل-.
7- إنكارها على الجارية التي سحرتها:
فعن عمرة أن عائشة -رضي الله عنها- أصابها مرض، وأن بعض بني أخيها ذكروا شكواها لرجل من الزط، يتطبب، وأنه قال لهم: إنهم ليذكرون امرأة مسحورة سحرتها جارية في حجرها صبي -في حجر الجارية الآن صبي- قد بال في حجرها، فقالت: ائتوني بها، فأتي بها، فقالت عائشة: سحرتيني؟ قالت: نعم، قالت: لم؟ قالت: أردت أن أعتق، وكانت عائشة -رضي الله عنها- قد أعتقتها عن دبر منها، فقالت: إن لله علي أن لا تعتقين أبداً، انظروا شر البيوت ملكة، فبيعوها منهم، ثم اشتروا بثمنها رقبة فأعتقوها([87]).
فقد أنكرت عائشة -رضي الله عنها- على هذه الساحرة، وشددت عليها، وأمرت ببيعها إلى شر البيوت، جزاء فعلها.
8- إنكارها على عدم استطابة الرجال بالماء:
فعن معاذة عن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: “مرن أزواجكن أن يستطيبوا بالماء، فإني أستحييهم منه، إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يفعله”([88]).
وفي الحديث جواز الاستنجاء بالماء، وفيه الرد على من أنكر من بعض العرب أنهم كانوا يكرهونه، ويقول: إذا استنجى الإنسان بيده بالماء لم يزل النتن في يده، فكانوا يستجمرون بالحجارة، والصواب: أنه جائز، بل الاستنجاء بالماء أبلغ، وإذا جمع بين الحجارة والماء كان أفضل.
9- إنكارها على من يلعب النرد:
فعن مالك بن أنس عن علقمة بن أبي علقمة، عن أمه, عن عائشة -رضي الله عنها- أنه بلغها أن أهل بيت في دارها كانوا سكاناً فيها، وعندهم نرد، فأرسلت إليهم: “لئن لم تخرجوها لأخرجنكم من داري” وأنكرت ذلك عليهم([89]).
والنرد: نوع من اللعب، مثله شاغل([90]).
وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((من لعب بالنرد فقد عصى الله ورسوله))([91]).
فقوله -صلى الله عليه وسلم-: ((من لعب بالنرد فقد عصى الله)) “أخبر أن من لعب بها عاصٍ لله -عز وجل-؛ وذلك يقتضي النهي عن اللعب، وهذا عام في اللعب بها على أي وجه كان، من قمار أو غيره”([92]).
10- إنكارها على أخيها عبد الرحمن عدم إسباغه الوضوء:
فعن عبد الله بن وهب عن مخرمة بن بكير عن أبيه عن سالم مولى شداد، قال: دخلتُ على عائشة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم توفى سعد بن أبى وقاص، فدخل عبد الرحمن بن أبى بكر، فتوضأ عندها، فقالت: يا عبد الرحمن أسبغ الوضوء، فإني سمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((ويل للأعقاب من النار))([93]). هذه رواية مسلم.
وعند أحمد: عن سالم سبلان، قال: خرجنا مع عائشة إلى مكة، فكانت تخرج بأبي يحيى التيمي يصلي لها، فأدركنا عبد الرحمن بن أبي بكر، فأساء الوضوء، فقالت له عائشة: يا عبد الرحمن أسبغ الوضوء، فإني سمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((ويل للأعقاب من النار))([94]).
فقد أنكرت -رضي الله عنها- على أخيها عبد الرحمن؛ لما أساء الوضوء، ولم يسبغه.
فقالت له: “أسبغ الوضوء” على وجه التنبيه له على إكمال واستيعاب أعضائه، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: ((ويل للأعقاب من النار)) دليل على أن عائشة تلقنت ذلك من قوله -صلى الله عليه وسلم- على الوعيد لمن لم يبلغ بالوضوء أعقابه([95]).
11- إنكارها على دفن ثياب الكعبة، وعدم إعطائها للفقراء:
فقد أخرج البيهقي بسنده عن علقمة بن أبي علقمة عن أمه, قالت: دخل شيبة بن عثمان الحجبي على عائشة -رضي الله تعالى عنها-, فقال: يا أم المؤمنين إن ثياب الكعبة تجتمع علينا، فتكثر فنعمد إلى آبار فنحتفرها، فنعمقها، ثم ندفن ثياب الكعبة فيها، كيلا يلبسها الجنب والحائض، فقالت له عائشة -رضي الله تعالى عنها-: ما أحسنت، ولبئس ما صنعت، إن ثياب الكعبة إذا نزعت منها لم يضرها أن يلبسها الجنب والحائض، ولكن بعها، واجعل ثمنها في المساكين، وفي سبيل الله، قالت: فكان شيبة بعد ذلك يرسل بها إلى اليمن، فتباع هناك، ثم يجعل ثمنها في المساكين، وفي سبيل الله وابن السبيل([96]).
فالإنكار هنا متوجه إلى شيئين:
الأول: اعتقاد حرمة لبس الجنب والحائض لثياب الكعبة.
الثاني: دفعنها وعدم إعطائها الفقراء، فإن هذا من التبذير المحرم.
12- إنكارها على زيد بن أرقم:
فقد أخرج البيهقي بسنده عن أبي إسحاق، عن العالية، قالت: كنت قاعدة عند عائشة -رضي الله عنها-، فأتتها أم محبة، فقالت لها: يا أم المؤمنين أكنت تعرفين زيد بن أرقم؟ قالت: نعم، قالت: فإني بعته جارية إلى عطائه بثمانمائة نسيئة، وإنه أراد بيعها فاشتريتها منه بستمائة نقداً، فقالت لها: “بئس ما اشتريت، وبئس ما اشترى، أبلغي زيداً أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إن لم يتب”([97]).
قال البغوي في شرح السنة بعد أن ذكر هذا الحديث:
“قال الشافعي: ولو كان ثابتاً فقد تكون عائشة عابت البيع إلى العطاء؛ لأنه أجل غير معلوم، ثم قال: وزيد صحابي، وإذا اختلفوا، فمذهبنا القياس، وهو مع زيد”([98]).
13- إنكارها على أم مسطح الدعاء عليه:
ففي حديثها الطويل:
قالت: فأقبلتُ أنا وأم مسطح، فعثرت أم مسطح في مرطها، فقالت: تعس مسطح، فقلت: “بئس ما قلت، تسبين رجلاً شهد بدراً” فذكر حديث الإفك([99]). متفق عليه.
فتعس: معناه عثر، وقيل: هلك، وقيل: لزمه الشر، وقيل: بعد، وقيل: سقط لوجهه خاصة، دعت عليه بذلك لما قال؛ وسمته عائشة -رضي الله عنها- سباً، وفيه كراهة الإنسان صاحبه وقريبه إذا آذى أهل الفضل، أو فعل غير ذلك من القبائح، كما فعلت أم مسطح في دعائها على ولدها، وفيه فضيلة أهل بدر، والذب عنهم، كما فعلت أم المؤمنين في ذبها عنه([100]).
14- إنكارها على أبي هريرة سرده الحديث:
فعن ابن شهاب أن عروة بن الزبير حدثه أن عائشة قالت: ألا يعجبك أبو هريرة، جاء فجلس إلى جنب حجرتي، يحدث عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، يسمعني ذلك، وكنتُ أسبح -أي أصلي-، فقام قبل أن أقضي سبحتي، ولو أدركته لرددت عليه، إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يكن يسرد الحديث كسردكم([101]). متفق عليه.
فقولها: ألا يعجبك؟ بضم أوله، وإسكان ثانيه من الإعجاب، وبفتح ثانيه والتشديد من التعجيب.
وقولها: لو أدركته لرددت عليه، أي: لأنكرتُ عليه، وبينتُ له أن الترتيل في التحديث أولى من السرد، فإنه -صلى الله عليه وسلم- لم يكن يتابع الحديث استعجالاً بعضه إثر بعض، لئلا يلتبس على المستمع.
فهذه كانت بعض المواقف من سيرة الصديقة عائشة -رضي الله عنها- الاحتسابية، وهي سيرة حافلة بالاحتساب والإنكار على كل ما خالف الشرع، أو الأخلاق الفاضلة، سواء كان ذلك صادراً من الرجال أو النساء، وإن هذه السيرة الحافلة بالمواقف الاحتسابية جديرة بالدراسة المستفيضة لإظهار الدروس والعبر منها.
وفاتها –رضي الله عنها–
ماتت في المدينة، سنة سبع وخمسين (57هـ) وقيل: سنة ثمان وخمسين (58هـ) في ليلة الثلاثاء لسبع عشرة خلت من رمضان عند الأكثر، بعد أن عمرت ثلاثًا وستين سنة وأشهراً، كما ذكر الذهبيُّ في السِّير([102]).
وصلى عليها أبو هريرة -رضي الله عنه-، ومروان بن الحكم -وهو أمير المدينة يومئذٍ- وحَمَلَ سريرها، وحمله أيضاً أبو هريرة -رضي الله عنه-([103]).
وأنزلها إلى قبرها خمسة، وهم: عبد الله، وعروة ابنا الزبير بن العوام، من أختها أسماء بنت أبي بكر، والقاسم وعبد الله ابنا أخيها محمد بن أبي بكر، وعبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر([104]). ذكر ذلك ابن كثير، وجماعة من أهل السِّير.
ودُفنت -رضي الله عنها- بالبقيع، مع صواحباتها، أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- ([105]).
دُفنت ليلاً بعد صلاة الوتر([106]).
هكذا ذكره محمد بن عمر الواقدي، كما أخرجه الحاكم في المستدرك، وابن سعد في طبقاته، والذهبي في سير أعلام النبلاء، وغيرها من المصادر([107]).
والسبب في ذلك -والله أعلم- إما لئلا يؤخر دفنها؛ لأنها كما ورد أنها ماتت ليلة السابع عشر من رمضان بعد الوتر، أو لأن ذلك أستر لها، أو لعله ظهر في زمنها -لا سيما في أواخر عمرها- من يكره الدفن ليلاً، فأرادت أن تبيّن الحكم، أو لغير ذلك، وعموماً فإن الدفن بالليل جائز للحاجة، والله تعالى أعلم.
فرحم الله هذه المحتسبة العظيمة، التي كانت أفقه النساء، وأعلم النساء بدين الله، وهدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأكثر النساء حسبة، وإنكارًا للمنكر، ونفعنا الله بعلومها، آمين.
([1]) انظر: ترجمتها في الإصابة (8: 16-11457) ووفيات الأعيان (3: 16-318) والتقريب (ص750- 8633) والاستيعاب (2/764)، وسير أعلام النبلاء (2/98) والبداية والنهاية (8/95) وطبقات الفقهاء (ص117)، وأسد الغابة (5/501) وتذكرة الحفاظ (1/23) والزركلي في الأعلام (ج3، ص240).
([2]) أخرجه أبو داود في الأدب، باب في المرأة تكنى (4/448) والحاكم في المستدرك (4/309- 7738) وهو في الصحيحة (132).
([5]) معجم ابن الأعرابي (4/388) عن عروة عن عائشة قالت: أسقطت لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- سقطاً فسماه عبد الله وكناني بأم عبد الله، قال محمد: فليس فينا امرأة اسمها عائشة إلا كنيت بأم عبد الله.
([6]) داود بن المحبر بن قحذم البكراوي: قال أحمد: لا يدري ما الحديث، وقال ابن المديني: ذهب حديثه، وقال البخاري: منكر الحديث، وقال أبو زرعة: ضعيف، وقال أبو حاتم: ذاهب الحديث، غير ثقة، وقال الدار قطني: متروك، وقال الحافظ في “التقرب”: متروك، وأكثر كتاب العقل الذي صنفه موضوعات، قال الذهبي: صاحب العقل، وليته لم يصنفه. ينظر: تهذيب الكمال (1/389)، وتقريب التهذيب (1/234)، والتاريخ الكبير للبخاري (2/244)، والجرح والتعديل (3/ت 1931)، وعلل أحمد (1/125)، والمغني (2024)، وميزان الاعتدال (3/33) ترجمة (2649/2893)، والجامع في الجرح والتعديل (1/225) ترجمة (1169).
([17]) أخرجه النسائي في السنن الكبرى، في عشرة النساء، إباحة الرجل لزوجته النظر إلى اللعب (5/307- 8951) وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (9/57- 3277).
([23]) أخرجه البخاري في كتاب المغازي، باب وفد عبد القيس (4/1589- 4112) ومسلم في صلاة المسافرين، باب معرفة الركعتين اللتين كان يصليهما النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد العصر (2/210- 1970).
([25]) أخرجه البخاري في أبواب التهجد، باب قيام النبي -صلى الله عليه وسلم- بالليل في رمضان وغيره (1/385- 1096) ومسلم في صلاة المسافرين، باب صلاة الليل… (2/166- 1757).
([27]) أخرجه البخاري في الفرائض، باب قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((لا نورث ما تركنا صدقة)) (6/2475- 6349) ومسلم في الجهاد والسير، باب قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((لا نورث ما تركنا فهو صدقة)) (5/153- 4678).
([28]) أخرجه البخاري في كتاب الأدب، باب الرفق في الأمر كله (5/2242- 5678) ومسلم في كتاب السلام، باب النهي عن ابتداء أهل الكتاب بالسلام، وكيف يرد عليهم؟ (7/4- 5784).
([46]) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (5/131-9268) والشافعي في مسنده (ص: 127) وفي الفاكهي في أخبار مكة (1/ 122-109).
([48]) أخرجه البخاري في كتاب صفة الصلاة، باب انتظار الناس قيام الإمام العالم (1/296-831) ومسلم في الصلاة، باب خروج النساء إلى المساجد إذا لم يترتب عليه فتنة، وأنها لا تخرج مطيبة (2/34- 1027).
([68]) أخرجه البخاري في صفة الصلاة، باب وجوب القراءة للإمام والمأموم في الصلوات كلها… (1/263- 724) ومسلم في الصلاة، باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة (2/10- 911).
([70]) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (7/124-9718) وأبو نعيم حلية الأولياء (1/76) وعبد الرزاق في المصنف (11/469- 21031).
([71]) أخرجه البخاري في الأدب، باب إثم من لا يأمن جاره بوائقه (5/2240- 5670) واللفظ له، ومسلم في الإيمان، باب بيان تحريم إيذاء الجار (1/49- 181).
([75]) أخرجه البخاري في كتاب الحيض، باب: لا تقضي الحائض الصلاة (1/331 – 321) ومسلم في الحيض، باب وجوب قضاء الصوم على الحائض دون الصلاة (1/182-787 ).
([85]) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب معنى قول الله -عز وجل-: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} [(13) سورة النجم] وهل رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- ربه ليلة الإسراء؟ (1/110-457).
([86]) أخرجه البخاري في كتاب الشهادات، باب تعديل النساء بعضهن بعضاً (2/942- 2518) ومسلم في كتاب التوبة، باب في حديث الإفك، وقبول توبة القاذف (8/112- 7196).
([88]) أخرجه الترمذي في أبواب الطهارة، باب ما جاء في الاستنجاء بالماء (ج1/ص30- 19) وابن حبان في كتاب الطهارة، باب الاستطابة (ج 4/ص290- 1443) والنسائي (1/42- 46) وأحمد (ج41/ص 182- 24639) وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي (1/19) والإرواء (42).
([89]) أخرجه مالك في الموطأ رواية أبي مصعب الزهري (2/ 136-2016) والبخاري في الأدب المفرد (ص: 721-1274) والبيهقي في شعب الإيمان (8/ 462-6084) وفي السنن الكبرى (10/ 365-20960) والبغوي في شرح السنة (12/ 385) والآجري في تحريم النرد والشطرنج والملاهي (ص: 154-35) وقال الألباني في صحيح الأدب المفرد (ص: 489): “حسن الإسناد موقوف”.
([91]) أخرجه أبو داود في كتاب الأدب، باب في النهي عن اللعب بالنرد (4/ 285-4938) وابن ماجه في كتاب الأدب، باب اللعب بالنرد (2/ 1237-3762) وأحمد (32/287-19522) وقال محققو المسند: “حديث حسن” وحسنه الألباني في صحيح الجامع (2/ 1113-6529).
([96]) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (5/260-9731) والأزرقي في أخبار مكة (1/ 262) وضعفه الألباني في إرواء الغليل (6/43).
([97]) السنن الكبرى للبيهقي (5/540-10799) وسنن الدارقطني (3/ 477-3002) والبغوي في شرح السنة (8/ 72) ومصنف عبد الرزاق الصنعاني (8/ 184-14812).
([99]) صحيح البخاري في كتاب المغازي (5/ 116-4141) ومسلم في التوبة باب في حديث الافك وقبول الله توبة القاذف رقم (2770).
([101]) أخرجه البخاري في كتاب المناقب ، باب صفة النبي -صلى الله عليه وسلم- (4/190-3568) ومسلم في الفضائل، باب من فضائل أبي هريرة الدوسي -رضي الله عنه- رقم (2493).
([103]) انظر: الإصابة (8 :16) رقم (11457) ووفيات الأعيان (3: 16) رقم (318) والتقريب (ص750) رقم (8633) و(الاستيعاب (2/764)، وسير أعلام النبلاء (2/98) والبداية والنهاية (8/95) وغيرها.
([104]) البداية والنهاية لابن كثير – الجزء الثامن ( (127 من (239( .
([105]) انظر: الإصابة (8: 16) رقم (11457) ووفيات الأعيان (3: 16) رقم (318) والتقريب (ص750) رقم (8633) و(الاستيعاب (2/764)، وسير أعلام النبلاء (2/98) والبداية والنهاية (8/95) وغيرها.