احتساب إبراهيم بن أدهم رحمه الله
(ت: 161 هـ – 778 م)
اسمه ونشـأته:
هو إبراهيم بن أدهم بن منصور التميمي البلخي، أبو إسحاق، زاهد مشهور، كان أبوه من أهل الغنى في بلخ، فتفقه، ورحل إلى بغداد، وجال في العراق والشام والحجاز، وأخذ عن كثير من علماء الأقطار الثلاثة.
وكان يعيش من العمل بالحصاد، وحفظ البساتين، والحمل والطحن، ويشترك مع الغزاة في قتال الروم، وجاءه إلى المصيصة عبد لأبيه يحمل إليه عشرة آلاف درهم ويخبره أن أباه قد مات في بلخ، وخلف له مالاً عظيماً، فأعتق العبد، ووهبه الدراهم، ولم يعبأ بمال أبيه، وكان يلبس في الشتاء فروا، لا قميص تحته، ولا يتعمم في الصيف، ولا يحتذي، يصوم في السفر والإقامة، وينطق بالعربية الفصحى لا يلحن.
وكان إذا حضر مجلس سفيان الثوري وهو يعظ أوجز سفيان في كلامه مخافة أن يزل.
وأخباره كثيرة، وفيها اضطراب واختلاف في نسبته ومسكنه ومتوفاه، ولعل الراجح أنه مات ودفن في حصن من بلاد الروم، كما في تاريخ ابن عساكر([1]).
ويروي عن أبيه، ومحمد بن زياد الجمحي -صاحب أبي هريرة-، وأبي إسحاق السبيعي، ومنصور بن المعتمر، ومالك بن دينار، وأبي جعفر محمد بن علي، وسليمان الأعمش، وابن عجلان، ومقاتل بن حيان.
وروى عنه: رفيقه سفيان الثوري، وشقيق البلخي، وبقية بن الوليد، وضمرة بن ربيعة، ومحمد بن حمير، وخلف بن تميم، ومحمد بن يوسف الفريابي، وإبراهيم بن بشار الخراساني -خادمه- وسهل بن هاشم، وعتبة بن السكن، وحكى عنه: الأوزاعي، وأبو إسحاق الفزاري، قال البخاري: قال لي قتيبة: إبراهيم بن أدهم تميمي، يروي عن منصور([2]).
مكانته وما قيل عنه:
إبراهيم بن أدهم من المحتسبين العباد الزهاد المشهورين، أثنى عليه كثير من العلماء المعتبرين.
فعن الفريابي قال: سمعتُ رجلاً قال للأوزاعي: أيهما أحب إليك إبراهيم بن أدهم أو سليمان الخواص؟ قال: إبراهيم بن أدهم أحب إليّ؛ لأن إبراهيم يخالط الناس، وينبسط إليهم([3]).
وعن أبي نشيط محمد بن هارون قال: سمعتُ بشر بن الحارث يذكر عن يحيى بن يمان، قال: كان سفيان الثوري إذا جلس إلى إبراهيم بن أدهم يتحرز من الكلام، قال بشر بن عوف: والله فضله([4]).
وعن عبد الله بن حنين قال سمعتُ خلف بن تميم يقول: سمعتُ أبا الأحوص يقول: رأيتُ من بكر بن وائل خمسة، ما رأيت مثلهم قط، إبراهيم بن أدهم، ويوسف بن أسباط، وحذيفة بن قتادة، ونعيم العجلي، وأبو يونس القوي([5]).
وقال عنه ابن كثير: إبراهيم بن أدهم أحد مشاهير العباد، وأكابر الزهاد، كانت له همة عالية في ذلك -رحمه الله-([6]).
وقال عنه الذهبي: إبراهيم بن أدهم بن منصور بن يزيد بن جابر العجلي، القدوة، الإمام، العارف، سيد الزهاد، أبو إسحاق العجلي، وقيل: التميمي، الخراساني، البلخي، نزيل الشام([7]).
وقال النسائي: هو ثقة، مأمون، أحد الزهاد([8]).
وعن سفيان الثوري قال: كان إبراهيم بن أدهم يشبه الخليل، ولو كان في الصحابة كان رجلاً فاضلاً، له سرائر، وما رأيته يظهر تسبيحاً، ولا شيئاً، ولا أكل مع أحد طعاماً، إلا كان آخر من يرفع يديه([9]).
وقال عبد الله بن المبارك: كان إبراهيم رجلاً فاضلاً، له سرائر ومعاملات بينه وبين الله -عز وجل-، وما رأيته يظهر تسبيحاً، ولا شيئاً من عمله، ولا أكل مع أحد طعاماً إلا كان آخر من يرفع يده.
وقال بشر بن الحارث الحافي: أربعة رفعهم الله بطيب المطعم، إبراهيم بن أدهم، وسليمان بن الخواص ووهيب بن الورد، ويوسف بن أسباط([10]).
وقال عنه أبو نعيم: أبو إسحاق إبراهيم بن أدهم، أيد بالمعارف فوجد، وأمد بالملاطف فعبد، كان عن المقطوع والمرذول وبالمرفوع الموصول متشاغلاً، كان شرع الرسول نهجه، واختياره -عليه السلام- مرجعه، ألف الميمون الموصول، وخالف المفتون المخذول([11]).
وعن محمد بن حميد الخواص؛ قال: قال لي بشر بن الحارث يوماً: أئمتي أربعة: سفيان الثوري، ويوسف بن أسباط، وسليمان الخواص، وإبراهيم بن أدهم -رضي الله عنهم-([12]).
عبادته وكرمه:
كان إبراهيم بن أدهم من العباد العظام، الذين تركوا الدنيا، وأقبلوا على العبادة، وكان من الناس كرماً على فقره.
فعن سليمان الداراني قال: صلى إبراهيم بن أدهم خمس عشرة صلاة بوضوء واحد([13]).
وعن بقية قال: سمعتُ إبراهيم بن أدهم يقول: عالجت العبادة فما وجدتُ شيئاً أشد عليّ من نزاع النفس إلى الوطن([14]).
وعن عبد الرحمن بن يعقوب، قال: جاء رجل إلى إبراهيم بن أدهم يريد صحبته، فقال له إبراهيم: ما معك؟ فأخرج دراهم فأخذ منها إبراهيم دراهم، فقال: اذهب فاشتر لنا موزاً، فقال الرجل: موزاً بهذا كله؟! فقال إبراهيم: إذاً ضم دراهمك، وامضِ ليس تقوى على صحبتنا([15]).
وعن جامع بن أعين الفراء قال: وجهني أخي إلى إبراهيم بن أدهم وهو يرعى الخيل في الملون، وملأ جراباً من السويق والتمر، وأعطاني لحماً مشوياً، فقال: أعطه إبراهيم بن أدهم وأقره مني السلام، قال: فجئته بعد العصر فإذا هو في الغابة، فنظرت إلى فرسنا وقعدت حتى خرج إبراهيم عند اصفرار الشمس، وعليه عباءة على كتفيه، وجبة صوف وهو يسبح، فقالوا: قد أقبل إبراهيم، وقد رمضوا له كفاً من شعير، وعجوة، وهيئوا له منها ثلاثة أقراص، فقمتُ فسلمتُ عليه، وأقرأته سلام أخي، فقال لهم: أروه فرس أخيه يفرح، فقلتُ: قد رأيته ووضعت الجراب بين يديه، وقلتُ: هدية أخي لك، فقال لأصحابه: متى جاء هذا؟ قالوا: بعد العصر، قال: فهلا أكلتموه؟! ثم قال: ابسطوا العباءة، ونفض الجراب عليها، ثم جعل يقول: ادعوا فلاناً، ادعوا فلاناً، ثم قال لهم: كلوا، وهو قائم يقول لهم: كلوا، فقلتُ لأصحابه: إن أخي إنما بعث بهذا إلى إبراهيم ليأكل منه، ولم تتركوا له شيئاً، فقالوا: إن إبراهيم ليس يأكل إلا ثلاثة أقراص من شعير بملح جريش، ثم صلى بنا العتمة، ثم ما زال راكعاً وساجداً ومتفكراً حتى الصبح، ثم صلى بنا الصبح على وضوء العتمة([16]).
قال سهل بن إبراهيم: صحبت إبراهيم بن أدهم، في سفر، فأنفق علي نفقته كلها، قال: ثم مرضت عليه، فاشتهيت شهوة، فذهب فأخذ حماره وباعه، واشترى شهوتي فجاء بها، فقلت: يا إبراهيم، فأين الحمار؟ قال: يا أخي بعناه، قال: قلتُ: يا أخي فعلى أي شيء نركب؟ قال: أخي، على عنقي، قال: فحمله على عنقه ثلاث منازل، قال: فقال الأوزاعي: ليس في هؤلاء القراء أفضل من إبراهيم بن أدهم، فإنه أسخى القوم([17]).
وعن أحمد بن الفضل العكي قال: سمعتُ أبي، يقول: مر إبراهيم بن أدهم بقيسارية وقد تعجل ديناراً من الكرم، فسمع صوت امرأة تصيح، فقال: ما لهذه؟ قالوا: تلد، قال: وأي شيء يعمل بالمرأة؟ قالوا: يشترى لها طحين وزيت ولحم وعسل، فصرف ديناره واشترى زنبيلاً وملأه طحيناً، واشترى زيتاً، وسمناً، وعسلاً، ولحماً، وحمله على رقبته إلى الباب، وقال: خذوا، قال: فنظر فإذا هم أفقر بيت في أهل قيسارية وأعبدهم([18]).
وقال شقيق بن إبراهيم: بينا نحن ذات يوم عند إبراهيم إذ مر به رجل من الصناع، فقال إبراهيم: أليس هذا فلاناً؟ قيل: نعم، فقال لرجل: أدركه فقل له: قال لك إبراهيم: ما لك لم تسلم؟ قال: لا والله، إن امرأتي وضعت، وليس عندي شيء فخرجت شبه المجنون، فرجعت إلى إبراهيم، وقلتُ له فقال: إنا لله كيف غفلنا عن صاحبنا حتى نزل به هذا الأمر؟ فقال: يا فلان، ائت صاحب البستان فاستسلف منه دينارين، وادخل السوق فاشترِ له ما يصلحه بدينار، وادفع الدينار الآخر إليه، فدخلت السوق، وأوقرت بدينار من كل شيء، وتوجهت إليه، فدققت الباب، فقالت امرأته: من هذا؟ قلتُ: أنا أردت فلاناً، قالت: ليس هو هنا، قلت: فمري بفتح الباب وتنحي، قال: ففتحت الباب، فأدخلت ما على البعير وألقيته في صحن الدار، وناولتها الدينار، فقالت: على يدي من هذا؟ قلت: قولي: على يد أخيك إبراهيم بن أدهم، فقالت: اللهم لا تنس هذا اليوم لإبراهيم([19]).
وعن علي بن بكار، قال: كنا جلوساً عند الجامع بالمصيصة، وفينا إبراهيم بن أدهم، فقدم رجل من خراسان، فقال: أيكم إبراهيم بن أدهم؟ فقال القوم: هذا، أو قال: أنا هو، قال: إن إخوتك بعثوني إليك، فلما سمع ذكر إخوته قام فأخذ بيده فنحاه، فقال: ما جاء بك؟ قال: أنا مملوكك مع فرس وبغلة وعشرة آلاف درهم بعث بها إليك إخوتك، قال: إن كنت صادقاً فأنت حر، وما معك فلك، اذهب فلا تخبر أحداً، قال: فذهب([20]).
وعن حذيفة المرعشي قال: دخلنا مكة مع إبراهيم بن أدهم فإذا شقيق البلخي قد حج في تلك السنة، فاجتمعنا في شق الطواف، فقال إبراهيم لشقيق: على أي شيء أصلتم أصلكم؟ قال: أصلنا أصلنا على أنا إذا رزقنا أكلنا، وإذا منعنا صبرنا، فقال إبراهيم: هكذا تفعل كلاب بلخ، فقال له شقيق: فعلى ماذا أصلتم؟ قال: أصلنا على أنا إذا رزقنا آثرنا، وإذا منعنا شكرنا وحمدنا، فقام شقيق فجلس بين يدي إبراهيم، فقال: يا أستاذ أنت أستاذنا([21]).
وعن رواد بن الجراح قال: خرجتُ مع إبراهيم بن أدهم للغزو، ففقدتُ سرجي، فقلتُ: أين سرجي؟ فقالوا: إن إبراهيم بن أدهم أتي بهدية، فلم يجد ما يكافئ، فأخذ سرجه فأعطاه قال: فرأيتُ رواداً سر به([22]).
وعن أحمد بن أبي الحواري قال: قلتُ لمروان -وكان مضاء- حدثني قال: ما فاق إبراهيم بن أدهم إلا بالصدق والسخاء، قال مروان: كان إبراهيم سخياً جداً([23]).
زهده وورعه وإخلاصه:
كان إِبراهيم بن أدهم من أكابر الزهاد، يأكل من عمل يده، مثل الحصاد، وحفظ البساتين، والعمل في الطين.
فعن رواد بن الجراح، قال: كان إبراهيم بن أدهم ينظر كرماً في كورة غزة، فجاءه صاحب الكرم ومعه أصحابه، فقال: ائتنا بعنب نأكل، فأتاه بعنب يقال له الخافوني، فإذا هو حامض فقال له صاحب الكرم: من هذا تأكل؟ قال: ما آكل من هذا ولا من غيره، قال: لم؟ قال: لأنك لم تجد لي شيئاً من العنب، قال: فأتني برمان، فأتاه برمان، فإذا هو حامض، فقال: من هذا تأكل؟ قال: لا آكل من هذا ولا من غيره، ولكن رأيته أحمر حسناً، فظننتُ أنه حلو، فقال: لو كنتَ إبراهيم بن أدهم ما عدا، قال: فلما علم أنهم عرفوه هرب منهم، وترك كراه([24]).
عن أحمد بن فضيل العكي، قال: سمعتُ أبي يقول: كان إبراهيم يحصد وينظر، فنظر بستاناً بعسقلان لنصراني، فيه أصناف الشجر، فقالت امرأة النصراني: يا هذا استوص بهذا الرجل خيراً، فإني أظنه الصالح الذي يذكرونه، فقال زوجها: وكيف عرفتيه؟ قالت: أحمل إليه الغداء فأدرك عنده العشاء، وأحمل إليه العشاء فأدرك عنده الغداء([25]).
وعن إبراهيم بن بكر، قال: سمعتُ أبا صالح الجدي يقول: سمعتُ إبراهيم بن أدهم يقول: المسألة مسألتان، مسألة على أبواب الناس، ومسألة يقول الرجل ألزم المسجد، وأصلي وأصوم وأعبد الله فمن جاءني بشيء قبلته، فهذه شر المسألتين، وهذا قد ألحف في المسألة([26]).
وقال شقيق بن إبراهيم: مر إبراهيم بن أدهم في أسواق البصرة، فاجتمع الناس إليه، فقالوا له: يا أبا إسحاق إن الله تعالى يقول في كتابه: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر (60)] ونحن ندعوه منذ دهر فلا يستجيب لنا، قال: فقال إبراهيم: يا أهل البصرة ماتت قلوبكم في عشرة أشياء:
أولها: عرفتم الله ولم تؤدوا حقه.
والثاني: قرأتم كتاب الله ولم تعملوا به.
والثالث: ادعيتم حب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتركتم سنته.
والرابع: ادعيتم عداوة الشيطان ووافقتموه.
والخامس: قلتم نحب الجنة ولم تعملوا لها.
والسادس: قلتم نخاف النار ورهنتم أنفسكم بها.
والسابع: قلتم إن الموت حق ولم تستعدوا له.
والثامن: اشتغلتم بعيوب إخوانكم، ونبذتم عيوبكم.
والتاسع: أكلتم نعمة ربكم ولم تشكروها.
والعاشر: دفنتم موتاكم ولم تعتبروا بهم([27]).
قال: وكان إبراهيم إذا صلى العشاء وقف بين يدي الدور فنادى بأعلى صوته: من يريد يطحن؟ فكانت المرأة تخرج القفة، والشيخ الكبير، فينصب الرحى بين رجليه، فلا ينام حتى يطحن بلا كراء، ثم يأتي أصحابه([28]).
وعن خلف بن تميم، قال: قلت لإبراهيم بن أدهم: مذ كم نزلت بالشام، قال: منذ أربع وعشرين سنة، ما نزلتها لجهاد، ولا لرباط، فقلت: لأي شيء نزلتها؟ قال: لأشبع من خبز حلال([29]).
وعن أحمد بن داود، قال: مر يزيد بإبراهيم بن أدهم، وهو ينظر كرماً، فقال: ناولنا من هذا العنب، فقال: ما أذن لي صاحبه، قال: فقلب السوط، وأمسك بموضع الشيب، فجعل يقنع رأسه فطأطأ إبراهيم رأسه، وقال: اضرب رأساً طال ما عصى الله، قال: فأعجز الرجل عنه([30]).
وعن ضمرة، قال: كنا مع إبراهيم بصور في بيته، قال: وكان يحصد وكان سليمان أبو إلياس جالساً على الباب عليه جبة صوف، فقال إبراهيم: يا سليمان ادخل ادخل، لا يمر بك إنسان فيظن أنك سائل فيعطيك شيئاً([31]).
وعن إبراهيم بن بشار، قال: سمعتُ إبراهيم بن أدهم يقول: ما قاسيت شيئاً من أمر الدنيا أشد علي من نفسي مرة علي، ومرة لي، وأما هوايا فقد -والله- استعنتُ بالله عليه، فأعانني واستكفيته سوء مغالبته، فكفاني، فو الله ما آسى على ما أقبل من الدنيا، ولا ما أدبر منها([32]).
وعن أبي علي الهروي رفيق إبراهيم بن أدهم؛ قال: شارط إبراهيم بن أدهم رجلاً على شيء يعمله في الكرم، فقال: أفسدتَ عليّ كرمي، فقال له إبراهيم: أيما أكثر؛ كراي أو ما أفسدتُ عليك؟ فقال: كراك أكثر من الفساد، قال: فأطرح لك من الكراء بقدر ما أفسدتُ عليك، فقال له الرجل: نعم، فولى إبراهيم بن أدهم، فجاء رجل إلى الرجل، فقال: هذا إبراهيم بن أدهم، فأتاه، فقال له: خذ كراك كله، وأنت في حل مما أفسدت فقال إبراهيم: المؤمنون عند شروطهم، وأبى أن يأخذ شيئاً([33]).
وعن سالم الخواص قال: مررت على رصيف أنطاكية في يوم مطير، فبصرت بإنسان نائم، فلما قربتُ منه كشف رأسه، فإذا هو إبراهيم بن أدهم، في عباءة، فقال لي: يا أبا محمد، طلب الملوك شيئاً ففاتهم، وطلبناه فوجدناه ما يحوز حمى كسائي هذا([34]).
وعن سعيد بن حرب قال: قدم إبراهيم مكة فنزل على عبد العزيز بن أبي رواد، ومعه جراب من جلد ظبية، فعلق جرابه على وتد، ثم خرج إلى الطواف، فدخل سفيان الثوري دار عبد العزيز فقال: لمن هذه الظبية؟ يعني الجراب، قالوا: لأخيك إبراهيم بن أدهم، فقال سفيان: لعل فيه شيئاً من فاكهة الشام، قال: فأنزله فحله، فإذا هو محشو بالطين، فشد الجراب ورده إلى الوتد، وخرج سفيان فرجع إبراهيم وأخبره عبد العزيز بفعل سفيان، فقال: أما إنه طعامي منذ شهر([35]).
وعن أبي معاوية الأسود قال: رأيت إبراهيم بن أدهم يأكل الطين عشرين يوماً، ثم قال: يا أبا معاوية، لولا أن أتخوف أن أعين على نفسي ما كان لي طعام إلا الطين حتى ألقى الله -عز وجل- حتى يصفو لي الحلال من أين هو؟([36]).
وعن يعلى بن عبيد قال: دخل إبراهيم بن أدهم على أبي جعفر أمير المؤمنين، فقال: كيف شأنكم يا أبا إسحاق؟ قال يا أمير المؤمنين:
نرقع دنيانا بتمزيق ديننا *** فلا ديننا يبقى ولا ما نرقع.
فقال: أخرجوه فقد استقتل([37])
وعن خلف بن تميم، قال: قال إبراهيم بن أدهم: أطب مطعمك، ولا عليك ألا تقوم بالليل، وتصوم بالنهار([38]).
وعن عبيد الله بن محمد قال: استقبل إبراهيم بن أدهم رجل من الجند، فرآه أشعث أغبر فتعلق به، وقال: أنت آبق، فكتفه وذهب به، فلما أدخله الدار، إذا ثم من عرفه، فقال: ويحك ما أردت إلا هذا، هذا إبراهيم بن أدهم، فذكر حاله وفضله، فأطلق عنه، قال: ثم جعل يستحله، ويطلب إليه، قال: أنت في حل إن لم تعد لمثل هذا([39]).
وعن علي بن بكار قال: شكا رجل إلى إبراهيم بن أدهم كثرة عياله، فقال له إبراهيم: يا أخي، انظر كل من في منزلك ليس رزقه على الله فحوله إلى منزلي([40]).
وعن بشر بن المنذر قال: كنتُ إذا رأيتُ إبراهيم بن أدهم كأنه ليس فيه روح لو نفخته الريح لوقع، قد أسود متدرعاً بعباءة([41]).
وعن بقية؛ قال: كنتُ مع إبراهيم بن أدهم بصور، فصلى على جنازة، فلما فرغ أتاه رجل، فقال له: يا أبا إسحاق! ادع لي، فالتفتُ إلى الرجل، فقال له: دعاؤك لنفسك خير لك من دعائي لك([42]).
وقال حذيفة بن قتادة المرعشي: رأى الأوزاعي إبراهيم بن أدهم ببيروت وعلى عنقه حزمة حطب، فقال له: يا أبا إسحاق! إلى متى هذا؟ إخوانك يكفونك، فقال: دعني عن هذا يا أبا عمرو؛ فإنه بلغني أنه من وقف موقف مذلة في طلب الحلال وجبت له الجنة([43]).
وعن عبد الله بن فلان حدث عن إبراهيم أنه مر بغلام معه تين في بنيقة، فقال: أعطنا بدانق من هذا، فأبى عليه، فمضى إبراهيم، ونظر رجل إلى صاحب التين، فقال له: إيش قال لك هذا الرجل؟ فقال: قال لي: أعطني من هذا التين بدانق، قال: الحقه، فادفع إليه ما يريد، وخذ مني الثمن، فلحقه فقال: يا عم خذ من هذا التين ما تريد، فالتفت إبراهيم، فقال: لا نبتاع التين بالدين([44]).
وكان إبراهيم بن أدهم إذا دخل عليه داخل وهو يقرأ في المصحف غطاه([45]).
وعن سفيان بن عيينة، قال: قيل لإبراهيم بن أدهم: لو تزوجت؟ قال: لو أمكنني أن أطلق نفسي، لفعلت([46]).
وعن عبد الرحمن بن مهدي: عن طالوت: سمعت إبراهيم بن أدهم يقول: ما صدق الله عبد أحب الشهرة([47]).
سيرته الاحتسابية
لقد كان إبراهيم بن أدهم محتسباً عظيماً، فقد نُقل عنه مواقف احتسابية كثيرة، منها:
1- إنكاره على من يغتاب:
عن بشر بن الحارث قال: كان رجل يجالس إبراهيم بن أدهم، فاغتاب عنده رجلاً، فقال: لا تفعل، ونهاه فعاد, فقال له: اذهب، وصاح به، ثم قال: عجبتُ لنا كيف نمطر, ثم قال بشر: وأعجب أما أنه إنما احتبس المطر لما تعلمون([48]).
2- إنكاره على من اعترض عليه ترك الملك:
قال شقيق بن إبراهيم: لقيت ابن أدهم بالشام، وقد كنتُ رأيته بالعراق وبين يديه ثلاثون شاكرياً، فقلتُ له: تركتَ ملك خراسان، وخرجتَ من نعمتك؟ فقال: اسكت، ما تهنيت بالعيش إلا ها هنا، أفر بديني من شاهق إلى شاهق، فمن يراني يقول: هو موسوس، أو حمال أو ملاح، ثم قال: بلغني أنه يُؤتى بالفقير يوم القيامة فيوقف بين يدي الله، فيقول له: يا عبدي مالك لم تحج؟ فيقول: يا رب لم تعطني شيئاً أحج به.
فيقول الله: صدق عبدي، اذهبوا به إلى الجنة، وقال: أقمتُ بالشام أربعاً وعشرين سنة، لم أقم بها لجهاد ولا رباط إنما نزلتها لأشبع من خبز حلال([49]).
3- إنكاره على مسوف للتوبة:
قال أبو عتبة الخوّاص: سمعتُ إبراهيم بن أدهم قال لرجل: ما آن لك أن تتوب؟ قال: حتى يشاء الله -عز وجل-؛ فقال له إبراهيم: وأين حزن الممنوع؟!([50]).
4- إنكاره على انشغل في الدنيا:
عن ضمرة, إن إبراهيم بن أدهم مر بأخ له كان يعرفه بالزهد، وقد اتخذ أرضاً، وغرس شجراً، فقال: ما هذا؟! قال: أصبناه رخيصاً, قال: فما كان يمنعك من الدنيا فيما مضى إلا غلاؤها؟!([51]).
5- إنكاره على سابٍ:
عن إبراهيم بن بشار، قال: تكلم إبراهيم بن أدهم إلى رجل يكلم رجلاً، فغضب حتى تكلم بكلام قبيح، قال: فقال له: يا هذا اتقِ الله، وعليك بالصمت والحلم والكظم، قال: فأمسك ثم قال له: بلغني أن الأحنف بن قيس، قال: كنا نختلف إلى قيس بن عاصم نتعلم الحلم، كما نختلف إلى العلماء نتعلم العلم، قال: فقال له: لا أعود([52]).
6- إنكاره على الجزع:
عن إبراهيم بن بشار, خادم إبراهيم بن أدهم, قال: نظر إبراهيم بن أدهم إلى رجل قد أصيب بمال ومتاع كثير, وقع الحريق في دكانه، فاشتد جزعه، حتى خولط في عقله, فقال له: يا عبد الله إن المال مال الله, متعك به إن شاء، وأخذه منك إن شاء, فاصبر لأمره، ولا تجزع, فإن من تمام شكر الله على العافية الصبر له على المصيبة, ومن قدم وجد, ومن أخر فقد وندم([53]).
7- إنكاره على من يتكلم بالباطل:
عن أبي وهب أن إبراهيم بن أدهم رأى رجلاً يحدث -يعني من كلام الدنيا- فوقف عليه، فقال له: كلامك هذا ترجو فيه؟! قال: لا, قال: فتأمن عليه؟! قال: لا, قال: فما تصنع بشيء لا ترجو فيه ولا تأمن عليه؟!([54]).
8- إنكاره على من أساء في آداب الأكل:
عن ضمرة، قال: صنع إبراهيم بن أدهم طعاماً بصور، ودعا إخوانه، قال: ودعا رجلاً يقال له خلاد الصيقلي، قال: فأكل، ثم قال: الحمد لله، ثم قام، فقال إبراهيم بن أدهم بعد أن قام: لقد أساء في خصلتين، لقد قام بغير إذن، ولقد حشم أصحابه([55]).
9- إنكاره على من يتبع نفسه هواها:
عن أبي عمر عن أبيه قال: خرج إبراهيم بن أدهم وحذيفة المرعشي ويوسف بن أسباط، وإسحاق بن نجيح، فمروا بمدينة، فقالوا لإسحاق: ادخل هذه فاشترِ لنا زاداً، فدخل فاشترى زادا، واشترى ملحاً مصفراً، فلما جاء فوضع الزاد والملح المصفر، قالوا له: ما هذا؟ قال: مررت فاشتهيته فاشتريته، فقال له إبراهيم بن أدهم: ليس تدع شهوتك أو تلقيك فيما لا طاقة لك به، قال أبو عمر: فأنا رأيتُ إسحاق بعد بحران سميناً، غليظ الرقبة([56]).
10- إنكاره على رجل أنكر عليه أمراً:
جاء في كتاب الورع لأحمد: سمعتُ بعض أصحابنا يذكر عن رجل قال: رأى إبراهيم بن أدهم قاتل خاله بمكة، فأهدى إليه هدية، فقيل له: تهدي إليه؟ فقال: إنما أردت صلاح قلبي([57]).
11- إنكاره على رجل سُكنى أصبهان:
عن أبي جعفر الأخرم محمد بن العباس قال: قال لي إبراهيم بن أدهم بالبصرة وأنا أريد أن أرجع إلى أصبهان: لا ترجع إلى أصبهان، قلتُ: لا بد لي من أصبهان، لي بها ميراث، وأنا مضيق كما ترى، قال: فقال: لا ترجع إلى أصبهان، أهل أصبهان رموني باللواطة([58]).
12- إنكاره على أصحابه:
عن عيسى بن حازم، قال: كنا مع إبراهيم بن أدهم في بيت، ومعه أصحاب له، فأتوا ببطيخ فجعلوا يأكلون، ويمزحون، ويترامون بينهم، فدق رجل الباب، فقال لهم إبراهيم: لا يتحركن أحد، قالوا: يا أبا إسحاق تعلمنا الرياء، نفعل في السر شيئاً لا نفعله في العلانية، فقال: اسكتوا إني أكره أن يعصى الله في وفيكم([59]).
13- إنكاره على من ظن إكرام الإخوة من السرف:
عن أبي يوسف الغسولي؛ قال: دعا الأوزاعي إبراهيم بن أدهم إلى الطعام، فقصر في الأكل، فقال له الأوزاعي: رأيتك قصرت في الأكل! قال: لأنك قصرت في الطعام، قال: وهيأ إبراهيم طعاماً، ووسع فيه، ودعا الأوزاعي، فقال له: ما تخاف أن يكون سرفاً؟ فقال إبراهيم: إنما السرف ما ينفقه الرجل في معصية الله، فأما إذا أنفقه في إخوانه؛ فهو من الدين([60]).
آراؤه وأقواله ومروياته الاحتسابية
1- عن عبد الله بن محمد البلخي، قال: قيل لإبراهيم بن أدهم: الرجل يرى من الرجل الشيء أو يبلغه عنه أيقول له؟ قال: هذا تبكيت، ولكن يعرض به([61]).
2- وعن إبراهيم بن أدهم عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة، قالت: قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((غشيتكم السكرتان، سكرة حب العيش، وحب الجهل، فعند ذلك لا تأمرون بالمعروف، ولا تنهون عن المنكر، والقائمون، بالكتاب وبالسنة، كالسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار)) غريب من حديث إبراهيم وهشام كذا حدث به القراطيسي، مرفوعاً، والقراطيسي فيما أرى اسمه عباس بن إبراهيم([62]).
3- وعن أبي محمد إسماعيل بن عبد الجبار العسقلاني قال: سمعتُ إبراهيم بن أدهم يقول: “من صافح صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام”([63]).
4- وقال إبراهيم بن أدهم: لفتنتهم عندي -أي المرجئة- أخوف على هذه الأمة من فتنة الأزارقة، والأزارقة هم قوم من الخوارج، وهم أتباع نافع بن الأزرق الذي قُتل في زمن عبد الله بن الزبير وقد خرج عليه([64]).
5- وعن علي بن بكار، قال: كان إبراهيم بن أدهم يعمل بفلسطين بكراء، فإذا مر به الجيش إلى مصر وهو يسقي الماء قطع الدلو وألقاه في البئر لئلا يسقيهم، وكانوا يضربون رأسه يسألونه عن الطريق، وهو يتخارس عليهم؛ لئلا يدلهم، قال: هذا الورع، ليس أنا ولا أنت([65]).
6- وذكر هارون رفيق إبراهيم بن أدهم قال: كنا مع إبراهيم بغزة نحصد، فقال: يا هارون تنح بنا عن هذا الموضع، قلتُ: لم؟ قال: بلغني أن بعثا بعثوا إلى إفريقية، قال: قلتُ: وما عليك من البعث؟ قال: إن الطريق الذي يأخذون فيه قريب منا، وإنا لا نأمن أن يأتينا بعضهم فيقول: كيف نأخذ إلى موضع كذا وكذا أفندله؟ ليس لنا خير من أن نتباعد فلا نراهم، ولا يروننا([66]).
7- قال المسيب بن واضح: حدثنا أبو عتبة الخواص: سمعت إبراهيم بن أدهم يقول: من أراد التوبة، فليخرج من المظالم، وليدع مخالطة الناس، وإلا لم ينل ما يريد([67]).
فهذا هو إبراهيم بن أدهم -رحمه الله- المحتسب الزاهد العابد المتبع، فقد نُقل عنه أقوالاً كثيرة في الحثّ على اتّباع الكتاب والسنة، والنهي عن البدع، ولا يصح نسبته إلى الصوفية والتصوف في معناه البدعي، لكن عنده بعض مسالك العباد، ومع ذلك فهو بعيد عن التصوف كل البعد، وهو إمام له نهجه الذي هو نهج السلف في العلم والعمل والاعتقاد.
فعن عبد الله بن أبي عمرو البكري عن سلم الخواص، قال: سمعتُ إبراهيم بن أدهم يقول: “أصحاب الحديث بهم تدفع البلوى عن الناس” أو قال: الآفات([68]).
وعن بقية، قال: دعاني إبراهيم بن أدهم إلى طعامه، فأتيته، فجلس، فوضع رجله اليسرى تحت أليته، ونصب اليمنى، ووضع مرفقه عليها، ثم قال: هذه جلسة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يجلس جلسة العبد، خذوا بسم الله([69]).
وعن محمد بن حمير قال: حدثنا إبراهيم بن أدهم قال: “من حمل شواذ العلماء حمل شراً كثيراً”([70]).
وكان له كرامات منها:
قال سهل بن بشر: مر بي إبراهيم بن أدهم، وأنا أكسر عود حطب قد أعياني، فقال لي: يا محمد قد أعياك؟ قلت: نعم، قال فتأمر لنا به؟ قلت: نعم، قال: وتعيرنا الفأس؟ قلت: نعم، قال: فأخذ العود ووضعه على رقبته، وأخذ الفأس ومضى، فبينا أنا على ذلك إذا أنا بالباب قد فتح، والحطب يطرح في الباب مكسراً، وألقى الفأس وأغلق الباب ومضى([71]).
وعن بقية قال: كنا مع إبراهيم بن أدهم في البحر، وهبت الريح، وهاجت الأمواج، واضطربت السفينة، وبكى الناس، فقلنا لإبراهيم: يا أبا إسحاق! أما ترى ما الناس فيه؟ قال: فرفع رأسه إبراهيم، وقد أشرف الناس على الهلكة، فقال: يا حي حين لا حي! ويا حي قبل كل حي! ويا حي بعد كل حي! يا حي! يا قيوم! يا محسن! يا مجمل! قد أريتنا قدرتك؛ فأرنا عفوك! قال: فهدأت السفينة من ساعته([72]).
فرحمه الله.