احتساب الإمام أحمد بن حنبل
رحمه الله
(164 – 241 هـ = 780 – 855 م)
اسمه ونسبه ومولده ونشأته:
هو أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد بن إدريس بن عبد الله بن حيان بن عبد الله بن أنس بن عوف بن قاسط بن مازن بن شيبان بن ذهل بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل، الإمام، أبو عبد الله، الشيباني، هكذا نسبه ولده عبد الله، واعتمده أبو بكر الخطيب، وغيره.
وأما قول عباس الدوري وأبي بكر ابن أبي داود: الإمام أحمد كان من بني ذهل بن شيبان، فقطعهما الخطيب، قال: إنما كان من بني شيبان بن ذهل بن ثعلبة، وذهل بن ثعلبة هو عم ذهل بن شيبان بن ثعلبة، فينبغي أن يقال فيه: الذهلي على الإطلاق.
وقد نسبه البخاري فقال: الشيباني الذهلي، وأما ابن ماكولا فقال: مازن بن ذهل بن شيبان بن ذهل بن ثعلبة، ولم يتابع عليه.
وأصله من مرو، وكان أبوه والي سرخس، وولد ببغداد، فنشأ منكبًّا على طلب العلم، وسافر في سبيله أسفارًا كبيرة إلى الكوفة والبصرة، ومكة والمدينة، واليمن والشام، والثغور، والمغرب والجزائر، والعراقين، وفارس، وخراسان، والجبال، والأطراف([1]).
وعن عبد الملك بن عبد الحميد الميموني، قال: ما أعلم أني رأيت أحدا أنظف بدنا، ولا أشد تعاهدا لنفسه في شاربه وشعر رأسه وشعر بدنه، ولا أنقى ثوبا بشدة بياض من أحمد بن حنبل رضي الله عنه.
كان ثيابه بين الثوبين، تسوى ملحفته خمسة عشر درهما، وكان ثوب قميصه يؤخذ بالدينار ونحوه، لم يكن له دقة تنكر، ولا غلظ ينكر، وكان ملحفته مهذبة([2]).
أولاد الإمام أحمد بن حنبل:
أمّا أولاده: فأكبرهم صالح، وكنيته أبو الفضل، ولد سنة ثلاث ومائتين، وروى عن أبيه، وأبي الوليد الطيالسي، وعليّ بن المدينيّ.
وروى عنه ابنه: زهير، والبغويّ، ومحمّد بن مخلد، وولي قضاء أصبهان، وهو من زوجته عبّاسة بنت الفضل، توفّي سنة خمس وستّين ومائتين.
وعبد الله، وكنيته أبو عبد الرحمن، سمع من أبيه، وأكثر عنه، ومن عبد الأعلى بن حمّاد، ويحيى بن معين، ومن أبي بكر بن أبي شيبة، وخلق كثير.
قال الذهبيّ: كان إمامًا خبيرًا بالحديث وعلله، مقدّمًا فيه؛ ولما مرض قال: ادفنوني بالقطيعة، فقيل له: ألا تدفن عند أبيك -يعني: بمقبرة باب حرب-؟ فقال: صحّ عندي أنّ بالقطيعة نبيًّا مدفونًا؛ ولأن أكون في جوار نبيّ أحبّ إليّ من أن أكون في جوار أبي، وكانت وفاته في سنة تسعين ومائتين، وسنّه سبع وسبعون سنة كأبيه.
وللإمام أحمد ولد اسمه سعيد، من سرّيّة يقال لها: حسن، ولي قضاء الكوفة، وله منها ولد اسمه محمّد، وآخر اسمه الحسن، وله منها بنت اسمها زينب، وله منها ولدان توأمان، أحدهما الحسن، والآخر الحسين، وماتا بالقرب من ولادتهما، وله بنت اسمها فاطمة، والله أعلم([3]).
فضله ومكانته، وثناء العلماء عليه:
الإمام أحمد بن حنبل، هو شيخ السنة، الصابر في المحنة، الحبر البحر، المجتهد الورع الزاهد، إمام المذهب الحنبلي، وأحد الأئمة الأربعة، وإمام أهل السنة والجماعة بلا منازع، وإمام في الأثر والاتباع، حتى صار استحقاق الرجل السنة بمحبته، واستحقاقه البدعة والضلال بكراهته.
يقول قتيبة بن سعيد: إذا رأيت الرجل يحب أحمد بن حنبل، فاعلم أنه صاحب سنة وجماعة.
وقال: إذا رأيت الرجل يحب أحمد بن حنبل فاعلم أنه على الطريق([4]).
وقال أبو جعفر محمد بن هارون المخرمي المعروف بالفلاس: إذا رأيت الرجل يقع في أحمد بن حنبل فاعلم أنه مبتدع ضال([5]).
وقال أبو حاتم الرازي: إذا رأيت البغدادي يحب أَحْمَد بْن حَنْبَل فاعلم أنه صاحب سنة([6]).
وقال ابن أبي حاتم عنه: “ومن العلماء الجهابذة النقاد، من الطبقة الثالثة، من أهل بغداد، أبو عبد الله، أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد الشيباني رحمه الله”([7]).
وعن قتيبة بن سعيد قال: أحمد بن حنبل إمام الدنيا([8]).
وقال محمد بن يحيى النيسابوري: إمامنا أحمد بن حنبل([9]).
وقال أبو جعفر النفيلي: كان أحمد بن حنبل من أعلام الدين.
وقال الهيثم بن جميع: إن عاش هذا الفتى -يعني أحمد بن حنبل- سيكون حجة على أهل زمانه([10]).
وقال علي بن المديني: إن الله أيد هذا الدين بأبي بكر الصديق يوم الردة، وبأحمد بن حنبل يوم المحنة.
وقال أبو عبيد: انتهى العلم إلى أربعة، أفقهم أحمد.
وقال ابن معين من طريق عباس عنه: أرادوا أن أكون مثل أحمد، والله لا أكون مثله أبدًا.
قال أبو همام السكوني: ما رأى أحمد بن حنبل مثل نفسه.
وقال أبو ثور: أحمد أعلم -أو قال: أفقه- من الثوري([11]).
وقال الشافعي: خرجت من بغداد، وما خلفت بها أحدًا أتقى، ولا أورع، ولا أفقه، من أحمد بن حنبل([12]).
وقال أبو عُبيد القاسم: ليس في شرق الأرض وغربها مثل أحمد بن حنبل([13]).
وقال عبد الرزاق: ما رأيت أحدًا أفقه، ولا أورع من أحمد بن حنبل، قال الذهبي: قلتُ: قال هذا، وقد رأى مثل الثوري، ومالك، وابن جريج([14]).
وقال عليُّ بن خشرم: سُئِلَ بشر الحافي عن أحمد فقال: مثلي يُسألُ عن أحمد! إنَّما أحمدُ يُسألُ عني، حفظَه الله من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله([15]).
طلبه للعلم، وإمامته فيه:
ابتدأ في طلب العلم وعمره ستّ عشرة سنة، وسافر في طلبه إلى البلاد البعيدة.
قال عبد الرحمن بن مهديّ فيه وهو صغير: لقد كاد هذا الغلام أن يكون إمامًا في بطن أمّه([16]).
قال عنه الذهبي: هو الإمام حقًا، وشيخ الإسلام صدقًا، أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل… أحد الأئمة الأعلام([17]).
وقال عبد الله: رأى رجل مع أَبي مِحْبَرَة، فقال له: يا أَبا عبد الله، أَنت قد بلغت هذا المبلغ، وأَنت إِمامُ المسلمين، فقال: مع المِحبرة إلى المَقْبرة([18]).
شيوخه وتلامذته:
من شيوخه:
هشيم وسفيان بن عيينة، وإبراهيم بن سعد، وجرير بن عبد الحميد، ويحيى القطان، والوليد بن مسلم، وإسماعيل بن علية، وعلي بن هاشم بن البريد، ومعتمر بن سليمان، وعمر بن محمد ابن أخت الثوري، ويحيى بن سليم الطائفي، وغندر، وبشر بن المفضل، وزياد البكائي، وأبو بكر بن عياش، وأبو خالد الأحمر، وعباد بن عباد المهلبي، وعباد بن العوام، وعبد العزيز ابن عبد الصمد العمي، وعمر بن عبيد الطنافسي، والمطلب بن زياد، ويحيى بن أبي زائدة، والقاضي أبو يوسف، ووكيع، وابن نمير، وعبد الرحمن بن مهدي، ويزيد بن هارون، وعبد الرزاق، والشافعي، وخلق.
من روى عنه:
وممن روى عنه البخاري، ومسلم، وأبو داود، وابن بقي بواسطة والبخاري، وداود أيضًا بواسطة، وابناه صالح، وعبد الله، وشيوخه عبد الرزاق، والحسن بن موسى الأشيب، والشافعي في بعض الأماكن التي قال فيها: قال الثقة ولم يسمه، وأقرانه علي بن المديني، ويحيى بن معين، ودحيم الشامي، وأحمد بن أبي الحواري، وأحمد بن صالح المصري، وأبو قدامة، ومحمد بن يحيى الذهلي، وأبو زرعة، وعباس الدوري، وأبو حاتم، وبقي بن مخلد، وإبراهيم الحربي، وأبو بكر الأثرم، وأبو بكر المروذي، وحرب الكرماني، وموسى بن هارون، ومطين، وخلق كثير، آخرهم أبو القاسم البغوي([19]).
قال عبد الله بن أحمد بن حنبل: سمعت أبا زرعة يقول: كان أبوك يحفظ ألف ألف حديث، فقلت له: وما يدريك؟ فقال: ذاكرته، فأخذت عليه الأبواب، وقال حنبل: سمعت أبا عبد الله يقول: حفظت كل شيء سمعته من هشيم، وهشيم حي، وعن أبي زرعة قال: حزر كتب أحمد يوم مات فكانت اثني عشر حملًا، وقال المزني: قال الشافعي: رأيت شابًا إذا قال حدثنا قال الناس كلهم: صدق، قلت: من هو؟ قال: أحمد بن حنبل([20]).
رحلته في طلب العلم:
حجّ أحمد حجّات رافق في بعضها يحيى بن معين، واتّفقا على أنّهما بعد انقضاء الحجّ يمضيان إلى صنعاء اليمن يأخذان الحديث عن عبد الرزّاق، فوجداه في الطواف، فلمّا فرغ اجتمعا عليه، وكان أحمد لا يعرف شخصه، وإنّما يعرفه باسمه، فقال له يحيى بن معين: هذا أخوك أحمد بن حنبل، فقال: حيّاه الله! إنّه ليبلغني عنه كلّ ما أسرّ به ثبّته الله تعالى على ذلك! ثمّ واعد يحيى الشيخ على القراءة، فلمّا انصرفا عنه قال أحمد لابن معين: لم أخذت على الشيخ الموعد؟
فقال له يحيى: قد أراحك الله مسيرة شهر، ورجوع شهر، والنفقة، فقال الإمام أحمد: ما كان الله ليراني وقد نويت نيّة أفسدها بما تقول! ثمّ سافرا إلى صنعاء اليمن، وأخذا عنه بها ([21]).
اتباعه للسنة في الشدة والرخاء:
كان الإمام أحمد رحمه الله لا يغفل العمل بالسنة حتى في مواطن الشدة.
قال الفتح بْن شخرف: قال لي إبراهيم بن هانئ النيسابوري: اختفى عندي أَحْمَد بن حنبل ثلاث ليال، ثم قَالَ: اطلب لي موضعًا حتى أدور، قلت: لا آمن عليك يا أبا عبد اللَّه، فقال لي: النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اختفى فِي الغار ثلاثة أيام ثم دار، وليس ينبغي أن نتبع سنة رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الرخاء، ونتركها فِي الشدة، قَالَ الفتح: فحدثت به صالحًا وعبد اللَّه فقالا: لم نسمع هذه الحكاية إلا منك، وحدثت بها إِسْحَاق بن إبراهيم بن هانئ، فقال: ما حَدَّثَنِي أبي بها([22]).
وصحّ عن الإمام أحمد أنّه قال: ما كتبت حديثًا إلّا وقد عملت به، حتّى مرّ بي أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم احتجم وأعطى أبا طيبة الحجّام دينارًا، فاحتجمت وأعطيت الحجّام دينارًا([23]).
محنته بفتنة القول بخلق القرآن:
في أيامه دعا المأمون إلى القول بخلق القرآن، ومات قبل أن يناظر ابن حنبل، وتولى المعتصم فسجن ابن حنبل ثمانية وعشرين شهرًا لامتناعه عن القول بخلق القرآن، وأطلق سنة 220 هـ ولم يصبه شرّ في زمن الواثق باللَّه -بعد المعتصم- ولما توفي الواثق وولي أخوه المتوكل ابن المعتصم أكرم الإمام ابن حنبل وقدّمه، ومكث مدة لا يولي أحدًا إلّا بمشورته.
وهي فتنة عظيمة، تواترت عند المؤرخين، اُبتلي فيها أحمد بالسجن، والضرب، والإيذاء، والمساومة على الرجوع عن الحق، والإجابة للقول بأن القرآن مخلوق، فأبى رحمه الله.
قال الذهبي: العجب من أبي القاسم علي بن الحسن الحافظ، كيف ذكر ترجمة أحمد مطولة كعوائده، ولكن ما أورد من أمر المحنة كلمة، مع صحة أسانيدها، فإن حنبلًا ألفها في جزأين، وكذلك صالح بن أحمد، وجماعة([24]).
ومما ورد فيها:
قال البخاري: لمّا امتحن أحمد بن حنبل كنت بالبصرة، فسمعت أبا الوليد الطيالسيّ يقول: لو كان الذي نزل بأحمد في بني إسرائيل لكان أحدوثة([25]).
وقال ابن مصعب: ما رأيت أحدًا لم يداخل السلطان، ولا خالط الملوك أثبت قلبًا من أحمد يومئذٍ، ما نحن في عينه إلا كأمثال الذباب، وكان عند دار الخليفة خلق من الناس لا يحصي عددهم إلا الله، بأيديهم الصحف والأقلام والمحابر في أذرعتهم، يكتبون ما يقول في المناظرة، فأخبره المروذي، فقال أحمد بن حنبل: هؤلاء كلهم! والله لأقتلن نفسي ولا أضل هؤلاء.
فانظر إلى هذا الإِمام، فلقد هانت عليه نفسه في الله فبذلها، وشدةُ ابتلائه دليلٌ على قوة دينه([26]).
وقال ابن عساكر: قال الحسن بن الربيع: ما شبهتُ أحمد إلَّا بابن المبارك في هيئته وسمته وزهده، ولولا أحمد بن حنبل لأحدثُوا في الدين، فقال قتيبة بن سعيد: لو أدرك أحمد عصر الثوري ومالك والليث والأوزاعي لكان هو المقدَّمَ عليهم، قال: وأحمد إمامُ الدنيا، ولولاه لمات الورع، وما أعظم منَّة أحمد على جميعِ المسلمين، إنَّ أحمد قام في هذا الأمر مقام النبوة([27]).
قال: وسُئِلَ بشرُ بن الحارث عن أحمد بن حنبل فقال: أُدخِلَ الكيرَ، فخرجَ ذهبًا أحمر، وكان يدعو له([28]).
وقال أحمد في رواية حنبل: قد كنا نأمر بالسكوت، فلما دُعينا إلى أمرٍ ما كان بدٌ لنا أن ندفع ذلك ونبيِّن من أمره ما ينفي عنه ما قالوه([29]).
وقال عبد الله ابن الإمام أحمد: كنت كثيرًا ما أسمع والدي يقول: رحم الله أبا الهيثم، غفر الله لأبي الهيثم، عفا الله عن أبي الهيثم! فقلت له: يا أبه، من أبو الهيثم؟ قال: ألا تعرفه؟ قلت: لا، قال: لمّا أخرجت إلى السياط ومدّت يداي للعقابين، إذا أنا بإنسان يجذب ثوبي من ورائي ويقول لي: أتعرفني؟ قلت: لا، قال: أنا أبو الهيثم العيّار اللصّ الطرّار، مكتوب في ديوان أمير المؤمنين أنّي ضُربت ثمانية عشر ألف سوط بالتفاريق، وإنّما صبرت في ذلك على طاعة الشيطان لأجل الدنيا، فاصبر أنت في طاعة الرحمن لأجل الدين([30]).
وقال أبو عبد الله: ثمّ أدخلت على إسحاق فقال لي: لو أجبت أمير المؤمنين إلى ما دعاك إليه؟ فكلّمته بكلام قويّ. فقال: يا أحمد إنّي عليك مشفق، وقد آلى أمير المؤمنين إن لم تجبه ليقتلنّك. فقلت له: ما عندي في هذا الأمر إلّا الأوّل([31]).
وقال المروزيّ: سمعت أبا عبد الله يقول: إنّي لأتمنّى الموت صباحًا ومساء، أخاف إن أحيا، أن أفتن بالدنيا، لقد تفكّرت البارحة فقلت: هذه محنتان: إحداهما بالدين وكنت في السجن، وذاك عندي زيادة في إيماني، وهذه محنة بالدنيا وهي فتنة فيه -أي في الدين-([32]).
سيرته الاحتسابية
كان للإمام أحمد بن حنبل رحمه الله سيرة احتسابية حافلة بالمواقف الاحتسابية التي تدل على أنه كان مدرسة في الحسبة والاحتساب يُقتدى بها، ومن تلك المواقف:
1- إنكاره على السَّجان:
قال المروذي: لما حبس الإمام أحمد رحمه الله قال له السجان:
يا أبا عبد الله الحديث الذي يروى في الظلمة وأعوانهم صحيح؟
قال: نعم.
فقال: فأنا منهم؟
قال أحمد: أعوانهم من يأخذ شعرك، ويغسل ثوبك، ويصلح طعامك، ويبيع ويشتري منك، فأما أنت فمن أنفسهم([33]).
2- إنكاره على الجن:
قال القاضي أبو الحسن بن القاضي أبي يعلى ابن الفراء الحنبلي في كتاب طبقات أصحاب الإمام أحمد:
سمعت أحمد بن عبيد الله قال: سمعت أبا الحسن علي بن أحمد بن علي العكبري قدم علينا من عكبرا في ذي القعدة سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائة، قال: حدثني أبي عن جدي، قال: كنت في مسجد أبي عبد الله أحمد بن حنبل، فأنفذ إليه المتوكل صاحبًا له يعلمه أن له جارية بها صرع، وسأله أن يدعو الله لها بالعافية، فأخرج له أحمد نعلي خشب بشراك من خوص للوضوء، فدفعه إلى صاحب له، وقال له: امض إلى دار أمير المؤمنين، وتجلس عند رأس هذه الجارية، وتقول له -يعني الجني-: قال لك أحمد: أيما أحب إليك تخرج من هذه الجارية، أو تصفع بهذه النعل سبعين، فمضى إليه، وقال له مثل ما قال الإمام أحمد، فقال له المارد على لسان الجارية: السمع والطاعة، لو أمرنا أحمد أن لا نقيم بالعراق ما أقمنا به، إنه أطاع الله ومن أطاع الله أطاعه كل شيء، وخرج من الجارية، وهدأت، ورزقت أولادًا، فلما مات أحمد عاودها المارد، فأنفذ المتوكل إلى صاحبه أبي بكر المروزي، وعرفه الحال، فأخذ المروزي النعل ومضى إلى الجارية، فكلمه العفريت على لسانها: لا أخرج من هذه الجارية، ولا أطيعك، ولا أقبل منك، أحمد بن حنبل أطاع الله، فأمرنا بطاعته([34]).
3- إنكاره على عمه مساومته له الرجوع عن الحق:
قال إسحاق بن حنبل عمّ الإمام: لقد كنت أتكلّم مع أصحاب السلطان والقوّاد في خلاص أبي عبد الله، فلم يتمّ لي أمر، فاستأذنت على إسحاق بن إبراهيم، فدخلت إليه، وكلّمته، فقال لحاجبه: اذهب معه إلى ابن أخيه، ولا يكلّم ابن أخيه بشيء إلّا أخبرتني به، قال إسحاق: فدخلت على أبي عبد الله، ومعي حاجبه، فقلت: يا أبا عبد الله، قد أجاب أصحابك، وقد أعذرت فيما بينك وبين الله، وبقيت أنت في الحبس والضيق.
فقال أبو عبد الله: يا عمّ، إذا أجاب العالم تقيّة، والجاهل يجهل، متى يتبيّن الحقّ؟
قال: فأمسكت عنه.
قال: فذكر أبو عبد الله ما روي في التقيّة من الأحاديث، فقال: كيف تصنعون بحديث خبّاب: “إنّ من كان قبلكم ينشر أحدهم بالمنشار، ثمّ لا يصدّه ذلك عن دينه”.
قال: فيئسنا منه، ثمّ قال: لست أبالي بالحبس، ما هو ومنزلي إلّا واحد، ولا قتلًا بالسيف، إنّما أخاف فتنة بالسوط، وأخاف أن لا أصبر، فسمعه بعض أهل الحبس، وهو يقول ذلك، فقال: لا عليك يا أبا عبد الله ما هو إلّا سوطان، ثمّ لا تدري أين يقع الباقي؟ فلمّا سمع ذلك سرّي عنه([35]).
4- إنكاره على الكرابيسي:
قال أبو طالب: أُخبرت عن الكرابيسي أنه ذكر: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] فقال: لو كان أكمل لنا ديننا ما كان هذا الاختلاف.
فقال أحمد بن حنبل: هذا الكفر صراحًا([36]).
5- إنكاره على القول بخلق القرآن:
أنكر الإمام أحمد بن حنبل على من قال: بخلق القرآن، وحلف أن لا يكلم أحدًا ممن أجاب في المحنة، حتى يلقى الله -عز وجل-، وكره الكتابة عنهم.
قال عبد الله: سمعت أبي رحمه الله يقول: “من قال: القرآن مخلوق فهو عندنا كافر؛ لأن القرآن من علم الله عز وجل، وفيه أسماء الله عز وجل”.
وقال: سمعت أبي رحمه الله يقول: “إذا قال الرجل: العلم مخلوق فهو كافر؛ لأنه يزعم أنه لم يكن له علم حتى خلقه”([37]).
6- إنكاره على النظر في الرأي:
عن محمد بن الهيثم قال: سمعت محمد بن فزارة الرازي قال: قلت لأحمد بن حنبل: إني كتبت الحديث، وأكثرت منه، فلا بد لي من النظر في الرأي، فقال أحمد بن حنبل: لا تفعل، فقلت: لا بد أكتب رأي الأوزاعي، أو رأي الثوري، أو رأي مالك، قال: إن كنت لا بد كاتبًا للرأي، فاكتب رأي الشافعي، وعليك بالبويطي، فاسمعه منه، فإن فاتك، فأبو الوليد بن أبي الجارود بمكة([38]).
7- إنكاره على أبي شعيب الحجّام:
قال أبو عبد الله: كان إسحاق يوجّه إليّ برجلين يناظراني يقال لأحدهما: أحمد بن رباح، والآخر أبو شعيب الحجّام، فلا يزالان يناطراني، فإذا أرادا الانصراف دعوا بقيد، حتّى صار في رجلي سبعة أقياد، قال: ودار بيني وبين الحجّام كلام فقلت له: ويحك، بعد طلبك العلم والحديث صرت إلى هذا الأمر؟ وسألته عن علم الله فقال: مخلوق.
فقلت: كفرت بالله العظيم! فقال لي رجل معه: هذا رسول أمير المؤمنين، فقلت له: هذا كفر بالله العظيم، ثمّ قلت لصاحبه ابن رباح: هذا زعم أنّ علم الله مخلوق فكفر، فنظر إليه، وأنكر عليه مقالته، ثمّ انصرفا، فقال الحجّام: ما رأيت لهذا نظيرا: عجبت من هذا الذي هو فيه، وهو يعظني، ويوبّخني([39]).
8- إنكاره على الخليفة المعتصم:
لقد دار بين الإمام أحمد والمعتصم مناقشات وحوارات، منها:
قال أحمد: فأخذت وسحبت وخلعت وجيء بالعقابين والسياط، وأنا أنظر، وكان معي شعر من شعر النبي صلى الله عليه وسلم مصرور في ثوبي، فجردوني منه، وصرت بين العقابين، فقلت: يا أمير المؤمنين، الله الله، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله إلا بإحدى ثلاث…» وتلوت الحديث، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم» فبم تستحل دمي، ولم آت شيئًا من هذا، يا أمير المؤمنين اذكر وقوفك بين يدي الله كوقوفي بين يديك، فكأنه أمسك، ثم لم يزالوا يقولون له: يا أمير المؤمنين، إنه ضال مضل كافر، فأمر بي فأقمت بين العقابين، وجيء بكرسي فأقمت عليه، وأمرني بعضهم أن آخذ بيدي بأي الخشبتين فلم أفهم، فتخلعت يداي، وجيء بالضرابين، ومعهم السياط فجعل أحدهم يضربني سوطين، ويقول له -يعني المعتصم-: شد، قطع الله يدك! ويجيء الآخر فيضربني سوطين، ثم الآخر كذلك، فضربوني أسواطًا فأغمي علي، وذهب عقلي مرارًا، فإذا سكن الضرب يعود إلي عقلي، وقام المعتصم إلي يدعوني إلى قولهم فلم أجبه، وجعلوا يقولون: ويحك، الخليفة على رأسك، فلم أقبل، فأعادوا الضرب، ثم عاد إلي فلم أجبه، فأعادوا الضرب، ثم جاء إلي الثالثة، فدعاني فلم أعقل ما قال من شدة الضرب، ثم أعادوا الضرب فذهب عقلي فلم أحس بالضرب، وأرعبه ذلك من أمري، وأمر بي فأطلقت، ولم أشعر إلا وأنا في حجرة من بيت، وقد أطلقت الأقياد من رجلي، وكان ذلك في اليوم الخامس والعشرين من رمضان من سنة إحدى وعشرين ومائتين، ثم أمر الخليفة بإطلاقه إلى أهله، وكان جملة ما ضرب نيفًا وثلاثين سوطًا، وقيل: ثمانين سوطًا لكن كان ضربًا مبرحًا شديدًا جدًا([40]).
10- ترْكه الأمر والنهي على السفهاء:
قال الخلال: أخبرني أحمد بن محمد بن مطر، قال: حدَّثني عباس العنبري، قال: كنتُ مارًا مع أبي عبد الله بالبصرة، قال: فسمعتُ رجلًا، يقول لرجل: يا ابن الزاني، فقال له الآخر: يا ابن الزاني، قال: فوقفتُ، ومضى أبو عبد الله، فالتفتَ إليَّ، فقال لي: يا أبا الفضل، امشِ، قال: فقلتُ: قد سمعنا، قد وجب علينا، قال: امضِ ليس هذا من ذلك([41]).
وترجم عليه الخلال: باب ما يوسع على الرجل في ترك الأمر والنهي إذا رأى قومًا سفهاء([42]).
11- إنكاره على إسحاق بن إبراهيم بن هانئ:
قال ابن الجوزي: وقد روى إسحاق بن إبراهيم بن هانئ قال: دخلتُ يومًا على أبي عبد الله أحمد بن حنبل، وعليَّ قميصٌ أسفل من الركبة، وفوق الساق، فقال: أي شيء هذا؟ وأنكره، وقال: هذا بالمرة لا ينبغي([43]).
12- إنكاره على من يسئ في صلاته:
قال الخلال: أخبرني محمد بن أبي هارون أنَّ إسحاق بن إبراهيم حدَّثهم، قال: صلينا يومًا -يعني هو وأبو عبد الله- إلى جنب رجل لا يتم الركوع ولا السجود، فقال: يا هذا، أقم صلبك في الركوع والسجود، وأحسن صلاتك([44]).
13- إنكاره على القراءة بالألحان:
قال الخلال: أخبرنا الحسن بن جحدر، قال: حدثنا عبد الله بن يزيد العنبري، قال: سمعتُ رجلًا سأل أحمد بن حنبل، فقال: ما تقول في القراءة بالألحان؟ فقال له أبو عبد الله: ما اسمك؟ قال: محمد، قال: “فيسرك أن يقال: يا موحمد([45]).
14- إنكاره على الضرب بالطبل:
قال الخلال: أخبرني محمد بن أبي هارون أنَّ مثنى الأنباري حدَّثهم، قال: سمع أحمد بن حنبل حس طبل في جواره، فقام إليهم من مجلسنا، حتى أرسل إليهم فنهاهم([46]).
15- إنكاره على غلام:
قال الخلال: أخبرني الحسن بن علي بن عمر المصيصي، قال: سمعتُ عمر بن الحسين يقول: كسر أحمد بن حنبل طنبورًا في يد غلام لأبي عبد الله بن نصر بن حمزة، قال: فذهب الغلام إلى مولاه، فقال له: كسر أحمد بن حنبل الطنبور، فقال له مولاه: فقلتَ له: إنَّك غلامي؟ قال: لا، فقال له: فاذهب، فأنت حر لوجه الله تعالى([47]).
16- إنكاره على آلات اللهو:
قال الخلال: أخبرني عمر بن صالح، بطرسوس قال: رأيتُ أحمد بن حنبل مرَّ به عود مكشوف، فقام فكسره([48]).
17- إنكاره على التبرك المذموم:
روى الخلَّالُ في أخلاق أحمد عن عليِّ بن عبد الصَّمد الطَّيالسيِّ، قال: مسحتُ يدي على أحمد بن حنبلٍ، ثم مسحتُ يدي على بدني، وهو ينظرُ، فغضِبَ غضبًا شديدًا، وجعَلَ ينفضُ يدهُ، ويقول: عمن أخذتم هذا؟ وأنكره إنكارًا شديدًا([49]).
18- إنكاره على ابن معين:
بعثَ أحمدُ بن حنبل إلى ابن معين يقول له: قد بلغني أنَّ ابنَ عُلَيَّة يكرهُ أن يقال له: ابن عُلَيَّة، وأنت تقوله، فقال لرسوله: أقرئه منِّي السلام، وقل له: قبلنا منكَ يا معلِّم الخير([50]).
19- إنكاره على من ينسب الشافعي إلى التشيع:
ومما حُكيَ عن أبي داود السجستاني أن أحمد بن حنبل أُخبِر أن يحيى بن معين ينسب الشافعي إلى التشيع، فقال له أحمد: تقول هذا لإمام من أئمة المسلمين؟
فقال يحيى: إني نظرت في كتابه في قتال أهل البغي، فإذا قد احتج من أوله إلى آخره بعلي بن أبي طالب.
فقال أحمد بن حنبل: عجبًا لك! فبمن كان يحتج الشافعي في قتال أهل البغي، وأول من ابتلي من هذه الأمة بقتال أهل البغي علي بن أبي طالب؟ وهو الذي سنَّ قتالهم وأحكامهم، ليس عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن الخلفاء وغيره فيه سنة، فبمن كان يَسْتَنُّ؟! فخجل يحيى من ذلك([51]).
20- إنكاره على أبي يعقوب ابن شيبة:
ولما أظهر أبو يعقوب ابن شيبة الوقف([52]) حذّر أبو عبد الله أحمد عنه، وأمر بهجرانه لمن كلمه([53]).
21- إنكاره على يحيى بن معين:
وقال أبو بكر الأثرم: رأى أحمد بن حنبل يحيى بن معين بصنعاء في زاوية وهو يكتب صحيفة معمر عن أبان عن أنس، فإذا اطلع عليه إنسان كتمه، فقال له أحمد: تكتب صحيفة معمر عن أبان عن أنس وتعلم أنها موضوعة؟ فلو قال لك قائل: أنت تتكلم في أبان، ثم تكتب حديثه على الوجه؟ فقال: رحمك الله يا أبا عبد الله أكتب هذه الصحيفة عن عبد الرزاق عن معمر على الوجه، فأحفظها كلها، وأعلم أنها موضوعة حتى لا يجيء إنسان بعده، فيجعل أبان ثابتًا، ويرويها عن معمر، عن ثابت، عن أنس، فأقول له: كذبت إنما هو عن معمر، عن أبان لا عن ثابت([54]).
22- إنكاره على نفاة الصفات:
ولما أراد المأمون امتحان الإمام أحمد رحمه الله وثلاثة ممن معه في مسألة الصفات وخلق القرآن؛ أرسل كتابًا لصاحب شرطة بغداد إسحاق بن إبراهيم، قال المقريزي: قال الإمام أحمد: وكان في الكتاب: اقرأ عليهم {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] فقرأ عليّ إسحاق: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} فقلت: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] فقال لي إسحاق: ما أردت بهذا؟ قلت: قرأت كلام الله وذكرت ما وصف به نفسه سبحانه وتعالى ولم أزد في كتابه شيئًا. فانظر كيف فتح الله على الإمام أحمد بإقامة حجّته في إثبات الصفات من الآية التي احتجّوا عليه بها، فكان الذي استدلّوا به دليلًا له لا عليه رضي الله عنه([55]).
23- إنكاره على رجاء الحضاريّ:
ورد قاصد المأمون وهو رجاء الحضاريّ، فقال: أين هؤلاء الأشقياء؟ فقال له أحمد: يا عدوّ الله تقول: القرآن مخلوق ونكون نحن الأشقياء؟!
قال: فأنزلنا من المحامل، وصيّرنا في خيمة، فخرج إلينا خادم وهو يمسح عن وجهه بكمّه ويقول: عزّ عليّ يا أبا عبد الله، لقد جرّد أمير المؤمنين سيفًا لم يجرّده قطّ، وبسط نطعًا لم يبسطه قطّ، ثمّ قال: وقرابتي من رسول الله صلّى الله عليه وسلم لا رفعت عن أحمد وصاحبه حتّى يقولا: القرآن مخلوق، قال: فنظرت إلى أحمد وقد برك على ركبتيه ولحظ السماء بعينه، ثمّ قال: علا عن هذا الفاجر حكمك حتّى يتجرّأ على أوليائك بالضرب والقتل! اللهمّ فإن يكن القرآن كلامك غير مخلوق فاكفنا مؤنته! قال: فو الله ما مضى الثلث الأوّل من الليل إلّا ونحن بصيحة وضجّة، وإذا برجاء الحضاريّ قد أقبل علينا فقال: صدقت يا أبا عبد الله: القرآن كلام الله غير مخلوق، وقد مات والله أمير المؤمنين([56]).
آراؤه واجتهاداته الاحتسابية
كان الإمام أحمد رحمه الله مدرسة في باب الحسبة والاحتساب، فله الكثير من الآراء والاجتهادات في هذا الباب، نشير إلى طرف منها دون تعليق، ولا تصنيف:
1- قال رضي الله عنه: لا يُتعَرَّض للسُّلطانِ، فإنَّ سيفه مسلول وعصاه([57]).
2- وقال: الناس يحتاجون إلى مداراة ورفق في الأمر بالمعروف، بلا غلظة، إلا رجلًا مباينًا، معلنًا بالفسق والردى، فيجب عليك نهيه وإعلامه؛ لأنَّه يقال: ليس لفاسق حرمة، فهذا لا حرمة له([58]).
3- وقال رحمه الله في رواية الجماعة: إذا أمرت أو نهيت فلم ينته فلا ترفعه إلى السلطان لتعدي عليه، فقد نهي عن ذلك إذا آل إلى مفسدة([59]).
4- وقال أيضًا: من شرطه -أي القيام بالأمر والنهي- أن يأمن على نفسه وماله خوف التلف([60]).
5- وقال: يأمر بالرفق والخضوع، فإن أسمعوه ما يكره، لا يغضب، فيكون يريد ينتصر لنفسه([61]).
6- وقال رحمه الله: ليس على المسلم نصح الذّمّيّ، وعليه نصح المسلم([62]).
7- قال حنبلٌ: اجتمع فقهاءُ بغداد في ولاية الواثق إلى أبي عبد الله وقالوا له: إنَّ الأمر قد تفاقمَ وفشا، يَعنون إظهار القول بخلق القرآن وغير ذلك، ولا نرضى بإمرته ولا سلطانه، فناظرهم في ذلك، وقال: عليكم بالإنكار بقلوبكم، ولا تخلعوا يدًا من طاعة، ولا تَشُقُّوا عصا المسلمين، ولا تسفكوا دماءَكم ودماء المسلمين معكم، وانظروا في عاقبة أمركم، واصبروا حتى يَسْتَرِيح بَرٌّ، أو يُسْتَرَاح مِن فاجر، وقال: ليس هذا صواب، هذا خلاف الآثار([63]).
8- وقال المروذيُّ: سمعتُ أبا عبد الله يأمر بكفِّ الدماء، ويُنكِر الخروج إنكارًا شديدًا([64]).
9- وقال ابن القيم: وقال إسحاق بن إبراهيم: سُئل أحمد عن الرجل يرى الطنبور أو طبلًا مغطَّى: أيكسره؟ قال إذا تبيَّن أنَّه طنبور أو طبل كسره([65]). يعني: إذا تبيَّن من خلف الغطاء أنَّه طنبور، وإلا فلا.
10- وقال الخلال: أخبرني منصور بن الوليد أنَّ جعفر بن محمد النسائي حدَّثهم قال: سمعتُ أبا عبد الله سُئل عن الرجل يمر بالقوم يغنون؟ قال: إذا ظهر له، هم داخل، قلتُ: لكن الصوت يسمع في الطريق؟ قال: هذا قد ظهر، عليه أنْ ينهاهم، ورأى أن ينكر الطبل، يعني: إذا سمع حسه([66]).
11- وعن يوسف بن موسى أنَّ أبا عبد الله سُئل عن الرجل يسمع صوت الطبل والمزمار، ولا يُعرف مكانه. فقال: وما عليه إذا لم يُعرف مكانه؟([67]).
12- وعن عبد الكريم بن الهيثم العاقولي، قال: سمعتُ أبا عبد الله سُئل عن الرجل يسمع حس الطبل والمزمار، ولا يعرف مكانه؟ فقال: وما عليك؟ وقال: ما غاب فلا تفتش عليه([68]).
13- وعن أحمد بن الحسين أنَّ أبا عبد الله سُئل عن الرجل يرى القنينة يرى أنَّ فيها مسكرًا؟ قال: دعه. يعني: لا تفتشه([69]).
14- وقال ابن مفلح: نصَّ أحمد فيمن رأى إناء يرى أنَّ فيه مسكرًا: أنَّه يدعه، يعني: أنَّه لا يُفتشه([70])، وترجم عليه الخلال: باب ما يُكره أن يُفتش عنه إذا استراب به ([71]).
15- وسُئل -رحمه الله-: عن الآمر بالمعروف والنّاهي عن المنكر كيف ينبغي أنْ يأمر؟ قال: يأمر بالرّفق والخضوع، ثمّ قال: إنْ أسمعوه ما يكره لا يغضب، فيكون يريد ينتصر لنفسه([72]).
16- وقال الخلال: أخبرني محمد بن علي، قال: حدثنا مهنا، قال: سألتُ أحمد: عن الأمر بالمعروف يستقيم باليد يكون ضرب باليد إذا أمر بالمعروف؟ قال: الرفق([73]).
17- وقال الخلال: حدثنا أبو داود، قال: حدثنا أحمد بن حنبل، حدثنا معتمر، قال: سمعتُ أبي يقول: ما أغضبتَ رجلًا فَقَبِلَ منك([74]).
18- وقال أبو داود: سمعتُ أحمد سُئل عن رجلٍ له جارٌ يعملُ بالمنكر لا يقوَى يُنكِر عليه، وضعيفٌ يعملُ بالمنكر أيضًا يقوى يُنكِر عليه، قال: نعم، ينكر على هذا الذي يقوى أنْ يُنكر عليه([75]).
19- وأورد أبو بكر الخلال عن المروذي، أنّه شكا إلى أحمد بن حنبل جارًا لهم يؤذيهم بالمنكر، فقال: مره بينك وبينه، قلتُ: تقدمتُ إليه مرارًا، كأنَّه يضحك، قال: وأي شيء عليك، إنما هو يضحك على نفسه، أنكر بقلبك، ودعه، فقلتُ لأبي عبد الله: فمن كان له جار يسمع منه المنكر؟ قال: يغيره مرة، ومرتين، وثلاثة، فإن قَبِلَ وإلا ترك، قلتُ: فإن كان سمعه؟ قال: وأي شيء تقدر أنْ تصنع، أنكر بقلبك ودعه([76]).
20- وروى الخلال قال: أخبرني محمد بن علي الوراق، أنَّ محمد بن أبي حرب حدَّثهم قال: سألتُ أبا عبد الله عن الرجل يسمع المنكر في دار بعض جيرانه؟ قال: يأمره، قلتُ: فإن لم يقبل؟ قال: تجمع عليه الجيران، وتهول عليه([77]).
21- وقيل لأحمد: مررنا بقوم وقد أشرفوا من علية لهم، وهم يغنون، فجئنا إلى صاحب الخبر فأخبرناه؟ فقال: لم تكلموا في الموضع الذي سمعتم؟ فقيل: لا، قال: كان يعجبني أنْ تكلموا، لعل الناس كانوا يجتمعون، وكانوا يشهرون([78]).
22- قال ابن مفلح: وقال أيضًا -أي أحمد-: مِن شرْطهِ -أي القيام بالأمر والنهي- أنْ يأمن على نفسه وماله خوف التَّلف، وكذا قاله جمهور العلماء([79]).
23- وأورد أبو بكر الخلال: أنَّ أبا عبد الله قال له رجلٌ: لي جارٌ يشرب ويعتدي، ترى لي أن أنهاه عن ذلك؟ قال: ما أحسن ما تفعل! قال له الرجل: فإن لم أفعل؟ قال: تخافه؟ قال: نعم، قال: أنكر بقلبك، وليعلم الله ذلك منك([80]).
24- وقال الخلال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم أنَّه سأل أبا عبد الله قال: قلتُ: رجل تكلَّم بكلامٍ سوء يجب عليَّ فيه أنْ أغيره في ذلك الوقت، فلا أقدر على تغييره، وليس لي أعوان يعينونني عليه؟ قال: إذا علم الله من قلبك أنَّك منكر لذلك فأرجو أنْ لا يكون عليك شيءٌ([81]).
25- وأورد الخلال: عن إسحاق بن إبراهيم أنَّه قال لأبي عبد الله: متى يجب عليَّ الأمر؟ قال: إذا لم تخف سيفًا ولا عصى([82]). وعن إسماعيل بن سعيد، قال: سألتُ أحمد عمن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند من لا يخاف سيفه ولا سوطه؟ قال: إذا استطاع فليغير فلا يسعه غيره([83]).
26- وعن إسحاق بن راهويه أنَّ أبا عبد الله سُئل: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واجب على المسلم؟ قال: نعم، قال: فإن خشي؟ قال: هو واجب عليه حتى يخاف، فإذا خشي على نفسه فلا يفعل([84]).
27- وروى الخلال عن محمد بن يحيى الكحال، أنَّه قال لأبي عبد الله: يكون لنا الجار يضرب بالطنبور والطبل؟ قال: انهه، قلتُ: أذهبُ به إلى السلطان؟ قال: لا، قلتُ: فلم ينته، يجزئني نهيي له؟ قال: نعم، إنما يكفيك أنْ تنهاه([85]).
28- وقال الخلال: عن زكريا بن يحيى الناقد، أنَّ أبا طالب حدَّثهم: سُئل أبو عبد الله: إذا أمرتُ بالمعروف فلم ينته ما أصنع؟ قال: دعه، قد أمرته، وقد أنكرتَ عليه بلسانك وجوارحك، لا تخرج إلى غيره، ولا ترفعه للسلطان يتعدَّى عليه([86]).
29- وعن عبد الله بن الطيب قال: كان لي جارٌ يُؤذيني، يضرب الطنابير والعيدان، فأتيتُ أحمد بن حنبل، فقال لي: انهه، فقلتُ: قد نهيته، فعاد، فقال: هذا عليك. فقلتُ: السلطان؟ قال: لا إنما عليك أنْ تنهاه([87]).
30- وقال ابن مفلح: قال أحمد -رحمه الله- في رواية الجماعة: إذا أمرتَ أو نهيتَ فلم ينته فلا ترفعه إلى السُّلطان لِتُعَدِّيَ عليه، فقد نُهي عن ذلك إذا آل إلى مفسدةٍ([88]).
31- وقال الخلال: عن أحمد بن نصر أبا حامد حدَّثهم أنَّ أبا عبد الله سُئل عن الرجل يُرى منه الفسق والدعارة، ويُنهى فلا ينتهي، يرفعه إلى السلطان؟ قال: إن علمتَ أنَّه يقيم عليه الحد فارفعه([89]).
32- وقال أحمد: كان لنا جارٌ فرُفع إلى السلطان، كان قد تأذَّى منه جيرانه فرفعوه، فضربوه مائتي دِرَّة، فمات([90]).
33- وقال الخلال: أخبرني أبو بكر المروذي، قال: قلتُ لأبي عبد الله: يُستعان على من يعمل بالمنكر بالسلطان؟ قال: لا، يأخذون منه الشيء ويستتيبونه -أي ويطلقونه-، ثم قال: جارٌ لنا حُبس ذلك الرجل، فمات في السجن([91]).
ويُفهم من هذا وسابقه أنه كان لا يحبذ الرفع إلى السلطان خشية أن يقع على المسيء من العقوبة فوق ما يستحق.
34- قال ابن مفلح: وظاهر كلام أحمد والأصحاب وجوب النصح للمسلم، وإنْ لم يسأله ذلك، كما هو ظاهر الأخبار([92]).
35- وقال الخلال: حدثنا أبو بكر المروذي، قال: قلتُ لأبي عبد الله: كيف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ قال: باليد، واللسان، وبالقلب، وهو أضعف الإيمان، قلتُ: كيف باليد؟ قال: تفرِّق بينهم([93]).
36- وعن محمد بن علي قال: حدثنا صالح أنَّ أباه -أي الإمام أحمد- قال: التغيير باليد ليس بالسيف والسلاح([94]).
37- قال الخلال: أخبرني محمد بن أبي هارون ومحمد بن جعفر أنَّ أبا الحارث حدَّثهم قال: سألتُ أبا عبد الله قلتُ: الرجل يأمر بالمعروف فلا يُقبل منه، فترى له إذا رأى منكرًا وهو يعلم أنَّه لا يُقبل منه أنْ يسكت ولا يتكلم؟ قال: إذا رأى المنكر فليغير بما أمكنه(([95].
38- قال ابن مفلح: قال أحمد في رواية يوسف بن موسى: يأمر أبويه بالمعروف، وينهاهما عن المنكر، وقال في رواية حنبل: إذا رأى أباه على أمر يكرهه يعلمه بغير عنف، ولا إساءة، ولا يغلظ له في الكلام، وإلا تركه، وليس الأب كالأجنبي، وقال في رواية يعقوب بن يوسف: إذا كان أبواه يبيعان الخمر لم يأكل من طعامهم، وخرج عنهم.
وقال في رواية إبراهيم بن هانئ: إذا كان له أبوان لهما كرم يعصران عنبه، ويجعلانه خمرًا يسقونه، يأمرهم وينهاهم، فإن لم يقبلوا خرج من عندهم، ولا يأوي معهم، ذكره أبو بكر في زاد المسافر، وذكر المروذي: أنَّ رجلًا من أهل حمص سأل أبا عبد الله أن أباه له كروم يريد أن يعاونه على بيعها، قال: إنْ علمتَ أنَّه يبيعها ممن يعصرها خمرًا فلا تعاونه([96]).
39- وقال الخلال: حدثنا محمد بن علي، حدثنا مهنا، قال: قلتُ لأحمد: دخلتُ على رجل في منزله، فدخل البيت وتركني، فإذا قنينة إلى جانبي، فكشفتُ عنها، فإذا فيها نبيذ، فكرهتُ أن أقول له، فقال أحمد: كان ينبغي لك أن تلقي فيها ملحًا إن استطعتَ، أو شيئًا يفسده([97]).
40- وقال الخلال: أخبرنا أبو بكر المروذي، قال: قلتُ لأبي عبد الله: أمر في السوق فأرى الطبول تباع، أفأكسرها؟ قال: ما أراك تقوى، إن قويتَ. قلتُ: أُدعى أغسل ميتًا، فأسمع صوت طبل؟ قال: إنْ قدرتَ على كسره فاكسره، وإلا فاخرج([98]).
41- وقال الخلال: أخبرني محمد بن أبي هارون، أنَّ أبا إسحاق حدَّثهم، أنَّ أبا عبد الله سُئل عن القوم يكون معهم المنكر مُغطَّى مثل طنبور ومسكر وأشباهه، يكسره إن رآه؟ قال: إذا كان غير مُغطَّى، مثل طنبور ومسكر وأشباهه، يكسره إنْ رآه، وقال: إذا كان مُغطَّى فلا يكسره([99]).
42- وقال الخلال:… قال العبادي: سُئل أبو عبد الله عن رجلٍ رأى زق خمر أيشقه؟ قال: يحله، قيل له: فإن لم يقدر على حله؟ قال: فليشقه إنْ لم يقدر([100]).
43- وقال الخلال: أخبرني محمد بن جعفر بن الحارث حدَّثهم، أنَّه قال لأبي عبد الله: إن لنا جيرانًا يشربون النبيذ في الطريق؟ قال: انههم أشدَّ النهي، وأغلظ لهم، ووبِّخهم([101]).
44- وقال الخلال: أخبرنا أحمد بن محمد بن حازم أنَّ إسحاق بن منصور حدَّثهم أنَّه قال لأبي عبد الله: نمرُّ على القوم، وهم يلعبون بالنرد، أو الشطرنج، نُسلم عليهم؟ فقال: ما هؤلاء بأهل أنْ يُسلَّم عليهم([102]).
45- وقال الأثرم: قلتُ لأبي عبد الله: كان لي جارٌ يشربُ المسكر أُسلِّمُ عليه؟ فسكتَ، وقد قال لي في بعض هذا الكلام: لا تُسلِّم عليه، ولا تُجالسه([103]).
46- وقال المروزيّ: سمعت إسحاق بن حنبل عمّ أحمد ونحن بالعسكر يناشده ويسأله الدخول على الخليفة ليأمره وينهاه، وقال إنّه يقبل كلامك، هذا إسحاق بن راهويه يدخل على ابن طاهر فيأمره وينهاه، فقال له أبو عبد الله: تحتجّ عليّ بإسحاق وأنا غير راض بفعله. ما له في رؤيتي خير ولا لي في رؤيته خير. يجب عليّ إذا رأيته أن آمره وأنهاه، الدنوّ منه فتنة، والجلوس معه فتنة، نحن متباعدون منهم ما أرانا نسلم، فكيف لو قربنا منهم؟([104])
وفاته:
توفي رحمه الله تعالى في يوم الجمعة ثاني عشر ربيع الأول سنة إحدى وأربعين ومائتين. وله سبع وسبعون سنة.
عن الوركاني جار أحمد بن حنبل قال: أسلم يوم مات أحمد بن حنبل عشرون ألفًا من اليهود والنصارى والمجوس، وقال الوركاني: يوم مات أحمد بن حنبل وقع المأتم والنوح في أربعة أصناف المسلمين واليهود والنصارى والمجوس([105]).
وحزر من حضر جنازته من الرجال فكانوا ثمانمائة ألف، ومن النساء ستين ألفًا([106]).
وقال أبو بكر الخلال: سمعت عبد الوهاب يقول: ما بلغنا أن جمعًا كان في الجاهلية والإسلام مثله، حتى بلغنا أن الموضع مسح وحزر على الصحيح فإذا هو من نحو ألف ألف، وحزرنا على القبور نحوًا من ستين ألف امرأة، وفتح الناس أبواب المنازل في الشروع والدروب ينادون من أراد الوضوء.
وقال أبو سهل بن زياد: سمعت عبد الله بن أحمد بن حنبل يقول: سمعت أبي يقول: قولوا لأهل البدع بيننا وبينكم يوم الجنائز([107]).
فهذا غيض من فيض من سيرة الإمام أحمد رحمه الله ومواقفه الاحتسابية، ومواقفه في هذا الباب كثيرةٌ جدًا، يطولُ المقال بنقلها.
وقد قال الذهبي: قلتُ: سيرة أبي عبد الله قد أفردها البيهقي في مجلد، وأفردها ابن الجوزي في مجلد، وأفردها شيخ الإسلام الأنصاري في مجلد لطيف([108]).