احتساب زين العابدين علي بن الحسين رحمه الله
(38 – 94 هـ = 658 – 712 م)
اسمه ونشأته:
هو علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، الهاشمي، القرشي، أبو الحسن، الملقب بزين العابدين، يقال له: علي الأصغر، للتمييز بينه وبين أخيه، علي الأكبر، مولده ووفاته بالمدينة([1]).
أمه: سلافة بنت يزدجرد، آخر ملوك الفرس، وكان كثير البر بها، فقيل له: إنا نراك من أبر الناس بأمك، ولسنا نراك تأكل معها في صحفة؟
فقال: أخاف أن تسبق يدي إلى ما سبقت إليه عينها.
وهو ابن خالة سالم بن عبد الله بن عمر، والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق؛ فإن أم كل واحد منهما بنت يزدجرد أيضًا.
وكان أهل المدينة قليلًا ما يتخذون السراري، حتى ظهر فيهم هؤلاء الأئمة الثلاثة، الذين فاقوا أهل المدينة علمًا وورعًا، فرغب الناس في السراري.
وقيل: إن أم زين العابدين اسمها: غزالة، وقيل: سلامة من بلاد السند.
ولما قُتل الحسين بكربلاء، كان ولده (علي) هذا مريضًا؛ فلم يتعرضوا له([2]).
وليس للحسين رضي الله عنه عقب إلا من ولد زين العابدين هذا([3]).
مناقبه وفضله:
كان من سادات التابعين علمًا وعملًا وفضلًا.
روى عن: أبيه، وعمه الحسن، وأرسل عن جده علي بن أبي طالب، وروى عن ابن عباس، والمسور بن مخرمة، وأبي هريرة، وعائشة، وصفية بنت حيي، وأم سلمة، وبنتها زينب بنت أبي سلمة، وأبي رافع مولى النبي صلى الله عليه وسلم، وابنه عبيد الله بن أبي رافع، ومروان بن الحكم، وعمرو بن عثمان، وذكوان أبي عمرو، مولى عائشة، وسعيد بن المسيب، وسعيد بن مرجانة، وبنت عبد الله بن جعفر.
روى عنه: أولاده: محمد، وزيد، وعبد الله، وعمر.
وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وطاووس بن كيسان، وهما من أقرانه، والزهري، وأبو الزناد، وعاصم بن عمر بن قتادة، وعاصم بن عبيد الله، والقعقاع بن حكيم، وزيد بن أسلم، والحكم بن عتيبة، وحبيب بن أبي ثابت، وأبو الأسود محمد بن عبد الرحمن بن نوفل، ومسلم البطين، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وهشام بن عروة، وعلي بن زيد بن جدعان، وآخرون([4]).
عبادته:
كان يصلي في كل يوم وليلة ألف ركعة، إلى أن مات، وكان يسمى زين العابدين لعبادته([5]).
ووقع حريق في بيت هو فيه ساجد، فجعلوا يقولون له: يا ابن رسول الله؛ النار النار، فقيل له في ذلك، فقال: ألهتني عنها نار الأخرى([6]).
وعن عبد الرحمن بن حفص القرشي؛ قال: كان علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه إذا توضأ اصفر، فيقول له أهله: ما هذا الذي يعتادك عند الوضوء؟
فيقول: تدرون بين يدي من أريد أن أقوم؟!([7])
وعن سفيان بن عيينة؛ قال: حج علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، فلما أحرم، واستوت به راحلته؛ اصفر لونه، وانتفض، ووقعت عليه الرعدة، ولم يستطع أن يلبي، فقيل له: ما لك لا تلبي؟
فقال: أخشى أن أقول لبيك؛ فيقول لي: لا لبيك.
فقيل له: لا بد من هذا.
قال: فلما لبى غشي عليه، وسقط من راحلته؛ فلم يزل يعتريه ذلك حتى قضى حجه([8]).
وعن طاوس قال: إني لفي الحجر ليلة، إذ دخل الحجر عليُّ بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، فقلت: رجل صالح من أهل بيت النبوة، لأسمعن إلى دعائه الليلة.
قال: فقام يصلي إلى السحر، ثم سجد سجدة؛ فجعل يقول في سجوده: “عبدك يا رب نزل بفنائك، مسكينك يا رب بفنائك، فقيرك يا رب بفنائك”.
قال طاوس: فحفظتهن؛ فما دعوت بهن في كرب إلا فرج عني([9]).
صدقته:
كان له شأن عجيب في الصدقة، فقد أُحصِي بعد موته عدد من كان يقوتهم سرًا، فكانوا نحو مائة بيت.
وكان إذا ناول الصدقة السائل قبَّله، ثم ناوله([10]).
وكان علي بن الحسين يحمل جراب الخبز على ظهره بالليل، فيتصدق به ويقول: “إن صدقة السر تطفئ غضب الرب عز وجل”([11]).
وعن محمد بن زكريا، قال: سمعت ابن عائشة، يقول: قال أبي: “سمعت أهل المدينة، يقولون: “ما فقدنا صدقة السر حتى مات علي بن الحسين”([12]).
وعن شيبة بن نعامة، قال: كان علي بن الحسين يبخل، فلما مات وجدوه يقوت مائة أهل بيت بالمدينة، قال جرير في الحديث -أو من قبله- إنه حين مات وجدوا بظهره آثارًا مما كان يحمل بالليل الجرب إلى المساكين([13]).
وعن عمرو بن ثابت، قال: “لما مات علي بن الحسين، فغسلوه جعلوا، ينظرون إلى آثار سوداء بظهره، فقالوا: ما هذا؟
فقيل: كان يحمل جرب الدقيق ليلًا على ظهره يعطيه فقراء أهل المدينة([14]).
وعن محمد بن إسحاق، قال: “كان ناس من أهل المدينة يعيشون لا يدرون من أين كان معاشهم؟ فلما مات علي بن الحسين فقدوا ما كانوا يؤتون به في الليل”([15]).
وعن سعيد بن مرجانة، قال: سمعت أبا هريرة، رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من أعتق رقبة مؤمنة أعتق الله بكل إرب منه إربًا من النار، حتى أنه ليعتق باليد اليد، وبالرجل الرجل، وبالفرج الفرج”.
فقال علي بن حسين رضي الله عنهما: يا سعيد أنت سمعت هذا من أبي هريرة؟
قال: نعم.
فقال علي بن حسين عند ذلك لغلام له إمرة غلمانه: ادع لي مطرفًا.
قال: فلما قدم بين يديه، قال: اذهب فأنت حر لوجه الله([16]).
ثناء العلماء عليه:
قال عنه الزهري: ما رأيتُ قرشيًا أفضل منه([17]).
وقال ابن سعد: كان ثقة مأمونًا، كثير الحديث عاليًا رفيعًا ورعًا([18]).
وقال رجل لسعيد بن المسيب: ما رأيت أحدًا أورع من فلان، قال: هل رأيت علي بن الحسين؟ قال: لا، قال: ما رأيتُ أحدًا أورع منه([19]).
وقال أبو حازم: “ما رأيتُ هاشميًا أفضل من علي بن الحسين”([20]).
وعن ابن عائشة، عن أبيه، قال: حج هشام بن عبد الملك قبل أن يلي الخلافة، فاجتهد أن يستلم الحجر، فلم يمكنه، وجاء علي بن الحسين فوقف له الناس، وتنحوا حتى استلمه، قال: ونصب لهشام منبر، فقعد عليه، فقال له أهل الشام: من هذا يا أمير المؤمنين؟
فقال: لا أعرفه، فقال الفرزدق: لكني أعرفه، هذا علي بن الحسين رضي الله تعالى عنهما:
هذا ابن خير عباد الله كلهم *** هذا التقي النقي الطاهر العلمُ
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته *** والبيت يعرفه والحل والحرمُ
يكاد يمسكه عرفان راحته *** عند الحطيم إذا ما جاء يستلمُ
إذا رأته قريش قال قائلها: *** إلى مكارم هذا ينتهي الكرمُ
إن عد أهل التقى كانوا أئمتهم *** أو قيل: من خير أهل الأرض؟ قيل: همُ
هذا ابن فاطمة إن كنت جاهله *** بجده أنبياء الله قد ختموا
وليس قولك: من هذا؟ بضائره *** العرب تعرف ما أنكرت والعجمُ
يغضي حياء ويغضى من مهابته *** ولا يكلم إلا حين يبتسمُ([21]).
سيرته الاحتسابية
كان لعلي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رحمه الله، سيرة احتسابية حافلة، بالمواقف الكثيرة، منها:
1- إنكاره على من يتخذ قبر النبي صلى الله عليه وسلم عيدًا:
عن علي بن عمر، عن أبيه، عن علي بن حسين، أنه رأى رجلًا يجيء إلى فرجة، كانت عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فيدخل فيها فيدعو، فنهاه.
فقال: ألا أحدثكم حديثًا سمعته من أبي، عن جدي، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: “لا تتخذوا قبري عيدًا، ولا بيوتكم قبورًا، فإن تسليمكم يبلغني أينما كنتم”([22]).
2- إنكاره على من يغلو في علي رضي الله عنه:
عن القاسم بن عوف الشيباني؛ قال: قال علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين: جاءني رجل من أهل البصرة، فقال: جئتك في حاجة من البصرة، وما جئتُ حاجًّا ولا معتمرًا.
قال: قلت له: وما حاجتك؟
فقال: جئتك لأسألك: متى يبعث علي بن أبي طالب؟
قال: فقلت له: يبعث والله علي يوم القيامة، ثم تهمه نفسه([23]).
3- إنكاره على نفسه:
عن جعفر، عن أبيه، أن علي بن الحسين قال: يا بني لو اتخذت لي ثوبًا للغائط؛ رأيتُ الذباب يقع على الشيء، ثم يقع علي!
ثم انتبه فقال: فما كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولا لأصحابه إلا ثوب، فرفضه([24]).
4- إنكاره على من يطعن بمنزلة أبي بكر وعمر:
عن سفيان بن عيينة قال: قال رجل لعلي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين: كيف كان منزلة أبي بكر وعمر من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
فقال: منزلتهما منه منزلتهما منه اليوم([25]).
وقال عبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه سمعت علي بن الحسين يسأل كيف كانت منزلة أبي بكر وعمر من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
فأشار بيده إلى القبر، وقال: منزلتهما منه الساعة([26]).
وعن علي بن الحسين، قال: “أتاني نفر من أهل العراق، فقالوا في أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، فلما فرغوا، قال لهم علي بن الحسين: ألا تخبرونني أنتم المهاجرون الأولون الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلًا من الله ورضوانًا، وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون؟
قالوا: لا.
قال: فأنتم الذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا، ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون؟
قالوا: لا.
قال: أما أنتم فقد تبرأتم أن تكونوا من أحد هذين الفريقين.
ثم قال: أشهد أنكم لستم من الذين قال الله عز وجل: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 10].
اخرجوا فعل الله بكم”([27]).
5- إنكاره على من يغلو في آل البيت:
عن يحيى بن سعيد، قال: سمعت علي بن الحسين، واجتمع عليه ناس، فقالوا له ذلك القول، فقال لهم: “أحبونا حب الإسلام لله عز وجل، فإنه ما برح بنا حبكم حتى صار علينا عارًا”([28]).
وعن خلف بن حوشب، عن علي بن الحسين، قال: “يا معشر أهل العراق، يا معشر أهل الكوفة، أحبونا حب الإسلام، ولا ترفعونا فوق حقنا”([29]).
6- إنكاره على معترض عليه:
عن عبد الرحمن بن حبيب بن أردك، قال: سمعت نافع بن جبير، يقول لعلي بن الحسين: غفر الله لك، أنت سيد الناس وأفضلهم، تذهب إلى هذا العبد فتجلس معه -يعني زيد بن أسلم- فقال: “إنه ينبغي للعلم أن يتبع حيثما كان”([30]).
7- إنكاره على من يسئ في الدعاء:
عن أبي جعفر، عن علي بن الحسين، قال: “لا يقولن أحدكم: اللهم تصدًّق عليّ بالجنة” فإنما يتصدق أصحاب الذنوب، ولكن ليقولن: “اللهم ارزقني الجنة، اللهم من علي بالجنة”([31]).
8- إنكاره على مادحه:
وعن عبيد الله بن موهب قال: جاء قوم إلى علي بن الحسين فأثنوا عليه، فقال: ما أجرأكم وأكذبكم على الله، نحن من صالحي قومنا، فحسبنا أن نكون من صالحيهم([32]).
9- إنكاره على المختار:
قال أبو نعيم: ثنا عيسى بن دينار- ثقة- قال: سألت أبا جعفر عن المختار، فقال: قام علي بن الحسين على باب الكعبة، فلعن المختار، فقال له رجل: جعلت فداك، تلعنه وإنما ذبح فيكم؟ قال: إنه كان يكذب على الله وعلى رسوله([33]).
وقال أبو نعيم: ثنا أبو إسرائيل، عن الحكم، عن أبي جعفر قال: إنا لنصلي خلفهم في غير تقية، وأشهد على أبي أنه كان يصلي خلفهم في غير تقية([34]).
10- إنكاره على قتل عثمان:
قال عمر بن حبيب -شيخ للمدائني- عن يحيى بن سعيد قال: قال علي بن الحسين: والله ما قتل عثمان على وجه الحق([35]).
أقواله الاحتسابية
كان لعلي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رحمه الله أقوال احتسابية كثيرة، يصعب حصرها، نذكر طرفًا منها:
1- قال علي بن الحسين رحمه الله: “التارك للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كنابذ كتاب الله وراء ظهره، إلا أن يتقي تقاه، قيل: ما تقاته؟
قال: يخاف جبَّارًا عنيدًا أن يفرط عليه، أو أن يطغى”([36]).
2- وعن سفيان بن عيينة؛ قال: قال علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: لا يقول رجل في رجل من الخير ما لا يعلم؛ إلا أوشك أن يقول فيه من الشر ما لا يعلم، ولا اصطحب اثنان على غير طاعة الله عز وجل، إلا أوشك أن يتفرقا على غير طاعة الله عز وجل([37]).
3- وعن العتبى قال: حدثني أبي قال: قال علي بن الحسين -وكان من أفضل بني هاشم- لابنه: “يا بني اصبر على النوائب، ولا تتعرض للحقوق، ولا تجب أخاك إلى الأمر الذي مضرته عليك أكثر من منفعته له”([38]).
4- وعن أبي حمزة الثمالي، عن علي بن الحسين، قال: “إذا كان يوم القيامة ينادي مناد: أين أهل الصبر؟ فيقوم ناس من الناس، فيقال: علام صبرتم؟ قالوا: صبرنا على طاعة الله، وصبرنا عن معصية الله عز وجل، فيقال: صدقتم، ادخلوا الجنة”([39]).
5- وقال علي بن الحسين: “من كتم علمًا أحدًا، أو أخذ عليه أجرًا رفدًا، فلا ينفعه أبدًا”([40]).
6- وروي عن أبي جعفر أن أباه علي بن الحسين قاسَمَ الله تعالى مرتين، وقال: إن الله تعالى يُحبُّ المؤمن المذنب التوّاب([41]).
7- وعن ابن عون؛ قال: كتب الحسن إلى الحسين رضي الله عنهما يعيب عليه إعطاء الشعراء؛ قال: فكتب إليه: إن خير المال ما وقى العرض([42]).