احتساب سفيان بن سعيد الثوري رحمه الله
(97 – 161 هـ = 716 – 778 م)
اسمه ونشأته:
هو سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري، من بني ثور بن عبد مناة، من مضر، أبو عبد الله، أمير المؤمنين في الحديث، كان سيد أهل زمانه في علوم الدين، والتقوى، ولد ونشأ في الكوفة، وراوده المنصور العباسي على أن يلي الحكم، فأبى، وخرج من الكوفة سنة (144ه) فسكن مكة، والمدينة، ثم طلبه المهدي، فتوارى، وانتقل إلى البصرة، فمات فيها مستخفياً([1]).
علمه ومكانته:
سفيان الثوري من علماء الأمة، ومن سادات تابعي التابعين، وأحد الأئمة الأعلام، أئمة الحديث والأثر.
فعن يعقوب بن إسحاق الحضرمي، قال: سمعتُ شعبة، يقول: سفيان الثوري أمير المؤمنين في الحديث([2]).
وعن يوسف الصفار، قال: سمعتُ أبا أسامة، يقول: سفيان الثوري حجة([3]).
وقال أبو نعيم: ومنهم الإمام المرضي، والورع الدري، أبو عبد الله سفيان بن سعيد الثوري -رضي الله تعالى عنه-، كانت له النكت الرائقة، والنتف الفائقة، مُسلَّم له في الإمامة، ومثبت به الرعاية، العِلْم حليفه، والزهد أليفه([4]).
وعن أبي قطن قال: قال لي شعبة: يا أبا قطن إن سفيان الثوري ساد الناس في الورع والعلم([5]).
وقال ابن المبارك: كتبتُ عن ألف ومائة، ما فيهم أفضل من سفيان الثوري([6]).
وعن أبي قدامة عبيد الله بن سعيد قال: سمعتُ عبد الرحمن بن مهدي، يقول: أدركتُ من الناس الأئمة منهم أربعة: مالك بن أنس، وحماد بن زيد، وسفيان بن سعيد، وذكر الرابع ونسيته إن لم يكن ابن المبارك فلا أدري([7]).
وعن ابن عيينة قال: ما رأيتُ رجلاً أعلم بالحلال والحرام من سفيان الثوري، ولا رأى هو مثل نفسه([8]).
وعن أبي إسحاق الفزاري، قال: سمعتُ الأوزاعي، يقول: إذا مات ابن عون وسفيان الثوري استوى الناس([9]).
وقال الإمام أحمد: لا يتقدمه في قلبي أحد([10]).
وعن محمد بن سهل، قال: سمعتُ عبد الرزاق، يقول: سمعتُ سفيان، يقول: سلوني عن التفسير، والمناسك، فإني بهما عالم([11]).
وقال عبد الرزاق: سمعتُ الثوري يقول: ما استودعتُ قلبي شيئاً قط، فخانني، حتى إني لأمر بالحائك يتغنى، فأسد أذني، مخافة أن أحفظ ما يقول([12]).
وعن عبد الكبير بن المعافى بن عمران، قال سمعتُ أبي يقول: لقد منَّ الله على أهل الإسلام بسفيان الثوري([13]).
وعن مضر بن محمد، قال: سمعتُ يحيى بن معين، يقول: سمعتُ يحيى بن سعيد القطان، يقول: سفيان الثوري أحب إليّ من مالك في كل شيء، يعني: في الحديث، وفي الفقه، وفي الزهد([14]).
وعن وليد بن حماد، قال: سمعتُ ابن إدريس، يقول: ما جعلتُ بينك وبين الرجال مثل سفيان، وشعبة([15]).
وعن أحمد بن منصور الرمادي قال: سمعتُ عبد الرزاق يقول: قال لي ابن المبارك: كنتُ اقعد إلى سفيان الثوري، فيحدث، فأقول: ما بقي من علمه شيء إلا وقد سمعته، ثم اقعد عنده مجلساً آخر فيحدث، فأقول: ما سمعتُ من علمه شيئاً([16]).
وعن أبي عبد الرحمن الحارثي، قال: خاف سفيان شيئاً، فطرح كتبه، فلما آمن أرسل إلى والي يزيد بن ثوير المرهبي، فقال: أخرجوا الكتب، فدخلنا البئر، فجعلنا نخرجها، فأقول: يا أبا عبد الله (وفي الركاز الخمس) وهو يضحك، فأخرجنا تسع قمطرات كل واحد إلى هنا، وأشار إلى أسفل ثندوته، قال: فقلتُ: اعزل كتاباً تحدثني به، قال: فعزل لي كتاباً، فحدثني به، قال أبو محمد: كذا حدثنا([17]).
وعن أيوب بن سويد، قال: سمعتُ المثني بن الصباح وذكر سفيان الثوري، فقال: عالم الأمة وعابدها.
وعن محمد بن عبيد الطنافسي، قال: لا أذكر سفيان الثوري إلا وهو يفتي أذكر منذ سبعين سنة، ونحن في الكتاب تمر بنا المرأة والرجل فيسترشدوننا إلى سفيان ليستفتوه فيفتيهم.
وعن بشر بن الحارث، قال: كان سفيان الثوري عندي إمام الناس.
وعن أحمد بن يونس، قال: سمعتُ زائدة، يقول: كان سفيان أفقه الناس.
وعن علي بن الحسن بن شقيق، قال: سمعتُ عبد الله -يعني ابن المبارك- يقول: ما أعلم على الأرض أعلم من سفيان الثوري -رحمه الله-.
وعن عبد الرزاق، قال: سمعتُ الأوزاعي، يقول: لو قيل لي: اختر رجلاً يقوم بكتاب الله تعالى وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- لاخترت لهما الثوري([18]).
وعن محمد بن زنبور، قال: سمعتُ فضيل بن عياض، يقول: إن هؤلاء أشربت قلوبهم حب أبي حنيفة، وأفرطوا فيه، حتى لا يرون أن أحداً كان أعلم منه، كما أفرطت الشيعة في حب علي، وكان والله سفيان أعلم منه.
وقال أبو بكر بن عياش: إني لأرى الرجل يحدث عن سفيان، فينبل في عيني.
وعن أسود بن سالم، قال: سمعتُ أبا بكر بن عياش، يقول: إني لأرى الرجل يصحب سفيان فيعظم.
وعن محمد بن يحيى الأزدي، قال: سمعتُ عبد الله بن داود الخريبي، يقول: ما رأيتُ محدثاً أفضل من سفيان الثوري.
وعن أحمد بن يونس، قال: ما رأيتُ أحداً أعلم من سفيان، ولا أورع من سفيان، ولا أفقه من سفيان، ولا أزهد من سفيان([19]).
وعن الحسين بن الحسن الحناط، قال: سمعتُ فرقداً -إمام مسجد البصرة- يقول: دخلوا على سفيان الثوري في مرضه الذي مات فيه، فحدثه رجل بحديث، فأعجبه وضرب يده إلى تحت فراشه، فأخرج ألواحاً له، فكتب ذلك الحديث، فقالوا له: على هذه الحال منك؟ فقال: إنه حسن، إن بقيتُ فقد سمعتُ حسناً، وإن متُ فقد كتبتُ حسناً([20]).
وعن وكيع بن الجراح قال: قالت أم سفيان الثوري لسفيان: يا بني اطلب العلم وأنا أكفيك من مغزلي، يا بني إذا كتبت عشرة أحاديث فانظر: هل ترى في نفسك زيادة في مشيتك وحلمك ووقارك؟ فإن لم ترَ ذلك، فاعلم أنه لا يضرك ولا ينفعك([21]).
وعن عبد الرزاق، قال: رأيتُ سفيان الثوري بصنعاء اليمن، يملي على صبي، ويستملي له([22]).
من لطيف وبديع فقهه واستنباطه واستدلاله وأجوبته وفراسته:
اجتمع سفيان الثوري وابن جريج فتذاكرا مس الذكر، فقال ابن جريج: يتوضأ منه، وقال سفيان: لا يتوضأ منه، فقال سفيان له: أرأيتَ لو أن رجلاً أمسك بيده منياً ما كان عليه؟ فقال ابن جريج: يغسل يده، قال: فأيهما أكبر المني أو مس الذكر؟ فقال: ما ألقاها على لسانك إلا الشيطان!([23]).
وعن داود بن يحيى بن يمان، عن أبيه، قال: سُئل سفيان الثوري عن رجل عليه دين أيأكل اللحم؟ قال: لا([24]).
وعن أبي الحسن بن إبراهيم البياضي، قال: أُخبرتُ أن أمير المؤمنين هارون الرشيد قال لزبيدة: أتزوج عليك، قالت زبيدة: لا يحل لك أن تتزوج علي، قال: بلى، قالت زبيدة: بيني وبينك من شئتَ، قال: ترضين بسفيان الثوري؟ قالت: نعم، قال: فوجه إلى سفيان الثوري، فقال: إن زبيدة تزعم أنه لا يحل لي أن أتزوج عليها، وقد قال الله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} [النساء (3)] ثم سكت، فقال سفيان: تمم الآية يريد أن يقرأ: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} [النساء (3)] وأنت لا تعدل، قال: فأمر لسفيان بعشرة آلاف درهم، فأبى أن يقبلها.
وعن ضمرة، قال: قلتُ لسفيان الثوري: أي شيء أقول إذا سمعتُ صوت الناقوس؟ قال: أي شيء تقول إذا ضرط الحمار؟!
وعن ضمرة، قال: سألتُ سفيان الثوري أصافح اليهود والنصارى، فقال: برجلك نعم([25]).
وعن عيسى بن حازم، قال: خرج إبراهيم بن أدهم، وإبراهيم بن طهمان، وسفيان الثوري إلى الطائف، ومعهم سفرة فيها طعام، فوضعوها ليأكلوا، وإذا أعراب قريب منهم، فناداهم إبراهيم بن طهمان: يا إخوتاه هلموا، فقال لهم سفيان: يا إخوتاه مكانكم، ثم قال سفيان لإبراهيم: خذ من هذا الطعام ما طابت به أنفسنا، فاذهب به إليهم، فإن شبعوا فالله أشبعهم، وإن لم يشبعوا فهم أعلم، أخاف أن يجيئوا فيأكلوا طعامنا كله، فتتغير نياتنا، ويذهب أجرنا([26]).
عن شعيب بن حرب، قال: قلتُ لسفيان الثوري: ما تقول في رجل قصار إذا كسب درهماً كان فيه ما يقوته ويقوت عياله، ولم يدرك الصلاة في جماعة، وإذا كسب أربع دوانيق أدرك الصلاة في جماعة، ولم يكن فيه ما يقوته ويقوت عياله، أيهما أفضل؟ قال: يكسب الدرهم ويصلي وحده([27]).
وجاء رجل إلى سفيان الثوري، فقال له: اكتب إلى الأوزاعي يحدثني، فقال: إني أكتبُ لك إليه، ولا أراك تجده إلا ميتاً؛ لأني رأيتُ ريحانة رُفعت من قِبَل المغرب، ولا أراه إلا لموت الأوزاعي، وأتاه فإذا هو قد مات([28]).
عبادته وخشيته:
كان سفيان من أعبد الناس، وأخشى الناس، وأحرص الناس على العبادة والطاعة.
فعن أحمد بن سنان قال: سمعتُ عبد الله بن صالح بن مسلم العجلي يقول ليزيد بن هارون: يا أبا خالد رأيتُ سفيان الثوري يوم الجمعة وعليه كساء كذا، وممطراً يعني كساء صوف وهو راكب حمار، فقلتُ لرجل يمشى إلى جنبه: ما لسفيان اليوم ركب حماراً؟ قال: حُم اليوم، فكره أن يترك الجمعة، فبعث إلى جار له فاستعار حماراً، فركب([29]).
عن مزاحم بن زفر، قال: صلى بنا سفيان الثوري المغرب، فقرأ حتى بلغ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة (5)] بكى حتى انقطعت قراءته، ثم عاد فقرأ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} [الفاتحة (2)].
وعن أبي زيد، قال: رأيتُ سفيان الثوري وقد طاف بالبيت وصلى خلف المقام ركعتين، فرفع رأسه إلى السماء، فانقلب مغشياً عليه، فخرج حبش زمزم، فأدخلوه، وصبوا عليه الماء، حتى أفاق، فحدثت به أبا سليمان، فقال: ليس النظر قلبه، إنما قلبته الفكرة([30]).
وعن علي بن فضيل، قال: رأيتُ سفيان الثوري ساجداً حول البيت، فطفتُ سبعة أسابيع قبل أن يرفع رأسه.
وعن ابن وهب، قال: رأيتُ الثوري في المسجد الحرام بعد المغرب، صلى ثم سجد سجدة، فلم يرفع رأسه حتى نودي بصلاة العشاء([31]).
عن يوسف بن أسباط: قال لي سفيان الثوري وأنا وهو في المسجد: يا يوسف ناولني المطهرة أتوضأ، فناولته، فأخذها بيمينه، ووضع يساره على خده، ونمتُ فاستيقظتُ، وقد طلع الفجر، فنظرتُ إليه، فإذا المطهرة في يده على حالها! فقلتُ: يا أبا عبد الله قد طلع الفجر، قال: لم أزل منذ ناولتني المطهرة أتفكر في الآخرة إلى هذه الساعة([32]).
وعن يحيى بن يمان، قال: كثيراً ما كنتُ أرى سفيان مقنع الرأس يشتد في جنازة العبد والأمة([33]).
وعن يوسف بن أسباط، قال: كان سفيان من شدة تفكره يبول الدم.
وعن علي بن حمزة ابن أخت سفيان، قال: ذهبتُ ببول سفيان إلى الديراني -وكان لا يخرج من باب الدير- فأريته، فقال: ليس هذا بول حنيفي، فقلتُ: بلى والله، من أفضلهم، قال: أنا أجيء معك إليه، فقلتُ لسفيان: قد جاء بنفسه، قال أدخله، فأدخلته، فمس بطنه، وجس عرقه، ثم خرج، فقلتُ: أي شيء رأيتَ؟ قال: ما ظننتُ أن في الحنيفية مثل هذا، هذا رجل قد قطع الحزن كبده([34]).
وعن علي بن عثام، قال: مرض سفيان الثوري بالكوفة، فبعث بمائه إلى متطبب بالكوفة، فلما نظر إليه، قال: ويلك بول من هذا؟ فقال: ما تسأل؟ انظر ما ترى فيه، قال: أرى بول رجل قد أحرق الخوف كبده، والحزن جوفه([35]).
زهده وورعه:
سفيان الثوري إمام في الزهد والورع، قلَّ أن تجد مثله فيهما.
فعن علي بن ثابت، قال: رأيتُ سفيان الثوري في طريق مكة، فَقَوَّمتُ كل شيء عليه، حتى نعليه، درهماً وأربع دوانق، زاد محمد بن علي في حديث الثوري: وما رأيتُ الثوري في صدر مجلس قط، إنما كان يقعد إلى جنب الحائط، ويجمع بين ركبتيه([36])
وعن يحيى بن يمان قال: سمعتُ سفيان الثوري يقول: إنما مثل الدنيا مثل رغيف عليه عسل، مر به ذباب، فقطع جناحه، ومثل رغيف يابس، مر به فلم يصبه شيء([37]).
وعن علي بن هشام القرشي، قال: جاء سفيان الثوري إلى صيرفي بمكة يشتري منه دراهم بدينار، فأعطاه الدينار، وكان معه آخر، فسقط من سفيان، فطلبه، فإذا إلى جانبه دينار آخر، فقال له الصيرفي: خذ دينارك، قال: ما أعرفه، قال: خذ الناقص، قال: فلعله الزائد، قال: فتركه ومضى([38]).
وقال يوسف بن أسباط: ما رأيتُ رجلاً قط اترك للدنيا من سفيان الثوري، ومحمد بن النضر الحارثي.
وعن أبي أسامة قال: سمعتُ سفيان الثوري يقول: إني لأبغض الجص لأنه من زينة الدنيا.
وعن عبد الرحمن بن مصعب قال: سمعتُ سفيان يقول: أنا مهون على لا أبالي ما أكلتُ، ولا أبالي ما لبستُ، قال: ورأيتُ سفيان جالساً ملتحفاً بردائه، فلم يمس الأرض منه شيء([39]).
وعن مت البلخي، قال: أهديتُ لسفيان الثوري ثوباً، فرده علي، قلتُ له: يا أبا عبد الله، لستُ أنا ممن يسمع الحديث، حتى ترده عليّ، قال: علمتُ أنك ليس ممن يسمع الحديث، ولكن أخوك يسمع مني الحديث، فأخاف أن يلين قلبي لأخيك أكثر مما يلين لغيره([40]).
وعن أبي وهب محمد بن مزاحم، قال: كان جعل على نفسه -يعني سفيان الثوري- ثلاثة أشياء: ألا يخدمه أحد، وألا تطوى له ثوب، وأن لا يضع لبنة على لبنة([41]).
وعن أبي السري، قال: قيل لفضيل بن عياض في بعض ما كان يذهب إليه من الورع: من إمامك في هذا؟! قال: سفيان الثوري([42]).
وعن الهيثم بن جميل، قال: سمعتُ فضيل بن عياض، يقول: قال سفيان الثوري: إني لأريد شرب الماء، فيسبقني الرجل إلى الشربة، فيسقينيها، فكأنما دق ضلعاً من أضلاعي، لا أقدر له على مكافأة بفعله([43]).
وعن قتيبة بن سعيد، قال: لولا سفيان الثوري لمات الورع([44]).
وعن سعد بن إبراهيم بن سعد، عن أبيه، قال: كنتُ مع سفيان الثوري في المسجد الحرام، فكوم كومة من الحصا، فاتكأ عليه، ثم قال: يا إبراهيم، هذا خير من أسرتهم([45]).
وعن عبد الرحمن بن مهدي، قال: قدم سفيان الثوري البصرة والسلطان يطلبه، فصار في بعض البساتين، فأجر نفسه على أن يحفظ ثمارها، فمر به بعض العشارين، فقال له: من أين أنت يا شيخ؟ قال: من أهل الكوفة، قال: أخبرني، أرطب البصرة أحلى أم رطب الكوفة؟ قال: أما رطب البصرة فلم أذقه، ولكن رطب السابرية بالكوفة حلو، فقال: ما أكذبك من شيخ الكلاب، والبر والفاجر يأكلون الرطب الساعة، وأنت تزعم أنك لم تذقه؟ فرجع إلى العامل فأخبره بما قال ليعجبه، فقال: ثكلتك أمك، أدركه، فإن كنتَ صادقاً فإنه سفيان الثوري، فخذه لتتقرب به إلى أمير المؤمنين المهدي، فرجع في طلبه، فما قدر عليه([46]).
وعن مؤمل، قال: ما رأيتُ عالماً يعمل بعلمه إلا سفيان([47]).
وعن إبراهيم بن محمد الشافعي أبا عبد الله بن رجاء -يعني المكي- قال: ما رأيتُ أحداً أكثر ذكرا للموت من سفيان الثوري([48]).
وعن محمد بن عبيد قال: كان سفيان الثوري إذا أبطأت عليه بضاعته نقض جذوع بيته فباعها، فإذا رجعت بضاعته أعادها([49]).
وعن حسين بن روح قال: أتى سفيان الثوري رجل، فقال: إني مررت بفلان فأعطاني صرة فيها ألف دينار أعطيك إياها، قال: يقول له سفيان: فمررت بأختي فأعطتك شيئاً من دقيقة؟ قال: نعم، قال: فأتني بصرة الدقيق، ورد صرة الدنانير، قال: فكان يختبز منها أقراصاً ويأكل([50]).
وعن عبد الرزاق قال: اجتمع سفيان الثوري، ووهيب بن الورد، فقال سفيان لوهيب: يا أبا محمد تحب أن تموت؟ قال وهيب: أحب أن أعيش لعلي أتوب، ثم قال وهيب لسفيان: يا أبا عبد الله فأنت تحب أن تموت؟ قال سفيان وهو مقابل البيت: ورب هذه البنية وددت إني مت الساعة، أظلتك أمور عظائم، أظلتك أمور عظائم، أظلتك أمور عظائم.
وعن عبد الملك بن سعيد الأشجعي قال: كان سفيان الثوري يقول: إذا كان لك بر فتعبد، وإذا لم يكن لك فالتمسه، يعني من حله([51]).
وعن الفريابي، قال: قال سفيان الثوري: إذا أردتَ أن تتعبد فأحرز الحنطة([52]).
عن حفص بن غياث، قال: دخل سفيان الثوري على مجمع التيمي، فإذا في إزار سفيان خرق، قال: فأخذ أربعة دراهم فناولها سفيان، فقال: اشتر إزاراً، قال سفيان: لا أحتاج إليها، قال مجمع: صدقتَ أنت لا تحتاج، ولكني أحتاج، قال: فأخذها فاشترى بها إزاراً، فكان سفيان يقول: كساني أخي مُجمع، جزاه الله خيراً، وقال سفيان: ليس شيء من عملي أرجو ألا يشوبه شيء كحبي مُجمعاً التيمي([53]).
وعن حذيفة بن قتادة المرعشي قال: قال لي سفيان الثوري: لأن أترك عشرين ألفاً، يحاسبني الله عليها، أحب إليّ من أن أحتاج إلى الناس([54]).
وعن سفيان بن عيينة، قال: جاع سفيان الثوري جوعاً شديداً مكث ثلاثة أيام لا يأكل شيئاً، فمر بدار فيها عرس، فدعته نفسه إلى أن يدخل، فعصمه الله، ومضى إلى منزل ابنته، فأتته بقرص فأكله وشرب ماء فتجشى، ثم قال [البحر الطويل]:
سيكفيك عما أغلق الباب دونه *** وضن به الأقوام ملح وجردق
وتشرب من ماء فرات وتغتدي *** تعارض أصحاب الثريد الملبق
تجشى إذا ما هم تجشوا كأنما *** ظللتَ بأنواع الخبيص تفتق([55]).
وعن شعيب بن حرب، قال: سمعتُ سفيان الثوري، يقول: انظر درهمك من أين هو؟ وصلِ في الصف الأخير([56]).
سيرته الاحتسابية
لقد كان سفيان الثوري مدرسة عظيمة في الاحتساب، ينبغي أن تأخذ منها العبر الكثيرة، والقواعد والدروس المفيدة، فيما يخص هذه الشعيرة العظيمة، ونحن هنا سنشير إشارة فقط إلى بعض مواقفه الاحتسابية المتعددة، لتكون أشبه بالمتن، لمن أراد دراسة سيرته الاحتسابية بالتفصيل، فمن مواقفه:
1- إنكاره على من يأخذ أجرة على صلاته بالناس:
عن عبد الرحمن بن مصعب قال: كان رجل أعمى يجالس سفيان، فكان إذا كان شهر رمضان خرج إلى السواد، فيصلي بالناس، فيُكسى، ويُوهب له، فقال سفيان: إذا كان يوم القيامة أثيب أهل القرآن من قراءتهم، ويقال لمثل هذا: قد تعجلتَ ثوابك.
فقال له الرجل: يا أبا عبد الله تقول هذا لي، وأنا جليس لك؟! قال: إني أتخوف أن يقال لي يوم القيامة: إنه كان جليس لك، أفلا نصحته؟([57]).
2- إنكاره على من أراد إنكار المنكر:
عن داود، عن أبيه، قال: كنتُ مع سفيان الثوري، فمررنا بشرطي نائم، وقد حان وقت الصلاة، فذهبتُ أحركه، فصاح سفيان: مه، فقلتُ: يا أبا عبد الله، يصلي! فقال: دعه، لا صلى الله عليه، فما استراح الناس حتى نام هذا([58]).
3- إنكاره على إسراف السلطان في نفقته في الحج:
عن الفريابي قال: سمعتُ سفيان الثوري يقول: أُدخلتُ على أبي جعفر بمنى، فقلتُ له: اتقِ الله، فإنما أُنزلتُ هذه المنزلة، وصرت في هذا الموضع بسيوف المهاجرين والأنصار، وأبناؤهم يموتون جوعاً، حج عمر بن الخطاب فما أنفق إلا خمسه عشر ديناراً، وكان ينزل تحت الشجر، فقال لي: فإنما تريد أن أكون مثلك؟ قال: قلتُ: لا تكن مثلي، ولكن كن دون ما أنت فيه، وفوق ما أنا فيه، فقال لي: اخرج([59]).
وعن محمد بن مسعود، عن سفيان الثوري، قال: أُدخلتُ على المهدي بمنى، فلما سلمتُ عليه بالإمرة، قال لي: أيها الرجل طلبناك فأعجزتنا، فالحمد لله الذي جاء بك، فارفع إلينا حاجتك، فقلتُ: قد ملئتُ الأرض ظلماً وجوراً، فاتقِ الله، وليكن منك في ذلك عبرة قال: فطأطأ رأسه ثم رفعه وقال: أرأيتَ إن لم أستطيع رفعه؟ قلتُ: تخليه وغيرك، قال: فطأطأ رأسه، ثم قال: ارفع إلينا حاجتك، قال: قلتُ: أبناء المهاجرين والأنصار، ومن تبعهم بالإحسان بالباب، فاتقِ الله، وأوصل إليهم حقوقهم، قال: فطأطأ رأسه، فقال أبو عبد الله: أيها الرجل، ارفع إلينا حاجتك، فقلتُ: وما أرفع؟ حدثني إسماعيل بن أبي خالد: قال: حج عمر بن الخطاب فقال لخازنه: كم أنفقتُ؟ قال: بضعة عشر ديناراً، وأرى هنا أموراً لا تطيقها الجبال([60]).
وعن محمد بن سعيد المقرئ قال: سمعتُ عبد الرحمن بن الحكم يذكر عن مهران عن سفيان أنه أُخذ في المسجد الحرام، فأُدخل على أبي هارون، وهو في إزار ورداء والنعلان في يده، قال: فلما دخلتُ سلمتُ وقعدتُ، فقال أبو عبيد الله: إني أظن أن له رأى سوء -يعني رأي الخوارج- فقلت لأبي هارون: من هذا؟ قال: هذا معاوية بن عبيد الله، فقلتُ له: احذر هذا وأصحابه، ثم قلتُ له: كم أنفقتَ في حجتك هذه؟ قال: يا أبا عبد الله ونحصى كم أنفقنا؟! قلتُ: لكن عمر بن الخطاب حج فلم ينفق في مجيئه وذهابه إلا سبعة عشر ديناراً.
ثم قمتُ، فقال لي: إلى أين؟ إنا نريد أن نسألك عن أشياء، قال: قلتُ: البول البول، قال: فأين نجدك؟ قلتُ: المسجد، وتوارى عنهم، وطُلب، فخرج مع حاج البصرة إلى البصرة، فنُودي: من جاء به فله ديته، ومن وُجد في منزلة فقد برئت منه الذمة([61]).
وعن الفريابي، عن سفيان، قال: دخلتُ على المهدي فقلتُ: بلغني أن عمر بن الخطاب أنفق في حجته اثني عشر ديناراً، وأنت فيما أنت فيه، قال: فغضب قال: تريد أن أكون مثل الذي أنت فيه، قال: فقلتُ: فإن لم تكن في مثل ما أنا فيه ففي دون ما أنت فيه، فقال لي: يا أبا عبد الله قد جاءتنا كتبك فأنفذتها، قال: قلتُ له: ما كتبتُ إليك شيئاً قط.
وعن سفيان بن عيينة، قال: قال سفيان الثوري: دخلتُ على المهدي، فرأيتُ ما قد هيأه للحج فقلتُ: ما هذا؟ حج عمر بن الخطاب فأنفق ستة عشر ديناراً.
وعن داود بن يمان، عن أبيه، قال: قال سفيان الثوري للمهدي: كم أنفقتَ في حجتك؟ قال: ما أدري؟ قال: لكن عمر بن الخطاب يدري، أنفق ستة عشر ديناراً، فاستكثرها.
وقال أبو نعيم: قدم المهدي مكة وسفيان الثوري بمكة فدعاه، فقال له سفيان: احذر هذا -كاتباً كان يعقبه- قال: وقال سفيان: اتقِ الله، واعلم أن عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه- حج فأنفق ستة عشر ديناراً ([62]).
4- إنكاره على المهدي:
عن عبد الرحمن بن مهدي قال: سمعتُ سفيان يقول: لما أُخذتُ بمكة، وأُدخلتُ على المهدي، قال: قلتُ في نفسي: قد وقعت يا نفس، فاستمسكي، قال عبد الرحمن: قد كنتُ أحب أن يقول غير هذا -يعني من التوكل وأشباهه- قال: وإلى جنبه أبو عبيد الله، فقال لي أبو عبيد الله: ألستَ سفيان؟ قلتُ: بلى، قال، إن كتبك لتأتينا أحياناً، قال: قلتُ: ما كتبتُ إليك كتاباً قط، فأي شيء دخله([63]).
5- إنكاره على أخيه الشكوى لغير الله:
عن علي بن محمد الطنافسي، قال: سمعتُ أخي الحسن يذكر، قال: كتب مبارك بن سعيد أخو سفيان إلى سفيان، يشكو إليه ذهاب بصره، قال: فكتب إليه سفيان: أتاني كتابك تكثر شكاتك لربك، فاذكر الموت يهون عليك ذهاب بصرك([64]).
6- إنكاره على من يتأخر عن الصلاة:
عن أبي المنذر قال: رأيتُ سفيان الثوري، ورأى رجلاً يتوضأ بعد ما أقام المؤذن الصلاة، فقال: هذه الساعة تتوضأ؟! لا كلمتك أبداً([65]).
7- إنكاره على بعض اللباس:
عن عيسى بن يونس، قال: كان سفيان الثوري إذا رأى الرجل عليه قلنسوة شاشية لم يحدثه([66]).
8- إنكاره على من تولى الإمارة:
عن عبد الرزاق قال: كان رجل صحب الثوري يقال له: يوسف إلى صنعاء، فلم يشعر إذ جاءته الولاية من أبي جعفر، فقال له الثوري: ويحك يا يوسف، شحطوك بغير سكين، كيف إذا قيل يوم القيامة: أين أبو جعفر وأتباعه قمتَ فيهم؟([67]).
9- إنكاره على زائدة بن قدامة:
عن محمد بن عثمان بن أبي صفوان الثقفي، قال: سمعتُ أبي يقول: رأيتُ زائدة بن قدامة جاء إلى سفيان الثوري، فلما رآه انتهره وصاح به، فقيل له: ما شأنه؟ فقال: إن شريكاً أمر بمال يقسمه، فولاه هذا، ثم قال له سفيان: إن شريكاً لم يصب لدنسه أحداً غيرك([68]).
10- إنكاره على صوفي:
عن أحمد بن محمد بن زياد، قال: سمعتُ أبا داود، يقول: قال رجل لسفيان الثوري: أنت قدري، فقال سفيان: إن كنتُ قدرياً فأنا رجل سوء، وإلا فأنت في حل، قال أبو داود: ولما قدم ثور -يعني ابن زيد- مكة أخذ سفيان بيده، فأدخله حانوتاً، فكان يحدثه، فقال سفيان لرجل كان عليه صوف: لباسك هذا بدعة، فقال الصوفي: أخذك بيد هذا وإدخالك الدكان بدعة([69]).
11- إنكاره على عطاء بن مسلم:
عن رواد بن الجراح، قال: قال سفيان لعطاء بن مسلم: كيف حبك اليوم لأبي بكر؟ قال: شديد، قال: كيف حبك لعمر؟ قال: شديد، قال: كيف حبك لعلي؟ قال: شديد، وطولها وشددها، فقال سفيان: يا عطاء، هذه الشديدة تريد كية وسط رأسك([70]).
12- إنكاره على رجل:
كان سفيان الثوري بينما هو يطوف إذ رأى رجلاً لا يرفع قدماً، ولا يضع قدماً، إلا وهو يصلي على النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال: قلتُ له: يا هذا إنك قد تركتَ التسبيح والتهليل، وأقبلتَ بالصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- هل عندك في هذا شيء؟! قال: من أنت عافاك الله؟ فقلتُ: أنا سفيان الثوري، قال: لولا أنك غريب من أهل زمانك، ما أخبرتك عن حالي، ولا أطلعتك على سري، ثم قال لي: خرجتُ ووالدي حاجاً إلى بيت الله الحرام، حتى إذا كنتُ في بعض المنازل، مرض والدي، فقمتُ لأعالجه، فبينما أنا ذات ليلة عند رأسه؛ إذ مات والدي أسود وجهه، فقلتُ: إنا لله وإنا إليه راجعون، فجذبتُ الإزار على وجهه فغطيته، فغلبتني عيني فنمتُ، فإذا أنا برجل لم أرَ أحسن منه وجهاً، ولا أنظف منه ثوباً، ولا أطيب منه ريحاً، يرفع قدماً ويضع أخرى، حتى دنا من والدي، فكشف الإزار عن وجهه، فابيض، ثم ولى راجعاً، فتعلقتُ بثوبه، فقلتُ: يا عبد الله من أنت الذي منَّ الله على والدي في أرض الغربة؟ قال: أو ما تعرفني؟ أنا محمد بن عبد الله، صاحب القرآن، أما إن والدك كان مسرفاً على نفسه، ولكن كان يكثر الصلاة عليّ، فلما نزل استغاث بي، وأنا غياث لمن أكثر الصلاة علي،
فانتبهت فإذا وجه أبي أبيض([71]).
13- إنكاره بالفعل (بترك الصلاة على أهل البدع):
عن مؤمل بن إسماعيل، قال: مات عبد العزيز بن أبي رواد، وكنتُ في جنازته، حتى وضع عند باب الصفا، فصف الناس، وجاء الثوري، فقال الناس: جاء الثوري، جاء الثوري، حتى خرق الصفوف، والناس ينظرون إليه، فجاوز الجنازة، ولم يصلِ عليه؛ لأنه كان يرمى بالإرجاء([72]).
وقال مؤمل بن إسماعيل: مات عبد العزيز، فجيء بجنازته، فوضعت عند باب الصفا، وجاء سفيان الثوري، فقال الناس: جاء الثوري، جاء الثوري، فجاء حتى خرق الصفوف، والناس ينظرون إليه، فجاوز الجنازة، ولم يصلِ عليها؛ وذلك أنه كان يرى الإرجاء، فقيل لسفيان، فقال: والله إني لأرى الصلاة على من هو دونه عندي، ولكن أردتُ أن أري الناس أنه مات على بدعة([73]).
14- إنكاره على الصلاة خلف أهل البدع:
عن بشر بن منصور، قال: سمعتُ سفيان الثوري، يقول، وسأله رجل فقال: على بابي مسجد إمامه صاحب بدعة، قال: لا تصلِ خلفه، قال: تكون الليلة المطيرة وأنا شيخ كبير؟ قال: لا تصلِ خلفه([74]).
15- إنكاره على من يزعم أنه يخشى الله حق خشيته:
عن إسحاق بن خلف، قال: قال سفيان الثوري لشاب يجالسه: أتحب أن تخشى الله حق خشيته؟ قال: نعم، قال: أنت أحمق، لو خفته حق خوفه أديت الفرائض([75]).
16- إنكاره على كسب المال من غير حله:
عن خلف بن تميم، قال: دخل إياس بن عمرو بن يزيد بن عقال مسجد سفيان الثوري، فقال: أبلغك يا أبا عبد الله أن قول: لا إله إلا الله عشر حسنات، والحمد لله، والله أكبر عشر؟ فقال: كذا أبلغنا، وقال: فما تقول فيمن كسب ثلاثين ألف درهم من غير حقها، وقال: أقعد وأسبح وأحمد وأكبر حتى أعمل من الحسنات بعدد هذه؟ فقال سفيان الثوري: فليردها قبل، فإنه لا يقبل له ذكر إلا بردها([76]).
17- إنكاره على حبس الطيور:
عن عارم أبو النعمان، قال: أتيتُ أبا منصور أعوده، فقال لي: بات سفيان في هذا البيت، وكان ههنا بلبل لابني، فقال: ما بال هذا الطير محبوس؟! لو خُلي عنه، فقلتُ: هو لابني، وهو يهبه لك، قال: فقال: لا، ولكني أعطيه ديناراً، قال: فأخذه، فخلى عنه، فكان يذهب فيرعى فيجيء بالعشي، فيكون في ناحية البيت، فلما مات سفيان تبع جنازته، فكان يضطرب على قبره، ثم اختلف بعد ذلك ليالي إلى قبره، فكان ربما بات عليه، وربما رجع إلى البيت، ثم وجدوه ميتاً عند قبره، فدفن معه في القبر، أو إلى جنبه.
قال سليمان أبو منصور: هذا الذي روى عنه عارم هو بشر بن منصور السليمي، وكان سفيان مستخفياً في داره بالبصرة، بعد أن خرج من دار عبد الرحمن بن مهدي، وفي دار بشر بن منصور مات -رحمة الله تعالى عليه-([77]).
وعن بشر بن زاذان، عن سفيان الثوري، قال: ما من درهم ينفقه الرجل هو فيه أعظم أجراً من درهم يعطيه صاحب حَمَام يخليه به([78]).
18- إنكاره على التكاسل عن الصلاة:
عن الفريابي، قال: كان سفيان الثوري يصلي، ثم يلتفت إلى الشباب فيقول: إذا لم تصلوا اليوم، فمتى؟([79]).
19- إنكاره على من ظنَّ الدين صلاة فقط:
عن محمد بن يوسف الفريابي، قال: قلتُ لسفيان الثوري: أرى الناس يقولون: سفيان الثوري، وأنت تنام بالليل! فقال لي: اسكت، ملاك هذا الأمر التقوى([80]).
20- إنكاره على من يصلي والناس ينظرون إلى صلاته:
عن أبي شهاب، قال: كنتُ مع سفيان الثوري في المسجد، فقمتُ فصليتُ ركعة، فالتفتُ إلى سفيان، فقال: يا أبا شهاب ما أجرأك تصلي والناس ينظرون إليك!([81]).
21- إنكاره على تقدم الأطفال الصف الأول:
عن المحاربي، قال: سمعتُ سفيان الثوري يقول للغلام إذا رآه في الصف الأول: احتلمتَ؟ فإذا قال: لا، قال: تأخر([82]).
22- إنكاره على رسول القاضي شريك:
عن محمد بن حسان أبو يحيى، قال: سمعتُ سجادة، يقول: أرسلني شريك، إلى سفيان الثوري، أسأله عن رجل، فلما رآني ورأى هيئتي -وكانت له سجادة- قال: إن كانت سجادتك هذه لشريك، فنولك أن لا أكلمك، وإن كانت لله، فنولك أن تكلم شريكاً، ودخل، ولم يجبني([83]).
23- إنكاره على بيع الصيادلة للذاذي([84]):
عن يحيى بن يمان، قال: لقيني سفيان الثوري عند جبل بني فزارة، فقال: أتدري من أين جئتُ؟ قلتُ: لا، قال: جئتُ من دار الصيادلة، نهيتهم عن بيع الذاذي، إني لأرى الشيء يجب علي أن آمر فيه وأنهى عنه، فلا أفعل، فأبول دماً([85]).
24- إنكاره على عبد الصمد بن علي أمير مكة:
عن إبراهيم بن أعين، قال: كنتُ مع سفيان الثوري، وإسحاق بن القاسم، والأوزاعي، فدخل علينا عبد الصمد بن علي بعد المغرب، وهو أمير مكة، وسفيان يتوضأ، وأنا أصب عليه، كأنه بطأه، وهو يقول: لا تنظروا إلي، أنا مبتلى، فجاء عبد الصمد، فسلم على سفيان، فقال له سفيان: من أنت؟ قال: أنا عبد الصمد بن علي، فقال: كيف أنت؟ اتقِ الله، وإذا كبَّرت فأسمِعْ([86]).
25- إنكاره على إهمال طلب العلم:
عن حيدرة بن عبيد، قال: كان سفيان الثوري إذا لقي شيخاً سأله: هل سمعتَ من العلم شيئاً؟ فإن قال: لا، قال: لا جزاك الله عن الإسلام خيراً([87]).
26- إنكاره على جلساء المهدي:
عن داود بن يحيى بن يمان، قال: سمعتُ أبي يقول: سمعتُ سفيان الثوري، يقول: قال لي المهدي: أبا عبد الله، اصحبني حتى أسير فيكم سيرة العمرين، قال: قلتُ: أما وهؤلاء جلساؤك فلا، قال: فإنك تكتب إلينا في حوائجك فنقضيها، قال سفيان: والله ما كتبتُ إليك كتاباً قط([88]).
27- إنكاره على أخيه مبارك بن سعيد:
عن مبارك بن سعيد، قال: جاء رجل إلى سفيان ببدرة -أو ببدرتين- وكان أبو ذاك صديقاً لسفيان، قال الرجل: وكان سفيان يأتيه كثيراً، قال: فقال له: يا أبا عبد الله، في نفسك من أبي شيء؟ فقال: يرحم الله أباك، كان وكان، فأثنى عليه، قال: فقال: يا أبا عبد الله، قد عرفتَ كيف صار إليّ هذا المال، فأنا أحب أن تأخذ هذه تستعين بها على عيالك، قال: فقبل سفيان ذلك، وقام الرجل، فلما كاد أن يخرج، قال لي: يا مبارك، الحقه فرده علي، فقال: يا ابن أخي، أحب أن تأخذ هذا المال، قال له: يا أبا عبد الله في نفسك منه شيء؟ قال: لا، ولكن أحب أن تأخذه، فما زال به حتى أخذه، فذهب به، قال: فلما خرج لم أملك نفسي أن جئتُ إليه، فقلتُ: ويلك أي شيء قلبك هذا؟ حجارة؟ عد أن ليس لك عيال، أما ترحمني؟ أما ترحم إخوتك؟ أما ترحم عيالنا وعيالك؟ قال: فأكثرتُ عليه، فقال: الله يا مبارك تأكلها هنيئاً مريئاً، وأسأل أنا عنها؟([89]).
28- إنكاره على من ترك طلب المعيشة الحلال بحجة طلب العلم:
عن عطاء بن مسلم الخفاف، قال: سمعتُ سفيان الثوري، يقول: قدمتُ البصرة، فجلستُ إلى يوسف بن عبيد، فإذا فتيان كأن على رؤوسهم الطير، فقلتُ: يا معشر القراء، ارفعوا رؤوسكم، فقد وضح الطريق، واعملوا، ولا تكونوا عالة على الناس، فرفع يونس رأسه إليهم، فقال: قوموا، فلا أعلمن أحداً منكم جالسني حتى يكسب معاشه من وجهه، فتفرقوا، قال سفيان: فو الله ما رأيتهم عنده بعده([90]).
29- إنكاره على الاستعجال في طلب العلم:
عن إبراهيم بن سعيد الجوهري، قال: سمعتُ زيد بن الحباب، يقول: سمعتُ سفيان الثوري وسأله شيخ عن حديث، فلم يجبه، قال: فجلس الشيخ يبكي، فقام إليه سفيان، فقال: يا هذا تريد ما أخذته في أربعين سنة أن تأخذه أنت في يوم واحد!([91]).
30- إنكاره على القاضي شريك توليه القضاء:
عن زيد بن أبي خداش، قال: لقي سفيان شريكاً بعدما ولي قضاء الكوفة، فقال: يا عبد الله بعد الإسلام والفقه والخير تلي القضاء وصرت قاضياً؟! فقال له شريك: يا أبا عبد الله، لا بد للناس من قاضٍ، فقال له سفيان: يا أبا عبد الله لا بد للناس من شرطي!([92]).
31- إنكاره على مَن تولى إمارة:
عن سهل بن عاصم، قال: سمعتُ محمد بن أبي منصور، أو غيره قال: عاتب سفيان رجلاً من إخوانه كان هم أن يتلبس بشيء من أمر هؤلاء، فقال له: يا أبا عبد الله، إن علي عيالاً، قال: لأن تجعل في عنقك مخلاة فتسأل على الأبواب، خير من أن تدخل في شيء من أمر هؤلاء([93]).
32- إنكاره على من تشبه بقوم سوء:
عن وهب بن إسماعيل الأسدي، قال: كنا عند سفيان الثوري، فجاءه رجل فسأله عن مسألة وعلى رأسه قلنسوة سوداء، فنظر إليه، فأعرض عنه، ثم سأله الثانية، فنظر إليه، فأعرض عنه، فقال له: يا أبا عبد الله، يسألك الناس فتجيبهم، وأسألك فتنظر إليّ، ثم تعرض عني؟ فقال: هذا الذي تسألني، أي شيء تريد به؟ قال: السنة، قال: فهذا الذي على رأسك أي شيء هو من السنة؟! هذه سنة سنها رجل سوء، يقال له: أبو مسلم، لا تستن بسنته، قال: فنزع الرجل قلنسوته فوضعها، ثم لبث قليلاً، ثم قام فذهب([94]).
33- إنكاره على رجل لبس قلنسوة سوداء:
عن يحيى بن يمان، قال: سمعتُ الثوري، يقول: أبغض ما يكون إليّ إذا رأيتهم قياماً يصلون، قال: ورأى سفيان على رجل قلنسوة سوداء، وذكر له أمر الحج، فقال: وضعك هذه يعدل حجة([95]).
34- إنكاره على أبي جعفر الخليفة:
عن محمد بن أبي داود الأزدي، قال: سمعتُ عبد الرزاق، يقول: أخذ أبو جعفر بتلباب الثوري، وحول وجهه إلى الكعبة فقال: يا رب، برب هذه البنية، أي رجل رأيتني؟ قال: برب هذه البنية بئس الرجل رأيتك، وأطلق يده([96]).
35- إنكاره على رجل:
عن سفيان بن عيينة، عن سفيان الثوري، قال: كان رجل له حظ من العقل، قال: سبقنا الناس ومضوا أمامنا، وبقينا على حمر دبرة، فقال سفيان للرجل: لو كنتَ على الطريق، فشأنك أصلح([97]).
36- إنكاره على كاتب:
عن أحمد بن أبي الحواري، ثنا أخي محمد، قال: مر شيخ من الكوفيين كان كاتباً لسفيان الثوري، فقال له سفيان: يا شيخ ولي فلان فكتبتَ له، ثم عزل، وولي فلان، فكتبتَ له، ثم عزل وولي فلان، فكتبتَ له وأنت يوم القيامة أسوأهم حالاً، يدعى بالأول، فيسأل ويدعى بك، فتسأل معه عما جرى على يدك له، ثم يذهب وتوقف أنت حتى يدعى بالآخر، فيسأل وتسأل أنت عما جرى على يدك له، ثم يذهب وتوقف أنت حتى يدعى بالآخر، فأنت يوم القيامة أسوأهم حالاً، قال: فقال الشيخ: فكيف أصنع يا أبا عبد الله بعيالي؟ فقال سفيان: اسمعوا هذا يقول: إذا عصى الله رزق عياله، وإذا أطاع الله ضيع عياله، قال: ثم قال سفيان: لا تقتدوا بصاحب عيال، فما كان عذر من عوتب إلا أن قال: عيالي([98]).
37- إنكاره على من يسأله وهو مشغول:
عن يوسف بن أسباط، قال: سُئل سفيان الثوري عن مسألة، وهو يشتري شيئاً، فقال: دعني، فإن قلبي مع درهمي([99]).
38- إنكاره على قاضٍ يشتغل بالهزل:
عن عبد العزيز بن أبي خالد، قال: مر سفيان الثوري بالقاضي، وهو يتكلم ببعض ما يضحك به الناس، فقال له: يا شيخ، أما علمتَ أن لله يوماً يحشر فيه المبطلون، فما زالت تعرف في وجه القاضي حتى لقي الله -عز وجل-([100]).
39- إنكاره على النظر إلى ما شيده أهل البطر:
عن يحيى بن المتوكل، قال: مررتُ مع سفيان برجل يبني بناء قد شيده فزوقه، فقال لي: لا تنظر إليه، قلتُ: لم يا أبا عبد الله؟ قال: إن هذا إنما بناه لينظر إليه، ولو كان كل من يمر لم ينظر إليه لم يبن هذا البناء([101]).
وعن ابن أبي الحواري، قال: سمعتُ وكيعاً، بمكة يقول: سمعتُ سفيان -وسئل عن البناء الذي بنوه حول الكعبة- قال: لا تنظروا إليه، فإنهم إنما بنوه لينظر إليه([102]).
40- إنكاره على لباس رجل:
عن موسى بن مسعود، ثنا سفيان الثوري، قال: دخلتُ على جعفر بن محمد، وعليه جبة خز دكناء، وكساء خز إيرجاني، فجعلتُ أنظر إليه معجباً، فقال لي: يا ثوري ما لك تنظر إلينا؟ لعلك تعجب مما رأيتَ؟ قال: قلتُ: يا ابن رسول الله ليس هذا من لباسك، ولا لباس آبائك! فقال لي: يا ثوري، كان ذلك زماناً مقفراً مقتراً، وكانوا يعملون على قدر إقفاره وإقتاره، وهذا زمان قد أقبل كل شيء فيه عز إليه، ثم حسر عن ردن جبته، وإذا تحتها جبة صوف بيضاء يقصر الذيل عن الذيل، والردن عن الردن، فقال لي: يا ثوري لبسنا هذا لله، وهذا لكم، فما كان لله أخفيناه، وما كان لكم أبديناه([103]).
41- إنكاره على القرب من السلاطين:
عن علي بن هلال، عن أبيه، قال: قال سفيان لرجل رآه قريباً من المنبر: شغلتني يا فلان بقربك من المنبر، أما خفتَ أن يقولوا قولاً عجيباً، فيجب عليك رده؟ فقال الرجل له: أليس يقال: ادن واستمع، قال: ذاك لأبي بكر وعمر والخلفاء، فأما هؤلاء فتباعد عنهم حتى لا تسمع كلامهم، ولا ترى وجوههم([104]).
آراؤه وأقواله ومروياته الاحتسابية
1- عن الثوري، عن أبي رياح، عن ابن المسيب، أنه رأى رجلاً يكرر الركوع بعد طلوع الفجر فنهاه، فقال: يا أبا محمد أيعذبني الله على الصلاة؟! قال: لا، ولكن يعذبك على خلاف السنة([105]).
2- عن الثوري، عن معن بن عبد الرحمن، عن شيخ، عن عبد الله قال: رأى رجلاً يحرك الحصى، وهو في الصلاة، فقال عبد الله: إذا سألتَ ربك في صلاة، فلا تسأله وبيدك الحجر([106]).
3- عن الثوري، عن عمرو بن قيس، عن مسروق قال: رأى رجلاً حين سجد رفع رجليه في السماء، فقال: ما تمت الصلاة لهذا([107]).
4- عن الثوري، عن الأعمش، عن حبيب، عن أبي الشعثاء، عن ابن عمر، أنه رأى رجلاً يتنحى إذا سجد، قال: لا، لا تقلب صورتك يقول: لا تؤثرها، قلت: ما تقلب صورتك؟ قال: لا تغير، لا تخنس([108]).
5- عن سفيان الثوري، عن أبيه: إن الحجاج أراد أن يضع رجله على المقام، فزجره ابن الحنفية([109]).
6- قال الثوري: من سمع بدعة، فلا يحكها لجلسائه، لا يلقيها في قلوبهم([110]).
7- عن يحيى بن المتوكل، قال: سمعتُ سفيان الثوري، يقول: إذا أثنى على الرجل جيرانه أجمعون فهو رجل سوء، قالوا لسفيان: كيف ذاك؟ قال: يراهم يعملون بالمعاصي فلا يغير عليهم، ويلقاهم بوجه طلق([111]).
8- عن عمرو بن حسان، قال: كان سفيان الثوري نعم المداوي، إذا دخل البصرة حدث بفضائل علي، وإذا دخل الكوفة حدث بفضائل عثمان([112]).
9- عن يحيى بن يمان، قال: سمعتُ سفيان، يقول: من أصغى سمعه إلى، صاحب بدعة فقد خرج من عصمة الله تعالى([113]).
10- وعن ابن يمان، قال: سمعتُ سفيان، يقول: البدعة أحب إلى إبليس من المعصية، المعصية يتاب منها، والبدعة لا يتاب منها([114]).
11- عن محمد بن يزيد بن خنيس، قال: قال رجل لسفيان الثوري: كيف أصبحتَ يا أبا عبد الله؟ فقال: تسألني كيف أصبحتُ؟ وقد والله تحيرت، اللهم أبرم لهذه الأمة أمراً رشيداً، تعز فيه وليك، وتذل فيه عدوك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، ثم تنفس سفيان، وقال: كم من مؤمن رأيناه مات غيظاً([115]).
12- عن الحسن بن الربيع البوراني، قال: سمعتُ يحيى بن عبد الملك بن أبي غنية، يقول: ما رأيتُ أحداً أصفق وجهاً في ذات الله من سفيان الثوري([116]).
13- عن الوليد بن شجاع بن الوليد، قال: قال أبي: كنتُ أخرج مع سفيان الثوري، فما يكاد لسانه يفتر عن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ذاهباً وراجعاً([117]).
14- عن الوليد بن مسلم، عن سفيان الثوري، قال: لا يأمر السلطان بالمعروف إلا رجل عالم بما يأمر عالم بما ينهى، رفيق فيما يأمر رفيق فيما ينهى، عدل فيما يأمر عدل فيما ينهى([118]).
15- عن عبد الله بن داود، قال: سمعتُ سفيان، يقول: إذا كان الناسك جيرانه عنه راضون فهو مداهن([119]).
16- وعن أبي جعفر الحذاء، قال: سمعتُ سفيان، يقول: إذا أمرتَ بالمعروف شددتَ ظهر المؤمن، وإذا نهيت عن المنكر أرغمت أنف المنافق([120]).
17- عن أبي سعيد الأشج نا أبو خالد قال: سمعتُ سفيان الثوري يقول: أنه ليمر بين يدي المسكين وأنا أصلي فادعه، فإذا مر أحدهم وعليه الثياب يتمشى لم أدعه([121]).
موقفه من السلاطين
تميز سفيان الثوري بموقف خاص من السلاطين، وهو الشدة في القول فيهم، والهروب منهم، وعدم أخذ عطاياهم، مع أنه كان يناديهم بأمير المؤمنين، ولا يرى الخروج عليهم، وينهى عن ذلك، وناصحهم، وأمرهم ونهاهم، ثم هرب منهم، ومن مناصبهم.
وهذا بعض ما جاء في ذلك:
1- فعن عطاء بن مسلم، قال: لما استخلف المهدي بعث إلى سفيان، فلما دخل خلع خاتمه، فرمى به إليه، فقال: يا أبا عبد الله، هذا خاتمي، فاعمل في هذه الأمة بالكتاب والسنة، فأخذ الخاتم بيده، وقال: تأذن في الكلام يا أمير المؤمنين؟ قال عبيد: قلت لعطاء: يا أبا مخلد، قال له: يا أمير المؤمنين؟ قال: نعم، قال: أتكلم على أني آمن؟ قال: نعم، قال: لا تبعث إليّ حتى آتيك، ولا تعطني شيئاً حتى أسألك، قال: فغضب من ذلك، وهم به، فقال له كاتبه: أليس قد أمنته يا أمير المؤمنين؟ قال: بلى، فلما خرج حف به أصحابه، فقالوا: ما منعك يا أبا عبد الله، وقد أمرك أن تعمل في هذه الأمة بالكتاب والسنة؟ قال: فاستصغر عقولهم، ثم خرج هارباً إلى البصرة([122]).
2- وعن صالح بن معاذ البصري، قال: سمعتُ ابن مهدي، يقول: سمعتُ سفيان الثوري، يقول: طُلبتُ في أيام المهدي، فهربتُ، فأتيتُ اليمن، فكنتُ أنزل في حي حي، وآوي إلى مسجدهم، فسرق في ذلك الحي فاتهموني، فأتوا بي معن بن زائدة، وكان قد كُتب إليه في طلبي، فقيل له: إن هذا قد سرق منا، فقال: لم سرقتَ متاعهم؟ فقلتُ: ما سرقتُ شيئاً، فقال لهم: تنحوا لأسأله، ثم أقبل عليّ فقال: ما اسمك؟ قلتُ: عبد الله بن عبد الرحمن، قال: يا عبد الله بن عبد الرحمن نشدتك بالله لما نسبت لي نسبك، قلتُ: أنا سفيان بن سعيد بن مسروق، قال: الثوري؟ قلتُ: الثوري، قال: أنت بُغية أمير المؤمنين؟ قلتُ: أجل، فأطرق ساعة، ثم قال: ما شئتَ فأقم، وارحل متى شئتَ، فو الله لو كنتَ تحت قدمي ما رفعتها([123]).
3- وعن محمد بن عصام جبر، قال: سمعتُ أبي يقول: حججنا مرة والمهدي معنا، وقد هرب سفيان، فخرجنا من منى على حمار، وأنا أسوقه، فلما حاذى بنا المهدي في خيله مازحته، فقلتُ: أنادي فأقول: هذا سفيان؟ فقال: يا ناعس، اسكت لا يسمع إنسان([124]).
4- وعن سلم بن عصام، ثنا رسته، قال: سمعتُ خيراً يقول: سمعتُ سفيان الثوري، يقول -وذكروا له أمر السلطان وطلبهم إياه- فقال: أترون أني أخاف هوانهم، إنما أخاف كرامتهم([125]).
5- وعن أبي إسحاق الفزاري، قال: سمعتُ سفيان الثوري، يقول: إني لألقى الرجل أبغضه، فيقول لي: كيف أصبحتَ؟ فيلين له قلبي، فكيف بمن أكل ثريدهم، ووطئ بساطهم([126]). يعني السلاطين.
6- وعن وهب بن إسماعيل، قال: كنا يوماً عند سفيان، فمر رجل من هؤلاء الجند، فجعل سفيان ينظر إليه، وينظر إلينا، ثم قال: يمر بكم المبتلى والمكفوف والزمنى الذين يؤجرون على بلائهم، فتسألون الله العافية، ويمر بكم هؤلاء، فلا تسألون الله العافية([127]).
7- وعن أحمد بن يونس، ثنا أبو شهاب، قال: كنتُ ليلة مع سفيان الثوري، فرأى ناراً من بعيد، فقال: ما هذا؟ فقلتُ: نار صاحب الشرطة، فقال: اذهب بنا في طريق آخر، لا نستضيء بنارهم، أو قال: بنورهم([128]).
8- وعن أحمد بن يونس، قال: سمعتُ أبا شهاب عبد ربه، يقول: سمعتُ سفيان الثوري، يقول: إذا دعوك لتقرأ عليهم {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص (1)] فلا تأتهم، قلتُ لأبي شهاب: يعني السلاطين، قال: نعم([129]).
9- وعن سفيان، قال: من أخذ من ظالم كراعاً أو مالاً أو سلاحا ًفغزا به في سبيل الله لعن بكل قدم يرفعها ويضعها حتى يرجع([130]).
10- وعن عبد الله بن محمد الباهلي، قال: جاء رجل إلى الثوري، فقال: يا أبا عبد الله، تمسك هذه الدنانير؟ فقال: اسكت لولا هذه الدنانير لتمندل بنا هؤلاء الملوك([131]).
11- وعن عبد الله بن سابق، قال: قال سفيان الثوري: النظر إلى وجه الظالم خطيئة([132]).
وعن عبد الرحمن بن عبد الله، قال: قال سفيان الثوري: النظر إلى وجه الظالم خطيئة، ولا تنظروا إلى الأئمة المضلين إلا بإنكار من قلوبكم عليهم؛ لئلا تحبط أعمالكم([133]).
12- وعن يوسف بن أسباط، قال: قال سفيان الثوري: من دعا لظالم بالبقاء فقد أحب أن يعصى الله([134]).
فهذا هو سفيان بن سعيد الثوري -رحمه الله- وهذه هي سيرته الاحتسابية، فقد كان أمة وحده في الحسبة والاحتساب، والصدع بالحق لا يخاف في الله لومة لائم، ومن كراماته:
ما جاء عن مخلد بن خنيس، قال: سمعتُ سفيان الثوري، يقول: كان على طريقي إلى المسجد كلب يعقر الناس، فأردتُ يوماً الصلاة، والكلب على الطريق، فتنحيتُ عنه، فقال: يا أبا عبد الله، جز، فإنما سلطني الله على من يشتم أبا بكر وعمر، أو كما قال([135]).
رحمه الله رحمة واسعة، ونفعنا بعلومه.
([1]) انظر ترجمته في: سير أعلام النبلاء ط الرسالة (7/ 229) و البداية والنهاية ط إحياء التراث (10/ 142) والأعلام للزركلي (3/ 104) وغيرها.
([31]) سير السلف الصالحين لإسماعيل بن محمد الأصبهاني (ص: 1005) وحلية الأولياء وطبقات الأصفياء (7/ 57).
([32]) سير السلف الصالحين لإسماعيل بن محمد الأصبهاني (ص: 1005) وحلية الأولياء وطبقات الأصفياء (7/ 53).
([33]) سير السلف الصالحين لإسماعيل بن محمد الأصبهاني (ص: 1003) وحلية الأولياء وطبقات الأصفياء (7/ 50).
([54]) البداية والنهاية ط إحياء التراث (10/ 143) وحلية الأولياء وطبقات الأصفياء (8/ 271) والجرح والتعديل لابن أبي حاتم (1/ 90)
([77]) سير السلف الصالحين لإسماعيل بن محمد الأصبهاني (ص: 1006) وحلية الأولياء وطبقات الأصفياء (7/ 58).
([79]) سير السلف الصالحين لإسماعيل بن محمد الأصبهاني (ص: 1006) وحلية الأولياء وطبقات الأصفياء (7/ 59).
([84]) الذاذي: -بمعجمتين- نبت، وقيل: شيء له عنقود مستطيل، وحبه على شكل حب الشعير، يوضع منه مقدار رطل في الفرق فتعبق رائحته، ويجود إسكاره، قال:
شربنا من الذاذي حتى كأننا *** ملوك لنا بر العراقين والبحر
وقيل: الداذي: شراب الفساق، وهو الخمر، وهو على صيغة المنسوب، وليس بنسب، كالذي يأتي بعده، ولم ينبه عليه. انظر: تاج العروس (9/408).
([100]) سير السلف الصالحين لإسماعيل بن محمد الأصبهاني (ص: 1004) وحلية الأولياء وطبقات الأصفياء (7/ 51).