احتساب سلمان الفارسي رضي الله عنه
(000 – 36 هـ = 000 – 656 م)
اسمه ونشأته:
هو الصحابي الجليل، سلمان الفارسي، كان يسمي نفسه سلمان الإسلام، أصله من مجوس أصبهان، عاش عمراً طويلاً، واختلفوا فيما كان يسمى به في بلاده، وقالوا: نشأ في قرية جيان، ورحل إلى الشام، فالموصل، فنصيبين، فعمورية، وقرأ كتب الفرس، والروم، واليهود، وقصد بلاد العرب، فلقيه ركب من بني كلب فاستخدموه، ثم استعبدوه، وباعوه، فاشتراه رجل من قريظة فجاء به إلى المدينة.
وعلم سلمان بخبر الإسلام، فقصد النبي صلى الله عليه وسلم، بقباء، وسمع كلامه، ولازمه أياماً، وأبي أن يتحرر بالإسلام، فأعانه المسلمون على شراء نفسه من صاحبه، فأظهر إسلامه، وكان قويّ الجسم، صحيح الرأي، عالماً بالشرائع، وغيرها.
وهو الذي دلّ المسلمين على حفر الخندق، في غزوة الأحزاب، حتى اختلف عليه المهاجرون والأنصار، كلاهما يقول: سلمان منا، فقال رسول الله: سلمان منها أهل البيت! وجعل أميراً على المدائن، فأقام فيها إلى أن توفي، وكان إذا خرج عطاؤه تصدّق به، ينسج الخوص، ويأكل خبز الشعير، من كسب يده، له في كتب الحديث (60) حديثاً([1]).
مناقبه وفضله:
لما حضر معاذ بن جبل الموت قيل له: يا أبا عبد الرحمن أوصنا؟ قال: أجلسوني، قال: إن العلم والإيمان مكانهما، فمن ابتغاهما وجدهما، إن العلم والإيمان مكانهما، فمن ابتغاهما، وجدهما، فالتمسوا العلم عند أربعة رهط:
عند عويمر أبي الدرداء، وعند سلمان الفارسي، وعند عبد الله بن مسعود، وعند عبد الله بن سلام، الذي كان يهودياً، فأسلم، وإني سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنه عاشر عشرة في الجنة([2]).
وعن سفيان قال: سمعتُ عماراً -يعني الدهني- يقول: كان عطاء سلمان الفارسي أربعة آلاف وكارة من ثياب، فيتصدق بها، ويعمل الخوص([3]).
وعن أبي سفيان عن أشياخه قال: دخل سعد بن أبي وقاص على سلمان يعوده، فبكى سلمان، فقال له سعد: ما يبكيك يا أبا عبد الله؟ توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنك راضٍ، وتلقى أصحابك، وترد عليه الحوض!
فقال سلمان: أما إني لا أبكي جزعاً على الموت، ولا حرصاً على الدنيا، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلينا، فقال: “ليكن بلغة أحدكم مثل زاد الراكب” قال: وحولي هذه الأساود، وإنما حوله وسادة وجفنة ومطهرة([4]).
وعن ميمون بن مهران، عن رجل من عبد القيس، قال: رأيتُ سلمان الفارسي في سرية هو أميرها على حمار، وعليه سراويل وخدمتاه تذبذبان، والجند يقولون: قد جاء الأمير، فقال سلمان: إنما الخير والشر بعد اليوم([5]).
وعن ميمون بن مهران عن رجل من عبد القيس، قال: رأيتُ سلمان في سرية هو أميرها على حمار، والجند يقولون: جاء الأمير، جاء الأمير، فقال سلمان: “إنما الخير والشر فيما بعد اليوم، فإن استطعت أن تأكل التراب، ولا تأمر على رجلين، فافعل، واتق دعوة المظلوم المضطر، فإنها لا تحجب”([6]).
وعن الحسن، قال: كان عطاء سلمان رضي الله تعالى عنه خمسة آلاف درهم، وكان أميراً على زهاء ثلاثين ألفاً من المسلمين، وكان يخطب الناس في عباءة يفترش بعضها، ويلبس بعضها، وإذا خرج عطاؤه أمضاه، ويأكل من سفيف يده”([7]).
وعن أبي حرب بن أبي الأسود، عن أبيه، وعن رجل، عن زاذان الكندي، قالا: كنا عند علي رضي الله تعالى عنه ذات يوم، فوافق الناس منه طيب نفس ومزاح، فقالوا: يا أمير المؤمنين حدثنا عن أصحابك.
قال: عن أي أصحابي؟
قالوا: عن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.
قال: كل أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أصحابي، فعن أيهم؟
قالوا: عن الذين رأيناك تلطفهم بذكرك، والصلاة عليهم، دون القوم، حدثنا عن سلمان.
قال: “من لكم بمثل لقمان الحكيم؟ ذاك امرؤ منا وإلينا أهل البيت، أدرك العلم الأول والعلم الآخر، وقرأ الكتاب الأول والكتاب الآخر، بحر لا ينزف”([8]).
وعن عبد الله بن بريدة: أن سلمان، كان يعمل بيديه، فإذا أصاب شيئاً اشترى به لحماً -أو سمكاً- ثم يدعو المجذمين، فيأكلون معه([9]).
وعن علي بن أبي طلحة، قال: اشترى رجل علفاً لفرسه، وقال لسلمان: يا فارسي، تعال فاحمل، فحمل واتبعه، فجعل الناس يسلمون على سلمان.
فقال: من هذا؟
قال: سلمان الفارسي.
فقال: والله ما عرفتك، أعطني.
فقال سلمان: ” لا، إني أحتسب بما صنعت خصالاً ثلاثاً:
أما إحداهن: فإني ألقيتُ عني الكبر، وأما الثانية: فإني أعين رجلاً من المسلمين على حاجته، وأما الثالثة: فلو لم تسخرني لسخرت من هو أضعف مني، فوقيته بنفسي([10]).
وعن أبي البختري، قال: جاء الأشعث بن قيس وجرير بن عبد الله البجلي إلى سلمان رضي الله عنهم، فدخلا عليه في خص في ناحية المدائن، فأتياه فسلما عليه وحيياه، ثم قالا: أنت سلمان الفارسي؟ قال: “نعم” قالا: أنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: “لا أدري” فارتابا، وقالا: لعله ليس الذي نريد، فقال لهما: “أنا صاحبكما الذي تريدان، قد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وجالسته، وإنما صاحبه من دخل معه الجنة” فما حاجتكما؟ قالا: جئناك من عند أخ لك بالشام، قال: “من هو؟” قالا: أبو الدرداء، قال: “فأين هديته التي أرسل بها معكما؟” قالا: ما أرسل معنا بهدية، قال: “اتقيا الله وأديا الأمانة، ما جاءني أحد من عنده إلا جاء معه بهدية” قالا: لا ترفع علينا هذا، إن لنا أموالاً، فاحتكم فيها، فقال: “ما أريد أموالكما، ولكن أريد الهدية التي بعث بها معكما” قالا: لا والله ما بعث معنا بشيء إلا أنه قال: إن فيكم رجلا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خلا به لم يبغ أحدا غيره، فإذا أتيتماه فأقرئاه مني السلام، قال: “فأي هدية كنت أريد منكما غير هذه، وأي هدية أفضل من السلام تحية من عند الله مباركة طيبة؟”([11]).
سيرته الاحتسابية
كان لسلمان الفارسي رضي الله عنه، سيرة احتسابية حافلة بالمواقف العظيمة، نذكر طرفاً منها:
1- إنكاره على أبي الدرداء:
ففي البخاري: عن عون بن أبي جحيفة، عن أبيه، قال: آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين سلمان، وأبي الدرداء، فزار سلمان أبا الدرداء، فرأى أم الدرداء متبذلة، فقال لها: ما شأنك؟
قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا.
فجاء أبو الدرداء، فصنع له طعاماً، فقال: كل؟ قال: فإني صائم، قال: ما أنا بآكل حتى تأكل.
قال: فأكل، فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم، قال: نم، فنام، ثم ذهب يقوم فقال: نم، فلما كان من آخر الليل قال: سلمان قم الآن، فصليا فقال له سلمان: إن لربك عليك حقاً، ولنفسك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً، فأعط كل ذي حق حقه، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “صدق سلمان”([12]).
وعند الطبراني: “فذكرا أمرهما للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: “ما لسلمان ثكلته أمه؟! لقد أشبع من العلم”([13]).
2- إنكاره على رجل:
عن الوليد بن رباح، أن سهل بن حنيف، حدثه، أنه كان بين سلمان الفارسي وبين إنسان منازعة، فقال سلمان: “اللهم إن كان كاذباً فلا تمته حتى يدركه أحد الثلاثة” فلما سكن عنه الغضب، قلت: يا أبا عبد الله ما الذي دعوت به على هذا؟
قال: “أخبرك: فتنة الدجال، وفتنة أمير كفتنة الدجال، وشح شحيح يأتي على الناس، إذا أصاب الرجل المال لا يبالي مما أصابه”([14]).
3- إنكاره على ضيف:
عن شقيق بن سلمة قال: ذهبتُ أنا وصاحب لي، إلى سلمان الفارسي، فقال سلمان: “لولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهانا عن التكلف لتكلفت لك، ثم جاء بخبز ولحم” فقال صاحبي: لو كان في ملحنا صعتر، فبعث سلمان بمطهرته، فرهنها، ثم جاء بصعتر، فلما أكلناه، قال صاحبي: الحمد لله الذي متعنا بما رزقنا، فقال سلمان رضي الله عنه: “لو قنعت بما رزقك الله لم تكن مطهرتي مرهونة”([15]).
4- إنكاره على رجل لم يأخذ بالرخصة:
عن أبي مسلم مولى زيد بن صوحان، قال: كنتُ مع سلمان، فرأى رجلاً قد أحدث، وهو يريد أن ينزع خفيه للوضوء، فقال سلمان: امسح عليهما، وعلى عمامتك، وقال سلمان: رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على خماره وخفيه”([16]).
5- إنكاره على رجل لم يأخذ برخصة القصر في السفر:
عن أبي ليلى الكندي، قال: أقبل سلمان في ثلاثة عشر راكباً، أو اثني عشر راكباً من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فلما حضرت الصلاة قالوا: تقدم يا أبا عبد الله، قال: إنا لا نؤمكم، ولا ننكح نساءكم، إن الله تعالى هدانا بكم.
قال: فتقدم رجل من القوم فصلى أربع ركعات، فلما سلم قال سلمان: “ما لنا وللمُرَّبَعَة؟ إنما كان يكفينا نصف المربعة، ونحن إلى الرخصة أحوج” قال عبد الرزاق: يعني في السفر([17]).
6- إنكاره على متصدق من مال غيره:
عن أبي البختري، أن سلمان، رضي الله تعالى عنه دعا رجلا إلى طعامه، فجاء مسكين فأخذ الرجل كسرة فناوله، فقال سلمان: «ضعها من حيث أخذتها، فإنما دعوناك لتأكل، فما رغبتك أن يكون الأجر لغيرك، والوزر عليك»([18]).
وعند البيهقي: عن أبي البختري قال: صنع سلمان رضي الله عنه طعاماً، فدعا نفراً من أصحابه، فجاء سائل، فأخذ رجل من الطعام، فناوله، فقال سلمان رضي الله عنه: “دع، إنما دعيت لتأكل” فاستحى الرجل، فلما فرغ قال سلمان: لعله شق عليك ما قلت لك؟! قال: إي والله لقد أزريت بي، قال: “وما مكان حاجتك أن يكون الأجر لي، والوزر عليك”([19]).
وفيه دليل على أنه لا يحل طعام الضيافة لمن لم يدع إليها([20]).
7- إنكاره على عمر رضي الله عنهما:
عن العُتْبيّ: “بُعث إلى عمر رضي الله عنه بحلل فقسمها، فأصاب كل رجل منا ثوب، ثم صعد المنبر، وعليه حلة، والحلة ثوبان، فقال: “أيها الناس ألا تستمعون؟” فقال سلمان رضي الله عنه: “لا نسمع”. ف
قال عمر: “ولِمَ يا أبا عبد الله؟”.
قال: “إنك قسمت علينا ثوباً ثوباً، وعليك حلة”.
فقال: “لا تعجل يا أبا عبد الله، ثم نادى عبد الله، فلم يجبه أحد، فقال: يا عبد الله بن عمر” فقال: “لبيك يا أمير المؤمنين” قال: الثوب الذي اتزرت به هو ثوبك؟ قال: “اللهم نعم” فقال سلمان: “الآن فقل نسمع”([21]).
8- مشاركته في الجهاد، وهو نوع من الحسبة:
عن أبي البختري، أن جيشاً من جيوش المسلمين كان أميرهم سلمان الفارسي، فحاصروا قصراً من قصور فارس، فقالوا: يا أبا عبد الله ألا ننهد إليهم؟
فقال: دعوني أدعهم كما سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوهم، فقال لهم: “إنما أنا رجل منكم فارسي، أترون العرب تطيعني؟ فإن أسلمتم فلكم مثل الذي لنا، وعليكم مثل الذي علينا، وإن أبيتم إلا دينكم تركناكم عليه، وأعطيتمونا الجزية عن يد وأنتم صاغرون” قال: ورطن إليهم بالفارسية: “وأنتم غير محمودين، وإن أبيتم نابذناكم على سواء” فقالوا: ما نحن بالذي نؤمن، وما نحن بالذي نعطي الجزية، ولكنا نقاتلكم، قالوا: يا أبا عبد الله ألا ننهد إليهم؟ قال: لا، فدعاهم ثلاثة أيام إلى مثل هذا، ثم قال: “انهدوا إليهم” فنهدوا إليهم، قال: ففتحوا ذلك الحصن”([22]).
وعن أبي البختري، قال: كان رائد المسلمين سلمان الفارسي، وكان المسلمون قد جعلوه داعية أهل فارس.
قال عطية: وقد كانوا أمروه بدعاء أهل بهرسير، وأمروه يوم القصر الأبيض، فدعاهم ثلاثاً، قال عطية وعطاء: وكان دعاؤه إياهم أن يقول: إني منكم في الأصل، وأنا أرق لكم، ولكم في ثلاث أدعوكم إليها ما يصلحكم: أن تسلموا فإخواننا لكم ما لنا وعليكم ما علينا، وإلا فالجزية، وإلا نابذناكم على سواء، إن الله لا يحب الخائنين([23]).
وعن القاسم أبي عبد الرحمن، أنه قال: زارنا سلمان الفارسي فصلى الإمام بالناس الظهر، ثم خرج وخرج الناس يتلقونه كما يتلقى الخليفة، فتلقيته، وقد صلى بأصحابه العصر، وهو يمشي، فوقفنا نسلم عليه، فلم يبق فينا شريف إلا عرض عليه أن ينزل عليه، فقال: إني جعلتُ في نفسي مرتي هذه، أن أنزل على بشير بن سعد، فلما قدم سأل عن أبي الدرداء، فقالوا: هو مرابط، قال: وأين مرابطكم؟ قالوا: بيروت، فتوجه قبله، فقال سلمان: يا أهل بيروت ألا أحدثكم حديثا يذهب الله به عنكم غرض الرباط؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “رباط يوم صيام شهرين، ومن مات مرابطا أجير من فتنة القبر، وأجري له صالح عمله إلى يوم القيامة”([24]).
وعن شرحبيل بن السمط، أنه رأى سلمان الفارسي وهو مرابط بساحل حمص، فقال: ما هذا؟ قال: مرابط، فقال سلمان: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “رباط يوم في سبيل الله كصيام شهر وقيامه، ومن مات مرابطا جرى عليه أجر عمله الذي كان يعمل وأمن من الفتان، وبعث يوم القيامة شهيداً”([25]).
9- إنكاره على زوجه:
عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قدم سلمان من غيبة له، فتلقاه عمر فقال: أرضاك لله تعالى عبداً، قال: فزوجني، قال: فسكت عنه، فقال: أترضاني لله عبداً، ولا ترضاني لنفسك، فلما أصبح أتاه قوم عمر، فقال: حاجة؟ قالوا: نعم، قال: وما هي إذا تقضى؟ قالوا: تضرب عن هذا الأمر، يعنون خطبته إلى عمر، فقال: أما والله ما حملني على هذا إمرته ولا سلطانه، ولكن قلت: رجل صالح عسى الله أن يخرج مني ومنه نسمة صالحة.
قال: فتزوج في كندة، فلما جاء يدخل على أهله إذا البيت منجد، وإذا فيه نسوة فقال: أتحولت الكعبة في كندة أم هي حمى؟ أمرني خليلي أبو القاسم صلى الله عليه وسلم إذا تزوج أحدنا أن لا يتخذ من المتاع إلا أثاثاً كأثاث المسافر، ولا يتخذ من النساء إلا ما ينكح، أو ينكح، قال: فقمن النسوة فخرجن فهتكن ما في البيت، ودخل على أهله، فقال: يا هذه أتطيعيني أم تعصيني؟ فقالت: بل أطيع، فمرني بما شئت فقد نزلت منزلة المطاع، فقال: إن خليلي أبا القاسم صلى الله عليه وسلم أمرنا إذا دخل أحدنا على أهله أن يقوم فيصلي، ويأمرها فتصلي خلفه، ويدعو ويأمرها أن تؤمن، ففعل وفعلت، قال: فلما أصبح جلس في مجلس كندة، فقال له رجل: يا أبا عبد الله كيف أصبحت؟ كيف رأيت أهلك؟ فسكت عنه، فعاد فسكت عنه، ثم قال: ما بال أحدكم يسأل عن الشيء قد وارته الأبواب والحيطان، إنما يكفي أحدكم أن يسأل عن الشيء، أجيب أو سكت عنه”([26]).
وعن أبي عبد الرحمن السلمي، عن سلمان أنه تزوج امرأة من كندة فبنى بها في بيتها، فلما كان ليلة البناء مشى معه أصحابه حتى أتى بيت امرأته، فلما بلغ البيت قال: ارجعوا آجركم الله، ولم يدخلهم عليها كما فعل السفهاء، فلما نظر إلى البيت، والبيت منجد، قال: أمحموم بيتكم أم تحولت الكعبة في كندة؟
قالوا: ما بيتنا بمحموم، ولا تحولت الكعبة في كندة، فلم يدخل البيت حتى نزع كل ستر في البيت غير ستر الباب، فلما دخل رأى متاعاً كثيراً، فقال: لمن هذا المتاع؟ قالوا: متاعك ومتاع امرأتك، قال: ما بهذا أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم، أوصاني خليلي أن لا يكون متاعي من الدنيا إلا كزاد الراكب، ورأى خدماً فقال: لمن هذا الخدم؟ فقالوا: خدمك وخدم امرأتك، فقال: ما بهذا أوصاني خليلي، أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم أن لا أمسك إلا ما أنكح، أو أنكح، فإن فعلت فبغين كان علي مثل أوزارهن من غير أن ينتقص من أوزارهن شيء، ثم قال للنسوة التي عند امرأته: هل أنتن مخرجات عني، مخليات بيني وبين امرأتي؟ قلن: نعم، فخرجن، فذهب إلى الباب حتى أجافه، وأرخى الستر، ثم جاء حتى جلس عند امرأته، فمسح بناصيتها، ودعا بالبركة، فقال لها: هل أنت مطيعتي في شيء آمرك به؟ قالت: جلست مجلس من يطاع، قال: فإن خليلي صلى الله عليه وسلم أوصاني إذا اجتمعت إلى أهلي أن أجتمع على طاعة الله عز وجل، فقام وقامت إلى المسجد فصليا ما بدا لهما، ثم خرجا فقضى منها ما يقضي الرجل من امرأته، فلما أصبح غدا عليه أصحابه، فقالوا: كيف وجدت أهلك؟ فأعرض عنهم، ثم أعادوا، فأعرض عنهم، ثم أعادوا، فأعرض عنهم، ثم قال: إنما جعل الله تعالى الستور والخدور والأبواب لتواري ما فيها، حسب امرئ منكم أن يسأل عما ظهر له، فأما ما غاب عنه، فلا يسألن عن ذلك، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “المتحدث عن ذلك كالحمارين يتسافدان في الطريق”([27]).
10- إنكاره على تأخير أداء الأمانة:
عن أبي قلابة، أن رجلاً دخل على سلمان، وهو يعجن، فقال: ما هذا؟
فقال: بعثنا الخادم في عمل -أو قال: في صنعة- فكرهنا أن نجمع عليه عملين -أو قال: صنعتين-، ثم قال: فلان يقرئك السلام، قال: متى قدمت؟ قال: منذ كذا وكذا، قال: فقال: “أما إنك لو لم تؤدها كانت أمانة لم تؤدها”([28]).
11- إنكاره على التفاخر بالأنساب:
عن أبي الأحوص، قال: افتخرت قريش عند سلمان، فقال سلمان: لكني خلقتُ من نطفة قذرة، ثم أعود جيفة منتنة، ثم يؤتى بي إلى الميزان، فإن ثقلت فأنا كريم، وإن خفت فأنا لئيم([29]).
12- إنكاره على من ينفر من استماع القرآن:
عن الأعمش، عن عبيد بن أبي الجعد، عن رجل، من أشجع قال: “سمع الناس بالمدائن أن سلمان في المسجد، فأتوه، فجعلوا يثوبون إليه، حتى اجتمع إليه نحو من ألف، قال: فقام فجعل يقول: اجلسوا اجلسوا، فلما جلسوا فتح سورة يوسف يقرؤها، فجعلوا يتصدعون ويذهبون، حتى بقي في نحو من مائة، فغضب، وقال: “الزخرف من القول أردتم، ثم قرأت عليكم كتاب الله فذهبتم!”([30]).
13- إنكاره على أبي الدرداء:
عن مالك بن دينار، أن سلمان، كتب إلى أبي الدرداء: “إنه بلغني أنك جلست طبيباً تداوي الناس، فانظر أن تقتل مسلماً، فتجب لك النار”([31]).
14- إنكاره على من يزيد بالسلام:
عن ميمون، أن رجلاً سلم على سلمان الفارسي، فقال: السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، فقال: سلمان: “حسبك”.
ثم رد على الذي قال، ثم أراد أخرى، فقال له الرجل: أتعرفني يا أبا عبد الله؟ فقال: “أما روحي فقد عرف روحك”([32]).
15- إنكاره على من اعترض عليه أمراً مباحاً:
عن سالم، مولى زيد بن صوحان قال: كنتُ مع مولاي زيد بن صوحان في السوق، فمر علينا سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه، وقد اشترى وسقاً من طعام، فقال له زيد: يا أبا عبد الله، تفعل هذا وأنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!
فقال: “إن النفس إذا أحرزت رزقها اطمأنت، وتفرغت للعبادة، وأيس منها الوسواس”([33]).
16- إنكاره على رجل:
عن عبد الرحمن بن يزيد، قال: قيل لسلمان: قد علمكم نبيكم صلى الله عليه وسلم كل شيء، حتى الخراءة!
فقال سلمان: أجل “نهانا أن نستقبل القبلة بغائط أو ببول، أو أن نستنجي باليمين، أو أن يستنجي أحدنا بأقل من ثلاثة أحجار، أو أن نستنجي برجيع أو بعظم”([34]).
17- إنكاره على قوم:
عن أبي نهيك، وعبد الله بن حنظلة، قال: كنا مع سلمان في جيش فقرأ رجل سورة مريم، قال: فسبها رجل وابنها، قال: فضربناه حتى أدميناه، قال: فأتى سلمان فاشتكى، وقبل ذلك ما كان قد اشتكى إليه، قال: وكان الإنسان إذا ظلم اشتكى إلى سلمان، قال: فأتانا، فقال: لم ضربتم هذا الرجل؟
قال: قلنا: قرأنا سورة مريم فسب مريم وابنها.
قال: ولمَ تسمعونهم ذاك؟!
ألم تسمعوا قول الله عز وجل: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108] بما لا يعلمون، ثم قال: يا معشر العرب، ألم تكونوا شر الناس ديناً، وشر الناس داراً، وشر الناس عيشاً، فأعزكم الله وأعطاكم، أتريدون أن تأخذوا الناس بعزة الله؟ والله لتنتهن أو ليأخذن الله عز وجل ما في أيديكم، فليعطينه غيركم، ثم أخذ يعلمنا، فقال: صلوا ما بين صلاتي العشاء؛ فإن أحدكم يخفف عنه من حزبه، ويذهب عنه ملغاة أول الليل، فإن ملغاة أول الليل مهدمة لآخره”([35]).
أقواله وآراؤه واجتهاداته الاحتسابية
كان لسلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه الكثير من الأقوال والآراء والاجتهادات الاحتسابية، منها:
1- عن طارق بن شهاب، أنه بات عند سلمان لينظر ما اجتهاده، قال: فقام يصلي من آخر الليل، فكأنه لم ير الذي كان يظن، فذكر ذلك له، فقال سلمان رحمه الله:
“حافظوا على هذه الصلوات الخمس، فإنهن كفارات لهذه الجراحات ما لم تصب المقتلة، فإذا صلى الناس العشاء صدروا على ثلاث منازل: منهم من عليه ولا له، ومنهم من له ولا عليه، ومنهم من لا له ولا عليه، فرجل اغتنم ظلمة الليل في غفلة الناس، فركب رأسه في المعاصي، فذلك عليه ولا له، ومن له ولا عليه فرجل اغتنم ظلمة الليل وغفلة الناس، فقام يصلي فذلك له ولا عليه، ومنهم من لا له ولا عليه فرجل صلى ثم نام، فذلك لا له ولا عليه، وإياك والحقحقة، وعليك بالقصد والدوام”([36]).
2- عن عمرو بن مرة، قال: سمعتُ أبا البختري، يحدث، عن رجل، من بني عبس قال: صحبت سلمان رضي الله تعالى عنه، فذكر ما فتح الله تعالى على المسلمين من كنوز كسرى، فقال: إن الذي أعطاكموه، وفتحه لكم، وخولكم لممسك خزائنه، ومحمد صلى الله عليه وسلم حي، ولقد كانوا يصبحون وما عندهم دينار ولا درهم، ولا مد من طعام، ثم ذاك يا أخا بني عبس، ثم مررنا ببنادر تذري فقال: إن الذي أعطاكموه وخولكم وفتحه لكم لممسك خزائنه ومحمد صلى الله عليه وسلم حي، لقد كانوا يصبحون وما عندهم دينار ولا درهم ولا مد من طعام، ثم ذاك يا أخا بني عبس”([37]).
3- عن حفص بن عمر السعدي، عن عمه، قال: قال سلمان لحذيفة: “يا أخا بني عبس إن العلم كثير، والعمر قصير، فخذ من العلم ما تحتاج إليه في أمر دينك، ودع ما سواه، فلا تعانه”([38]).
4- عن أبي البختري، قال: “صحب سلمان رضي الله تعالى عنه رجل من بني عبس، قال: فشرب من دجلة شربة، فقال له سلمان: “عد فاشرب” قال: قد رويت، قال: “أترى شربتك هذه نقصت منها؟” قال: وما ينقص منها شربة شربتها قال: “كذلك العلم لا ينقص، فخذ من العلم ما ينفعك”([39]).
5- وعن جرير، قال: قال سلمان: “يا جرير، تواضع لله؛ فإنه من تواضع لله تعالى في الدنيا رفعه يوم القيامة، يا جرير، هل تدري ما الظلمات يوم القيامة؟” قلت: لا أدري، قال: “ظلم الناس بينهم في الدنيا” قال: ثم أخذ عويداً لا أكاد أن أراه بين أصبعيه، قال: “يا جرير، لو طلبت في الجنة مثل هذا العود لم تجده” قال: قلت: يا أبا عبد الله، فأين النخل والشجر؟ قال: “أصولها اللؤلؤ والذهب، وأعلاها الثمر”([40]).
6- وعن شمر بن عطية، أن سلمان الفارسي، رضي الله تعالى عنه قال: “أكثر الناس ذنوباً يوم القيامة أكثرهم كلاماً في معصية الله عز وجل”([41]).
7- وعن أبي البختري، عن سلمان، قال: “لكل امرئ جواني وبراني، فمن يصلح جوانيه يصلح الله برانيه، ومن يفسد جوانيه يفسد الله برانيه”([42]).
8- وعن زاذان، عن سلمان، رضي الله تعالى عنه قال: “إن الله تعالى إذا أراد بعبد شراً أو هلكة نزع منه الحياء، فلم تلقه إلا مقيتاً ممقتاً، فإذا كان مقيتاً ممقتاً، نزعت منه الرحمة، فلم تلقه إلا فظاً غليظاً، فإذا كان كذلك نزعت منه الأمانة، فلم تلقه إلا خائناً مخوناً، فإذا كان كذلك نزعت ربقة الإسلام من عنقه، فكان لعيناً ملعناً”([43]).
9- وعن يحيى بن سعيد، أن أبا الدرداء كتب إلى سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنهما: أن هلم إلى الأرض المقدسة، فكتب إليه سلمان: “إن الأرض لا تقدس أحداً، وإنما يقدس الإنسان عمله، وقد بلغني أنك جعلت طبيبا،ً فإن كنت تبرئ فنعما لك، وإن كنت متطبباً، فاحذر أن تقتل إنساناً فتدخل النار” فكان أبو الدرداء إذا قضى بين اثنين فأدبرا عنه نظر إليهما، وقال: متطبب والله، ارجعا إلي أعيدا قصتكما”([44]).
10- وعن زيد بن صوحان، قال: قال لي سلمان: “كيف أنت إذا اقتتل القرآن والسلطان” قال: إذا أكون مع القرآن.
قال: “نعم الزويد أنت إذاً”، فقال أبو قرة وكان يبغض الفتن: إذاً أجلس في بيتي، فقال سلمان: “لو كنت في أقصى تسعة أبيات كنت مع إحدى الطائفتين”([45]).
عن حبة بن جوين، قال: كنا في غزاة مع سلمان، فقال سلمان: هؤلاء المشركون -يعني العدو- وهؤلاء المؤمنون، وهؤلاء المنافقون، فيؤيد الله المؤمنين بقوة المنافقين، وينصر الله المنافقين بدعوة المؤمنين([46]).
11- عن سلمان الفارسي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن أهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة، وإن أهل المنكر في الدنيا هم أهل المنكر في الآخرة”([47]).
12- وعن سلمان، قال: “لا تكونن إن استطعت أول من يدخل السوق، ولا آخر من يخرج منها، فإنها معركة الشيطان، وبها ينصب رايته”([48]).
([1]) انظر ترجمته في: الإصابة في تمييز الصحابة (3/ 239) ومعرفة الصحابة لأبي نعيم (3/ 1327) والمنتظم في تاريخ الملوك والأمم (5/ 20) والمعارف (1/ 270) وحلية الأولياء وطبقات الأصفياء (1/ 185) والأعلام للزركلي (3/ 111-112) وغيرها.
([12]) صحيح البخاري في كتاب الصوم، باب من أقسم على أخيه ليفطر في التطوع، ولم ير عليه قضاء إذا كان أوفق له (3/ 38-1968).
([21]) محض الصواب في فضائل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب (2/ 579) والأخبار الموفقيات للزبير بن بكار (ص: 71-109).