احتساب عبد الرحمن بن مهدي
رحمه الله
(135 – 198 هـ = 752 – 814 م)
اسمه:
هو عبد الرحمن بن مهدي بن حسان العنبري، البصري، اللؤلؤي، أبو سعيد([1]).
فضله، وثناء العلماء عليه:
عبد الرحمن بن مهدي إمام، من كبار حفاظ الحديث، وله فيه تصانيف، حدّث ببغداد، ومولده ووفاته في البصرة.
قال عنه الإمام الشافعيّ: لا أعرف له نظيراً في هذا الشأن([2]).
وهو الذي كتب له الشافعي كتابه الرسالة.
فعن أبي ثور قال: كتب عبد الرحمن بن مهدي إلى الشافعي، وهو شاب: أن يضع له كتاباً فيه معاني القرآن، ويجمع قبول الأخبار، وحجة الإجماع، وبيان الناسخ والمنسوخ من القرآن، والسنة، فوضع له كتاب الرسالة، قال عبد الرحمن بن مهدي: لما نظرت في كتاب الرسالة لمحمد بن إدريس، أذهلني؛ لأنني رأيت كلام رجل عاقل، فقيه ناصح، وإني لأكثر الدعاء له([3]).
وقال عنه الإمام أحمد بن حنبل: كأنَّ عبد الرحمن بن مهدي خُلق للحديث([4]).
وقال عنه أيضاً: كان ثقة خياراً، من معادن الصدق، صالحاً مسلماً([5]).
وقال علي بن المديني: لو حلفت بين الركن والمقام لحلفتُ أني لم أرَ أحداً أعلم من عبد الرحمن بن مهدي([6]).
وقال عنه المقدمي: ما رأيتُ أحداً أتقن لما سمع، ولما لم يسمع، ولحديث الناس من عبد الرحمن بن مهدي([7]).
وقال عنه الذهبي: كان عبد الرحمن من كبار العلماء، قال فيه أحمد بن حنبل: عبد الرحمن بن مهدي إمام([8]).
وقال أيوب بن المتوكل: كنا إذا أردنا أن ننظر إلى الدين والدنيا، ذهبنا إلى دار عبد الرحمن بن مهدي، وقال علي بن المديني: أعلم الناس بالحديث عبد الرحمن بن مهدي([9]).
وعن زياد بن أيوب قال: “كنا في مجلس هشيم، فلما قام أخذ أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وخلف بن سالم بيد فتى أمنا، فأدخلوه مسجداً، وكتبوا عنه، وكتبناً، فإذا هو عبد الرحمن بن مهدي”([10]).
وعن الحسن بن محمد بن الصباح، أخبرني غير واحد، أنهم كانوا عند حماد بن زيد، فُسئل عن مسألة، فقال: أين ابن مهدي؟ من لهذا إلا ابن مهدي؟ قال: فأقبل عبد الرحمن، فسأله، عن ذلك، فأجاب، فلما قام من عنده، قال: “هذا سيد، أو فتى البصرة منذ ثلاثين سنة، أو نحو هذا”([11]).
وعن عبد الرحمن بن عمر، قال: سمعت عبد الرحمن بن مهدي، قال: كنا في جنازة فيها عبيد الله بن الحسن العنبري، وهو يومئذٍ قاضي البصرة، وموضعه في قومه، وقدره عند الناس، فتكلم في شيء فأخطأ فقلت، وأنا يومئذ حدث: ليس هكذا يا أبي، عليك بالأثر، فتزايد علي الناس، فقال: عبيد الله: دعوه، وكيف هو؟ فأخبرته، فقال: صدقت يا غلام، إذا أرجع إلى قولك، وأنا صاغر([12]).
هيبته:
قال أحمد بن سنان: كان لا يتحدث في مجلس عبد الرحمن، ولا يبرى قلم، ولا يتبسم أحد، ولا يقوم أحد قائماً، كأنَّ على رؤوسهم الطير، أو كأنهم في صلاة، فإذا رأى أحداً منهم تبسم، أو تحدث، لبس نعله، وخرج([13]).
عبادته:
قال علي بن المديني: كان ورد عبد الرحمن كل ليلة نصف القرآن([14]).
وقال ابن المديني: دخلت على امرأة عبد الرحمن بن مهدي -وكنت أزورها بعد موته-، فرأيت سواداً في القبلة، فقلت: ما هذا؟ قالت: موضع استراحة عبد الرحمن، كان يصلي بالليل، فإذا غلبه النوم، وضع جبهته عليه([15]).
وعن يحيى بن عبد الرحمن بن مهدي أن أباه قام ليلة، وكان يحيي الليل كله، قال: فلما طلع الفجر، رمى بنفسه على الفراش حتى طلعت الشمس، ولم يصل الصبح، فجعل على نفسه أن لا يجعل بينه وبين الأرض شيئاً شهرين، فقرح فخذاه جميعاً([16]).
وقال إسماعيل بن الصلت بن أبي مريم مستملي علي بن المديني، عن علي بن المديني: كان عبد الرحمن بن مهدي يختم فِي كل ليلتين، كان ورده فِي كل ليلة نصف القرآن([17]).
قصة له مع الإمام مالك:
قال أبو العرب: حدثني عبد الله بن محمد الفارسي عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي المصعب قال: قدم عبد الرحمن بن مهدي، فصلى، ووضع رداءه بين الصفوف، فلما أن سلم الإمام رمقه أهل المسجد، بأبصارهم، وجعلوا يرمقون مالك بن أنس، وكان قد صلى خلف الإمام، فلما أن سلم الإمام، قال مالك: من ههنا من الحرس؟ فجاءه نفسان، فقال: خذا صاحب الثوب، فاحبساه، فأخذ، فحبس، فقيل له بعد أن حبس: إنه عبد الرحمن بن مهدي، فوجه إليه فدعاه، وقال: أما خفت الله واتقيته أن وضعت ثوبك بين يديك في الصف، وأشغلت المصلين بالنظر إليه، وأحدثت في مسجدنا شيئاً ما كنا نعرفه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: “من أحدث في مسجدنا حدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين”([18]) فبكى عبد الرحمن، وآلى على نفسه ألا يضع ثوبه بين يدي الصف أبداً في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا غيره([19]).
سيرته الاحتسابية
كان لعبد الرحمن بن مهدي رحمه الله سيرة احتسابية حافلة بالعطاء، نذكر منها بعض المواقف الاحتسابية:
1- إنكاره على الجهمية:
عن أبي بكر بن أبي الأسود قال: سمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول: -ويحيى بن سعيد القطان جالس وذكر الجهمية- فقال: ما كنت لأناكحهم، ولا أصلي خلفهم، ولو أن رجلاً منهم خطب إلى أمة لي ما زوجته([20]).
وعن أبي موسى محمد بن المثنى قال: رأيتُ في حجر عبد الرحمن بن مهدي كتاباً فيه حديث رجل قد ضرب عليه، فقلت: يا أبا سعيد لم ضربت على حديثه؟ قال: أخبرني يحيى أنه يُرمى برأي جهم، فضربتُ على حديثه([21]).
وعن عبد الرحمن بن عمر قال: سمعت عبد الرحمن بن مهدي، وذكر عنده رجل من الجهمية، أنهم ذكروا عنده أن الله -تبارك وتعالى- خلق آدم بيده، فقال: عجنه بيده، وحرك بيديه العجين، فقال عبد الرحمن: لو استشارني هذا السلطان في الجهمية لأشرت عليه أن يستتيبهم، فإن تابوا، وإلا ضرب أعناقهم([22]).
وعن أبي طالب قال: سألت أبا عبد الله عن ميراث الجهمي، إذا كان له أخ، ابن يرثه؟ قال: بلغني عن عبد الرحمن أنه قال: لو كنت أنا ما ورثته، قلت: ما تقول أنت؟ قال: ما تصنع بقولي؟ قلت: على ذاك، قال: لست أقول شيئاً، قلت: فإن ذهب إنسان إلى قول عبد الرحمن تنكر عليه؟ قال: لم أنكر عليه، كأنه أعجبه([23]).
2- إنكاره على طالب علم يضحك:
عن عبد الرحمن بن عمر قال: سمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول -وضحك رجل في مجلسه وسمعه- فقال: من الذي يضحك؟ فأعاد مراراً، فأشاروا إلى رجل، فأقبل عليه، وهو يقول: تطلب العلم وأنت تضحك؟ مرتين، لا حدثتكم شهرين، فقام الناس، فانصرفوا، ولا أعلم أني رأيت عبد الرحمن ضاحكاً شديداً بقهقهة إلا التبسم، فإن خشي عليه أن يغلبه أمسك على فمه([24]).
3- إنكاره على من يقول القرآن مخلوق:
عن محمد بن المهاجر قال: سمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول: من قال: القرآن مخلوق، فلا تصل خلفه، ولا تمش معه في طريق، ولا تناكحه([25]).
وقال إبراهيم بن زياد سبلان: قلت لعبد الرحمن بن مهدي: ما تقول فيمن يقول: القرآن مخلوق؟
فقال: لو كان لي سلطان، لقمت على الجسر، فلا يمر بي أحد إلا سألته، فإذا قال: مخلوق، ضربت عنقه، وألقيته في الماء([26]).
وعن الفضل بن إسحاق الدوري قال: سمعت ابن مهدي يقول: من زعم أن القرآن مخلوق استتبته، فإن تاب وإلا ضربت عنقه؛ لأنه كافر بالقرآن، قال: الله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164]([27])
وعن أحمد بن إسحاق قال: سمعت عبد الرحمن بن مهدي، وذكروا عنده الجهمية، وأنهم يقولون: القرآن مخلوق، فقال: إنهم يريدون أن ينفوا عن الله الكلام، وأن يكون القرآن كلام الله، وأن الله تعالى كلم موسى، وقد ذكره الله تعالى، فقال: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164]([28]).
4- إنكاره على أهل الأهواء والبدع:
عن عبد الرحمن بن عمر قال: سمعت عبد الرحمن بن مهدي، وسئل عن الصلاة خلف أصحاب الأهواء، فقال: يصلى خلفهم ما لم يكن داعية إلى بدعته، مجادلاً بها، إلا هذين الصنفين: الجهمية، والرافضة؛ فإن الجهمية كفار بكتاب الله عز وجل، والرافضة ينتقصون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم([29]).
وسمعت عبد الرحمن يكره الجلوس إلى أصحاب الرأي، وأصحاب الأهواء، ويكره أن يجالسهم أو يماريهم، فقلت له: أترى للرجل إذا كانت له خصومة، وأراد أن يكتب عهده أن يأتيهم؟ قال: لا، مشيك إليهم توقير، وقد جاء فيمن وقر صاحب بدعة ما جاء([30]).
وعن عبد الرحمن بن عمر قال: ذكر عند عبد الرحمن بن مهدي قوم من أهل البدع، واجتهادهم في العبادة، فقال: لا يقبل الله إلا ما كان على الأمر والسنة، ثم قرأ: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} [الحديد: 27] فلم يقبل ذلك منهم، ووبخهم عليه، ثم قال: الزم الطريق والسنة([31]).
وعن مقاتل بن محمد قال: قال لي عبد الرحمن بن مهدي يا أبا الحسن: لا تجالس هؤلاء أصحاب البدع، إن هؤلاء يفتون فيما تعجز عنه الملائكة([32]).
وعن عبد الرحمن: أنه كان يكره الجلوس إلى ذي هوى، أو ذي رأي([33]).
5- إنكاره على فتى من المشبهة:
قال رسته: سمعت ابن مهدي يقول لفتى من ولد الأمير جعفر بن سليمان: بلغني أنك تتكلم في الرب وتصفه وتشبهه.
قال: نعم، نظرنا، فلم نر من خلق الله شيئاً أحسن من الإنسان.
فأخذ يتكلم في الصفة والقامة، فقال له: رويدك يا بني حتى نتكلم أول شيء في المخلوق، فإن عجزنا عنه، فنحن عن الخالق أعجز، أخبرني عما حدثني شعبة، عن الشيباني، عن سعيد بن جبير، عن عبد الله: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم: 18] قال: رأى جبريل له ستمائة جناح، فبقي الغلام ينظر، فقال: أنا أهون عليك، صف لي خلقاً له ثلاثة أجنحة، وركب الجناح الثالث منه موضعاً حتى أعلم، قال: يا أبا سعيد، عجزنا عن صفة المخلوق، فأشهدك أني قد عجزت، ورجعت([34]).
6- إنكاره على فرقة يقال لهم الشمرية:
عن عبد الرحمن بن عمر، ثنا عبد الرحمن بن مهدي، وذكر عنده قوم يقال لهم الشمرية، من أصحاب أبي شمر يقولون كذا وكذا، فقال: عبد الرحمن: ما أخبث قولهم، يزعمون لو أن رجلاً اشترى ثوباً، وفيه درهم أو دانق من حرام، لا تقبل له صلاة، ولو أن رجلاً تزوج امرأة في مهرها درهم من حرام لا تحل له، وكان وطؤها حراماً، ويقولون: لو أن رجلاً ذبح شاة بسكين لرجل لم يأمر به، أو كان ثمنه من حرام كانت ميتة، وما رأيت قولاً أخبث من قولهم، فنسأل الله تعالى العافية والسلامة([35]).
7- إنكاره على رجل يخاصم في الدين بالرأي:
عن محمد بن عيسى الطرسوسي قال: سمعت عبد الرحمن رسته يقول: كانت لعبد الرحمن بن مهدي جارية، فطلبها منه رجل، فكان منه شبه العدة، فلما عاد إليه، قيل لعبد الرحمن: هذا صاحب الخصومات، فقال له عبد الرحمن: بلغني أنك تخاصم في الدين، فقال: يا أبا سعيد! إنا نضع عليهم لنحاجهم بها، فقال: أتدفع الباطل بالباطل؟ إنما تدفع كلاماً بكلام، قم عني، والله لا بعتك جاريتي أبداً([36]).
وعن عبد الرحمن بن عمر قال: شهدت عبد الرحمن بن مهدي -وأراد أن يشتري، وصيفة له من رجل من أهل بغداد- فلما قام عنه أخبر أنه، وضع كتباً من الرأي، وابتدع ذلك فجعل يقول: نعوذ بالله من شره، وكان إذا أتاه قربه وأدناه، فلما جاءه رأيته دخل وعبد الرحمن مريض فسلم، فلم يرد عليه فقعد، فقال له: يا هذا ما شيء بلغني عنك، إنك ابتدعت كتباً، أو وضعت كتباً في الرأي، فأراد أن يتقرب إليه بسوء، رأيه في أبي حنيفة فقال: يا أبا سعيد إنما وضعت كتباً رداً على أبي حنيفة، فقال له: ترد على أبي حنيفة بآثار رسول الله صلى الله عليه وسلم، وآثار الصالحين؟ فقال: لا، فقال: إنما ترد على أبي حنيفة بآثار رسول الله صلى الله عليه وسلم، وآثار الصالحين، فأما ما قلت فرد الباطل بالباطل، اخرج من داري، فما كنت أضع أو أتبع حرمة عندك، ولو بكذا وكذا، فذهب يتكلم، فقال له: محرم عليك أن تتكلم أو تتمكن في داري، فقام وخرج([37]).
وعن محمد بن يحيى بن منده قال: سمعت رسته، يقول: قيل لعبد الرحمن بن مهدي: إن فلاناً قد صنف كتاباً في السنة رداً على فلان، فقال عبد الرحمن: رداً بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، قيل: بكلام، قال: رد باطلاً بباطل([38]).
عن عبد الرحمن بن عمر رسته قال: سمعت عبد الرحمن بن مهدي، وذكر عنده أصحاب الرأي، فقال: {وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة: 77]([39]).
8- إنكاره على من يقيس قياساً غير صحيح:
قال عبد الرحمن بن مهدي: دخلت على محمد بن الحسن صاحب الرأي فرأيت عنده كتاباً موضوعاً، فأخذته، ونظرت فيه فإذا هو قد أخطأ، وقاس على الخطأ، فقلت: ما هذا؟ فقال: حديث أبي خلدة، عن أبي العالية، في الدود يخرج من الدبر، وقد تأوله على غير تأويله، وقاس عليه فقلت: هذا ليس هكذا، قال: كيف هو؟ فأخبرته، فقال: صدقت، ودعا بمقراض فقرض من كتابه كذا وكذا ورقة([40]).
9- إنكاره على من يمشون خلفه:
قال عبد الرحمن يوماً من المجلس، وتبعه الناس، فقال: يا قوم لا تطؤوا عقبي، ولا تمشوا خلفي، ووقف، فقال: حدثنا أبو الأشهب، عن الحسن قال: قال عمر بن الخطاب: إن خفق النعال خلف الأحمق قل ما يبقي من دينه([41]).
10- أمره ابنته وزوجها بالصلاة وهما حديثو عهد بعرس (وهو من الأمر بالمعروف):
حيث خرج عبد الرحمن صبيحة أبني على ابنته فأذن، ثم مشى إلى بابهما، فقال: للجارية: قولي لهما يخرجان إلى الصلاة، فخرج النساء والجواري، فقلن: سبحان الله أي شيء هذا؟
قال: لا أبرح حتى يخرجا، فخرجا بعد ما صلى عبد الرحمن([42]).
11- إنكاره على مُحدِّث:
وهو [عيسى بن ميمون القرشي المدني مولى القاسم عن مولاه].
قال عبد الرحمن بن مهدي: استعديت عليه، وقلتُ: ما هذه الأحاديث التي تروي عن القاسم عن عائشة؟ فقال: لا أعود، قال البخاري: منكر الحديث([43]).
12- إنكاره على مُحدِّث آخر:
وسئل عن رجل محدث: ثقة هو؟ قال: دعه، لا تزيده، ولا تحدثني عنه، قال: لمه؟ قال: تولدت أحاديثه، يعني زادت([44]).
13- إنكاره على مُحدِّث آخر:
عن عبد الله بن أحمد سمعت أبي يقول: قال عبد الرحمن بن مهدي ها هنا قوم يحدثون عن شعبة ما رأيناهم عند شعبة، قلت له: من تعني بهذا؟ قال: وهب بن جرير، قال أبي: ما رأى وهب عند شعبة قط، ولكن وهب كان صاحب سنة حدث عن شعبة، زعموا نحوا من أربعة آلاف حديث فقال عفان هذه أحاديث([45]).
14- إنكاره على أبي بكر الأصم:
عن أحمد بن سنان قال: جاء أبو بكر الأصم إلى عبد الرحمن بن مهدي، فقال: جئت أناظرك في الدين، فقال: إن شككت في شيء من أمر دينك فقف، حتى أخرج إلى الصلاة، وإلا فاذهب إلى عملك، فمضى، ولم يثبت([46]).
15- إنكاره على سهل بن أبي خدويه:
عن محمد بن عثمان قال: سمعت عبد الرحمن بن مهدي: وسأله، سهل بن أبي خدويه عن القرآن، فقال: يا أبا يحيى ما لك ولهذه المسائل! هذه مسائل أصحاب جهم، إنه ليس في أصحاب الأهواء شر من أصحاب جهم يدورون على أن يقولوا: ليس في السماء شيء، أرى والله ألا يناكحوا، ولا يوارثوا([47]).
16- إنكاره على الصوفية:
عن سويد قال: سمعت عبد الرحمن بن مهدي وذكر الصوفية، فقال: لا تجالسوهم، ولا أصحاب الكلام، عليكم بأصحاب القماطر، فإنما هم بمنزلة المعادن مثل الغواص، هذا يخرج درة، وهذا يخرج قطعة ذهب([48]).
17- إنكاره على رجل:
عن مهنى قال: سمعت أحمد يقول: وذكر رجل عند عبد الرحمن بن مهدي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ليس منا من ضرب الخدود، وشق الجيوب، أو دعا بدعوى الجاهلية”([49])، فقال الرجل: إنما هو ليس مثلنا.
فقال عبد الرحمن بن مهدي منكراً لقول الرجل: أرأيت لو عمل أعمال البر كلها، كان يكون مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!([50]).
18- إنكاره على القدرية:
قال عبد الرحمن بن عمر رسته: رآني ابن مهدي يوم جمعة جالساً إلى جنب أحمد بن عطاء، وكان يتكلم في القدر، وكان أزهد من رأيت، فاعتذرت إلى عبد الرحمن، فقال: لا تجالسه، فإن أهون ما ينزل بك أن تسمع منه شيئاً، يجب لله عليك أن تقول له: كذبت، ولعلك لا تفعل([51]).
19- إنكاره على محدث:
عن محمد بن عبد الله بن عمار قال: جئت يوماً إلى عبد الرحمن بن مهدي فقال: أين كنت؟ قلت: كنت عند رجل يقال له: روح بن عبادة، وكتبت عنه عن شعبة عن أبي الفيض عن معاوية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار”([52])
فقال: أخطأ، وتكلم في روح، ثم قال حدثنا شعبة عن رجل عن أبي الفيض عن معاوية عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله([53]).
أقواله المأثورة
كان لعبد الرحمن بن مهدي رحمه الله تعالى الكثير من الأقوال المأثورة، المشهور، نذكر طرفاً منها:
1- قال ابن المديني: قال عبد الرحمن: اترك من كان رأساً في بدعة يدعو إليها([54]).
2- عن عبد الرحمن بن عمر قال: سمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول: يحرم على الرجل أن يقول في أمر الدين إلا شيئاً سمعه من ثقة، يعني: بذلك أصحاب الرأي([55]).
3- قال نعيم بن حماد: قلت لعبد الرحمن بن مهدي: كيف تعرف الكذاب؟ قال: كما يعرف الطبيب المجنون([56]).
4- وعن عبد الرحمن بن عمر قال: سمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول: لولا أني أكره أن يعصى الله لتمنيت أن لا يبقى في هذا المصر أحد إلا وقع في واغتابني، وأي شيء أهنأ من حسنة يجدها الرجل في صحيفته يوم القيامة يعملها، ولم يعلم بها([57]).
5- وسئل عن الرجل يشارك من لا يثق بدينه، فقال: لا تفعل، ولا تخالطه أيضاً، فإني أخاف أن يطعمك الخبيث أو الحرام([58]).
6- وعن عبد الرحمن بن عمر قال: سمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول: يحرم على الرجل أن يروي حديثاً في أمر الدين، حتى يتقنه، ويحفظه، كالآية من القرآن، أو كاسم الرجل([59]) .
7- وقال عبد الرحمن بن مهدي: كانت الألواح من زمرد، فلما ألقاها موسى ذهب التفصيل، وبقي الهدى والرحمة، ثم قرأ عبد الرحمن: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْء} [الأعراف: 145] وقرأ: {وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ} [الأعراف: 154] ولم يذكر التفضيل([60]) ها هنا([61]).
8- وقال عبد الرحمن بن مهدي: النّاس يتفاضلون في العلم، وكلّ إنسان يذهب إلى شيء، ولم أر أحداً أعلم بالسّنّة من حمّاد بن زيد؛ فإذا رأيت بصرياً يحب حمّاد بن زيد فهو صاحب سنّة؛ وإذا رأيت كوفيّاً يحب زائدة ومالك بن مغول، فهو صاحب سنّة؛ وإذا رأيت شامياً يحب الأوزاعيّ وأبا إسحاق الفزاريّ فهو صاحب سنّة؛ وإذا رأيت حجازياً يحبّ مالك بن أنس فهو صاحب سنّة([62]).
9- وقال عبد الرحمن بن مهدي: الذي يبرئ نفسه من الغلط مجنون، ومن لا يغلط؟([63](.
10- وقال عبد الرحمن بن مهدي: أهل العلم يكتبون ما لهم، وما عليهم، وأهل الأهواء لا يكتبون إلا ما لهم([64]).
11- وعن تميم بن بهلول القاضي سمعت بنداراً يقول: ذكر الآراء عبد الرحمن بن مهدي بالبصرة فأنشأ يقول:
دين النبي محمد آثار *** نعم المطية للفتى الأخبار
لا تخدعن عن الحديث وأهله *** فالرأي ليل والحديث نهار
فلربما غلط الفتى سبل الهدى *** والشمس بازغة لها أنوار([65](.
12- ويروى عن ابن مهدي قال: من طلب العربية، فآخره مؤدب، ومن طلب الشعر، فآخره شاعر يهجو، أو يمدح بالباطل، ومن طلب الكلام، فآخر أمره الزندقة، ومن طلب الحديث، فإن قام به، كان إماماً، وإن فرط ثم أناب يوماً، يرجع إليه، وقد عتقت وجادت([66]).
13- وقال المروذي: وسمعت بعض مشايخنا يقول: سمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول: إذا ترك الاستثناء فهو أصل الإرجاء([67]).
14- وعن حبيش بن سندي، عن أبي عبد الله، قال: بلغني عن عبد الرحمن بن مهدي، أنه قال: أول الإرجاء ترك الاستثناء([68]).
15- وعن يعقوب الدورقي قال: قال عبد الرحمن بن مهدي: أنا أقول الإيمان يتفاضل([69]).
16- وعن محمد بن أبان قال: قلت لعبد الرحمن بن مهدي: الإيمان قول وعمل؟ قال: نعم، قلت: يزيد وينقص؟ قال: يتفاضل، كلمة أحسن من كلمة([70]).
17- وعن حرب بن إسماعيل الكرماني قال: قيل لأحمد: ما معنى حديث النبي صلى الله عليه وسلم: “من غشنا فليس منا”([71])، فلم يجب فيه، قيل: فإن قوماً قالوا: من غشنا فليس مثلنا، فأنكره، وقال: هذا تفسير مسعر وعبد الكريم أبي أمية، كلام المرجئة.
قال أحمد: وبلغ عبد الرحمن بن مهدي فأنكره، وقال: لو أن رجلاً عمل بكل حسنة أكان يكون مثل النبي صلى الله عليه وسلم([72]).
18- وقال أحمد بن حنبل: سألوا عبد الرحمن بن مهدي عن القدر، فقال لهم: الخير والشر بقدر([73]).
مروياته الاحتسابية
كان لعبد الرحمن بن مهدي رحمه الله مرويات احتسابية، منها:
1- عن عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا سفيان، عن علي بن بذيمة عن أبي عبيدة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن بني إسرائيل لما وقع فيهم النقص، كان الرجل يرى أخاه على الذنب، فينهاه عنه، فإذا كان الغد لم يمنعه ما رأى منه أن يكون أكيله وشريبه وخليطه، فضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ونزل فيهم القرآن فقال: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَم} [المائدة: 78] حتى بلغ: {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [المائدة: 81] قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئاً، فجلس، وقال: “لا، حتى تأخذوا على يدي الظالم، فتأطروه على الحق أطراً”([74]).
2- وعن عبد الرحمن بن مهدي البصري قال: نا عبد الله بن المبارك عن عتبة بن أبي حكيم، عن عمرو بن جابر، عن أبي أمية الشيباني، قال: أتيت أبا ثعلبة الخشني، فقلت: يا أبا ثعلبة كيف تصنع في هذه الآية؟ قال: أية آية؟ قلت: قول الله تعالى: {لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105] قال: أما والله لقد سألت عنها خبيراً، سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: بل ائتمروا بالمعروف، وتناهوا عن المنكر؛ حتى إذا رأيت شحاً مطاعاً، وهوى متبعاً، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بنفسك، ودع أمر العوام؛ فإن من ورائكم أياماً، الصبر فيهن مثل قبض على الجمر، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عمله” قال: زادني غيره: قيل: يا رسول الله أجر خمسين منهم؟ قال: “أجر خمسين منكم”([75]).
3- وعن عبد الرحمن بن مهدي، قال: حدثنا محمد بن النضر الحارثي، قال: قلت للأوزاعي: آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر؟ قال: مر من يقبل منك([76]).
4- وعن عبد الرحمن بن مهدي، عن محمد بن أبي الوضاح؛ قال: حدثني ثابت أبو سعيد -لقيته بالري- عن يحيى بن يعمر: أن علياً قام خطيباً، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس، إنما هلك من كان قبلكم بركوبهم المعاصي، ولم ينهاهم الربانيون والأحبار، فلما تمادوا في المعاصي، ولم ينهاهم الربانيون والأحبار؛ أنزل الله بهم العقوبات، فمروا بالمعروف، وانهوا عن المنكر قبل أن ينزل بكم ما نزل بهم، إن هذا الأمر يتنزل من السماء إلى الأرض كقطر المطر إلى كل نفس بما قدر الله لها من زيادة أو نقصان([77]).
([1]) ينظر ترجمته في: حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (9/ 3) وسير أعلام النبلاء (9/ 192) وتاريخ بغداد وذيوله (10/ 239) والأعلام للزركلي (3/ 339) وغيرها.
([18]) أخرجه البخاري في كتاب فضائل المدينة، باب حرم المدينة (3/ 20)، (1870) ومسلم في كتاب الحج باب فضل المدينة، ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم فيها بالبركة، وبيان تحريمها، وتحريم صيدها وشجرها، وبيان حدود حرمها (2/ 994)، (1370) لكن بلفظ: المدينة حرم، ما بين عائر إلى كذا، من أحدث فيها حدثاً، أو آوى محدثاً، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.
([49]) بنحوه أخرجه البخاري في كتاب الجنائز، باب ما ينهى من الويل ودعوى الجاهلية عند المصيبة (2/ 82)، (1298) ومسلم في كتاب الإيمان، باب تحريم ضرب الخدود وشق الجيوب والدعاء بدعوى الجاهلية (1/ 99)، (103).
([52]) أخرجه البخاري في كتاب العلم، باب إثم من كذب على النبي صلى الله عليه وسلم (1/ 33)، (110) ومسلم في المقدمة باب تغليظ الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم (1/ 10)، (3).
([71]) أخرجه بهذا اللفظ مسلم في كتاب الإيمان، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: “من غشنا فليس منا” (1/ 99)، (101).