احتساب عبد الله بن المبارك رحمه الله
(118 – 181 هـ = 736 – 797 م)
اسمه ونشأته:
هو عبد الله بن المبارك بن واضح الحنظليّ بالولاء، التميمي، المروزي من أهل مرو، أبو عبد الرحمن، الحَافظ، شيخ الإسلام، المجاهد التاجر، صاحب التصانيف والرحلات. أفنى عمره في الأسفار، حاجا ومجاهداً وتاجراً، وجمع الحديث والفقه والعربية، وأيام الناس والشجاعة والسخاء، كان من سكان خراسان، ومات بهيت -مدينة على الفرات-، منصرفاً من غزو الروم، له كتاب في (الجهاد) وهو أول من صنف فيه، و(الرقائق)([1]).
مناقبه:
كان فيه خصال مجتمعة، لم تجتمع في أحد من أهل العلم في زمانه، كان فقيهاً، عالماً، ورعاً، حافظاً، يعرف السنن، رحالاً في طلب العلم، شجاعاً ينازل الأبطال، أديباً يقول الشعر، سخياً بما يملك، وكان إذا سافر يحمل سفرته على جمله من كبرها، فإذا نزل طرحها، فوردها من احتاج إليها، وكان يقول: لولا فضيل بن عياض ما اتجرت([2]).
وحُكي إنه كان معاصراً لفضيل بن عياض رحمة الله عليه، وفضيل قد جاور بمكة، وواظب على العبادة بمكة والمدينة، فقال عبد الله بن المبارك:
يا عَابِد الْحَرَمَيْنِ لَو أبصرتنا *** لعَلِمت أنك بِالْعبَادَة تلعبُ
من كَانَ يخضب جده بدموعه *** فنحورنا بدمائنا تتخضب
وغبار خيل الله فِي أنف امرئٍ *** ودخان نَار جَهَنَّم لَا يذهب
هذا كتاب الله يحكم بَيْننَا *** لَيْسَ الشَّهِيد كَغَيْرِهِ لَا يكذب([3]).
وقيل لابن المبارك: إلى كم تكتب الحديث؟
قال: لعل الكلمة التي انتفع بها لم اسمعها بعد([4]).
سيرته الاحتسابية
كان لعبد الله بن المبارك رحمه الله سيرة احتسابية حافلة بالمواقف الكثيرة، نذكر طرفاً منها:
1- إنكاره على رجل:
قال عبد الله بن المبارك: كان أبو حنيفة آية، فقال له قائل: في الشر يا أبا عبد الرحمن، أو في الخير؟
فقال: اسكت يا هذا، فإنه يقال: غاية في الشر، آية في الخير، ثم تلى هذه الآية: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَم وَأُمَّهُ آيَةً} [المؤمنون: 50]([5]).
2- إنكاره على مَن أساء في فهم حقيقة العلم:
قال سفيان بن عيينة: ثم ترك داود الفقه، وأقبل على العبادة، ودفن كتبه.
فقال عبد الله بن المبارك: وهل الأمر إلا ما كان عليه داود الطائي([6]).
3- إنكاره على مَن يقدم علياً على عثمان:
سمع ابن المبارك وكيعاً يقدم علياً على عثمان، فقال له: يا أبا سفيان وإنك لعلى هذا! إنك رجل، لا كلمتك حتى ألقى الله -عز وجل-([7]).
4- إنكاره على من يقول: القرآن مخلوق:
عن أحمد بن يونس قال: سمعت عبد الله بن المبارك قرأ شيئاً من القرآن، ثم قال: من زعم أن هذا مخلوق، فقد كفر بالله العظيم([8]).
5- إنكاره على ابن علية:
قال عبد الله بن المبارك: لولا خمسة ما اتجرت: ابن علية، والثوري، وابن عيينة، والفضيل بن عياض، ومحمد بن السماك.
فقدم سنة فقيل له: قد ولي ابن علية القضاء، فلم يأته ولم يصله بالصرة التي كان يصله بها، فركب إليه ابن علية، فلما رآه عبد الله لم يرفع به رأساً، ولم يكلمه، فانصرف، وكتب إليه: أسعدك الله بطاعته، وتولاك بحفظه، وحاطك بحياطته، قد كنت منتظراً لبرك وصلتك أتبرك بها، وجئتك أمسك فلم تكلمني، ورأيتك واجداً علي، فأي شيء رأيت مني حتى أعتذر؟ فلما وردت الرقعة إلى عبد الله دعا بالدواة والقرطاس، وقال: أبى هذا الرجل إلى أن نقشر له العصا، ثم كتب إليه:
يا جاعل الدين له بازياً *** يصطاد أموال المساكينِ
احتلت للدنيا ولذاتها *** بحيلة تذهب بالدين
فصرت مجنوناً بها بعدما *** كنت دواء للمجانين
أين رواياتك في سردها *** عن ابن عون وابن سيرين؟
أين رواياتك والقول في *** إتيان أبوب السلاطين؟
إن قلت أكرهت فماذا كذا *** زل حمار العلم في الطينِ.
فلما وقف ابن علية على هذه الأبيات، قام من مجلس القضاء، فوطئ بساط هارون، وقال: يا أمير المؤمنين، الله الله ارحم شيبتي.
فقال له هارون: لعل هذا المجنون أغرى بقلبك.
فقال: الله الله أنقذني أنقذك الله، فأعفاه، فلما اتصل ذلك بابن المبارك وَجَّه إليه بالصُرة([9]).
6- إنكاره على مَن يسب السلف:
ففي صحيح مسلم:
قال محمد: سمعت علي بن شقيق، يقول: سمعت عبد الله بن المبارك، يقول على رؤوس الناس: “دعوا حديث عمرو بن ثابت، فإنه كان يسب السلف”([10]).
7- إنكاره على عباد بن كثير:
ففي صحيح مسلم:
عن علي بن حسين بن واقد، قال: قال عبد الله بن المبارك: قلت لسفيان الثوري: “إن عباد بن كثير من تعرف حاله، وإذا حدث جاء بأمر عظيم، فترى أن أقول للناس: لا تأخذوا عنه؟” قال سفيان: “بلى” قال عبد الله: فكنتُ إذا كنت في مجلس ذكر فيه عباد، أثنيت عليه في دينه، وأقول: “لا تأخذوا عنه”([11]).
8- إنكاره على بعض المتصوفة:
عن عبد الله بن أحمد بن شبويه قال: سمعت عمرو بن مرزوق يقول: سمعت عبد الله بن المبارك يقول:
أيها القارئ الذي لبس الصوف *** وأمسى يعد في الزهاد
الزم الثغر والتواضع فيه *** ليس بغداد منزل العباد
إن بغداد للملوك محل *** ومناخ للقارئ الصياد([12]).
9- إنكاره على متعنت في السؤال:
عن عبد الله بن المبارك: أنه سأله سائل عن النزول ليلة النصف من شعبان، فقال عبد الله: يا ضعيف، ليلة النصف؟ ينزل في كل ليلة، فقال الرجل: يا أبا عبد الرحمن، كيف ينزل؟ أليس يخلو ذلك المكان؟
فقال عبد الله بن المبارك: ينزل كيف شاء([13]).
10- مشاركته الكبيرة في الجهاد في سبيل الله وهي نوع من الحسبة:
فعن أبي هاشم السلمي قال: حدثنا أبو يعقوب الأذرعي، قال: حدثنا أبو العباس عبد الله بن عبيد الله السليماني قال: سمعت يوسف بن عبد الله الهاشمي يقول: قال عبد الله بن المبارك تكبيرة على حائط طرسوس، تعدل فرساً في سبيل الله، ومن حمل على فرس في سبيل الله حمله الله على ناقة من نوق الجنة([14]).
أقواله ومروياته الاحتسابية
كان لعبد الله بن المبارك رحمه الله، الكثير من الأقوال والمرويات المتعلقة بالحسبة، منها:
1- عن هارون بن سفيان، قال: سمعت سعيد بن عامر، يقول: حدثني خراسانيكم، قيل له: عبد الله بن المبارك؟ قال: نعم، قال: “عبد عابد ربه عز وجل سبعين سنة، قال: فمر به جبريل عليه السلام يوماً، فقال: يا جبريل، إلى أين؟ قال: إلى مدينة كذا وكذا، أقلب أسفلها أعلاها، قال: ولم يا جبريل؟ قال: لأنهم يعصون الله عز وجل من عشرين سنة، قال: وإن الله عز وجل ليمهل للعباد عشرين سنة؟ قال: نعم، قال: فمضى جبريل عليه السلام، ودخل العابد إلى أهله، فجمع ولده، فقال: كيف أنا لكم؟ قالوا: من خير أب، قال: فإني أعزم عليكم لما أحدتم السلاح حتى نصيب الطريق، قالوا: يا أبانا بعد عبادة سبعين سنة؟ قال: فمر جبريل عليه السلام، فقال: أما عليك فلا يتاب”([15]).
2- وعن الحسين قال: أخبرنا عبد الله بن المبارك قال: أخبرنا معمر، عن رجل، عن سعيد بن المسيب، أنه رأى رجلاً عبث في صلاته، فقال: “لو خشع قلب هذا خشعت جوارحه”([16]).
3- قال عبد الله بن المبارك: إن العبد إذا استخف بستر الله عليه، أنطق الله لسانه بمعايب نفسه، حتى يكفي الناس مؤنته([17]).
4- عن عبد الله بن المبارك، عن الأوزاعي، قال: سمعت بلال بن سعد يقول: “إن المعصية إذا خفيت لم تضر إلا صاحبها، وإذا أعلنت ضرت الخاص والعام”([18]).
5- عن عبد الله بن المبارك، قال: قيل لوهيب بن الورد: “لا يجد حلاوة العبادة من يعصي الله؟، قال: لا ولا من هم بالمعصية”([19]).
6- عن عبد الله بن المبارك قال: أخبرنا عتبة بن أبي حكيم قال: حدثنا عمرو بن جارية اللخمي، عن أبي أمية الشعباني، قال: أتيت أبا ثعلبة الخشني، فقلت له: كيف تصنع بهذه الآية؟ قال: أية آية؟ قلت: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105] قال: أما والله لقد سألت عنها خبيراً، سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: “بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شحاً مطاعاً، وهوى متبعاً، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بخاصة نفسك، ودع العوام، فإن من ورائكم أياماً، الصبر فيهن مثل القبض على الجمر، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عملكم”.
قال عبد الله بن المبارك: وزادني غير عتبة -قيل: يا رسول الله أجر خمسين رجلاً منا أو منهم؟ قال: “بل أجر خمسين رجلاً منكم” قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب([20]).