احتساب عبد الله بن عمر رضي الله عنهما
(10 ق هـ – 73 هـ = 613 – 692 م)
اسمه وكنيته:
هو عبد الله بن عمر بن الخطاب العدوي، أبو عبد الرحمن، الصحابي الجليل، من أعز بيوتات قريش في الجاهلية، كان جريئاً جهيراً، نشأ في الإسلام، وهاجر إلى المدينة مع أبيه، وشهد فتح مكة، ومولده ووفاته فيها، ولما قتل عثمان عرض عليه نفر أن يبايعوه بالخلافة، فأبى، وكف بصره في آخر حياته، وهو آخر من توفي بمكة من الصحابة.
وفي الإصابة: “قال أبو سلمة بن عبد الرحمن: مات ابن عمر وهو مثل عمر في الفضل، وكان عمر في زمان له فيه نظراء، وعاش ابن عمر في زمان ليس له فيه نظير”([1])
وأمه وأم أم المؤمنين حفصة: زينب بنت مظعون؛ أخت عثمان بن مظعون الجمحي([2]).
أولاده:
“وأولاده من صفية بنت أبي عبيد بن مسعود الثقفي: أبو بكر، وواقد، وعبد الله، وأبو عبيدة، وعمر، وحفصة، وسودة، ومن أم علقمة المحاربية: عبد الرحمن، وبه يُكنى، ومن سرية له: سالم، وعبيد الله، وحمزة، ومن سرية أخرى: زيد، وعائشة، ومن أخرى: أبو سلمة، وقلابة، ومن أخرى: بلال، فالجملة: ستة عشر”([3])، ([4]).
علمه وفقهه:
هو عالم فقيه، ومن السبعة المكثرين في الحديث من الصحابة، الذي زادت أحاديثهم عن ألف حديث، وهم: أبو هريرة، وعبد الله بن عمر، وأنس بن مالك، وعائشة أم المؤمنين، وابن عباس، وجابر بن عبد الله، وأبو سعيد الخدري.
فهو الثاني منهم بعد أبي هريرة حيث روى (2630) حديثاً([5]).
واتفقا له على: مائة وثمانية وستين حديثاً، وانفرد له البخاري: بأحد وثمانين حديثاً، ومسلم بأحد وثلاثين([6])، وقد نظمهم جميعاً الجمال بن ظهيرة في بيتين، فقال:
سبع من الصحب فوق الألف قد نقلوا *** من الحديث عن المختار خير مضر
أبو هريرة سعدٌ جابرٌ أنسٌ *** صديقةٌ وابن عباس كذا ابن عمر([7]).
وهو أيضاً من المكثرين من الفتيا من الصحابة؛ فهم: عمر، وابنه عبد الله، وعلي، وعائشة، وابن مسعود، وابن عباس، وزيد بن ثابت، فهؤلاء سبعة، مكثرون من الفتيا، يمكن أن يجمع من فتيا كل واحد منهم سفر ضخم، كذا قال في السير([8]).
“روى علماً كثيراً نافعاً عن النبي -صلى الله عليه وسلم – وعن أبيه، وأبي بكر، وعثمان، وعلي، وبلال، وصهيب، وعامر بن ربيعة، وزيد بن ثابت، وزيد عمه، وسعد، وابن مسعود، وعثمان بن طلحة، وأسلم، وحفصة أخته، وعائشة، وغيرهم.
وروى عنه خلق كثير، انظر أسماءهم في سير أعلام النبلاء([9]).
تحريه في الرواية عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
ومع علم ابن عمر بالحديث، فقد كان من ورعه يتحرى الرواية عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، ويتثبت إذا سمع حديثاً، فيسأل عنه، للتأكد في ثبوت الحديث:
فعن نافع، قال: قيل لابن عمر: إن أبا هريرة يقول: سمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((من تبع جنازة فله قيراط من الأجر)) فقال ابن عمر: أكثر علينا أبو هريرة، فبعث إلى عائشة، فسألها، فصدقت أبا هريرة، فقال ابن عمر: لقد فرطنا في قراريط كثيرة([10]). متفق عليه.
وقوله: “فقال ابن عمر: أكثر علينا أبو هريرة”: معناه: أنه خاف لكثرة رواياته أنه اشتبه عليه الأمر في ذلك، واختلط عليه حديث بحديث؛ لا أنه نسبه إلى رواية ما لم يسمع؛ لأن مرتبة ابن عمر وأبي هريرة أجل من هذا([11]).
قال صاحب الجواهر: “فبعث ابن عمر إلى عائشة يسألها بعد إخبار أبي هريرة؛ لأنه خاف على أبي هريرة النسيان والاشتباه، كما قدمنا بيانه، فلما وافقته عائشة علم أنه حفظ وأتقن”([12]). وقوله: “لقد فرطنا في قراريط كثيرة”: أي: من عدم المواظبة على حضور الدفن([13]).
وفيه: دلالة على فضيلة ابن عمر، من حرصه على العلم، وتأسفه على ما فاته من العمل الصالح([14]).
ابن عمر محتسب متبع:
اشتهر ابن عمر بشدة تأسيه بالنبي -صلى الله عليه وسلم- فـ”عن عائشة: ما رأيت أحداً ألزم للأمر الأول من ابن عمر”([15]).
“وعن ابن وهب عن مالك، عمن حدَّثه: أن ابن عمر كان يتبع أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وآثاره وحاله، ويهتم به، حتى كان قد خيف على عقله من اهتمامه بذلك.
وعن نافع، قال: لو نظرتَ إلى ابن عمر إذا اتبع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لقلتَ: هذا مجنون.
وعن نافع: أن ابن عمر كان يتبع آثار رسول الله -صلى الله عليه وسلم – كل مكان صلى فيه، حتى إن النبي -صلى الله عليه وسلم – نزل تحت شجرة، فكان ابن عمر يتعاهد تلك الشجرة، فيصب في أصلها الماء لكيلا تيبس.
وقال نافع: عن ابن عمر، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((لو تركنا هذا الباب للنساء))([16])، قال نافع: فلم يدخل منه ابن عمر حتى مات([17]).
وعن نافع، عن ابن عمر: أنه كان في طريق مكة يقول برأس راحلته يثنيها، ويقول: لعل خفاً يقع على خف، -يعني: خف راحلة النبي -صلى الله عليه وسلم-([18]).
قلتُ: وقد انعكس هذا الاتباع أيضاً في حسبته، وفي أمره ونهيه، فقد سلك فيه خطى النبي -صلى الله عليه وسلم-، فكانت حسبته عبارة عن مدرسة احتسابية اتباعية عظيمة، كما سنرى.
عبادته:
كان ابن عمر من أشد الصحابة عبادة وقربة.
قال حبيب بن الشهيد: قيل لنافع: ما كان يصنع ابن عمر في منزله؟ قال: لا تطيقونه: الوضوء لكل صلاة، والمصحف فيما بينهما([19]).
سيرته الاحتسابية
لقد كان ابن عمر -رضي الله عنه- لا يرضى من نفسه أن يرى منكراً، أو أمراً مخالفاً، إلا أنكره، وقال فيه بحق؛ ولهذا كثُرت مواقفه الاحتسابية جداً، وتعددت أقواله في ذلك، ولعلنا نشير إلى بعضٍ منها:
1- إنكاره على من يمدحه:
لقد كان ابن عمر -رضي الله عنهما- ينكر على من يمدحه جداً، ولا يقبل منه ذلك، ومما جاء في هذا:
ما رواه الثوري عن أبي الوازع، قال: قلتُ لابن عمر: لا يزال الناس بخير ما أبقاك الله لهم، فغضب، وقال: إني لأحسبك عراقياً، وما يدريك ما يغلق عليه ابن أمك بابه([20]).
وعن معمر عن أيوب عن نافع أو غيره: أن رجلاً قال لابن عمر: يا خير الناس -أو ابن خير الناس-، فقال: ما أنا بخير الناس، ولا ابن خير الناس، ولكني عبد من عباد الله، أرجو الله، وأخافه، والله لن تزالوا بالرجل حتى تهلكوه([21]).
وكان ذلك منه تطبيقاً لحديث النبي -صلى الله عليه وسلم- فقد روي عن مجاهد، عن أبي معمر، قال: قام رجل يثني على أمير من الأمراء، فجعل المقداد يحثي عليه التراب، وقال: “أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن نحثي في وجوه المداحين التراب”([22]).
وهذا الحديث -كما ترى- قد حمله المقداد الذي هو راويه، على ظاهره، ووافقه طائفة، وكانوا يحثون التراب في وجهه حقيقة، وقال آخرون: معناه خيِّبوهم، فلا تعطوهم شيئاً لمدحهم.
2- إنكاره على ابنه إنكاراً شديداً لمعارضته السنة:
فعن سالم بن عبد الله، أن عبد الله بن عمر، قال: سمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((لا تمنعوا نساءكم المساجد إذا استأذنكم إليها)) قال: فقال بلال بن عبد الله: والله لنمنعهن، قال: فأقبل عليه عبد الله: فسبه سباً سيئاً، ما سمعته سبه مثله قط، وقال: “أخبرك عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتقول: والله لنمنعهن؟!”([23]).
وفي رواية عند أحمد: “فقال عبد الله: “أحدثك عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتقول هذا؟! قال: فما كلمه عبد الله حتى مات”([24])
قال الحافظ: “وكأنه قال ذلك لما رأى من فساد بعض النساء في ذلك الوقت، وحملته على ذلك الغيرة، وإنما أنكر عليه ابن عمر لتصريحه بمخالفة الحديث، وإلا فلو قال مثلاً: إن الزمان قد تغير، وإن بعضهن ربما ظهر منه قصد المسجد، وإضمار غيره، لكان يظهر أن لا ينكر عليه، وإلى ذلك أشارت عائشة بما ذكر في الحديث الأخير.
وأُخذ من إنكار عبد الله على ولده: تأديب المعترض على السنن برأيه، وعلى العالم بهواه، وتأديب الرجل ولده، وإن كان كبيراً، إذا تكلم بما لا ينبغي له، وجواز التأديب بالهجران، فقد وقع في رواية ابن أبي نجيح عن مجاهد، عند أحمد: “فما كلمه عبد الله حتى مات” وهذا إن كان محفوظاً يُحتمل أن يكون أحدهما مات عقب هذه القصة بيسير”([25]).
3- إنكاره على من يرفع اليدين في الخطبة في الدعاء:
فقد جاء عن عبد الله بن دينار، أنه قال: رآني عبد الله بن عمر، وأنا أدعو، وأشير بأصبعين، أصبع من كل يد, فنهاني([26]).
وعند الطبراني: عن محمد بن سيرين، أن ابن عمر رأى رجلاً يدعو بإصبعيه، فقبض بإحدى إصبعيه، وقال: إنما الله إله واحد([27]).
قال في الاستذكار: “هذا مأخوذ من فعل النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ إذ مر بسعدٍ وهو يدعو في صلاته، ويشير بأصبعيه جميعاً فنهاه عن ذلك، وقال: ((أحد أحد))([28])، ([29]).
وفي المسالك: “قوله: “أشير بإصبعين من كل يد فنهاني” إنما نهاه أن يشير بإصبعين؛ لأن الدعاء إنما يكون باليدين، وبسطهما على معنى التضرع والرغبة، أما الإشارة بالأصبع الواحدة؛ فإنما ذلك على معنى التوحيد”([30]).
والمقصود: أنه نهاه عن ذلك؛ للنهي الوارد عن النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ ولأنه ذلك ينافي التوحيد؛ لأن الإشارة إلى التوحيد بأصبع واحدة.
قلتُ: أنكر عليه رفع اليدين في الخطبة، أما رفع اليدين في خطبة الاستسقاء فثابت، حتى من المأمومين المصلين، فكلهم يرفعون أيديهم في خطبة الاستسقاء.
4- إنكاره على من يتحايل على بيع الخمر:
فقد جاء عن عبد الواحد البناني، قال: كنتُ مع ابن عمر، فجاءه رجل، فقال: يا أبا عبد الرحمن، إني أشتري هذه الحيطان، تكون فيها الأعناب، ولا نستطيع أن نبيعها كلها عنباً، حتى نعصره، قال: فعن ثمن الخمر تسألني؟! سأحدثك حديثاً سمعته من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، كنا جلوساً مع النبي -صلى الله عليه وسلم- إذ رفع رأسه إلى السماء، ثم أكب، ونكت في الأرض، وقال: ((الويل لبني إسرائيل)) فقال له عمر: يا نبي الله، لقد أفزعنا قولك: لبني إسرائيل، فقال: ((ليس عليكم من ذلك بأس، إنهم لما حرمت عليهم الشحوم، فتواطئوه، فيبيعونه، فيأكلون ثمنه، وكذلك ثمن الخمر عليكم حرام))([31]).
فانظر كيف أنكر على هذا الرجل ما يريده من التحايل على المحرم، فأنكر عليه ابن عمر؛ وذكر له الدليل من قوله -صلى الله عليه وسلم-.
5- إنكاره على التوسع في المأكل:
فقد جاء عن منصور بن زاذان، عن ابن سيرين: أن رجلاً قال لابن عمر: أعمل لك جوارش؟ قال: وما هو؟! قال: شيء إذا كظك الطعام، فأصبت منه، سهل، فقال: ما شبعتُ منذ أربعة أشهر، وما ذاك أن لا أكون له واجداً، ولكني عهدتُ قوماً يشبعون مرة، ويجوعون مرة([32]).
فالتوسع في المأكل والمشرب مذموم، وقد جاء في الحديث عن صفة قومٍ: ((إن بعدكم قوماً يخونون ولا يؤتمنون، ويشهدون ولا يستشهدون، وينذرون ولا يفون، ويظهر فيهم السمن))([33]).
قيل في معنى: ((يظهر فيهم السمن)): أنهم يحبون التوسع في المآكل والمشارب([34])، التي هي أسباب السمن، وقيل غير ذلك.
6- إنكاره على الصائغ:
فقد جاء عن مجاهد أنه قال: كنتُ أطوف مع عبد الله بن عمر، فجاءه صائغٌ، فقال: يا أبا عبد الرحمن، إني أصوغ الذهب، ثم أبيع الشيء من ذلك أكثر من وزنه، فأستفضل في ذلك قدر عمل يدي، فنهاه، فجعل الصائغ يردد عليه المسألة، وعبد الله ينهاه، حتى انتهى إلى باب المسجد، أو إلى دابته، يريد أن يركبها، ثم قال عبد الله بن عمر: الدينار بالدينار، والدرهم بالدرهم، لا فضل بينهما، هذا عهد نبينا -صلى الله عليه وسلم- إلينا، وعهدنا إليكم([35]).
7- إنكاره عن قيام الرجل ليجلس آخر مكانه:
فعن عقيل بن طلحة، قال: سمعتُ أبا الخصيب، يقول: كنتُ قاعداً، فجاء ابن عمر، فقام له رجل من مقعده، فأبى ابن عمر يقعد فيه، فجعل الرجل يقول: ما عليك أن تقعد؟ ما عليك أن تقعد؟ فقال ابن عمر: ما كنتُ لأقعد في مجلسك، ولا مجلس غيرك، بعدما سمعتُ النبي -صلى الله عليه وسلم- وجاء رجل، فقام له رجل من مجلسه، فأراد أن يقعد فيه، فنهاه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك([36]).
وفي البخاري عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- “أنه نهى أن يقام الرجل من مجلسه، ويجلس فيه آخر، ولكن تفسحوا وتوسعوا” وكان ابن عمر يكره أن يقوم الرجل من مجلسه ثم يجلس مكانه([37]).
8- إنكاره الربا (ضع وتعجل):
فقد جاء عن أبي يوسف قال: حدثنا يوسف عن أبيه عن أبي حنيفة، عن رجل من أهل مكة عن أبيه، أنه كان لرجل عليه دين، فقال: عجل لي، وأضع عنك، فسأل عن ذلك ابن عمر -رضي الله عنهما- فنهاه، فقال: إنما هو ماله يهب لي منه، فنهاه، فأعاد عليه، فأخذ بيده، وقال: “إن هذا يريد أن أطعمه الربا”([38]).
فقوله: “فأخذ بيده، وقال: إن هذا يريد أن أطعمه الربا”([39]) كأنَّ هذا منه من باب التشهير به، وزجره لنزجر.
9- إنكاره على من يحلف بغير الله:
فقد جاء عن سعد بن عبيدة، قال: كنتُ مع ابن عمر في حلقة، فسمع رجلاً في حلقة أخرى، وهو يقول: لا وأبي، فرماه ابن عمر بالحصى، وقال: إنها كانت يمين عمر، فنهاه النبي -صلى الله عليه وسلم- عنها، وقال: ((إنها شرك))([40]).
وقوله: “إنها كانت يمين عمر”.
قلتُ: كما جاء بيانه في البخاري ومسلم عن نافع عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أدرك عمر بن الخطاب، وهو يسير في ركب، يحلف بأبيه، فقال: ((ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، من كان حالفاً فليحلف بالله، أو ليصمت))([41]).
10- إنكار على من يعبث في صلاته:
فعن حجاج من بني أمية، قال: سمعتُ علي بن عبد الرحمن، قال حجاج الأموي، قال: سمعتُ ابن عمر، ورأى رجلاً يعبث في صلاته، فقال ابن عمر: لا تعبث في صلاتك، واصنع كما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصنع، قال محمد: فوضع ابن عمر فخذه اليمنى على اليسرى، ويده اليسرى على ركبته اليسرى، ووضع يده اليمنى على اليمنى، وقال بإصبعه([42]).
وعن مسلم بن أبي مريم، قال: رأى ابن عمر رجلاً يقلب الحصاة في الصلاة، فقال: لا تقلب الحصاة في الصلاة، فإنه من الشيطان([43]).
11- إنكاره على من يأخذ على أذانه أجراً:
فقد جاء عن حماد بن سلمة عن يحيى البكاء أن رجلاً قال لابن عمر: إني أحبك في الله، فقال له ابن عمر: لكني أبغضك في الله؛ لأنك تبغي في أذانك أجراً، وتأخذ على الأذان أجراً.
قال الطحاوي بعد أن ذكر هذا الأثر:
“فقد ثبت بما ذكرنا كراهية الاستئجار على الأذان، فالاستئجار على تعليم القرآن كذلك أيضاً؛ لأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد أمر بالتبليغ عن الله، ولو آية من كتاب الله، وأوجب الله على نبيه التبليغ عنه”([44]).
12- إنكاره على من يصلي بعد الفجر:
فعن أبي علقمة مولى بني هاشم عن عبد الله بن عمر أنه رأى مولى له يقال له: يسار يصلي بعد الفجر، فنهاه، فقال: إنما بقي من حزبي، فقال له عبد الله: أفلا أخرته، حتى يكون ذلك من النهار؟ ثم قال عبد الله: خرج علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، والناس يصلون بعد طلوع الفجر، فقال: ((إنه لا صلاة بعد الفجر إلا ركعتين))([45]).
قلتُ: وحديثه في هذا في مسلم عنه، عن حفصة، قالت: “كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا طلع الفجر، لا يصلي إلا ركعتين خفيفتين”([46]).
13- إنكاره على من يصلي سنة الجمعة في مقامه الذي صلى فيه الجمعة:
فقد جاء عن معمر، عن قتادة، قال: رأى ابن عمر رجلاً يصلي في مقامه الذي صلى فيه الجمعة، فنهاه عنه، وقال: ألا أراك تصلي في مقامك، قال معمر: قال قتادة: فذكرتُ ذلك لابن المسيب، فقال: إنما يكره ذلك للإمام يؤم([47]).
وعن عن نافع أن ابن عمر رأى رجلاً يصلي ركعتين يوم الجمعة في مقامه، فدفعه، وقال: أتصلي الجمعة أربعاً؟ وكان عبد الله يصلي يوم الجمعة ركعتين في بيته، ويقول: “هكذا فعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-“([48]).
14- إنكاره عن الصلاة على وسادة:
فقد جاء عن ابن جريج، عن عطاء، قال: دخل ابن عمر على صفوان الطويل، وهو يصلي على وسادة، فنهاه أن يصلي على حصى، أو على وسادة، وأمره بالإيماء([49]).
وعن عطاء أيضاً قال: دخل ابن عمر على ابن صفوان الطويل، فوجده يسجد على وسادة، فنهاه، وقال: “أومئ، واجعل السجود أخفض من الركوع”([50]).
15- إنكاره على قاصٍ:
فعن عبيد الله بن مقسم، أن قاصاً كان يقرأ السجدة بعد الفجر، فيسجد، فنهاه ابن عمر، فأبى أن ينتهي، فحصبه، وقال: إنهم لا يعقلون([51]).
وعن عقبة بن جرير، قال: سمعتُ ابن عمر، وجاء رجل قاص، فجلس في مجلسه, فقال له ابن عمر: قم من مجلسنا, فأبى أن يقوم, فأرسل ابن عمر إلى صاحب الشرطة: أقم القاص, قال: فبعث إليه، فأقامه([52]).
وعن نافع، عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قلتُ له: أذكرت هذا الحديث عن أبيك؟ قال: نعم قال: أرسلت عائشة -رضي الله عنها- إلى ابن عمر -رضي الله عنه- في قاص كان يقعد على بابها: “إن هذا قد آذاني، وتركني لا أسمع الصوت” فأرسل إليه فنهاه، فعاد، فقام إليه ابن عمر -رضي الله عنهما- بعصاه حتى كسرها على رأسه([53]).
16- إنكاره لبس المعصفر:
فقد جاء عن أبي بكر قال: حدثنا وكيع، عن فضيل، عن نافع، عن ابن عمر: رأى على ابن له معصفراً فنهاه([54]).
وعن أيوب عن تميم الخزاعي، قال: حدثتنا عجوز لنا، قالت: كنتُ أرى ابن عمر إذا رأى على رجل ثوباً معصفراً ضربه، وقال: ذروا هذه البراقات للنساء([55]).
17- إنكاره على الإخلال في هيئة الجلوس في الصلاة:
فعن عبد الرحمن بن القاسم، عن عبد الله بن عبد الله، أنه أخبره،: أنه كان يرى عبد الله بن عمر، يتربع في الصلاة إذا جلس، ففعلته، وأنا يومئذٍ حديث السن، فنهاني عبد الله بن عمر، وقال: إنما سنة الصلاة أن تنصب رجلك اليمنى، وتثني رجلك اليسرى، فقلت له: إنك تفعل ذلك، فقال: إن رجلاي لا تحملاني([56]).
18- إنكاره على هيئة ذبح الإبل:
فقد جاء عن أيوب، عن زياد بن جبير، قال: رأى ابن عمر رجلاً ينحر بدنته، باركة، فقال: ابعثها -قياماً- فإنها سنة أبي القاسم -صلى الله عليه وسلم-([57]).
19- إنكاره عدم إتمام الصفوف:
حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن خيثمة قال: رأى ابن عمر رجلاً يصلي، وأمامه فرجة في الصف، فدفعه إليها([58]).
20- إنكاره على رد الطيب:
عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، قال: رأى ابن عمر رجلاً ناول رجلاً ريحانة فردها، فأخذها ابن عمر فقبلها، ووضعها على عينيه، ثم قال: سمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-, يقول: ((إن هذه الرياحين الطيبة من نبت الجنة، فإذا نول أحدكم منها شيئاً فلا يرده))([59]).
قلتُ: وفي البخاري عن ثمامة بن عبد الله، عن أنس -رضي الله عنه- أنه كان لا يرد الطيب، وزعم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان لا يرد الطيب([60]).
21- إنكاره على من يجر إزاره:
فقد جاء عن شعبة، قال: سمعتُ مسلم بن يناق، يحدث عن ابن عمر، أنه رأى رجلاً يجر إزاره، فقال: ممن أنت؟ فانتسب له، فإذا رجل من بني ليث، فعرفه ابن عمر، قال: سمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأذني هاتين، يقول: ((من جر إزاره لا يريد بذلك إلا المخيلة، فإن الله لا ينظر إليه يوم القيامة))([61]).
وعن جميل بن زيد، قال: رأى ابن عمر رجلاً يجر إزاره فقال: إن للشيطان إخواناً، مرتين أو ثلاثاً([62]).
22- إنكاره على من ظن سنِّية الاضطجاع بعد ركعتي الفجر:
فعن أبي الصديق الناجي، قال: رأى عبد الله بن عمر قوماً قد اضطجعوا بعد الركعتين، قبل صلاة الفجر، فقال: ارجع إليهم، فسلهم ما حملهم على ما صنعوا؟ فأتيتهم، وسألتهم، فقالوا: نريد السنة، قال: ارجع إليهم، فأخبرهم أنها بدعة.
قال البيهقي بعد أن ذكر الأثر: “وقد أشار الشافعي -رحمه الله تعالى- إلى أن الاضطجاع المنقول فيما مضى من الأخبار للفصل بين النافلة والفريضة، ثم سواء كان ذلك الفصل بالاضطجاع، أو التحديث، أو التحول من ذلك المكان، أو غيره، والاضطجاع غير متعين لذلك، والله أعلم”([63]).
وقال ابن بطال: “وعن ابن المسيب، قال: رأى ابن عمر رجلاً اضطجع بعد الركعتين، فقال: احصبوه، وقال أبو مجلز: سألتُ ابن عمر عنها، فقال: يتلعب بكم الشيطان”([64]).
وعن نافع، أنه بلغه أن عبد الله بن عمر رأى رجلاً صلى ركعتين، ثم اضطجع، فقال له عبد الله بن عمر: ما حملك على هذا؟! فقال: أردتُ أن أفصل بين صلاتي، فقال عبد الله بن عمر: وأي فصل أفضل من السلام؟!([65]).
23- إنكاره على غلامه سؤال الناس:
فقد جاء عن ميمون بن مهران أن ابن عمر -رضي الله تعالى عنه- كاتب غلاماً له، ونجمها عليه نجوماً، فلما حل أول النجم، أتاه المكاتب به، فسأله من أين أصبتَ هذا؟ قال: كنتُ أعمل وأسأل، قال ابن عمر: أفجئتني بأوساخ الناس، تريد أن تطعمنيها؟ أنت حرٌ لوجه الله، ولك ما جئتَ به([66]).
24- إنكاره على ولد له:
فعن ميمون أن رجلاً من بني عبد الله بن عمر -رضي الله تعالى عنه- استكساه إزاراً، وقال: قد تخرق إزاري، فقال له: اقطع إزارك، ثم اكتسه، فكره الفتى ذلك، فقال له عبد الله بن عمر: ويحك، اتقِ الله، لا تكونن من القوم الذين يجعلون ما رزقهم الله تعالى في بطونهم، وعلى ظهورهم([67]).
25- إنكاره على من يزيد في السلام:
عن نافع، أو غيره، أن رجلاً كان يلقى ابن عمر، فيسلم عليه، فيقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ومغفرته ومعافاته، قال: يكثر من هذا، فقال له ابن عمر: وعليك مائة مرة، لئن عدتَ إلى هذا لأسوءنك([68]).
وعن يحيى بن سعيد، أن رجلاً سلَّم على عبد الله بن عمر، فقال: السلام عليك ورحمة الله وبركاته، والغاديات والرائحات، فقال له عبد الله بن عمر: وعليك ألفاً، ثم كأنه كره ذلك([69]).
قال الزرقاني: “قال الباجي: ويحتمل عندي أن يريد به -أي بالغاديات الرائحات- الملائكة الحفظة الغادية الرائحة، لتكتب أعمال بني آدم، فقال عبد الله بن عمر: (وعليك ألفاً) ما قلت، (ثم كأنه كره ذلك) لأنه استظهار على الشرع”([70]).
وروي أن رجلاً سلَّم على ابن عباس -رضي الله عنهما-، فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ثم زاد شيئاً، فقال ابن عباس: إن السلام انتهى إلى البركة([71]).
قلتُ: لكن قد ورد في بعض الأخبار المرفوعة تجويز زيادة (ومغفرته)([72]).
26- إنكاره على التنطع في السؤال:
فقد جاء عن ابن أبي نعم، قال: كنتُ جالساً عند ابن عمر، فجاءه رجل يسأل عن دم البعوض؟ فقال له ابن عمر: ممن أنت؟! قال: أنا من أهل العراق، قال: انظروا إلى هذا، يسألني عن دم البعوض، وقد قتلوا ابن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وقد سمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((هما ريحانتي من الدنيا))([73]).
وفي رواية عند أحمد أيضاً تبين سبب السؤال:
فعن ابن أبي نعم، سمعتُ عبد الله بن عمر بن الخطاب، وسأله رجل عن شيء -قال شعبة: وأحسبه سأله عن المحرم يقتل الذباب؟- فقال عبد الله: أهل العراق يسألون عن الذباب، وقد قتلوا ابن بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((هما ريحانتي من الدنيا)([74]).
27- إنكاره الزيادة على (باسم الله) في المكاتبات والمراسلات:
عن ابن سيرين، قال: كتب رجل بين يدي ابن عمر: بسم الله الرحمن الرحيم، لفلان، فنهاه ابن عمر، وقال: قل: بسم الله، هو له([75]).
28- إنكاره الترفه في الحج:
عن عمرو -يعني ابن دينار- أن عطاء حدثه، أنه رأى عبد الله بن أبي ربيعة، جعل على وسط راحلته عوداً، وجعل ثوباً يستظل به من الشمس، وهو محرم، فلقيه ابن عمر، فنهاه([76]).
وعن أبي بكر قال: حدثنا أبو معاوية، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، أنه رأى رجلاً محرماً قد استظل، فقال: “أضح لمن أحرمت له”([77]).
قال الشافعي في رواية أبي سعيد: فأما قول ابن عمر: “أضح لمن أحرمت له” فلعله أراد أن ما أصاب في ذلك مما يشق عليه كان أخير له، وما أمره في ذلك بفدية، ولا ضيقه عليه”([78]).
قلتُ: ولعل ذلك قاله ابن عمر من باب الأولى والأفضل، أو أنه رأى الرجل يتكلف زيادة فنهاه.
وقد قال النووي: “وقول بن عمر ليس فيه نهي، ولو كان، فحديث أم الحصين مقدم عليه، والله أعلم”([79]).
وقال ابن عبد البر: “واختلفوا في استظلاله على دابته، أو على المحمل، فروي عن ابن عمر أنه قال: “أضح لمن أحرمت له” وبعضهم يرفعه عنه، وكره مالك وأصحابه استظلال المحرم على محمله، وبه قال ابن مهدي وابن حنبل، وقد روي عن عثمان بن عفان أنه كان يستظل وهو محرم، وأنه أجاز ذلك للمحرم، وبه قال عطاء بن أبي رباح، والأسود بن يزيد، وهو قول ربيعة والثوري، وابن عيينة، وأبي حنيفة، والشافعي، وأصحابهما”([80]).
29- إنكاره على من يقرأ القرآن في الطواف:
فعن يحيى البكاء، قال: سمع ابن عمر رجلاً يقرأ، وهو يطوف بالبيت، فنهاه([81]).
قلتُ: هذه المسألة قد اختلف الناس فيها بعدُ، ولعل ابن عمر أنكر على هذا القارئ؛ بسبب أنه لم ير النبي -صلى الله عليه وسلم- يقرأ.
قال ابن بطال: “واختلفوا في قراءة القرآن، فكان ابن المبارك يقول: ليس شيء أفضل من قراءة القرآن، وكان مجاهد يقرأ عليه القرآن في الطواف، واستحبه الشافعي وأبو ثور، وقال الكوفيون: إذا قرأ في نفسه.
وكرهت طائفة قراءة القرآن، وروى ذلك عن عروة، والحسن البصري، ومالك بن أنس، وقال مالك: وما القراءة فيه من عمل الناس القديم، ولا بأس به إذا أخفاه، ولا يكثر منه، قال عطاء: قراءة القرآن في الطواف محدث، وقال ابن المنذر: والقراءة أحب إلى من التسبيح، وكل حسن، ومن أباح قراءة القرآن في الطرق والبوادي، ومنعه الطائف متحكم مدع لا حجة له”([82]).
30- إنكاره على من يتكئ على يده اليسرى وهو في الصلاة:
عن نافع، عن ابن عمر، أنه رأى رجلاً يتكئ على يده اليسرى، وهو قاعد في الصلاة، قال هارون بن زيد، ساقطاً على شقه الأيسر، ثم اتفقا، فقال له: لا تجلس هكذا، فإن هكذا يجلس الذين يعذبون([83]).
31- إنكاره على من يجهر في صلاة النهار:
فعن سعيد بن جبير، عن ابن عمر، أنه رأى رجلاً يجهر بالقراءة نهاراً، فدعاه، فقال: إن صلاة النهار لا يجهر فيها، فأسر قراءتك([84]).
32- إنكاره على من يتكلم أثناء خطبة الجمعة:
فعن نافع، عن ابن عمر، أنه رأى رجلاً يتكلم والإمام يخطب يوم الجمعة، فرماه بحصى، فلما نظر إليه وضع يده على فيه([85]).
33- إنكاره على المصلي الذي يلتفت في صلاته:
عن ابن أبي نعيم، عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أنه رأى رجلاً يصلي يلتفت في صلاته، فقال ابن عمر -رضي الله عنهما-: إن الله -عز وجل- مقبل على عبده بوجهه ما أقبل إليه، فإذا التفت انصرف عنه([86]).
34- إنكاره على من يبالغ في السجود على أنفه:
عن أبي الشعثاء، عن ابن عمر، أنه رأى رجلاً يتنحى إذا سجد، قال: لا، لا تقلب صورتك يقول: لا تؤثرها، قلت: ما تقلب صورتك؟ قال: لا تغير، لا تخنس([87]).
وعن أشعث بن أبي الشعثاء، عن أبيه، قال: كنتُ قاعداً عند ابن عمر، فرأى رجلاً قد أثر السجود في وجهه، فقال: “إن صورة الرجل وجهه، فلا يشين أحدكم صورته”([88]).
وعن الأشعث، عن أبيه، عن ابن عمر، أنه رأى رجلاً قد أثر بأنفه السجود، فقال: إن أنفك صورة وجهك، وإن صورة وجهك أنفك فلا تقلب وجهك، ولا تشينن صورتك”([89]).
35- إنكاره على من لا يرفع يديه عند الركوع والسجود:
فعن نافع، أن ابن عمر، كان إذا رأى رجلاً لا يرفع يديه في الصلاة عند الركوع ورفع رأسه، حصبه([90]).
36- إنكاره على من يصلي وقت الإقامة:
عن ابن عمر أنه أبصر رجلاً يصلي الركعتين، والمؤذن يقيم، فحصبه، وقال: أتصلي الصبح أربعاً؟!([91]).
37- إنكاره على من لم يحسن الطواف:
عن مجاهد قال: كنتُ مع عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- في الطواف، فرأى رجلاً مضطرباً، يطوف حجرة من الناس، يقول: ناحية، قال: فدعاه، فقال: ما اسمك؟ قال: حنين قال: ما تصنع ها هنا؟! قال: أطوف، قال: إنما تخبط خبط الجمل، ولا تذكر ربك، قال: فكان ابن عمر -رضي الله عنهما- إذا رأى رجلاً يطوف يسرع المشي قال: أحنيني هو؟([92]).
38- إنكاره على من يتجنب ركوب البدنة:
عن نافع أن ابن عمر -رضي الله عنه- رأى رجلاً يسوق بدنة, قال: اركبها, وما أنتم بمستنين سنة أهدى من سنة محمد -صلى الله عليه وسلم-([93]).
فهذا نزرٌ يسيرٌ من المواقف الاحتسابية لهذا المحتسب العظيم، الأثري المتبع، الفقه العالم، المعلم المربي، عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- ومواقفه كثيرة جداً، وهذه إنما هي نماذج منها، وما ذكرناه يدل على ما لم نذكره.
ولما تأملتُ في طريقة احتساب هذا الصحابي الجليل، تبين لي أنها طريقة فريدة، تميَّز بها عن غيره، ويمكن لي أن أشير أشارة سريعة لأبرز معالم هذه الطريقة:
1- أنه كان يقرن احتسابه بالتعلم:
ظهر من هذه المواقف الاحتسابية أن ابن عمر -رضي الله عنهما- لم يكن ينكر المخالفة ويذهب، وإنما كان يعلم المخالف، ويرشده إلى الخطأ الذي وقع فيه، والأمثلة على ذلك، قد مرت معنا، وهي كثيرة وواضحة.
2- أنه كان يقرن احتسابه بذكر الدليل:
كان ابن عمر -رضي الله عنهما- أذا أنكر المنكر ذَكَرَ الدليل على تحريم هذا الفعل، أو النهي عنه، مما سمعه من النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ وقد كان موسوعة في علم الحديث والفقه كما هو معلوم، فيذكر الدليل حتى يقتنع المخالف، ويمتثل؛ لأن الإنكار الخالي من الإقناع والحجج يكون قليل التأثير.
3- أنه كان رفيقاً ليناً في حسبته:
فلم نجد في المواقف الكثيرة التي مرت بنا أنه كان يقسو على المخالف، أو يعنفه، أو يسبه، -إلا في موقف واحد-، وإنما كان معلماً رفيقاً، هادياً مهدياً، حليماً حكيماً -رضي الله عنه-، وأقسى ما وجدناه من عقوباته الاحتسابية التي كان يستخدمها، هي الحصب بالحصى.
4- أنه كان قبل الإنكار يتعرف على المُخَالِف:
مر بنا مراراً في النماذج السابقة أن ابن عمر -رضي الله عنه- كان قبل أن ينكر المنكر يتعرف على العاصي، بالسؤال عن اسمه، أو بلده، أو غيره، أو بالسؤال عن سبب الفعل الذي وقع فيه، وكأنَّ هذا منه للاستئناس، أو لمعرفة الطريقة المناسب للإنكار، أو للتثبت قبل الإنكار، وهذا فيه درس لكل محتسب بأن يتأنى ويتبين ويتثبت، ولا يستعجل في الاحتساب.
5- أنه كان يَعُدُّ ما لم يكن في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- أمرٌ محدث:
سبق القول أن ابن عمر صحابيٌ متبع مؤتسي بالنبي -صلى الله عليه وسلم-؛ ولهذا كان يُنكر كل ما لم يكن في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولم ير أن النبي فعله، وبخاصة في الجانب العبادي، وهذا هو الحق والصواب؛ لأنه هو المشرع، وغيره متبع له.
وفاته -رضي الله عنه-:
“قال ضمرة بن ربيعة: مات ابن عمر سنة ثلاث وسبعين.
وقال مالك: بلغ ابن عمر سبعاً وثمانين سنة.
وقال أبو نعيم، والهيثم بن عدي، وأبو مسهر، وعدة: مات سنة ثلاث وسبعين.
وقال سعيد بن عفير، وخليفة، وغيرهما: مات سنة أربع وسبعين.
والظاهر أنه توفي في آخر سنة ثلاث.
قال أبو بكر بن البرقي: توفي بمكة، ودفن بذي طوى([94]).
فرضي الله عن ابن عمر، وأين مثل ابن عمر في دينه، وورعه، وعلمه، وتألهه، وخوفه، من رجل تعرض عليه الخلافة، فيأباها، والقضاء من مثل عثمان، فيرده، ونيابة الشام لعلي، فيهرب منه؟!([95]).
([4]) وانظر: ترجمته في الإصابة في تمييز الصحابة (4/158) وتهذيب الأسماء (1/278) وابن خلكان (1/246) وطبقات ابن سعد (4/105-138) وسير أعلام النبلاء ط الرسالة (3/203) والحلية (1/292) وصفة الصفوة (1/228) والأعلام للزركلي (4/108).
([10]) أخرجه البخاري في كتاب الجنائز،باب فضل اتباع الجنائز (1/445-1260) ومسلم في الجنائز، باب فضل الصلاة على الجنازة واتباعها (3/51- 2236).
([16]) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب في اعتزال النساء في المساجد عن الرجال (1/126-462) والطبراني في المعجم الأوسط (1/303-1018) وصححه الألباني في صحيح الجامع (2/932-5258).
([22]) أخرجه مسلم في كتاب الزهد والرقائق، باب النهي عن المدح، إذا كان فيه إفراط وخيف منه فتنة على الممدوح (4/2297-3002).
([23]) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة باب خروج النساء إلى المساجد إذا لم يترتب عليه فتنة، وأنها لا تخرج مطيبة (1/327-442) وهو في البخاري مختصراً.
([28]) أخرجه الترمذي في أبواب الدعوات (5/557-3557) وأبو داود في باب تفريع أبواب الوتر، باب الدعاء (2/80-1499) والنسائي في كتاب السهو، باب النهي عن الإشارة بأصبعين، وبأي أصبع يشير(3/38-1272) وابن ماجه في افتتاح الكتاب في الإيمان وفضائل الصحابة والعلم فضل سلمان، وأبي ذر، والمقداد(1/53-150) وأحمد ط الرسالة (15/258-9439) وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (ص: 2-1499).
([33]) أخرجه البخاري في كتاب الشهادات، باب لا يشهد على شهادة جور إذا أشهد (3/171-2651) ومسلم في فضائل الصحابة، باب فضل الصحابة ثم الذين يلونهم رقم: (2535).
([35]) أخرجه مالك في الموطأ رواية أبي مصعب الزهري (2/334-2540) والشافعي في السنن المأثورة (ص: 265-221) وعبد الرزاق في مصنفه (8/125-14574) والبيهقي في معرفة السنن والآثار (8/38-11037) وفي السنن الكبرى (5/458-10491) وشرح مشكل الآثار (15/383-6100).
([36]) أخرجه أحمد في المسند (9/401-5567) وأبو داود الطيالسي في مسنده (3/455-2062) والبيهقي في السنن الكبرى (3/330-5899).
([37]) أخرجه البخاري في كتاب الاستئذان باب (إذا قيل لكم تفسحوا في المجلس فافسحوا يفسح الله لكم وإذا قيل انشزوا فانشزوا) الآية (8/61-6270).
([40]) أخرجه الترمذي في النذور والأيمان، باب ما جاء في كراهية الحلف بغير الله (1535) وأبو داود في الأيمان والنذور، باب في كراهية الحلف بالآباء (3251) وأحمد ط الرسالة (10/249-6072) وهو في السنة لأبي بكر بن الخلال (4/156-1408) وفي صحيح ابن حبان (10/199-4358) وصححه الألباني في صحيح الجامع (2/1067-6204).
([41]) أخرجه البخاري في كتاب الأيمان والنذور، باب لا تحلفوا بآبائكم (8/132-6646) ومسلم في كتاب الأيمان، باب النهي عن الحلف بغير الله تعالى(3/1267-1646).
([45]) مسند أبي يعلى الموصلي (10/115-5745) ومختصر قيام الليل وقيام رمضان وكتاب الوتر (ص: 192) وقال حسين سليم أسد: “إسناده حسن”.
([46]) أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب استحباب ركعتي سنة الفجر، والحث عليهما وتخفيفهما، والمحافظة عليهما، وبيان ما يستحب أن يقرأ فيهما(1/500-723).
([48]) أخرجه أبو داود في تفريع أبواب الجمعة، باب الصلاة بعد الجمعة (1/294-1127) وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (ص: 2-1127).
([61]) أخرجه مسلم في كتاب اللباس والزينة باب تحريم جر الثوب خيلاء، وبيان حد ما يجوز إرخاؤه إليه وما يستحب (3/1652-2085).
([67]) حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (1/301) والزهد والرقائق لابن المبارك والزهد لنعيم بن حماد (1/260-753) ومصنف ابن أبي شيبة (7/235-35622).
([72]) وقد قال الألباني في السلسلة الضعيفة (11/725) بعد أن ذكر بعض الآثار في ذلك: “وهذه الأحاديث الضعيفة إذا انضمت؛ قوي ما اجتمعت عليه من مشروعية الزيادة على (وبركاته) ومن تلك الأحاديث الصريحة: ما ذكره من رواية البيهقي في الشعب بسند ضعيف من حديث زيد بن أرقم: “كنا إذا سلم علينا النبي -صلى الله عليه وسلم- قلنا: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته ومغفرته”.