احتساب عروة بن الزبير رحمه الله
(22 – 93 هـ = 643 – 712 م)
اسمه:
هو عروة بن الزبير بن العوام، الأسدي، القرشي، أبو عبد الله([1]).
وأمه أسماء بنت أبي بكر.
روَى عن أبيه، وعن زيد بن ثابت، وأسامة، وأبي أيوب، والنعمان بن بشير، وأبي هريرة، ومعاوية، وابن عمر، وابن عمرو، وابن عباس في آخرين، وكان فقيهًا فاضلًا، يسرد الصوم، مات صائمًا([2]).
فضله ومناقبه:
هو أحد الفقهاء السبعة بالمدينة، كان عالمًا بالدين، صالحًا كريمًا، لم يدخل في شيء من الفتن، وانتقل إلى البصرة، ثم إلى مصر، فتزوج، وأقام بها سبع سنين، وعاد إلى المدينة، فتوفي فيها، وهو أخو عبد الله بن الزبير لأبيه وأمه، وبئر عروة بالمدينة، منسوبة إليه([3]).
وعن مسلمة بن محارب، قال: قدم عروة بن الزبير على الوليد بن عبد الملك ومعه ابنه محمد بن عروة، فدخل محمد بن عروة دار الدواب فضربته دابة، فخر، فحمل ميتًا، ووقعت في رجل عروة الأكلة، ولم يدع تلك الليلة ورده، فقال له الوليد: اقطعها قال: “لا” فنزقت إلى ساقه، فقال له الوليد: اقطعها، وإلا أفسدت عليك جسدك، فقُطعت بالمنشار، وهو شيخ كبير، فلم يمسكه أحد، وقال: “لقد لقينا من سفرنا هذا نصبًا”([4]).
وعن ابن شوذب، قال: كان عروة بن الزبير إذا كان أيام الرطب، ثَلَمَ حائطه، فيدخل الناس فيأكلون، ويحملون، وكان إذا دخله ردد هذه الآية فيه حتى يخرج منه: {وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ} [الكهف: 39]([5]).
وعن عبد الله بن محمد بن عبيد، قال: لم يترك عروة بن الزبير ورده إلا في الليلة التي قطعت فيها رجله، قال: وتمثل بأبيات معن بن أوس:
لعمرك ما أهويت كفي لريبة *** ولا حملتني نحو فاحشة رجلي
ولا قادني سمعي ولا بصري لها *** ولا دلني رأيي عليها ولا عقلي
واعلم أني لم تصبني مصيبة *** من الدهر إلا قد أصابت فتى قبلي([6]).
وعن مصعب بن عثمان قال: قيل لعيسى بن طلحة: ما الحلم؟ قال الذل وكان صديقًا لعروة بن الزبير، خاصًا به، فلما قدم عروة الشام وقد أصيب بابنه محمد وبرجله، نزل قصره بالعقيق، فجاءه الناس يسلمون عليه، ويعزونه، وكان فيمن جاءه عيسى بن طلحة، فقال عروة لأحد بنيه: يا بني اكشف لعمك عن رجل أبيك ليراها، فقال له عيسى: إنا والله يا أبا عبد الله ما كنا نعدك للصراع، ولا للسباق، وقد أبقى الله لنا منك ما كنا نحتاج إليه، عقلك، وفضلك، وعلمك، فقال عروة: ما عزاني أحد عن رجلي بمثل ما عزيتني به([7]).
وعن أبي الأسود، قال: كان برجل عروة الأكلة، فبعث إليه الوليد بطبيب، فقال: ما أرى إلا أن يقطعها، وإلا رقيت إلى جسدك، فقال عروة: أتظفر، فقال: ما أرى إلا قطعها، فقال عروة: دونك فجاء بثلاث مناشير صغار فنشر العظم بالأول، ثم نشر بالثاني، ثم بالثالث، فقطعها وعاش بعد ذلك سنين، وكان من أصبر الناس([8]).
سيرته الاحتسابية
كان لعروة بن الزبير رحمه الله سيرة احتسابية عظيمة، نذكر طرفًا منها:
1- إنكاره على تأخير الصلاة:
عن ابن شهاب أن عمر بن عبد العزيز أخَّر الصلاة يومًا فدخل عليه عروة بن الزبير، فأخبره أن المغيرة بن شعبة أخر الصلاة يومًا وهو بالعراق، فدخل عليه أبو مسعود الأنصاري، فقال: ما هذا يا مغيرة؟ أليس قد علمت أن جبريل صلى الله عليه وسلم نزل فصلى، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم صلى، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم صلى، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم صلى، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم صلى، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: “بهذا أمرت”.
فقال عمر لعروة: اعْلَم ما تُحدِّث، أَوَ أن جبريل هو أقام لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقت الصلاة؟
قال عروة: كذلك كان بشير بن أبي مسعود يحدِّث، عن أبيه([9]).
2- اعتزاله المنكرات:
عن هشام بن عروة، قال: لما اتخذ عروة قصره بالعقيق، قال له الناس: جفوت مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال: “إني رأيتُ مساجدهم لاهية، وأسواقهم لاغية، والفاحشة في فجاجهم عالية، فكان فيما هنالك عما هم فيه عافية”([10]).
وعن عبد الله بن حسن بن حسن أنه قال: كان علي بن حسين بن علي بن أبي طالب يجلس كل ليلة، هو وعروة بن الزبير، في مؤخر مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، بعد العشاء الآخرة، فكنت أجلس معهما، فتحدثا ليلة، فذكرا جور من جار من بني أمية، والمقام معهم، وهم لا يستطيعون تغيير ذلك، ثم ذكرا ما يخافان من عقوبة الله لهم.
فقال عروة لعلي: يا علي إن من اعتزل أهل الجور، والله يعلم منه سخطه لأعمالهم، فإن كان منهم على ميل، ثم أصابتهم عقوبة الله رُجِي له أن يسلم مما أصابهم، قال: فخرج عروة، فسكن العقيق، قال عبد الله: وخرجت أنا، فنزلت سويقة([11]).
3- إنكاره على من يقول: إن النبي اعتمر أربع عمر إحداهن في رجب:
عن مجاهد، قال: دخلتُ أنا وعروة بن الزبير المسجد، فإذا عبد الله بن عمر جالس إلى حجرة عائشة، والناس يصلون الضحى في المسجد، فسألناه عن صلاتهم؟
فقال: بدعة، فقال له عروة: يا أبا عبد الرحمن، كم اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: أربع عمر، إحداهن في رجب، فكرهنا أن نكذبه، ونرد عليه، وسمعنا استنان عائشة في الحجرة، فقال عروة: ألا تسمعين يا أم المؤمنين إلى ما يقول أبو عبد الرحمن، فقالت: وما يقول؟ قال: يقول: اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم أربع عمر إحداهن في رجب.
فقالت: يرحم الله أبا عبد الرحمن، ما اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا وهو معه، وما اعتمر في رجب قط”([12]).
4- إنكاره على معترض:
عن محمد بن جعفر بن الزبير، قال: حدث عروة بن الزبير، عمر بن عبد العزيز، وهو أمير على المدينة عن عائشة، زوج النبي صلى الله عليه وسلم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي إليها، وهي معترضة بين يديه، قال: فقال أبو أمامة بن سهل، وكان عند عمر: فلعلها يا أبا عبد الله، قالت: وأنا إلى جنبه، قال: فقال عروة: أخبرك باليقين، وترد علي بالظن، بل معترضة بين يديه اعتراض الجنازة”([13]).
5- إنكاره على ابن عباس:
عن ابن أبي مليكة، قال: قال عروة لابن عباس: حتى متى تضل الناس يا ابن عباس؟
قال: ما ذاك يا عرية؟
قال: تأمرنا بالعمرة في أشهر الحج، وقد نهى أبو بكر وعمر.
فقال ابن عباس: قد فعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال عروة: هما كانا أتبع لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعلم به منك([14]).
وعن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: “تمتع النبي صلى الله عليه وسلم.
فقال عروة بن الزبير: نهى أبو بكر وعمر عن المتعة.
فقال ابن عباس: ما يقول عرية؟
قال: يقول: نهى أبو بكر وعمر عن المتعة.
فقال ابن عباس: أراهم سيهلكون، أقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم، ويقول: نهى أبو بكر وعمر”([15]).
6- إنكاره على الحجاج:
عن عروة بن الزبير إن الحجاج رآه قاعدًا مع عبد الملك بن مروان، فقال له أتقعد ابن العمشاء معك على سريرك لا أم له؟ فقال عروة: أنا لا أم لي، وأنا ابن عجائز الجنة؟ ولكن إن شئت أخبرتك من لا أم له، يا ابن المتمنية، فقال عبد الملك أقسمت عليك أن تفعل، فكف عروة. قوله: يا ابن المتمنية أراد أمه، وهي الفريعة بنت همام أم الحجاج بن يوسف…([16]).
7- إنكاره على امرأة:
ذكر أبو عثمان الجاحظ في كتاب (البغال) أن عائشة بنت طلحة لما وفدت على عبد الملك وأرادت الحج، حملها وأحشامها على ستين بغلًا من بغال الملوك.
فقال عروة بن الزبير:
يا عيش يا ذات البغال الستين *** أكل عام هكذا تحجين([17]).
أقواله الاحتسابية
كان لعروة بن الزبير رحمه الله أقوال احتسابية كثيرة، منها:
1- وكان يقول: “إذا رأيتم خلة شر رائعة من رجل، فلا تقطعوا عنه إياسكم، وإن كان عند الناس رجل سوء، فإن لها عنده أخوات، وقال: “الناس بأزمنتهم أشبه منهم بآبائهم وأمهاتهم”([18]).
2- وعن هشام بن عروة، عن أبيه، قال: “مكتوب في الحكمة لتكن كلمتك طيبة، وليكن وجهك بسطًا تكن أحب إلى الناس ممن يعطيهم العطاء”([19]).
3- وعن هشام بن عروة، قال: قال أبي: “إذا رأى أحدكم شيئًا من زينة الدنيا، وزهرتها، فليأت أهله، وليأمرهم بالصلاة، وليصطبر عليها، قال: قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} [طه: 131] الآية([20]).
4- عن عمر بن مصعب، عن عروة بن الزبير، عن عائشة في قوله جل وعز: {وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ} [العنكبوت: 29] قالت: الضراط”([21]).
5- وعن يحيى بن أيوب، عن هشام بن عروة، عن أبيه، قال: “السنن السنن، فإن السنن قوام الدين”([22]).
6- وعن هشام بن عروة عن أبيه قال: لا يغرنكم صلاة امرئ ولا صيامه، ما شاء صام وما شاء صلى، لا دين لمن لا أمانة له([23]).
مروياته الاحتسابية
كان لعروة بن الزبير رحمه الله مرويات احتسابية احتسابية كثيرة، منها:
1- عن عروة بن الزبير، عن عائشة، قالت دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرفت في وجهه أنه قد حفزه شيء، فتوضأ، ثم خرج، ولم يتكلم، فاقتربت من الجدران، فسمعته يقول: “يا أيها الناس إن الله يقول: مروا بالمعروف، وانهوا عن المنكر، قبل أن تدعوني، فلا أجيبكم، وتسألون فلا أعطيكم، وتستنصروني فلا أنصركم”([24]).
2- عن ابن شهاب، أخبرني عروة بن الزبير، أن امرأة سرقت في غزوة الفتح، فأتي بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أمر بها، فقطعت يدها، قالت عائشة: فحسنت توبتها، وتزوجت، وكانت تأتي بعد ذلك، فأرفع حاجتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم([25]).
3- وعن عاصم بن عبيد الله، عن عروة بن الزبير، عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها: “ناوليني ردائي” فناولته فخرج فصعد المنبر، واجتمع الناس إليه، فقال: “أيها الناس إن الله يقول: لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، قبل أن تجدبوا فتستسقون فلا تسقون، أيها الناس إن الله يقول لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر قبل أن تدعو فلا يستجاب لكم”([26]).