احتساب محمد بن واسع
رحمه الله
(000 – 123 هـ = 000 – 741 م)
اسمه:
هو محمد بن واسع بن جابر الأزدي، أبو بكر، من أهل البصرة([1]).
فضله ومناقبه:
محمد بن واسع فقيه ورع، من الزهاد، عرض عليه القضاء فأبى، وهو من ثقات أهل الحديث.
روى عن أنس بن مالك، ومطرف بن الشخير، وعبيد بن عمير المكي، وعبد الله بن الصامت، وأبي صالح السمان، وابن سيرين، وغيرهم.
وعنه: هشام بن حسان، وأزهر بن سنان، وإسماعيل بن مسلم العبدي، والثوري، والحمادان، ومعمر، وسلام بن أبي مطيع، وجعفر بن سليمان، ونوح بن قيس، وصالح المري، وأبو المنذر سلام القاري، ومحمد بن الفضل بن عطية([2]).
قال الأصمعي: لما صافّ قتيبة بن مسلم الترك وهاله أمرهم، سأل عن محمد بن واسع، فقيل: هو ذاك في الميمنة ينضنض بإصبعه نحو السماء، قال: تلك الإصبع أحب إليَّ من مائة ألف سيف!([3]).
وعن جعفر قال: سمعت مالك بن دينار يقول: القراء ثلاثة: فقارئ للرحمن، وقارئ للدنيا، وقارئ للملوك، ويا هؤلاء محمد بن واسع عندي من قراء الرحمن([4]).
وقال مالك بن دينار: للأمراء قراء، وللأغنياء قراء، وإن محمد بن واسع من قراء الرحمن([5]).
وعن جعفر قال: كنتُ إذا وجدتُ من قلبي قسوة، نظرتُ إلى وجه محمد بن واسع نظرة وكنتُ ذا رأيتُ وجه محمد بن واسع حسبت أن وجهه وجه ثكلى([6]).
وقال سليمان التيمي: ما أحد أحب إلي أن ألقى الله بمثل صحيفته إلا محمد بن واسع([7]).
وقال نصر: كان الحسن يسمي محمد بن واسع زين القراء([8]).
عبادته:
روى معتمر عن أبيه أنه قال: ما رأيت أحداً قَطُّ أخشع من محمد بن واسع([9]).
وقال سلام بن أبي مطيع: كان محمد بن واسع إذا صلى المغرب يلتزق بالقبلة يصلي([10]).
وقال محمد بن بهرام: كان محمد بن واسع يصوم الدهر، ويخفي ذلك([11]).
وقال أبو الطيب موسى بن بشار: صحبتُ محمد بن واسع من مكة إلى البصرة، فكان يصلي الليل أجمع، يصلي في المحمل جالساً، يومئ برأسه إيماء، وكان يأمر الحادي يكون خلفه، ويرفع صوته حتى لا يفطن له، وكان ربما عرس من الليل، فينزل فيصلي، فإذا أصبح أيقظ أصحابه رجلاً رجلاً، فيجيء إليه، فيقول: الصلاة الصلاة، فإذا قاموا قال لنا: إن كان الماء قريباً فتوضئوا، وإن كان فيه بعد، وفي الماء الذي معكم قلة، فتيمموا، وأبقوا هذه للشفة([12]).
وعن سعيد بن الفضيل القرشي مولى بني زهرة، قال: كان محمد بن واسع نازلاً في العلو، وكان قوم يسكنون في داره في السفل، قال: فحدثني بعضهم، قال: كان يبكي عامة الليل، لا يكاد يفتر، قال: ثم يصبح، فإنما يكشر في وجوه أصحابه([13]).
سيرته الاحتسابية
كان لمحمد بن واسع رحمه الله سيرة احتسابية عطرة، نذكر بعض مواقفه الاحتسابية، ومنها:
1- إنكاره على ولده:
عن جعفر بن سليمان قال: جاء رجل إلى محمد بن واسع، فشكا ابنه، فأقبل محمد على ابنه، فقال: تستطيل على الناس، وأمك اشتريتها بأربعمائة درهم، وأما أبوك فلا كثر الله في المسلمين مثله([14]).
2- إنكاره على ولده أيضاً:
عن محمد بن عبد الله الزراد قال: رأى محمد بن واسع ابناً له يخطر بيده، فدعاه، فقال: تدري من أنت؟
أما أمك فاشتريتها بمائتي درهم، وأما أبوك فلا أكثر الله عز وجل في المسلمين ضربه([15]). أي مثله.
وعن الأصمعي قال: آذى ابن لمحمد بن واسع رجلاً، فقال له محمد: أتؤذيه وأنا أبوك، وإنما اشتريت أمك بمائة درهم([16]).
3- إنكاره على الألقاب التي فيها تزكية:
قال حماد بن زيد: دخلنا على محمد بن واسع في مرضه نعوده، قال: فجاء يحيى البكاء يستأذن عليه، فقالوا: يا أبا عبد الله هذا أخوك أبو سلمة على الباب، قال: من أبو سلمة؟ قالوا: يحيى، قال: من يحيى؟
قالوا: يحيى البكاء، قال حماد: وقد علم أنه يحيى البكاء، فقال: إن شر أيامكم يوم نسبتم فيه إلى البكاء([17]).
4- إنكاره على قاصٍ:
عن سعيد بن عاصم قال: كان قاص يجلس قريباً من مسجد محمد بن واسع، فقال يوماً وهو يوبخ جلساءه: ما لي أرى القلوب لا تخشع، ولا أرى العيون لا تدمع، وما لي لا أرى الجلود لا تقشعر؟
فقال محمد بن واسع: يا عبد الله ما لي أرى القوم أتوا إثماً من قبلك؟
إن الذكر إذا خرج من القلب وقع على القلب([18]).
ويروى: أن قاصاً كان قريباً من مجلس ابن واسع، فقال: ما لي أرى القلوب لا تخشع، والعيون لا تدمع، والجلود لا تقشعر؟ فقال محمد: يا فلان ما أرى القوم أتوا إلا من قبلك، إن الذكر إذا خرج من القلب وقع على القلب([19]).
5- إنكاره على رجل يكثر الكلام:
عن حماد بن زيد قال: بلغني أن محمد بن واسع كان في مجلس، فتكلم رجل فأكثر الكلام، فقال محمد: ما على أحدهم لو يسكت فيقاربونا([20]).
وعن حماد بن زيد قال: بلغني أن محمد بن واسع، كان في مجلس، فتكلم رجل فأكثر الكلام، فقال محمد: ما على أحدكم لو سكت فتنقى وتوقى([21]).
6- إنكاره على قبول جوائز السلطان:
قال ابن شوذب: قسّم أمير البصرة على قرائها، فبعث إلى مالك بن دينار، فأخذ، فقال له ابن واسع: قبلت جوائز السلطان؟! قال: سل جلسائي، فقالوا: يا أبا بكر اشتري بها رقيقاً فأعتقهم، قال: أنشدك الله أقلبك الساعة على ما كان عليه؟ قال: اللهم لا([22]).
7- إنكاره على من سأله عن القدر:
عن عتبة بن المنهال البصري الأزدي قال: قال بلال بن أبي بردة لمحمد بن واسع: ما تقول في القضاء والقدر؟
قال: أيها الأمير إن الله عز وجل لا يسأل يوم القيامة عباده عن قضائه وقدره، إنما يسألهم عن أعمالهم([23]).
8- وعظه لأحد إخوانه (وهو نوع من الأمر والنهي):
عن عبد الرحمن بن الحارث قال: حدثني محمد بن واسع أنه كتب إلى رجل من إخوانه من محمد بن واسع إلى فلان بن فلان، سلامٌ عليك، أما بعد:
فإن استطعت أنا تبيت حيث تبيت، وأنت نقي الكف من الدم الحرام، خميص البطن من الطعام الحرام، خفيف الظهر من المال الحرام، فافعل، فإن فعلت فلا سبيل عليك، إنما السبيل على الذين يظلمون الناس، ويبغون في الأرض بغير الحق، والسلام عليك([24]).
9- إنكاره على العجب:
عن الحارث بن نبهان قال: سمعت محمد بن واسع يقول: واصاحباه ذهب أصحابي، قلت: رحمك الله أبا عبد الله أليس قد نشأ شباب يصومون النهار، ويقومون الليل، ويجاهدون في سبيل الله، قال: بلى، ولكن أخ، وتفل، أفسدهم العجب!([25])
10- إنكاره على رجل سبَّه:
عن سليمان بن أبي شيخ عن ابن عائشة أن عمر بن يزيد الأسيدي شتم محمد بن واسع، حتى سكت، لا يرد عليه شيئاً، فلما سكت قال له: يا مغرور يوشك أن تندم([26]).
11- إنكاره على بلال بن أبي بردة:
عن الأزهر بن سنان قال: حدثنا محمد بن واسع، قال: دخلت على بلال بن أبي بردة، فقلت له: يا بلال، إن أباك حدثني، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن في جهنم وادياً يقال له: هبهب، حقاً على الله أن يسكنه كل جبار، فإياك يا بلال أن تكون ممن يسكنه([27]).
وعن هشام، عن محمد بن واسع، قال: قلت لبلال -وأرسل إلي-: إنه بلغني: أن في النار بئراً يقال له: جب الحزن، يؤخذ المتكبرون، فيجعلون في توابيت من نار، ثم يجعلون في تلك البئر، ثم تطبق عليهم جهنم من فوقهم، فبكى بلال([28]).
12- إنكاره على والٍ:
عن هشام قال: دعا مالك بن المنذر محمد بن واسع وكان على شرط البصرة، فقال: اجلس على القضاء، فأبى محمد، فعاوده فأبى، فقال: لتجلس أو لأجلدنك ثلاثمائة، فقال له محمد: إن تفعل فأنت مسلط، وإن ذليل الدنيا خير من ذليل الآخرة، قال: ودعاه بعض الأمراء، فأراده على بعض الأمر فأبى، فقال: إنك لأحمق، فقال محمد: ما زلت يقال لي هذا منذ أنا صغير([29]).
13- إنكاره على والٍ أيضاً:
عن ابن شوذب قال: كان محمد بن واسع مع يزيد بن المهلب بخراسان غازياً، فاستأذنه للحج، فأذن له، فقال له: نأمر لك؟ قال: تأمر به للجيش كلهم؟ قال: لا، قال: لا حاجة لي به([30]).
أقواله المأثورة
كان لمحمد بن واسع رحمه الله الكثير من الأقوال المأثورة النافعة، نذكر طرفاً منها:
1- عن البتي قال: قال محمد بن واسع: إنه ليعرف فجور الفاجر في وجهه([31]).
2- وعن سليمان بن الحكم بن عوانة، عن محمد بن واسع، قال: الذنب على الذنب يميت القلب([32]).
3- وقال ابن عيينة: قال محمد بن واسع: لو كان للذنوب ريح ما جلس أحد إلي([33]).
4- وعن سليمان بن الحكم بن عوانة، عن محمد بن واسع قال: أربع يمتن القلب: الذنب على الذنب، وكثرة مثافنة النساء وحديثهن، وملاحاة الأحمق: تقول له ويقول لك، ومجالسة الموتى، قيل: وما مجالسة الموتى؟ قال: مجالسة كل غني مترف، وسلطان جائر([34]).
5- وعن ليث بن أبي سليم، عن محمد بن واسع، قال: إذا أقبل العبد بقلبه إلى الله أقبل الله بقلوب المؤمنين إليه([35]).
6- وعن إسماعيل بن مسلم العبدي قال: قال محمد بن واسع: القرآن بستان العارفين، فأينما حلوا منه حلوا في نزهة([36]).
7- وعن يوسف بن عطية، عن محمد بن واسع، قال: لقد أدركت رجالاً كان الرجل يكون رأسه مع رأس امرأته على وسادة واحدة، قد بل ما تحت خده من دموعه لا تشعر به امرأته، ولقد أدركت رجالاً يقوم أحدهم في الصف فتسيل دموعه على خده ولا يشعر به الذي إلى جانبه([37]).
8- وعن عمران بن خالد قال: سمعت محمد بن واسع يقول: إن كان الرجل ليبكي عشرين سنة وامرأته معه لا تعلم به([38]).
9- وعن ابن شوذب قال: حضر محمد بن واسع محضراً فيه بكاء، فلما فرغوا أتوا بالطعام فتنحى محمد بن واسع ناحية، فجلس، فقالوا له: يا أبا بكر ألا تدنو إلى الطعام فتأكل، قال: إنما يأكل من بكى، كأنه يعيب عليهم الطعام بعد البكاء أو مع البكاء([39]).
10- وعن زياد بن الربيع عن أبيه، قال: رأيت محمد بن واسع يمر ويعرض حماراً له على البيع فقال له رجل: أترضاه لي؟ قال: لو رضيته لم أبعه([40]).
11- وعن يونس بن محمد عن أبي سعيد المؤدب، قال: قال محمد بن واسع: ليس لملول صديق، ولا لحاسد راحة، وإياك والإشارة على المعجب برأيه، فإنه لا يقبل([41]).
12- وعن محمد بن حوشب قال: سمعت محمد بن واسع يقول: طيب المكاسب زكاة الأبدان، فرحم الله من أكل طيباً، وأطعم طيباً([42]).
13- وعن خليد بن دعلج، عن محمد بن واسع قال: من قل طعامه فهم وأفهم، وصفا، ورق، وإن كثرة الطعام لتثقل صاحبه عن كثير مما يريد([43]).
14- وعن عبد الواحد بن زياد قال: سمعت مالك بن دينار، يقول لحوشب: لا تبيتن وأنت شبعان ودع الطعام وأنت تشتهيه، فقال حوشب: هذا وصف أطباء أهل الدنيا، قال: ومحمد بن واسع يستمع كلامهما، فقال محمد: نعم ووصف أطباء طريق الآخرة، فقال مالك: بخ بخ، دواء للدين والدنيا([44]).
15- وعن عمران بن مسلم عن محمد بن واسع قال: أربعة من الشقاء: طول الأمل، وقسوة القلب، وجمود العين، والبخل([45]).
16- وعن عن عبد العزيز بن أبي رواد قال: رأيت في يد محمد بن واسع قرحة، فكأنه رأى ما قد شق علي منها، فقال لي: تدري ما علي في هذه القرحة من نعمة؟ قال: فسكت قال: حيث لم يجعلها على حدقتي، ولا على طرف لساني، ولا على طرف ذكري، قال: فهانت علي قرحته([46]).
17- وعن خليد بن دعلج عن محمد بن واسع قال: لقضم القصب، وسف التراب، خير من الدنو من السلطان([47]).
18- وعن سفيان بن وكيع قال: سمعت أبي يقول: بلغني أن محمد بن واسع، أريد على القضاء فأبى فعاتبته امرأته، فقالت: لك عيال وأنت محتاج، قال: ما دمت تريني أصبر على الخل والبقل فلا تطمعي في هذا مني([48]).
19- وعن محمد بن بهرام قال: سمعت محمد بن واسع يقول: لا يطيب هذا المال إلا من أربع خلال: تجارة من حلال، أو ميراث بكتاب، أو عطاء من أخ مسلم عن ظهر يد، أو سهم مع المسلمين مع إمام عادل.
قال وكيع: قال غيره: قال له ابنه: ليس كل ساعة تبقى لنا، قال: فدعا بخبز وملح، ثم جعل يأكل، فقال: تراني أقنع بهذا وأرضى به؟ أعينهم أو أدخل معهم أو أوالي لهم؟([49]).
20- وقال محمد بن واسع: أول من يدعى يوم القيامة إلى الحساب القضاة([50]).
21- وعن زياد بن الربيع عن أبيه قال: رأيت محمد بن واسع بهراة يماكس بقالاً، فقال: ترك المكاس غبن، ومن رضي بالغبن فقد ضيع ماله([51]).
22- وعن عبيد الله بن محمد قال: سمعت شيخاً يحدثه قال: استعمل بعض أمراء البصرة عبد الله بن محمد بن واسع على الشرطة، فأتاه محمد بن واسع، فقيل للأمير: محمد بالباب، قال: فقال للقوم: ظنوا به، فقال بعضهم: جاء يشكر الأمير على استعمال ابنه، فقال: لا، ولكنه جاء يطلب لابنه الإعفاء، أو قال: العافية، قال: فأذن له، فلما دخل قال: أيها الأمير، بلغني أنك استعملت ابني، وإني أحب أن تسترنا سترك الله، قال: قد أعفيناه يا أبا عبد الله([52]).
23- وعن علي بن محمد القرشي، قال: قال الخليل بن أحمد: قال محمد بن واسع: ما رددت أحداً عن حاجة أقدر على قضائها، ولو كان فيها ذهاب مالي([53]).
24- وعن علي بن عثام: قال محمد بن واسع لمالك بن دينار: ما لك لا تقارع الأبطال؟ قال: وما مقارعة الأبطال؟! قال: الكسب من الحلال والانفاق على العيال([54]).
مروياته الاحتسابية
1- عن محمد بن واسع، عن عبد الله بن الصامت، عن أبي ذر، قال: أوصاني رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول الحق، وإن كان مراً، وأوصاني أن لا تأخذني في الله لومة لائم([55]).