احتساب مسعر بن كدام
رحمه الله
(000 – 152 هـ = 000 – 769 م)
اسمه:
هو مسعر بن كدام بن ظهير الهلالي العامري، الروَّاسي، أبو سلمة، من ثقات أهل الحديث، كوفي، توفي بمكة([1]).
مكانته وفضله:
كان يقال له: (المصحف) لعظم الثقة بما يرويه، وله نحو ألف حديث، وخرّج له الستة.
قال سفيان الثوري: “كنا إذا اختلفنا في شيء أتينا مسعراً”([2]).
وقال ابن داود: “كل قد أوهم في حديثه غير مسعر”([3]).
وعن عبد الله بن داود قال: “كان أصحابنا يهابون مسعراً كهيبتهم الأعمش”([4]).
وقال سفيان: “كان مسعر ممن يؤتم به”([5]).
وقال خالد بن عمرو: “رأيت مسعر بن كدام كأن وجهه ركبة عنز من السجود، وكان إذا نظر إليك حسبت أنه ينظر إلى الحائط من شدة حؤولته”([6]).
وعن مالك أبي هشام قال: “كنت مع مسعر وهو خارج من المسجد قال: وقل ما كان يخرج من المسجد إلا ومعه قمامة يحملها، قال: فلقيه رجل فقال: طوبى لك يا أبا محمد، أنت في هذا المسجد منذ خمسين سنة صائم، نهارك قائم ليلك، قال: قال مسعر عند ذلك: “ليتني أموت على الإسلام”([7]).
وقال محمد بن مسعر: “كان أبي لا ينام حتى يقرأ نصف القرآن، فإذا فرغ من ورده لف رداءه، ثم هجع عليه هجعة خفيفة، ثم يثب كالرجل الذي ضل منه شيء فهو يطلبه، وإنما هو السواك، والطهور، ثم يستقبل المحراب، فكذلك إلى الفجر، وكان يجهد على إخفاء ذلك جداً([8]).
وقال ابن عيينة: “جاءني مسعر، فكلمني في إنسان أحدثه، فقلت: “يا أبا سلمة، لو أرسلت إلينا، فقال: إن الحاجة لنا”([9]).
وقال أبو عبيدة الحذاء: “سألت شعبة عن مسعر، فقال: “ذاك عند الكوفيين مثل ابن عون عند البصريين”([10]).
ويقول: “كانوا يرون أن مسعراً، لو أدرك أصحاب عبد الله لعد فيهم”([11]).
وقال ابن عيينة: “رأيت كأن قناديل المسجد الأعظم -يعني مسجد الكوفة- قد طفئت، فمات مسعر رحمه الله([12]).
وقال ابن عيينة: “لما مات مسعر بن كدام رأيت كأن المصابيح، والسرج قد طفئت، قال سفيان: وهو موت العلماء”([13]).
وقال معن بن عبد الرحمن: “ما رأيت مسعراً في يوم إلا قلت: هو أفضل منه قبل ذلك”([14]).
وقال الحسن بن عمارة: “إن لم يدخل الجنة إلا مثل مسعر بن كدام إن أهل الجنة لقليل”([15]).
وقال هشام بن عروة: “ما قدم علينا من أهل العراق أحد أفضل من ذاك السختياني أيوب، وذاك الرواسي مسعر”([16]).
وقال يزيد بن هارون: “قدمت الكوفة، فما رأيت بها أحداً لا يدلس، إلا ما خلا مسعراً وشريكاً”([17]).
وقال سفيان الثوري: “لم يكن في زماني مثله -يعني مسعراً-“([18]).
وقال سفيان بن عيينة: “هل لقيت مسعراً؟ فقلت: بلى، فقال: أما إنك لم تلق أبداً مثله، فضلاً”([19]).
وقال سفيان بن عيينة: “ما لقيت أحداً أفضله على مسعر”([20]).
وقال هشام: “ما رأيت بالكوفة أفضل من مسعر”([21]).
وقال سفيان: “وكان مسعر من معادن الصدق”([22]).
وقال عبد الله بن داود: “كنا نسمي مسعراً المصحف”([23]).
سيرته الاحتسابية
كان لمسعر بن كدام رحمه الله سيرة احتسابية حافلة بالمواقف الكثيرة، نذكر منها:
1- إنكاره على مادح:
قال ابن كناسة: “أثنى رجل على مسعر، فقال: تثني علي وأنا أبني الآجر، وأقبض جوائز السلطان؟”([24]).
2- إنكاره على القدرية:
وعن معتمر بن سليمان، قال: سمعت أبا مخزوم، يذكر عن مسعر، قال: “إن التكذيب بالقدر أبو جاد الزندقة”([25]).
3- إنكاره على ظالم:
وعن سعد بن الصلت قال: “رأى مسعر جلوازاً([26]) يظلم آخر، قال: “فصعد فوق البيت، فأشرف عليه، فقال: يا عبد الله أنت ظالم، قال الجلواز: إن كنت صادقاً فانزل”([27]).
4- إنكاره على رجل من أصحاب الحديث:
وقال سفيان: “إني كنت عند مسعر، فنظر إلي رجل عليه ثياب جياد نبيل، فقال له مسعر: أنت من أصحاب الحديث؟ فقال: نعم، قال: “ليس هذا من آلة من طلب الحديث”([28]).
5- إنكاره على امرأة:
وعن ابن عيينة، قال: “كنت جالساً أنا ومسعر، عند إسماعيل بن أمية، فأقبلت عجوز، حتى سلمت على إسماعيل بن أمية، فلما ولت قال لنا إسماعيل: هذه بغوم عمر بن أبي ربيعة التي يقول فيها:
حبذا يا بغوم أنت وأسماء *** وعيش يكفنا وخلاء
ولقد قلت ليلة الجزل لما *** أخضلت ريطتي علي السماء.
قال: فقال مسعر: “ورب هذه البنية، ما كان عند هذا الوجه خير قط([29]).
6- إنكاره على رافضي:
روى اللالكائي: أن مسعر بن كدام لقيه رجل من الرافضة فكلمه بشيء، فقال له مسعر: تنح عني، فإنك شيطان”([30]).
7- إنكاره على رجل:
عن أبي الوليد الضبي، قال: “رأيت شيخاً من الأعراب، له سن يتوكأ على محجن، قد قصد مسعر بن كدام، فوجده يصلي، فأطال مسعر الصلاة، فأعيا الشيخ، فجلس، فلما فرغ مسعر من صلاته، قال الشيخ: خذ من الصلاة كفيلاً، فقال له مسعر: اقصد لما يبقى عليك نفعه، كم بلغت من السنين؟
قال: قد أتى علي مائة سنة، وبضع عشرة سنة.
قال مسعر: في بعض هذا ما كفاك واعظاً، فانظر لنفسك.
فقال الشيخ:
أحب اللواتي في صباهن غرة *** وفيهن عن أزواجهن طماح
مسرات حب مظهرات عداوة *** تراهن كالمرضى وهن صحاح
فقال مسعر: أفيك لهذا فضل؟
فقال: والله ما بأخيك ناهض منذ أربعين، ولكن يجر بجيش يريده، فتبسم مسعر، وقال: “الشعر حسن وقبيح، وهو ديوان العرب”([31]).
وفي رواية: وقف شيخ من العرب على مسعر بن كدام، وهو يصلي، فأطال، فلما فرغ قال له الأعرابي: خذ من الصلاة كفيلاً! فتبسم، وقال له: يا شيخ! خذ فيما يجدي عليك، كم تعد من سنيك؟
قال: مائة وبضع عشرة سنة.
فقال له: في بعضها ما يكفي واعظاً، فاعمل لنفسك، فأنشأ الأعرابي يقول:
أُحِبُّ اللّوَاتِي هُنّ مِنْ وَرَقِ الصّبى *** وَفيهِنَّ عَنْ أزْواجِهِنَّ طِمَاحُ
مُسِرّاتُ بُغضٍ مُظهِرَاتٌ مَوَدّةً *** تَرَاهُنّ كالمَرْضَى، وَهُنّ صَحَاحُ
فقال له مسعر: أف لك من شيخ! فقال: والله ما بأخيك حراك منذ أربعين سنة، لكنه بحر يجيش من زبده، فضحك مسعر، وقال: إن الشعر كلام، فحسنه حسن، وقبحه قبيح([32]).
أقواله المأثورة
كان لمسعر بن كدام رحمه الله الكثير من الأقوال المأثورة، نذكر منها:
1- وقال سفيان: قلت لمسعر: “تحب أن يهدى إليك عيوبك؟ قال: أما من ناصح فنعم، وأما من موبخ فلا”([33]).
2- وعن أبي أسامة قال: سمعت مسعراً، يقول: “ما أعلم حلالاً لا شك فيه، إلا أن يرد رجل الفرات، فيشرب بكفه، أو أخ لك صالح يهدي لك هدية”([34]).
3- وعن جعفر بن عون، قال: سمعت مسعراً، يقول:
نهارك يا مغرور سهو وغفلة *** وليلك نوم والردى لك لازم
وتتعب فيما سوف تكره غبه *** كذلك في الدنيا تعيش البهائم([35]).
4- وعن عبد الله بن صالح، قال: قال مسعر بن كدام:
تفنى اللذاذة ممن نال صفوتها *** من الحرام، ويبقى الإثم والعار
تبقى عواقب سوء من مغبتها ** لا خير في لذة من بعدها النار”([36]).
5- وعن سفيان بن عيينة، قال: سمعت مسعراً، يقول: “التدليس دناءة”([37]).
6- وعن محمد بن كناسة، قال: سمعت مسعراً، يقول: “من همته نفسه تبين ذلك عليه”([38]).
7- وعن جعفر بن عون، قال: قال مسعر: “الإيمان قول وعمل”([39]).
8- وعن زيد بن الحباب، قال: كان مسعر يقول: “الإيمان يزيد وينقص”([40]).
9- وقال مسعر: أشك في كل شيء إلا في الإيمان([41]).
وعن أبي أسامة قال: قال لي مسعر: “يا أبا أسامة من رضي بالخل، والبقل لم يستعبده الناس”([42]).
10- وعن أبي أسامة، قال: قال لي مسعر: “يا حماد إن صبرت على أكل البقل والخبز، لم يستعبدك كثير من هؤلاء”([43]).
11- وهذان البيتان أظنهما لابن المبارك:
من كان ملتمساً جليساً صالحاً *** فليأت حلقة مسعر بن كدام
فيها السكينة والوقار، وأهلها *** أهل العفاف وعلية الأقوام([44]).
12- قال مسعر بن كدام: “يا عطاء هذه خامسة زادنا الله في هذا الحديث لم يكن في أيدينا إنما كان في أيدينا، اغد عالماً، أو متعلماً، أو مستمعاً، ولا تكن الرابعة، فتهلك يا عطاء، ويل لمن ليس فيه واحدة من هذه”([45]).
13- وقال مسعر بن كدام: “العلم شرف الأحساب يرفع الخسيس في نسبه، ومن قعد به حسبه نهض به أدبه”([46]).
14- قال مسعر: “ما صحبت أحداً إلا طلب عيوبي”([47]).
15- وعن مسعر بن كدام قال: “رحم الله من أهدى إلي عيوبي في ستر، بيني وبينه، فإن النصيحة في الملأ تقريع”([48]).
16- وعن ابن الأصبهاني قال: قال مسعر بن كدام لابنه:
ولقد حبوتك يا كدام نصيحتي *** فاسمع لقول أب عليك شفيق
أما المزاحة والمراء فدعهما *** خلقان لا أرضاهما لصديق
ولقد بلوتهما فلم أحمدهما *** لمجاور جار ولا لرفيق ([49]).
17- وعن المدائني؛ قال: قيل لمسعر بن كدام: أتحب أن تخبر بعيوبك؟
قال: أما من صديق فلا أكره، وأما من عدو فأكرهه([50]).
18- وعن سفيان بن عيينة قال: قلت لمسعر بن كدام: أتحب أن تخبر بعيوبك؟
فقال: أما من ناصح فنعم([51]).
19- وعن ثابت بن محمد الكفاني؛ قال: سمعت مسعر بن كدام يقول: أناة الله حيرت قلوب المظلومين، وحلم الله بسط آمال الظالمين([52]).
20- وعن مسعر بن كدام قال: “من طلب العلم لنفسه فقد اكتفى، ومن طلب العلم للناس فليبالغ، فإن بلاءهم كثير”([53]).
21- وقال مسعر بن كدام في التدليس: هو حلو دنيء([54]).
([1]) انظر ترجمته: في المنتظم في تاريخ الملوك والأمم (8/ 159) والمعرفة والتاريخ (2/ 658) والتاريخ الكبير للبخاري بحواشي محمود خليل (8/ 13) والأعلام للزركلي (7/ 216) وغيرها.