احتساب معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه
(20 ق هـ – 60 هـ = 603 – 680 م)
اسمه ونشأته:
هو الصحابي الجليل معاوية بن أبي سفيان، صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، القرشي الأموي.
مؤسس الدولة الأموية في الشام، وأحد دهاة العرب المتميزين الكبار، كان فصيحاً حليماً وقوراً، ولد بمكة، وأسلم يوم فتحها (سنة 8 هـ) وتعلم الكتابة والحساب، فجعله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من كتَّابه([1]).
وقال عنه: ((اللهم اجعله هادياً مهدياً، واهدِ به))([2]).
مكانته وثناء العلماء عليه:
قال عنه سعيد بن أبي وقاص: ما رأيتُ أحداً بعد عثمان أقضى بحق من صاحب هذا الباب، يعني معاوية([3]).
وعن قبيصة بن جابر قال: صحبتُ معاوية، فما رأيتُ رجلاَ أثقل حلماَ، ولا أبطأ جهلاَ، ولا أبعد أناة منه([4]).
وفي صحيح البخاري عن ابن أبي مليكة، قال: أوتر معاوية بعد العشاء بركعة، وعنده مولى لابن عباس، فأتى ابن عباس فقال: دعه، فإنه قد صحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-([5]), يعني: أن له علماً.
روى معاوية -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأبي بكر، وعمر، وأخته أم المؤمنين أم حبيبة.
وعنه ابن عباس، وسعيد بن المسيب، وأبو صالح السمان، والأعرج، وسعيد بن أبي سعيد، ومحمد بن سيرين، وهمام بن منبه، وعبد الله بن عامر اليحصبي، والقاسم أبو عبد الرحمن، وشعيب بن محمد والد عمرو بن شعيب، وطائفة سواهم([6]).
وقال ابن كثير عنه: “أيام معاوية أول الملك، فهو أول ملوك الإسلام وخيارهم”([7]).
وقال: فضل معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه-… خال المؤمنين، وكاتب وحي رب العالمين، أسلم هو وأبوه وأمه هند بنت عتبة بن ربيعة بن عبد شمس يوم الفتح([8]).
له (130) حديثاً، اتفق البخاري ومسلم على أربعة منها وانفرد البخاري بأربعة، ومسلم بخمسة.
وهو أحد عظماء الفاتحين في الإسلام، بلغت فتوحاته المحيط الأتلانطيقي، وافتتح عامله بمصر بلاد السودان (سنة 43) وهو أول مسلم ركب بحر الروم للغزو، وفي أيامه فتح كثير من جزائر يونان والدردنيل، وحاصر القسطنطينية براً وبحراً (سنة 48) وهو أول من جعل دمشق مقر خلافة، وأول من اتخذ المقاصير (الدور الواسعة المحصنة والمقصورة كذلك كنّ في المسجد يقصر للخليفة لوقايته) وأول من اتخذ الحرس والحجاب في الإسلام([9]).
وقال أبو الحسن المدائني: كان عمر إذا نظر إلى معاوية قال: هذا كسرى العرب.
وروى ابن أبي ذئب، عن المقبري قال: تعجبون من دهاء هرقل وكسرى، وتدعون معاوية([10]).
سيرته الاحتسابية
كان للصحابي الجليل معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه- سيرة احتسابية حافلة بالمواقف العظيمة، وقول الحق، ومحاربة البدع، والجهاد في سبيل الله، ونشر الفتوحات، وسنذكر جانباً يسيراً من هذه المواقف:
1- إنكاره على قصة([11]) النساء:
عن إبراهيم بن عبد الله بن قارظ قال: سمعتُ معاوية على منبر المدينة يقول:
أين فقهاؤكم يا أهل المدينة؟ سمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- ينهى عن هذه القصة، ثم وضعها على رأسه، أو خده، فلم أرَ على عروس، ولا على غيرها أجمل منها على معاوية([12]).
وفي مسند عمر بن عبد العزيز: عن إبراهيم بن عبد الله بن قارظ قال: سمعتُ معاوية بن أبي سفيان، وهو على المنبر بالمدينة يقول: أين فقهاؤكم يا أهل المدينة؟ إني سمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عند منبره ينهى عن مثل هذه القصة، ثم وضعها على رأسه، فلم أرها على عروس عند عرس ولا غيره أجمل منها على معاوية، يقول: “لعن الله الواشمة والمستوشمة، والمتنمصة والنامصة، والواشرة والمستوشرة”([13]).
قال العيني معلقاً: “قوله: “أين علماؤكم؟” قال بعضهم: فيه إشارة إلى أن العلماء إذ ذاك فيهم كانوا قليلاً، وهو كذلك؛ لأن غالب الصحابة يومئذٍ كانوا قد ماتوا، وكان رأي جهال عوامهم صنعوا ذلك، فأراد أن يذكر علماءهم ويؤنبهم بما تركوه من الإنكار في ذلك، قلتُ: إن كان غالب الصحابة ماتوا في ذلك الوقت فقد قام مقامهم أكثر منهم جماعة من التابعين الكبار والصغار، وأتباعهم، ولم يكن معاوية قصد هذا المعنى الذي ذكره هذا القائل، وإنما كان قصده الإنكار عليهم بإهمالهم إنكار مثل هذا المنكر، وغفلتهم عن تغييره، وفي هذا اعتناء الولاة بإزالة المنكرات، وتوبيخ من أهملها”([14]).
2- إنكاره على الإسراف في البناء:
ذُكر أن رجلاً سأل من معاوية أن يساعده في بناء داره، باثني عشر ألف جذع من الخشب،
فقال له معاوية: أين دارك؟ قال: بالبصرة، قال: وكم اتساعها؟ قال: فرسخان في فرسخين، قال: لا تقل داري بالبصرة، ولكن قل: البصرة في داري([15]).
3- إنكاره ونصحه ليزيد:
قال معاوية ليزيد وهو يوصيه: اتقِ الله، فقد وطأت لك الأمر، ووليت من ذلك ما وليت، فإن يك خيراً فأنا أسعد به، وإن كان غير ذلك شقيت به، فارفق بالناس، وإياك وجبه أهل الشرف، والتكبر عليهم، في كلام طويل، أورده ابن سعد([16]).
4- إنكاره على ولده:
قال العتبي: رأى معاوية ابنه يزيد يضرب غلاماً له، فقال له: اعلم أن الله أقدر عليك منك عليه، سوأة لك! أتضرب من لا يستطيع أن يمتنع عليك؟ والله لقد منعتني القدرة من الانتقام من ذوي الأحن، وإن أحسن من عفا لمن قدر([17]).
5- إنكاره على عمرو بن العاص:
عن أبي موسى، قال: سمعتُ الحسن، يقول: استقبل والله الحسن بن علي معاوية بكتائب أمثال الجبال، فقال عمرو بن العاص: إني لأرى كتائب لا تولي حتى تقتل أقرانها، فقال له معاوية وكان والله خير الرجلين: أي عمرو إن قتل هؤلاء هؤلاء، وهؤلاء هؤلاء من لي بأمور الناس من لي بنسائهم من لي بضيعتهم، فبعث إليه رجلين من قريش من بني عبد شمس: عبد الرحمن بن سمرة، وعبد الله بن عامر بن كريز، فقال: اذهبا إلى هذا الرجل، فاعرضا عليه، وقولا له: واطلبا إليه، فأتياه، فدخلا عليه فتكلما، وقالا له: فطلبا إليه، فقال لهما الحسن بن علي: إنا بنو عبد المطلب، قد أصبنا من هذا المال، وإن هذه الأمة قد عاثت في دمائها، قالا: فإنه يعرض عليك كذا وكذا، ويطلب إليك ويسألك قال: فمن لي بهذا، قالا: نحن لك به، فما سألهما شيئاً إلا قالا: نحن لك به، فصالحه، فقال الحسن: ولقد سمعتُ أبا بكرة يقول: رأيتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على المنبر، والحسن بن علي إلى جنبه، وهو يقبل على الناس مرة، وعليه أخرى ويقول: ((إن ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين))([18]).
6- إنكاره على القيام للداخل:
عن أبي مجلز، أن معاوية دخل بيتاً فيه ابن عامر وابن الزبير، فقام ابن عامر، وجلس ابن الزبير، فقال له معاوية: اجلس، فإني سمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((من سره أن يمثل له العباد قياماً، فليتبوأ بيتاً في النار))([19]).
7- إنكاره استلام اركان البيت كلها:
عن شعبة، قال: سمعتُ قتادة، يحدث، عن أبي الطفيل، قال حجاج في حديثه، قال: سمعت أبا الطفيل، قال: قدم معاوية وابن عباس، فطاف ابن عباس، فاستلم الأركان كلها، فقال له معاوية: إنما استلم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الركنين اليمانيين.
قال ابن عباس: “ليس من أركانه شيء مهجور”.
قال حجاج: قال شعبة: “الناس يختلفون في هذا الحديث، يقولون: معاوية هو الذي قال: ليس من البيت شيء مهجور، ولكنه حفظه من قتادة هكذا”([20]).
8- إنكاره الصلاة بعد العصر:
عن عبد الله بن الحارث بن نوفل، قال: صلى معاوية بالناس العصر، فالتفت، فإذا أناس يصلون بعد العصر، فدخل ودخل عليه ابن عباس وأنا معه، فأوسع له معاوية على السرير، فجلس معه، قال: ما هذه الصلاة التي رأيت الناس يصلونها، ولم أر النبي -صلى الله عليه وسلم- يصليها ولا أمر بها؟ قال: ذاك ما يفتيهم ابن الزبير، فدخل ابن الزبير، فسلم، فجلس، فقال معاوية: يا ابن الزبير: ما هذه الصلاة التي تأمر الناس يصلونها، لم نر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صلاها، ولا أمر بها؟ قال: حدثتني عائشة، أم المؤمنين أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صلاها عندها في بيتها، قال: فأمرني معاوية ورجل آخر أن نأتي عائشة، فنسألها عن ذلك؟ قال: فدخلت عليها، فسألتها عن ذلك، فأخبرتها بما أخبر ابن الزبير عنها، فقالت: لم يحفظ ابن الزبير، إنما حدثته أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صلى هذه الركعتين بعد العصر عندي، فسألته، قلتُ: إنك صليت ركعتين لم تكن تصليهما؟ قال: ((إنه كان أتاني شيء فشغلتُ في قسمته عن الركعتين بعد الظهر، وأتاني بلال، فناداني بالصلاة، فكرهتُ أن أحبس الناس فصليتهما)) قال: فرجعتُ فأخبرتُ معاوية. قال: قال ابن الزبير: أليس قد صلاهما؟ لا ندعهما، فقال له معاوية: لا تزال مخالفا أبداً([21]).
9- إنكاره على أخيه:
عَنْ قَيْسٍ قَالَ: سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ يَقُولُ لِأَخٍ لَهُ صَغِيرٍ: أَرْدِفِ الْغُلَامَ. فَأَبَى فَقَالَ لَه مُعَاوِيَةُ: بِئْسَ مَا أُدِبتَ، قَالَ قَيْسٌ: فَسَمِعْتُ أبا سفيان يقول: دع عنك أخاك([22]).
10- إنكاره على قاصٍ:
عن عبد الله بن لحي أبو عامر الهوزني، قال: حججتُ مع معاوية، فلما قدم مكة أخبر أن بها قاصاً يحدث بأشياء تنكر، فأرسل إليه معاوية، فقال: أمرتَ بهذا؟ قال: لا، قال: فما حملك عليه؟ قال: علم ننشره، فقال له معاوية: لو كنت تقدمت إليك لفعلت بك، انطلق فلا أسمع أنك حدثت شيئاً([23]).
11- إنكاره على شتم علي:
قال جويرية بن أسماء: كان بسر بن أبي أرطاة عند معاوية، فنال من علي، وزيد بن عمر بن الخطاب حاضر، وأمه أم كلثوم بنت علي، فعلاه بالعصا، وشجه، فقال معاوية لزيد: عمدت إلى شيخ قريش وسيد أهل الشام فضربته! وأقبل على بسر، فقال: تشتم علياً، وهو جده، وابن الفاروق على رؤوس الناس! أترى أن يصبر على ذلك؟ فأرضاهما جميعاً([24]).
12- إنكاره على شاعر:
قال معاوية لعبد الرحمن بن الحكم: يا ابن أخي إنك قد لهجت بالشعر، فإياك والتشبيب بالنساء، فتعر الشريفة، والهجاء فتعر كريماً، وتستثير لئيماً، والمدح، فإنه طعمة الوقاح، ولكن افخر بمفاخر قومك، وقل من الأمثال ما تزين به نفسك، وتؤدب به غيرك([25]).
13- إنكاره على عمرو بن الزبير:
قال في المنتظم: وكان معاوية أول من اتخذ الحرس، وأول من حزم الكتب، ثم ختمها؛ لأنه كان قد أمر لعمرو بن الزبير بمائة ألف درهم، ففض عمرو الكتاب، وجعل المائة مائتين، فلما رفع حسابه إلى معاوية، أنكر ذلك، وأمر عمراً بردها، وحبسه، فأداها أخوه عَبْد اللَّهِ بن الزبير عنه([26]).
14- إنكاره على ابنته وزوجها:
قال في البداية والنهاية: هند بنت معاوية تزوجها عبد الله بن عامر، فلما أدخلت عليه بالخضراء، جوار الجامع، أرادها على نفسها، فتمنعت عليه، وأبت أشد الإباء، فضربها فصرخت، فلما سمع الجواري صوتها صرخن، وعلت أصواتهن، فسمع معاوية، فنهض إليهن، فاستعلمهن ما الخبر؟ فقلن: سمعنا صوت سيدتنا فصحنا، فدخل فإذا بها تبكي من ضربه، فقال لابن عامر: ويحك! مثل هذه تضرب في مثل هذه الليلة؟
ثم قال له: اخرج من ههنا، فخرج ابن عامر، وخلا بها معاوية، فقال لها: يا بنية إنه زوجك الذي أحله الله لك، أو ما سمعت قول الشاعر:
من الخفرات البيض أما حرامها *** فصعب، وأما حلها فذلول؟
ثم خرج معاوية من عندها، وقال لزوجها: ادخل فقد مهدت لك خلقها ووطأته.
فدخل ابن عامر، فوجدها قد طابت أخلاقها، فقضى حاجته منها، رحمهم الله تعالى([27]).
14- إنكاره على اللحن في اللغة:
وكان معاوية -رضي الله عنه- يستنكر اللحن، فحين أرسل زياد بن أبيه والي العراق ابنه عبيد الله إلى معاوية بن أبي سفيان لحن في كلامه، فكتب إليه معاوية:
إن ابنك كما وصفت، ولكن قوِّم من لسانه([28]).
ولما ارتفع إلى زياد رجل وأخوه في ميراث، فقال: أنّ أبونا لما مات، وإن أخينا وثب على مال أبانا فأكله، فأفأ زياد، فقال: الذي أضعت من لسانك أضرُّ عليك مما أضعت من مالك([29]).
من مروياته واجتهاداته الاحتسابية
1- عن أبي صالح، عن معاوية قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((من شرب الخمر فاجلدوه، فإن عاد في الرابعة فاقتلوه))([30])
2- وعَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ: أَنَّ سَكْرَانَيْنِ قَتَلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ، قَالَ: فَقَتَلَهُ مُعَاوِيَةُ([31]).
ذكر الخبر عن مدة ملكه ووفاته:
قال الطبري: بويع لمعاوية بأذرح، بايعه الحسن بن علي في جمادى الأولى سنة إحدى وأربعين، وتوفي معاوية في رجب سنة ستين، وكانت خلافته تسع عشرة سنة، وثلاثة أشهر، وسبعة وعشرين يوماً ([32]).
([1]) انظر: الإصابة في تمييز الصحابة (6/ 120-8087) وتاريخ الإسلام (4/ 306) والبداية والنهاية (8/ 21) ونوادر الخلفاء = إعلام الناس بما وقع للبرامكة مع بني العباس (ص: 24) والأعلام للزركلي (7/ 261) وغيرها.
([2]) أخرجه الترمذي في أبواب المناقب باب مناقب معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه (5/ 687-3842) وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي (8/ 342-3842).
([18]) أخرجه البخاري في كتاب الصلح، باب قول النبي -صلى الله عليه وسلم- للحسن بن علي -رضي الله عنهما- (3/ 186-2704).