احتساب وكيع بن الجراح رحمه الله
(129 – 197 هـ = 746 – 812 م)
اسمه:
وكيع بن الجراح بن مليح الرؤاسي -نسبة إلى رؤاس وهو بطن من قيس عيلان- أبو سفيان، حافظ للحديث، ثبت، كان محدث العراق في عصره، ولد بالكوفة، وكان أبوه ناظر على بيت المال فيها، توفي (وكيع) بفيد، راجعًا من الحج([1]).
مناقبه وفضله:
كان وكيع بن الجراح رحمه الله فقيهًا، وحافظًا للحديث، أراد الرشيد أن يوليه قضاء الكوفة، فامتنع ورعًا، وكان يصوم الدهر، له كتب، منها: تفسير القرآن والسنن، والمعرفة والتاريخ، والزهد.
وعن إبراهيم الحربي قال: سمعت أحمد بن حنبل ذكر يومًا وكيعًا فقال: ما رأتُ عيني مثله قط، يحفظ الحديث جيدًا، ويذاكر بالفقه، فيحسن، مع ورع واجتهاد، ولا يتكلم في أحد([2]).
وقال الفضل بن محمد الشعراني: سمعت يحيى بن أكثم يقول: صحبت وكيعًا في الحضر والسفر، وكان يصوم الدهر، ويختم القرآن كل ليلة([3]).
وقال أبو زرعة الرازي: سمعت أبا جعفر الجمال يقول: أتينا وكيعًا، فخرج بعد ساعة، وعليه ثياب مغسولة، فلما بصرنا به فزعنا من النور الذي رأينا يتلألأ من وجهه، فقال رجل بجنبي: أهذا ملك؟ فتعجبنا من ذلك النور.
وقال أحمد بن سنان القطان: رأيت وكيعًا إذا قام في الصلاة ليس يتحرك منه شيء، لا يزول ولا يميل على رجل دون الأخرى([4]).
وقال يحيى بن معين: وكيع في زمانه كالأوزاعي في زمانه.
وقال أحمد بن حنبل: ما رأيت أوعى للعلم، ولا أحفظ من وكيع.
وقال أحمد بن سهل بن بحر النيسابوري الحافظ: دخلت على أحمد بن حنبل بعد المحنة، فسمعته يقول: كان وكيع إمام المسلمين في وقته.
وروى نوح بن حبيب، عن عبد الرزاق قال: رأيت الثوري ومعمرًا ومالكًا، فما رأت عيناي مثل وكيع قط.
وقال ابن معين: ما رأيت أفضل من وكيع.
وقال سلم بن جنادة: جالستُ وكيعًا سبع سنين، فما رأيته بزق، ولا مس حصاة، ولا جلس مجلسًا فتحرك، ولا رأيته إلا استقبل القبلة، وما رأيته يحلف بالله([5]).
ويروى عن وكيع أن رجلًا أغلظ له، فدخل بيتًا فعقر وجهه، ثم خرج إلى الرجل وقال: زد وكيعًا بذنبه. فلولاه ما سلطت عليه.
وقال إبراهيم بن شماس: لو تمنيتُ كنتُ أتمني عقل ابن المبارك وورعه، وزهد فضيل ورقته، وعبادة وكيع وحفظه، وخشوع عيسى بن يونس، وصبر حسين الجعفي.
قال سعيد بن منصور: قدم وكيع مكة، وكان سمينًا، فقال له الفضيل بن عياض: ما هذا السمن وأنت راهب العراق؟
قال: هذا من فرحي بالإسلام! فأفحمه([6]).
وعن محمد بن خلف التيمي قال: سمعتُ وكيعًا يقول: أتيت الأعمش، فقلت: حدثني: فقال لي: ما اسمك؟ قلت: وكيع.
فقال: اسم نبيل، وما أحسب إلا سيكون لك نبأ، أين تنزل من الكوفة؟ قلت: في بني رؤاس، قال: أين من منزل الجراح بن مليح؟ قلت: ذاك أبي، وكان أبي على بيت المال.
قال: اذهب فجئني بعطائي، وتعال حتى أحدثك بخمسة أحاديث.
قال: فجئت أبي فأخبرته، فقال: خذ نصف العطاء، واذهب به، فإذا حدثك بالخمسة فخذ النصف الآخر، فاذهب به حتى تكون عشرة.
قال: فأتيته بنصف عطائه، فأخذه فوضعه في كفه، ثم سكت، فقلت: حدثني.
فقال: اكتب، فأملى عليّ حديثين.
قال: قلت: وعدتني خمسة.
قال: فأين الدراهم كلها؟ أحسب أن أباك أمرك بهذا، ولم يعلم أن الأعمش قد شهد الوقائع، اذهب وجيء بتمامها كلها، وتعال أحدثك خمسة أحاديث.
قال: فجئته فحدثني بخمسة.
قال: فكان إذا كان كل شهر جئته بعطائه فحدثني بخمسة أحاديث([7]).
وعن عبد الرحمن بن حاتم المرادي قال: حدثني أسد بن عفير قال: حدثني رجل من أهل هذا الشأن من أهل المروة والأدب، قال: جاء رجل إلى وكيع، فقال له: إني أمت إليك بحرمة، قال: وما حرمتك؟ قال: كنت تكتب من محبرتي في مجلس الأعمش، قال: فوثب وكيع، فأخرج له من منزله صرة فيها دنانير، وقال: أعذرني، فإني ما أملك غيرها([8]).
سيرته الاحتسابية
كان لوكيع بن الجراح رحمه الله تعالى سيرة عظيمة في الاحتساب، نذكر طرفًا منها:
1- إنكاره على من زعم أن القرآن مخلوق:
عن زهير بن حرب، قال: “اختصمت أنا ومثنى، فقال مثنى: القرآن مخلوق، وقلت أنا: كلام الله، فقال وكيع وأنا أسمع: “هذا كفر، من قال: إن القرآن مخلوق هذا كفر”، فقال مثنى: يا أبا سفيان قال الله عز وجل: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} [الأنبياء: 2] فأي شيء هذا؟
فقال وكيع: “من قال القرآن مخلوق؟ هذا كفر”([9]).
وعن أحمد بن زهير قال: سمعت محمد بن يزيد قلت لوكيع: يا أبا سفيان إن هذا الرجل رأيته عندك يزعم أن القرآن مخلوق.
فقال وكيع: من قال: إن القرآن مخلوق، فقد زعم أن القرآن محدث، ومن زعم أن القرآن محدث فقد كفر([10]).
وفي تاريخ الإسلام: قال أبو هشام الرفاعي: سمعتُ وكيعًا يقول: من زعم أن القرآن مخلوق، فقد زعم أنه محدث، ومن زعم أن القرآن محدث فقد كفر.
فيقول: احتج بعض المبتدعة بقول الله تعالى: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} [الأنبياء: 2] وبقوله تعالى: {لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق: 1] وهذا قال فيه علماء السلف معنا، وأنه أحدث إنزاله إلينا، وكذا في الحديث الصحيح: “إن الله يحدث من أمره ما يشاء، وإن مما أحدث أن لا تكلموا في الصلاة”([11])، فالقرآن العظيم كلام الله، ووحيه، وتنزيله، وهو غير مخلوق([12]).
وعن أبي حاتم الطويل، قال: قال وكيع: “من قال إن كلامه ليس منه فقد كفر، ومن قال: إن منه شيئًا مخلوقًا فقد كفر”([13]).
2- إنكاره على أبي أسامة استعارة الكتب (ولعله كان يُهمل في ردها):
قال عبد اللَّه: سمعت أبي يقول: قال وكيع بن الجراح: نهيت أبا أسامة أن يستعير كتب الناس([14]).
3- إنكاره على أهل تأويل الصفات:
عن العباس بن محمد الدوري، قال: سمعت يحيى بن معين، يقول: شهدت زكريا بن عدي يسأل وكيعًا، فقال: يا أبا سفيان إن هذه الأحاديث يعني مثل الكرسي موضع القدمين، ونحو هذا، فقال وكيع: “أدركنا إسماعيل بن أبي خالد، وسفيان، ومسعودًا يحدِّثون بهذه الأحاديث، ولا يفسِّرون شيئًا”([15]).
وقال عبد الله: حدثني أبي، نا وكيع، بحديث إسرائيل عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن خليفة، عن عمر رضي الله عنه قال: “إذا جلس الرب عز وجل على الكرسي” فاقشعر رجل سماه أبي عند وكيع، فغضب وكيع، وقال: أدركنا الأعمش وسفيان يحدثون بهذه الأحاديث لا ينكرونها([16]).
4- إنكاره على معترض على السنة:
قال الترمذي: سمعتُ يوسف بن عيسى يقول: سمعتُ وكيعًا يقول حين روى هذا الحديث، فقال: “لا تنظروا إلى قول أهل الرأي في هذا، فإن الإشعار سنة، وقولهم بدعة”.
وسمعت أبا السائب يقول: “كنا عند وكيع، فقال لرجل عنده ممن ينظر في الرأي: أشعر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقول أبو حنيفة هو مثلة؟
قال الرجل: فإنه قد روي عن إبراهيم النخعي أنه قال: الإشعار مثلة.
قال: فرأيتُ وكيعًا غضب غضبًا شديدًا، وقال: أقول لك: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقول قال إبراهيم؟! ما أحقك بأن تحبس، ثم لا تخرج حتى تنزع عن قولك هذا”([17]).
5- إنكاره على رجل:
قال يحيى: كان وكيع بن الجراح يحدث بكتبه، فيطلب هذا كتبًا، وهذا كتابًا، فقال رجل: دعوا كتاب الأشربة إلى آخر الكتاب.
فقال وكيع: ما لهذا الرجل لا يريد كتاب الأشربة؟! هو صاحب بدعة، حين لا يريد كتاب الأشربة، أو نحو هذا من الكلام، قاله يحيى([18]).
6- إنكاره على من يجهر بالبسملة:
قال وكيع: الجهر بالبسملة بدعة، سمعها أبو سعيد الأشج منه([19]).
7- إنكاره على تصغير مصحف ومسجد:
عن أبي حاتم قال: قال لي العقدي: قال وكيع بن الجراح:
لا يقال لرجل من المسلمين: رجيل، ولا مسيجد، ولا مصيحف، وعدّد من هذا النحو أشياء كثيرة([20]).
8- إنكاره على أهل البدع:
قال البخاري: قال وكيع: الرافضة شر من القدرية، والحرورية شر منهما، والجهمية شر هذه الأصناف([21]).
وعن أبي عبد الله محمد بن إسماعيل الواسطي الضرير قال: سمعت وكيع بن الجراح، يقول: “أما الجهمي فإني أستتيبه، فإن تاب وإلا قتلته”([22]).
9- إنكاره على مدعي الورع:
عن الفضل بن محمد البيهقي، قال: سمعت أبي يقول: سمعت وكيعًا، يقول وقد جاءه رجل يناظره في شيء من أمر المعاش أو الورع:
فقال له وكيع: من أين تأكل؟
قال: ميراثًا ورثته عن أبي.
قال: من أين هو لأبيك؟
قال: ورثه عن أبيه.
قال: من أين هو كان لجدك؟
قال: لا أدري.
فقال له وكيع: “لو أن رجلًا نذر لا يأكل إلا حلالًا، ولا يلبس إلا حلالًا، ولا يمشي إلا في حلال، لقلنا له: اخلع ثيابك، وارم بنفسك في الفرات، ولكن لا تجد إلا السعة”([23]).
أقواله وآراؤه ومروياته الاحتسابية
كان لوكيع بن الجراح رحمه الله الكثير من الأقوال والآراء والاجتهادات والمرويات الاحتسابية منها:
1- وقال علي بن خشرم: قلت لوكيع: رأيت ابن علية شرب النبيذ، حتى يحمل على الحمار، يحتاج من يرده، فقال وكيع: إذا رأيت البصري يشرب النبيذ فاتهمه، وإذا رأيت الكوفي يشربه فلا تتهمه، قلت: وكيف ذاك؟
قال: الكوفي يشربه تدينًا، والبصري يتركه تدينًا([24]).
2- قال أحمد بن سنان: كان وكيع يكونون في مجلسه كأنهم في صلاة، فإن أنكر من أحد شيئًا قام([25]).
3- عن وكيع بن الجراح، نا الأوزاعي، عن حسان بن عطية، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلًا نافرًا شعره، فقال: “ما وجد هذا شيئًا يسكن به شعره” ورأى رجلًا وسخة ثيابه، فقال: “ما وجد هذا شيئًا ينقي به ثيابه”([26]).
([1]) انظر ترجمته في: المنتظم في تاريخ الملوك والأمم (10/ 42)، وتاريخ الإسلام (13/ 236)، وتاريخ دمشق لابن عساكر (63/ 62)، وحلية الأولياء وطبقات الأصفياء (8/ 368)، والأعلام للزركلي (8/ 117).