احتساب أبي إدريس الخولاني رحمه الله
(8 – 80 هـ = 630 – 700 م)
اسمه ونشأته:
هو عائذ الله بن عبد الله بن عمرو الخولاني، العوذي، الدمشقي، تابعي، فقيه، كان واعظ أهل دمشق، وقاصهم، في خلافة عبد الملك، وولاه عبد الملك القضاء في دمشق([1]).
مكانته وفضله وثناء العلماء عليه:
قال عنه مكحول: “ما أدركتُ مثل أبي إدريس الخولاني”([2]).
وقال الزهري: “كان قاص أهل الشام، وقاضيهم”([3]).
وقال أبو زرعة: “أحسن أهل الشام لقيا لأجلة أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: جبير بن نفير، وأبو إدريس، وكثير بن مرة”([4]).
وقال عنه أبن كثير: “أبو إدريس الخولاني، اسمه عائذ الله بن عبد الله، له أحوال ومناقب، كان يقول: قلب نقي في ثياب دنسة، خير من قلب دنس في ثياب نقية، وقد تولى القضاء بدمشق”([5]).
وقال عنه الذهبي: “قاضي دمشق، وعالمها، وواعظها”([6]).
وقال عنه السيوطي: “أبو إدريس الخولاني، عائذ الله بن عبد الله بن عمرو العوذي، من علماء الشام، وعبادهم، وقرائهم”([7]).
وقال عنه أيضاً: “عائذ الله بن عبد الله بن عمرو أبو إدريس الخولاني القارئ، العابد، أبوه صحابي، وولد هو في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم-“([8]).
وقال العمادي: “ومنهم أبو إدريس الخولاني واعظ دمشق، وقاضيها، من قبل الأمويين، وهو من خيار التابعين”([9]).
وقال الغزي: “أبو إدريس الخولاني، عائذ الله بن عبد الله بن عمرو، العوذي، الإمام الجليل، التابعي فقيه أهل الشام، وقاضيهم”([10]).
وقال يوسف بن تغري بردي: “وفيها توفي أبو إدريس الخولاني، واسمه عائذ الله بن عبد الله، وقيل: عبد الله بن إدريس بن عائذ الله، قاضي دمشق في أيام معاوية وغيره، وهو من الطبقة الثانية من التابعين من أهل الشام”([11]).
وقال مغلطاي: “وذكره جماعة في جملة الصحابة، منهم أبو عمر بن عبد البر؛ لما علم من شرطهم”([12]).
علمه:
أبو إدريس الخولاني كان من علماء التابعين الكبار، وفقهائهم العظام.
وهو من رجال البخاري ومسلم، بل من رجال الكتب الستة.
روى عن عمر، ومعاذ، وأبي، وبلال، وأبي ذر، وأبي الدرداء، وحذيفة، وأبي هريرة، وعدةٍ، وعنه الزهري، ومكحول، وبشر بن عبيد الله، وآخرون([13]).
وحدث يوماً عن بعض الغزوات، فاستوعبها، فقال له رجل من ناحية المجلس: أحضرتَ هذه الغزاة؟ قال: لا، فقال الرجل: لقد حضرتها مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولأنت أحفظ لها مني؛ ولما عزله عبد الملك عن القصص، وأقره على القضاء، قال: عزلتموني عن رغبتي، وتركتموني في رهبتي، وكان أمره أن يرفع يديه فأبى([14]).
وفي السير: قال ابن عيينة: حفظنا من الزهري عن أبي إدريس الخولاني أخبره، قال: أدركتُ أبا الدرداء، ووعيتُ عنه، وعبادة بن الصامت، وشداد بن أوس، ووعيت عنهما، وفاتني معاذ بن جبل([15]).
فقوله: “وفاتني معاذ بن جبل” استمسك به من قال: إنه لم يسمع من معاذ.
قال أبو زرعة: “سمع أبو إدريس الخولاني من معاذ، قال: يختلفون فيه، فأما الذي عندي فلم يسمع منه، قال العلائي: يروي عن عمر ومعاذ وأبي بن كعب وبلال، وقد قيل: إن ذلك مرسل، وروايته عن أبي ذر في صحيح مسلم، وكان ذلك على قاعدته، وقال البخاري: لم يسمع من عمر بن الخطاب، وقال أبو زرعة: لم يصح له سماع من معاذ، وروى الزهري عن أبي إدريس الخولاني، وقال: أدركتُ أبا الدرداء وعبادة بن الصامت وشداد بن أوس، وفاتني معاذ، وروى مالك في الموطأ عن أبي حازم عن أبي إدريس الخولاني حديث: ((وجبت محبتي للمتحابين في))([16]) وفيه التصريح بسماع أبي إدريس له من معاذ، واجتماعه به بدمشق، قال ابن عبد البر: هذا هو الصحيح، وأوَّل رواية الزهري على أنه فاته طول صحبته، قلتُ: لأن عمر أبي إدريس عند موت معاذ كان نحو عشر سنين، انتهى”([17]).
وعن سعيد بن عبد العزيز، قال: كان أبو إدريس عالم الشام بعد أبي الدرداء([18]).
وكان يقص في المسجد.
قال الذهبي معلقاً: قلتُ: “قد كان القاص في الزمن الأول يكون له صورة عظيمة في العلم والعمل”([19]). يعني لم يكن مثل قصاص أهل البدع بعد ذلك.
وقال الصفدي: “عائذ بن عبد الله، أبو إدريس الخولاني، فقيه أهل الشام، وقاضي دمشق”([20]).
وسمع من أبيه، وهو صحابي، كذا في أسد الغابة([21]).
لكن قال أبو نعيم: “عبد الله الخولاني، والد أبي إدريس الخولاني، حكى بعض المتأخرين أن البخاري ذكره في الصحابة، وأن ابنه روى عنه، ولا تصح له صحبة”([22]).
قلتُ: ومما يُنبئ عن مكانته في العلم: أنَّ من تلامذته الإمام الزهري ومكحول، وغيرهم من فحول العلم.
وهو راوي حديث: ((يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً، فلا تظالموا)) الذي أخرجه مسلم، قال سعيد -ابن عبد العزيز أحد رواة الحديث-: كان أبو إدريس الخولاني إذا حدث بهذا الحديث جثا على ركبتيه([23]). تعظيماً وخوفاً.
قال النووي في رياضه: “وروينا عن الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله قال: ليس لأهل الشام حديث أشرف من هذا الحديث”([24]).
سيرته الاحتسابية
لقد كان لأبي إدريس الخولاني، سيرة احتسابية حافلة وعطرة، في إنكار المنكرات، ومحاربة البدع، وأهلها، إلى جانب توليه القضاء، الذي يُعد من الولايات القريبة من الحسبة.
ومن مواقفه الاحتسابية:
1- إنكاره على من يتكلم في القدر:
فعن يونس بن حلبس، عن أبي إدريس الخولاني، أنه رأى رجلاً يتكلم في القدر، فقام إليه فوطئ بطنه، ثم قال: إن فلاناً لا يؤمن بالقدر، فلا تجالسوه، فخرج الرجل من دمشق إلى حمص([25]).
وقال ابن عساكر: “أبو جميل القدري، من الصدر الأول، أَمَرَ أبو إدريس الخولاني بترك مجالسته، عن أبي مالك الطائي عن أبي إدريس الخولاني أنه قال: لأن أسمع في ناحية المسجد بنار تحرق أحب إلي من أن أسمع ببدعة ليس لها مغير، ألا إن أبا جميل لا يؤمن بالقدر، فلا تجالسوه، وعن سعيد بن عبد العزيز قال: قال أبو إدريس: إن أبا جميل لا يؤمن بالقدر، فلا تجالسوه، فانتقل من دمشق إلى حمص([26]).
2- إنكاره على من يزيد في الذكر المشروع:
فعن أبي عون الأنصاري: بسط رجل يده إلى طعام، فقال: بسم الله والبركة، فقال أبو إدريس الخولاني: قل: بسم الله وحده([27]).
3- إنكاره على من لا يحسن التعامل مع العلماء:
فعن خالد بن أبي مالك عن أبيه قال: قال رجل لأبي إدريس: عمن يا أبا إدريس؟ -أي تحدث- قال: لأنا أقدر على الإسناد مني على الحديث([28]).
وعن خالد بن يزيد بن أبي مالك عن أبيه عن أبي إدريس الخولاني قال: تحدث يوماً بحديث كثير، قال له قائل: عمن؟ فغضب، وقال: إني على الإسناد أقدر مني على الحديث، قم لا تجالسنا([29]).
وعن خالد بن أبي مالك عن أبيه أن أبا إدريس الخولاني حدث يوماً بأحاديث، فقال له رجل: أرأيتَ هذه الأحاديث إلى من تسندها؟ فقال: إن رضيتَ بما تسمع منا وإلا فلا تجالسنا([30]).
قلتُ: وكأنَّ أبا أدريس الخولاني لمس من هذا السائل أنه لم يكن سائلاً يريد الفهم والعلم، وإنما مماحلاً مكابراً، فرد عليه بهذه الشدة، ولعل هذا من الحدة التي كانت فيه.
وقد جاء عن محمد بن سلام قال: قال معاوية لأبي إدريس الخولاني: يا أهل اليمن إن فيكم خلالاً ما تخطئكم، قال: وما هي؟ قال: الجود، والحدة، وكثرة الأولاد، قال: أما ما ذكرتَ من الجود، فذلك لمعرفتنا من الله -عز وجل- بحسن الخلف، وأما الحدة فإن قلوبنا ملئت خيراً فليس فيها للشر موضع، وأما كثرة الأولاد فإنا لسنا نعزل ذلك عن نسائنا، قال: صدقتَ، لا يفضض الله فاك([31]).
أقواله الاحتسابية
ومن أقواله الاحتسابية:
1- ما رُوي عن أبي عون، عن أبي إدريس الخولاني قال: “لأن أرى في طائفة المسجد ناراً تقد أحب إليَّ من أن أرى فيها رجلاً يقص ليس بفقيه”([32]).
2- وقال أبو إدريس الخولاني: “لأن أرى في ناحية المسجد ناراً تأجج أحب من أن أرى قاصاً يقص”([33]).
3- وعن ابن أبي السائب قال: سمعت أبي -وهو الوليد بن سليمان-، يذكر أن أبا إدريس الخولاني كان يقول: لأن أرى في المسجد ناراً تأجج أحب إليَّ من أن أرى بدعة لا تغير([34]).
4- وعن أبي الأخنس، عن أبي إدريس الخولاني أنه قال: “لأن أرى في جانب المسجد ناراً لا أستطيع إطفاءها أحب إليّ من أن أرى فيه بدعة لا أستطيع تغييرها”([35]).
فانظر كيف كانت كراهيتهم للبدعة! إلى درجة أنَّ احتراق المسجد، وما فيه، أحب إليهم من وجود البدعة فيه، واليوم تجد المساجد في العالم الإسلامي مليئة بالبدع، ولا من مغير، والله المستعان!
5- وعن حسان بن عطية، عن أبي إدريس عائذ الله قال: “هذه فتنة قد أظلت كحياة البقر، هلك فيها أكثر الناس إلا من كان يعرفها قبل ذلك”([36]).
6- وعن أبي إدريس الخولاني: أنه كان يقول: “ما أحدثت أمة في دينها بدعة، إلا رفع الله بها عنهم سنة”([37]).
مروياته الاحتسابية
من مروياته المتعلقة بالحسبة:
1- ما رواه البخاري ومسلم عن بسر بن عبيد الله الحضرمي، أنه سمع أبا إدريس الخولاني، أنه سمع حذيفة بن اليمان، يقول: كان الناس يسألون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الخير، وكنتُ أسأله عن الشر، مخافة أن يدركني، فقلتُ: يا رسول الله، إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: ((نعم)) قلتُ: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: ((نعم، وفيه دخن)) قلتُ: وما دخنه؟ قال: ((قوم يهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر)) قلتُ: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: ((نعم، دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها)) قلتُ: يا رسول الله صفهم لنا، قال: ((هم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا)) قلتُ: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: ((تلزم جماعة المسلمين، وإمامهم)) قلتُ: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: ((فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض بأصل شجرة، حتى يدركك الموت، وأنت على ذلك))([38]).
2- وعن الزهري، عن أبي إدريس الخولاني، عن عبادة بن الصامت -رضي الله عنه-، قال: كنا عند النبي -صلى الله عليه وسلم- في مجلس، فقال: ((بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً، ولا تسرقوا، ولا تزنوا -وقرأ هذه الآية كلها- فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئاً، فعوقب به فهو كفارته، ومن أصاب من ذلك شيئاً، فستره الله عليه، إن شاء غفر له، وإن شاء عذبه))([39]).
3- وعن الزهري حدثني عائذ الله بن عبد الله أبو إدريس الخولاني أن أبا مسلم الخولاني، قال لأهل الشام وهم ينالون من عائشة في شأن عثمان -رضوان الله عليهما-: يا أهل الشام أضرب لكم مثلكم ومثل أمكم هذه مثلها ومثلكم كمثل العين في الرأس تُؤذي صاحبها ولا يستطيع أن يعاقبها إلا بالذي هو خير لها([40]).
4- وعن ربيعة بن يزيد عن أبي إدريس الخولاني قال: كنا في بعض المغازي، وعلينا شرحبيل بن السمط، فأصابنا ذات ليلة خوف، فحضرت صلاة الصبح، فأمرنا أن نصلي على دوابنا إيماء برؤوسنا، ففعلنا، إلا الأشتر([41]) إنه نزل من بيننا، فصلى، فمر به شرحبيل، فقال: مخالف، خالف الله بك([42]).
5- وعن ربيعة بن يزيد عن عائذ الله بن إدريس الخولاني قال: قام فينا عبد الله بن مسعود على درج هذه الكنيسة، فما أنسى أنه يوم خميس، فقال: يا أيها الناس عليكم بالعلم، قيل أن يرفع، فإن من رفعه أن يقبض أصحابه، وإياكم والتبدع والتنطع، وعليكم بالعتيق، فإنه سيكون في آخر هذه الأمة أقوام يزعمون أنهم يدعون إلى كتاب الله، وقد نبذوه وراء ظهورهم([43]).
6- وعن إسماعيل بن سالم، عن أبي إدريس: أن علياً أُتي برجل عربي تنصر، بعد إسلامه، فاستتابه([44]).
7- وعن يونس بن ميسرة بن جلبس، عن أبي إدريس الخولاني قال: سمعتُ أبا الدرداء -رضي الله عنه- يقول: إن عادا ملئوا ما بين عدن إلى عمان خيلاً ورجالاً وسواماً، فعصوا الله، فأهلكهم، فمن يشتري تراثهم بنعلي هاتين؟ ألا إن ثموداً ملئوا ما بين الشجر والحجر خيلاً ورجالاً وسواماً، عصوا الله، فأهلكهم، فمن يشتري مني تراثهم بنعلي هاتين؟ ثم يقول لنفسه: فلا أحد([45]).
وفاته:
هذا هو أبو إدريس الخولاني، أحد أعلام حملة السنة، والشريعة، وأحد أعلام الحسبة والاحتساب، وهو من شيوخ الحسن البصري، وابن سيرين، ومكحول، وأضرابهم، وهذا جزء يسير من سيرته الاحتسابية، رحمه الله رحمة واسعة، توفي كما في السير وغيرها، كما قال خليفة بن خياط، وابن معين: سنة ثمانين.
قال الذهبي: قلتُ: فعلى مولده عام حنين، يكون عمره اثنتين وسبعين سنة -رحمه الله-([46]).
([1]) تاريخ الإسلام (2/ 890) سير أعلام النبلاء (4/ 272) وسير أعلام النبلاء (4/ 274) وتاريخ دمشق لابن عساكر (26/ 137) وإكمال تهذيب الكمال (7/ 157) الأعلام للزركلي (3/ 239).
([25]) الإبانة الكبرى لابن بطة (2/ 450-412) ولسان الميزان (9/ 40) وشرح كتاب الإبانة من أصول الديانة (14/ 12).
([34]) ذم الكلام وأهله (5/ 17) والسنة لعبد الله بن أحمد (1/ 339-715) وتاريخ دمشق لابن عساكر (26/ 168).
([38]) أخرجه البخاري في كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام (9/ 51-7084) ومسلم في الإمارة، باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن (3/ 1475-1847).