احتساب أبي موسى الأشعري رضي الله عنه
(21 ق هـ – 44 هـ = 602 – 665 م)
اسمه:
هو عبد الله بن قيس بن سليم بن حضار بن حرب، أبو موسى، من بني الأشعر، من قحطان.
وأم أبي موسى: ظبية بنت وهب من عك، أسلمت، وماتت بالمدينة([1]).
ولد أبو موسى -رضي الله عنه- في زبيد (باليمن) وقدم مكة عند ظهور الإسلام، فأسلم، فرجع إلى قومه، ثم قدم من أرض الحبشة على النبي، وهو في خيبر.
وكان لأبي موسى إخوة أسلموا، منهم: أبو عامر بن قيس، قتل يوم أوطاس([2])، وأبو بردة بن قيس، وأبو رهم بن قيس، ولم يروِ أبو رهم عن النبي -صلى الله عليه وسلم- شيئاً.
وكان لأبي موسى من البنين خمسة، هم: أبو بردة، وإبراهيم، وأبو بكر، وموسى، ومحمد.
فأبو بردة اسمه: عامر بن عبد الله، كان قاضياً، وابنه: بلال بن أبي بردة، كان قاضياً أيضاً، وأبو بردة أكثرهم رواية عن أبيه، ويروي أيضاً عن علي، وابن عمر، وعائشة، ومعاوية، وتُوفي أبو بردة سنة ثلاث ومائة.
وأما إبراهيم: فروى عنه الشعبي، وعمارة بن عمير.
وأما أبو بكر بن أبي موسى، فاسمه كنيته، وكان أسنّ من أبي بردة.
وأما موسى بن أبي موسى، فأمه: أم كلثوم بنت الفضل بن العباس بن عبد المطلب([3]).
فضله ومكانته:
أبو موسى الأشعري -رضي الله عنه- صحابي جليل، من الشجعان، الولاة الفاتحين، وأحد الحَكَمَين، اللذين رضي بهما عليٌّ ومعاوية، بعد حرب صفين، استعمله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على زبيد وعدن، وولَّاه عمر بن الخطاب البصرة سنة (17هـ) فافتتح أصبهان والأهواز، ولما ولِّي عثمان أقرَّه عليها، ثم عزله، فانتقل إلى الكوفة، فطلب أهلها من عثمان توليته عليهم، فولَّاه، فأقام بها إلى أن قُتل عثمان، فأقرَّه عليٌّ، ثم لما كانت وقعة الجمل أرسل عليٌّ يدعو أهل الكوفة لينصروه، فأمرهم أبو موسى بالقعود في الفتنة، فعزله عليٌّ، فأقام إلى أن كان التحكيم، وخُدع من قِبَل عمرو بن العاص، فرجع أبو موسى إلى الكوفة، فتُوفي فيها([4]).
وله فضائل جمة، منها:
حسن صوته بالقرآن:
كان أبو موسى -رضي الله عنه- من أحسن الصحابة صوتاً في قراءة القرآن، ففي البخاري ومسلم عن بريد بن عبد الله بن أبي بردة، عن جده أبي بردة، عن أبي موسى -رضي الله عنه-، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال له: ((يا أبا موسى لقد أُوتيت مزماراً من مزامير آل داود))([5]).
وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن: كان عمر ربما قال لأبي موسى: ذكرنا يا أبا موسى، فيقرأ.
وقال أبو عثمان النهدي: ما سمعتُ مزماراً، ولا طنبوراً، ولا صنجاً، أحسن من صوت أبي موسى، إن كان ليصلي بنا، فنود أنه قرأ البقرة، من حسن صوته([6]).
علمه الغزير:
أبو موسى الأشعري -رضي الله عنه- من علماء الصحابة، وفقهائهم، وقرائهم، ومفتيهم، ومحدثيهم.
فقد روى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- (360) حديثاً، أخرج له في الصحيحين ثمانية وستون حديثاً، المتفق عليه منها: تسعة وأربعون، وانفرد البخاري بأربعة، ومسلم بخمسة عشر([7]).
وحفظ عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- الكثير، وعن أبي بكر، وعمر، ومعاذ، وأبي بن كعب.
روى عنه: أنس، وربعي بن حراش، وسعيد بن المسيب، وزهدم الجرمي، وخلق كثير، وبنوه أبو بكر، وأبو بردة، وإبراهيم، وموسى([8]).
وروى عنه من الصحابة: أبو سعيد، وأبو هريرة، وأنس بن مالك، وأبو الدرداء، وأبو أمامة، وأسامة بن شريك، وطارق بن شهاب([9]).
وهو معدود من فقهاء أهل البصرة([10]).
وقال الشعبي: العلماء ستة([11]): عمر، وعلي، وعبد الله، وأبو موسى([12]).
وقال أبو البختري: سألنا علياً عن أصحاب محمد -صلى الله عليه وآله وسلم-، فسألناه عن أبي موسى، فقال: صُبغ في العلم صبغة، ثم خرج منه.
وقال الأعلم بن يزيد: لم أرَ بالكوفة أعلم من علي وأبي موسى.
وقال مسروق: كان القضاء في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ستة: عمر، وعلي، وابن مسعود، وأبي، وزيد بن ثابت، وأبي موسى.
وقال الشعبي: قضاة هذه الأمة أربعة: عمر، وعلي، وزيد ثابت، وأبو موسى.
وقال الحسن: ما قدم البصرة راكب خير لأهلها من أبي موسى([13]).
وكان ممن يفتي في المسجد النبوي في زمن الرسول -صلى الله عليه وسلم-.
فعن صفوان بن سليم، قال: لم يكن يفتي في مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- زمن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- غير هؤلاء القوم: عمر، وعلي، ومعاذ، وأبو موسى([14]).
توليه الولايات الكثيرة، وفتحه الفتوح:
فقد فتح أبو موسى -رضي الله عنه- البلدان، ووُلِّي الولايات.
قال ابن الجوزي: مسألة هل تعرفون رجلاً وُلِّي لخمسة أئمة؟!
فالجواب: إنهما رجلان أبو موسى الأشعري: ولي للنبي -صلى الله عليه وسلم-، وأبي بكر، وعمر، عثمان، وحَكَّمَه علي، وروح بن حاتم: عمل للسفاح، والمنصور، والمهدي، والهادي، والرشيد، قال أبو حاتم: لا يُعرف سوى هذين الرجلين([15]).
كان من أصحاب السفينتين الذين قسَّم لهم النبي في خيبر:
فعن أبي بكر بن عبد الله بن أبي الجهم، وكان علامة، نسابة، قال: ليس أبو موسى من مهاجرة الحبشة، وليس له حلف في قريش، ولكنه أسلم قديماً بمكة، ثم رجع إلى بلاد قومه، فلم يزل بها حتى قدم هو وناس من الأشعريين على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فوافق قدومهم قدوم أهل السفينتين: جعفر وأصحابه من أرض الحبشة، ووافوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بخيبر، فقالوا: قدم أبو موسى مع أهل السفينتين، وإنما الأمر على ما ذكرنا أنه وافق قدومه قدومهم.
وإنما ذكره ابن إسحاق فيمن هاجر إلى أرض الحبشة؛ لأنه نزل أرض الحبشة في حين إقباله مع سائر قومه، رمت الريح سفينتهم إلى أرض الحبشة، فبقوا بها، ثم خرجوا مع جعفر وأصحابه، هؤلاء في سفينة، وهؤلاء في سفينة، فكان قدومهم معاً من أرض الحبشة، فوافوا النبي -صلى الله عليه وسلم- حين افتتح خيبر، فقيل: إنه قسم لجعفر وأصحابه، وقسم للأشعريين؛ فقيل: إنه قسم لأهل السفينتين، وقد روي أنه لم يقسم لهم([16]).
شدة حيائه من الله:
فعن أنس -رضي الله عنه-، قال: كان أبو موسى إذا نام يلبس ثياباً عند النوم، مخافة أن تنكشف عورته.
وعن ابن سيرين، قال: قال أبو موسى: إني لأغتسل في البيت الخالي، فيمنعني الحياء من ربي أن أقيم صلبي([17]).
وعن أبي مجلز أن أبا موسى قال: إني لأغتسل في البيت المظلم، فأحني ظهري حياء من ربي([18]).
دعاء النبي له:
فقد جاء في البخاري عن أبي بردة، عن أبي موسى -رضي الله عنه-، في حديث طويل، قال: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((اللهم اغفر لعبد الله بن قيس ذنبه، وأدخله يوم القيامة مدخلاً كريماً))([19]).
كان وقومه أرق الناس قلوباً:
فعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((يقدم عليكم غداً أقوام هم أرق قلوباً للإسلام منكم)) قال: فقدم الأشعريون، فيهم أبو موسى الأشعري، فلما دنوا من المدينة جعلوا يرتجزون، يقولون:
غداً نلقى الأحبه *** محمداً وحزبه
فلما أن قدموا تصافحوا، فكانوا هم أول من أحدث المصافحة([20]).
سيرته الاحتسابية
كان أبو موسى الأشعري -رضي الله عنه- من كبار المحتسبين، الآمرين بالمعروف، والناهين عن المنكر، فسيرته حافلة بالمواقف الاحتسابية، نذكر طرفاً منها:
1- إنكاره على كشف العورات:
فعن عبادة بن نسي، أن أبا موسى الأشعري، رأى قوماً قد خرجوا من الفرات عراة، فقال: لأن أموت، ثم أنشر، ثم أموت، ثم أنشر، أحب إليَّ من أن أفعل هذا، أو قال: مثل هذا([21]).
وفي رواية: رأى أبو موسى قوماً يقفون في الماء بغير أزر، فقال: لأن أموت ثم أنشر، ثم أموت ثم أنشر، ثم أموت ثم أنشر، أحب إلي من أن أفعل مثل هذا([22]).
2- إنكاره على من أساء القول في صلاته:
فعن حطان بن عبد الله الرقاشي، قال: صليتُ مع أبي موسى الأشعري صلاة، فلما كان عند القعدة، قال رجل من القوم: أقرت الصلاة بالبر والزكاة، قال: فلما قضى أبو موسى الصلاة وسلم، انصرف، فقال: أيكم القائل كلمة كذا وكذا؟ قال: فأرم([23]) القوم، ثم قال: أيكم القائل كلمة كذا وكذا؟ فأرم القوم، فقال: لعلك يا حطان قلتها؟ قال: ما قلتها، ولقد رهبتُ أن تبكعني([24]) بها، فقال رجل من القوم: أنا قلتها، ولم أرد بها إلا الخير، فقال أبو موسى: أما تعلمون كيف تقولون في صلاتكم؟
إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خطبنا، فبيَّن لنا سنتنا، وعلمنا صلاتنا، فقال: ((إذا صليتم فأقيموا صفوفكم، ثم ليؤمكم أحدكم، فإذا كبر فكبروا، وإذ قال {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة (7)] فقولوا: آمين، يجبكم الله، فإذا كبر وركع فكبروا واركعوا، فإن الإمام يركع قبلكم، ويرفع قبلكم)) فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((فتلك بتلك، وإذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا: اللهم ربنا لك الحمد، يسمع الله لكم، فإن الله -تبارك وتعالى-، قال على لسان نبيه -صلى الله عليه وسلم-: سمع الله لمن حمده، وإذا كبر وسجد فكبروا واسجدوا، فإن الإمام يسجد قبلكم، ويرفع قبلكم، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((فتلك بتلك، وإذا كان عند القعدة فليكن من أول قول أحدكم: التحيات الطيبات الصلوات لله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله([25]).
3- إنكاره على من يمتنع من أكل الدجاج:
عن زهدم الجرمي، قال: كنا عند أبي موسى الأشعري، فأتي بلحم دجاج، فتنحى رجل لم يأكل، فدعاه أبو موسى، فقال: إني رأيته يأكل شيئاً، فقذرته، فقال أبو موسى: رأيتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يأكله([26]).
4- إنكاره على من يضحك في الصلاة:
عن حميد بن هلال، عن أبي موسى الأشعري، أنه كان يصلي بالناس، فرأوا شيئاً، فضحك بعض من كان معه، فقال أبو موسى حيث انصرف: من كان ضحك منكم فليعد الصلاة([27]).
5- إنكاره على الفرار من الطاعون:
عن أبي بردة بن قيس قال: قلتُ لأبي موسى الأشعري في طاعون وقع: اخرج بنا إلى وابق، نبدو بها، فقال أبو موسى: إلى الله آبق، لا إلى وابق([28]).
6- إنكاره على مَن سبَّه وهو يومئذٍ الأمير:
عن السميط بن عبد الله السدوسي قال: قال أبو موسى وهو يخطب: إن باهلة كانت كراعاً، فجعلناها ذراعاً، قال فقام رجل فقال: ألا أنبئك بألأم منهم؟ قال: من؟! قال: عك والأشعريون.
قال: أولئك وأبيك آبائي، يا ساب أميره، تعال، قال: فضرب عليه فسطاطاً، فراحت عليه قصعة، وغدت أخرى، فكان ذاك سجنه([29]).
7- إنكاره على مَن جنى على نفسه بسبب ذنب:
عن عتبة بن غزوان، قال: قال أبو موسى الأشعري: ما لي أرى عينك نافرة؟ قال: التفت التفاتة، فإذا جارية منكشفة، فلحظتها لحظة، فصككتُ عيني صكةً، فصارت إلى ما ترى! فقال أبو موسى: استغفر ربك، فإنك ظلمت عينك، لك أول نظرة، وعليك ما بعدها([30]).
8- إنكاره على من حلق وسلق وخرق:
عن ابن عمير قال: سمعتُ ربعي بن حراش يقول: إن أبا موسى لما أغمي عليه، بكت عليه ابنة الدومي، أم أبي بردة، فقال: أبرأ إليكم ممن حلق وسلق وخرق([31]).
وعن يزيد بن أوس قال: أغمي على أبي موسى، فبكوا عليه، فقال: أما علمتم ما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ قال: فذكروا ذلك لامرأته، فسألته، فقال: من حلق وخرق وسلق([32]).
وعن صفوان بن محرز قال: أغمي على أبي موسى، فبكوا عليه، فأفاق، وقال: إني أبرأ إليكم مما برئ منه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من حلق وخرق وسلق.
وعن ربعي بن حراش عن أبي موسى قال: أغمي عليه في مرضه فصاحت عليه أم بردة، فأفاق، فقال: إني بريء ممن حلق وسلق وشق، يقول: للخامشة وجهها([33]).
9- إنكاره على من يتسرع في الفتيا:
عن قتادة، قال: قلتُ لبلال بن أبي بردة: إن الحسن حدثنا أنه كان أخٌ لأبي موسى، يقال له: أبي دهم([34])، وكان يتسرع في الفتيا، فكان أبو موسى الأشعري ينهاه([35]).
10- إنكاره على التسبيح بالحصى:
عن عمر بن يحيى بن عمرو بن سلمة الهمداني، قال: حدثني أبي، قال: حدثني أبي، قال: كنا جلوساً على باب عبد الله بن مسعود، ننتظر أن يخرج إلينا، فإذا أبو موسى الأشعري، فقال: لم يخرج إليكم أبو عبد الرحمن؟ قلنا: لا، فجلس معنا، حتى خرج عبد الله، فلما خرج عبد الله، قمنا إليه، فقال أبو موسى: يا أبا عبد الرحمن إني رأيتُ آنفاً في المسجد أمراً أنكرته. قال: فما رأيتَ؟ فإن عشت فسترى. قال: رأيتُ في المسجد حلقاً، جلوساً، في كل حلقة رجل وفي يده حصى، يقول: سبحوا مائة، فيسبحون مائة، فيقول: هللوا مائة، فيهللون مائة، فيقول: كبروا مائة، فيكبرون مائة، قال: فما قلتَ لهم؟ قال: ما قلتُ لهم شيئاً، انتظار رأيك، قال: أفلا أمرتهم أن يعدوا سيئاتهم، وضمنت لهم ألا تضيع من حسناتهم شيء؟ قال: فمضى ومضينا معه، حتى انتهينا إلى حلقة من تلك الحلق، قال: فماذا في أيديكم؟ قالوا: حصى نعد به التكبير والتهليل والتسبيح، قال: تخافون ألا يضيع من حسناتكم شيء؟ عدوا سيئاتكم، وأنا ضامن لحسناتكم ألا يضيع منها شيء، ويحكم يا أمة محمد، ما أسرع هلكتكم، هؤلاء صحابة نبيكم -صلى الله عليه وسلم- متوافرون، وهذه آنيته لم تكسر، وثيابه لم تبل، والذي نفسي بيده، إنكم لعلى ملة أهدى من ملة محمد -صلى الله عليه وسلم-، أو مفتتحون باب ضلالة؟ قالوا: يا أبا عبد الرحمن، ما أردنا إلا الخير، قال: كم من يريد الخير لا يصيبه، إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حدثنا: ((أن قوماً يقرؤون القرآن، لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الإسلام، كما يمرق السهم من الرمية)) قال عمرو بن سلمة: فرأينا عامة أهل تلك الحلق، يطاعنوننا يوم النهروان، مع الخوارج([36]).
11-إنكاره على مرتد:
عن أبي بردة، قال: بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أبا موسى، ومعاذ بن جبل إلى اليمن، قال: وبعث كل واحد منهما على مخلاف، قال: واليمن مخلافان، ثم قال: ((يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا)) فانطلق كل واحد منهما إلى عمله، وكان كل واحد منهما إذا سار في أرضه كان قريباً من صاحبه، أحدث به عهداً، فسلم عليه، فسار معاذ في أرضه قريباً من صاحبه أبي موسى، فجاء يسير على بغلته حتى انتهى إليه، وإذا هو جالس، وقد اجتمع إليه الناس، وإذا رجل عنده، قد جمعت يداه إلى عنقه، فقال له معاذ: يا عبد الله بن قيس أيم هذا؟ قال: هذا رجل كفر بعد إسلامه، قال: لا أنزل حتى يقتل، قال: إنما جيء به لذلك، فانزل، قال: ما أنزل حتى يقتل، فأمر به فقتل، ثم نزل…([37]).
أقواله وآراؤه الاحتسابية
كان لأبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- أقوالٌ وآراء احتسابية كثيرة، منها:
1- ما روي عن سيار بن سلامة قال: لما حضر أبا موسى الأشعري الموت دعا بنيه، فقال: انظروا إذا أنا متُ، فلا تؤذنن بي أحداً، ولا يتبعني صوت، ولا نار، وليكن ممسى([38]) أحدكم بحذاء ركبتي من السرير([39]).
2- وقال أبو موسى الأشعري: لا يذبح للمسلمين إلا من يقرأ أم الكتاب، فلم يقرأ إلا محرز القصاب، مولى بني عدي، أحد بني ملكان، فذبح وحده، قاله موسى بن إسماعيل عن إسحاق بن عثمان قال: حدثتني جدتي أم موسى([40]).
3- وعن أبي عمرو الشيباني قال: قال أبو موسى: لأن يمتلئ منخري من ريح جيفة، أحبُّ إليَّ من أن يمتلئ من ريح امرأة([41]).
4- وعن عبد الملك ابن أبي سليمان، عن أبي علي، رجل من بني كاهل، قال: خطبنا أبو موسى الأشعري، فقال:
أيها الناس اتقوا هذا الشرك، فإنه أخفى من دبيب النمل، فقام إليه عبد الله بن جون، وقيس بن المضارب، فقالا: والله لتخرجن مما قلتَ، أو لنأتين عمر، مأذوناً لنا، أو غير مأذون، قال: بل أخرج مما قلتُ، خطبنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذات يوم، فقال: ((أيها الناس اتقوا هذا الشرك، فإنه أخفى من دبيب النمل)) فقال: كيف نتقيه، وهو أخفى من دبيب النمل يا رسول الله؟ قال: ((قولوا: اللهم إنا نعوذ بك أن نشرك بك شيئاً وأنت تعلمه، ونستغفر لما تعلم))([42]).
5- وعن ابن عون، عن محمد، قال: كتب أبو موسى الأشعري إلى عامر بن عبد قيس:
بسم الله الرحمن الرحيم:
من عبد الله إلى عامر بن عبد الله الذي يدعى عبد قيس، أما بعد:
فإني عهدتك على أمر، فإن كنتُ على الذي عهدت، فاتقِ الله ودم، وإن كنتَ تغيرت فاتق الله وعد([43]).
6- وعن الشعبي، أن عثمان استخلف أبا موسى الأشعري -رضي الله عنه-، فلما صلى الفجر، جاء رجل من مراد، فقال: هذا مقام العائذ التائب، أنا فلان ابن فلان، ممن حارب الله ورسوله، جئتُ تائباً من قبل أن تقدروا علي، فقال أبو موسى: جاء تائباً من قبل أن تقدروا عليه، فلا يعرض إلا بخير([44]).
7- وعن أبي فرقد قال: كنا مع أبي موسى الأشعري يوم فتحنا سوق الأهواز، فسعى رجل من المشركين، وسعى رجلان من المسلمين خلفه، فبينما هو يسعى ويسعيان إذ قال: له أحدهما مترس، فأخذاه، فجاءا به، وأبو موسى يضرب أعناق الأسارى، حتى انتهى الأمر إلى الرجل، فقال أحدهما: إن هذا قد جعل له الأمان، فقال أبو موسى: وكيف جعل له الأمان؟ قال: أنه كان يسعى ذاهباً في الأرض، فقلتُ له: مترس، فقام، فقال أبو موسى: وما مترس؟ قال: لا تخف، قال: هذا أمان، خليا سبيله، فخليا سبيل الرجل([45]).
8- وعن السميط بن عمير، قال: دخل رجل يوم الجمعة المسجد، فصلى أربعاً، فقال رجل لصاحبه: رأيت ما رأيت؟، قال: نعم، فأخذاه، فأتيا به أبا موسى الأشعري، فقالا: إن هذا دخل المسجد فصلى أربعاً، فقال: هل غير؟ فقالا: لا، قال: إن هذه لريبة، قال: ما حملك على ما صنعت؟ قال: ما شربتها قبل اليوم، فجلده ثمانين([46]).
مروياته الاحتسابية
كان لأبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- مرويات احتسابية كثيرة، منها:
1- ما رواه الحسن، عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((والذي نفس محمد بيده، إن المعروف والمنكر خليقتان، ينصبان للناس يوم القيامة، فأما المعروف: فيبشر أصحابه، ويوعدهم الخير، وأما المنكر فيقول: إليكم إليكم، وما يستطيعون له إلا لزوماً))([47]).
2- وعن سعيد بن أبي بردة، عن أبيه، عن أبي موسى الأشعري، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((على كل مسلم صدقة في كل يوم)) قالوا: يا رسول الله فإن لم يجد؟ قال: ((يعتمل بيده، فينفع نفسه، ويتصدق)) قالوا: فإن لم يفعل؟ قال: ((يعين ذا الحاجة الملهوف)) قالوا: فإن لم يستطع؟ قال: ((يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر)) قالوا: فإن لم يستطع؟ قال: ((ليمسك عن الشر، فإن ذلك له صدقة))([48]).
3- وعن أبي عثمان النهدي، عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-: ((أهل المعروف في الدنيا أهل المعروف في الآخرة، وأهل المنكر في الدنيا أهل المنكر في الآخرة))([49]).
4- وعن سعيد بن أبي هند، عن أبي موسى الأشعري، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال: ((من لعب بالنرد فقد عصى الله ورسوله))([50]).
وفاة أبي موسى الأشعري:
قال أبو نعيم: مختلف في وفاته وقبره، فقيل: توفي في سنة اثنتين وخمسين، ودفن بمكة، وقيل: أربع وأربعين، ودفن بالتوبة، من الكوفة على ميلين([51]).
وقال الذهبي: فيها -أي سنة أربع وأربعين- تُوفي على الصحيح: أبو موسى الأشعري([52]).
وهو ابن بضع وستين سنة([53]).
([1]) انظر ترجمته في: معرفة الصحابة لأبي نعيم (4/ 1749) والاستيعاب في معرفة الأصحاب (4/ 1762) والمنتظم في تاريخ الملوك والأمم (5/ 251) وتاريخ الإسلام (4/ 139) والطبقات الكبرى (4/ 78) والتاريخ الكبير للبخاري بحواشي المطبوع (5/ 22) ومعجم الصحابة لابن قانع (2/ 124) وغيرها.
([2]) أوطاس: هي غزوة حنين، سميت بالموضع الذي كانت فيه الوقعة، وهو من وطست الشيء وطساً إذا كدرته، وأثرت فيه، والوطيس: نقرة في حجر توقد حوله النار، فيطبخ به اللحم، والوطيس: التنور، وفي غزوة أوطاس قال النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-: ((الآن حمي الوطيس)) وذلك حين استعرت الحرب، وهي من الكلم التي لم يسبق إليها. [الروض الأنف (4/ 138)].
([5]) أخرجه البخاري في كتاب فضائل القرآن، باب حسن الصوت بالقراءة للقرآن (6/ 195-5048) ومسلم في صلاة المسافرين وقصرها، باب استحباب تحسين الصوت بالقرآن (1/ 546-793).
([11]) كذا قال: ستة، وذكر أربعة، وترك اثنين، وهما: زيد بن ثابت، وأبي بن كعب (انظر: هامش التاريخ الكبير).
([12]) التاريخ الكبير للبخاري بحواشي المطبوع (5/ 22) وتاريخ دمشق لابن عساكر (32/ 22) وإكمال تهذيب الكمال (8/ 128).
([24]) قوله: تبكعني بهَا، أَي: تستقبلني بهَا، قَالَ الْأَصْمَعِي: يُقَال: بكعت الرجل بكعاً، إذا استقبلته بِمَا يكره، وَهُوَ نَحْو: التبكيت، يُقَال: بكته بِذَنبِهِ تبكيتاً. انظر: غريب الحديث لابن قتيبة (2/ 323).
([37]) أخرجه البخاري في كتاب المغازي باب بعث أبي موسى، ومعاذ إلى اليمن قبل حجة الوداع (5/ 161-4341) ومسلم في الجهاد والسير، باب في الأمر بالتيسير وترك التنفير، وفي الأشربة باب بيان أن كل مسكر خمر، رقم: (1733).
([47]) أخرجه أحمد (32/ 234-19487) وقال محققو المسند: “رجاله ثقات رجال الشيخين، غير أن الحسن- وهو ابن أبي الحسن البصري- لم يسمع من أبي موسى”.