احتساب الحسن البصري رحمه الله
(21 – 110 هـ = 642 – 728 م)
اسمه ونشأته:
هو الحسن بن يسار البصري، أبو سعيد، تابعي، كان إمام أهل البصرة، وحبر الأمة في زمنه،
وهو أحد العلماء الفقهاء الفصحاء الشجعان النساك، ولد بالمدينة، وشبَّ في كنف علي بن أبي طالب، واستكتبه الربيع بن زياد والي خراسان في عهد معاوية، وسكن البصرة، وعظمت هيبته في القلوب، فكان يدخل على الولاة فيأمرهم وينهاهم، لا يخاف في الحق لومة، وكان أبوه من أهل ميسان، مولى لبعض الأنصار([1]).
مكانته وعلمه وثناء العلماء عليه:
عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: سلوا الحسن، فإنه حفظ ونسينا([2]).
قلتُ: فإذا كان الصحابي يحيل على الحسن، فهذا يدل على تمكنه في العلم.
وقال الأصبهاني: قال أهل التاريخ: كان الحسن البصري -رحمة الله عليه- من كبار التابعين، أدرك مائة وثلاثين من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-…، وكان يشبه كلامه كلام الأنبياء، وكان رجلاً غلب عليه الحزن.
قال يونس بن عبيد: كان إذا أقبل كأنه أقبل من دفن أمه, وإذا جلس كأنه أسير قدم ليضرب عنقه، وإذا تكلم كأن النار لم تخلق إلا له([3]).
وعن علي بن زيد قال: أدركتُ عروة بن الزبير ويحيى بن جعدة والقاسم، فلم أرَ فيهم مثل الحسن، ولو أنَّ الحسن أدرك أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو رجل لاحتاجوا إلى رأيه([4]).
وعن عن قتادة قال: إذا اجتمع لي أربعة لم ألتفت إلى غيرهم، ولم أبال من خالفهم: الحسن، وسعيد بن المسيب، وإبراهيم، وعطاء، قال: هؤلاء الأربعة أئمة الأمصار([5]).
وعن أبي إسحاق قال: كان الحسن البصري يشبه بأصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-([6]).
وعن سلام بن مسكين قال: سمعتُ قتادة يقول: كان الحسن من أعلم الناس بالحلال والحرام([7]).
وعن يونس قال: كان الحسن والله من رؤوس العلماء في الفتن والدماء([8]).
وقال عنه أبو نعيم: أبو سعيد، الحسن بن أبي الحسن، الفقيه الزاهد، المتشمر العابد، كان لفضول الدنيا وزينتها نابذاً، ولشهوة النفس ونخوتها واقذاً([9]).
سيرته الاحتسابية
1- إنكاره على الحجاج:
قال على بن محمد عن أبي إسحاق عن الحسن، قال: دخلتُ على الحجاج، فقال: يا حسن، ما جراك علي؟! ثم قعدت تفتي في مسجدنا؟ قلتُ: الميثاق الذى أخذه الله -عز وجل- على بني آدم، قال: فما تقول في أبي تراب؟ يعني علي بن أبي طالب؟ قلتُ: وما عسى أن أقول إلا ما قال الله -عز وجل-، قال: وما قال الله؟ قلتُ: قال الله -عز وجل-: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} [البقرة (143)] وكان علي ممن هدى الله، فغضب ثم أكب ينكت الأرض، وخرجتُ لم يعرض لي أحد، فتواريتُ حتى مات، توارى تسع سنين([10]).
وعن ابن عيينة قال: أخبرنا أبو موسى، قال: لما خرج الحسن من عند الحجاج، قال: خرجتُ من عند أحيول قصير يطبطب، شعيرات له…، أما والله إنهم وإن ركبوا البراذين، وصعدوا المنابر، إن ذل المعاصي لفي أعناقهم، أبى الله تعالى إلا أن يذل من عصاه، ما زال الله يريهم في أنفسهم العبر، ويرى المؤمنين فيهم المعتبر، اللهم كما أمتكه، فأمت عنا سنته ([11]).
2- إنكاره على المتصوفة:
عن يزيد بن عوانة قال: حدثني أبو شداد شيخ من بني مجاشع أحسن عليه الثناء، قال: سمعتُ الحسن، وذكر عنده الذين يلبسون الصوف، فقال: ما لهم تفاقدوا ثلاثاً، أكنوا الكبر في قلوبهم، وأظهروا التواضع في لباسهم، والله لأحدهم أشد عجباً بكسائه من صاحب المطرف بمطرفه([12]).
3- إنكاره على بعض الأزارقة:
قال هشام بن حسان: بينا نحن عند الحسن البصري إذ أقبل رجل من الأزارقة، فقال: يا أبا سعيد ما تقول في علي بن أبي طالب؟ قال: فاحمرت وجنتا الحسن، وقال: رحم الله علياً، إن علياً كان سهماً لله صائباً في أعدائه، وكان في محلة العلم أشرفها وأقربها إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكان رهباني هذه الأمة، لم يكن لمال الله بالسروقة، ولا في أمر الله بالنومة، أعطى القرآن عزائمه وعمله وعلمه، فكان منه في رياض مونقة، وأعلام بينة، ذاك علي بن أبي طالب يا لكع([13]).
4- إنكاره على ابنه:
عن جرير بن حازم قال: كنا عند الحسن، وقد انتصف النهار وزاد، فقال ابنه: خفوا عن الشيخ، فإنكم قد شققتم عليه، فإنه لم يطعم طعاماً ولا شراباً، قال: مه، وانتهره، دعهم، فو الله ما شيء أقر لعيني من رؤيتهم، أو منهم. إن كان الرجل من المسلمين ليزور أخاه فيتحدثان ويذكران ويحمدان ربهما حتى يمنعه قائلته([14]).
5- إنكاره على المشي وراء العالِم:
عن يزيد بن حازم قال: سمعتُ الحسن يقول: إنَّ خفق النعال خلف الرجال، قلَّ ما تلبث الحمقى([15]).
وعن مرجى بن رجاء قال: حدثنا غالب قال: خرج الحسن مرة في المسجد، وقد ذهب بحماره، فأتى حماري فركبه، وكان حماري يتناول ساق صاحبه فخفته على الحسن، فأخذت بلجامه، فقال: أحمارك هذا؟ فقلت: نعم، قال: وخلفه رجال يمشون؟ فقال: لا أبا لك! ما يبقي خفق نعال هؤلاء من قلب آدمي ضعيف، والله لولا أن يرجع المسلم، أو المؤمن شك مرجى، إلى نفسه فيعلم أن لا شيء عنده لكان هذا في فساد قلبه سريعاً([16]).
وعن أبي هلال قال: حدثنا غالب قال: حملت الحسن على حماري من المسجد إلى منزله فرأى ناساً يتبعونه، فقال: ما يبقي هؤلاء من قلب رجل، لولا أن المؤمن يرجع إلى نفسه فيعرفها([17]).
6- إنكاره على من طلق امرأته:
روي أنَّ رجلاً حلف بالطلاق أن الحجاج في النار، فسأل الحسن البصري، فقال: لا عليك يا ابن أخي، فإن لم يكن الحجاج في النار فما ينفعك أن تكون مع امرأتك في زنا([18]).
7- إنكاره على الفرزدق الشاعر:
شهد الحسن جنازة أبي رجاء العطاردي على بغلة والفرزدق معه على بعيره، فقال له الفرزدق: يا أبا سعيد، يستشرفنا الناس، فيقولون: خير الناس، وشر الناس، فقال الحسن: يا أبا فراس، كم أشعث أغبر ذي طمرين لو أقسم على الله لأبره، ذاك خير من الحسن، وكم من شيخ مشرك أنت خير منه يا أبا فراس، قال: الموت يا أبا سعيد، قال له الحسن: وما أعددت له يا أبا فراس؟ قال: شهادة أن لا إله إلا الله منذ سبعين سنة، قال: إن للا إله إلا الله شروطاً، فإياك وقذف المحصنة، يا أبا فراس كم من محصنة قد قذفتها، فاستغفر الله، قال: فهل من توبة أبا سعيد؟ قال: نعم([19]).
8- إنكاره على متزهد لم يعرف الزهد المشروع:
عن عمارة قال: كنتُ عند الحسن، فدخل علينا فرقد، وهو يأكل خبيصاً، فقال: تعال فكل، فقال: أخاف أن لا أؤدي شكره، فقال الحسن: ويحك! وتؤدي شكر الماء البارد!([20]).
9- إنكاره على يزيد بن المهلب:
عن شعبة قال: رأيتُ الحسن البصري على سطحٍ، وفي يده مروحة، حين خرج يزيد بن المهلب، وهو يقول: كلما أمر بأمر تبعتموه، كما فعل هذا الفاسق، يريد ابن المهلب، وليس لشعبة عن الحسن إلا هذه الرواية([21]).
10- إنكاره على مَن يُشكك في خلافة أبي بكر:
عن محمد بن الزبير، قال: أرسلني عمر بن عبد العزيز إلى الحسن البصري أسأله عن أشياء، فصعدت إليه، فإذا هو متكئ على وسادة من أدم، فقلت: أرسلني إليك عمر أسألك عن أشياء، فأجابني فيما سألته عنه، وقلتُ: اشفني فيما اختلف الناس فيه: هل كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- استخلف أبا بكر؟ فاستوى الحسن قاعداً، فقال: أو في شك هو لا أبا لك؟!
إي والله الذي لا إله إلا هو، لقد استخلفه، ولهو كان أعلم بالله، وأتقى له، وأشد مخافة من أن يموت عليها لو لم يأمره([22]).
11- إنكاره على ابن هبيرة:
لما ولي عمر بن هبيرة الفزاري العراق، وأضيفت إليه خراسان؛ وذلك في أيام يزيد بن عبد الملك، استدعى الحسن البصري ومحمد بن سيرين والشعبي، وذلك في سنة ثلاث ومائة، فقال لهم: إن يزيد خليفة الله استخلفه على عباده، وأخذ عليهم الميثاق بطاعته، وأخذ عهدنا بالسمع والطاعة، وقد ولاني ما ترون، فيكتب إلي بالأمر من أمره، فأقلده ما تقلده من ذلك الأمر، فما ترون؟
فقال ابن سيرين والشعبي قولاً فيه تقية، فقال ابن هبيرة: ما تقول يا حسن؟ فقال: يا ابن هبيرة، خف الله في يزيد، ولا تخف يزيد في الله، إن الله يمنعك من يزيد، وإن يزيد لا يمنعك من الله، وأوشك أن يبعث إليك ملكاً فيزيلك عن سريرك، ويخرجك من سعة قصرك إلى ضيق قبرك، ثم لا ينجيك إلا عملك؛ يا ابن هبيرة إن تعص الله فإنما جعل الله هذا السلطان ناصراً لدين الله وعباده، فلا تركبن دين الله وعباده بسلطان الله، فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق؛ فأجازهم ابن هبيرة، وأضعف جائزة الحسن، فقال الشعبي لابن سيرين: سفسفنا له، فسفسف لنا([23]).
12- إنكاره على القراء:
عن فضيل بن جعفر، قال: خرج الحسن من عند ابن هبيرة، فإذا هو بالقراء على الباب فقال: ما يجلسكم ها هنا؟ تريدون الدخول على هؤلاء الخبثاء؟ أما والله ما مجالستهم بمجالسة الأبرار، تفرقوا فرق الله بين أرواحكم وأجسادكم، قد لقحتم نعالكم، وشمرتم ثيابكم، وجززتم شعوركم، فضحتم القراء، فضحكم الله، وأما والله لو زهدتم فيما عندهم لرغبوا فيما عندكم، لكنكم رغبتم فيما عندهم فزهدوا فيما عندكم، أبعد الله من أبعد([24]).
13- إنكاره على متبختر في لبسه ومشيته:
عن خالد أبي بكر مولى حميد عن الحسن، قال: إن شاباً مر بالحسن، وعليه بردة له، فدعاه فقال: إيه ابن آدم معجب بشبابه، معجب بجماله، معجب بثيابه، كأن القبر قد وارى بدنك، وكأنك قد لاقيت عملك، فداوِ قلبك، فإن حاجة الله إلى عباده صلاح قلوبهم([25]).
14- إنكاره على ولده:
عن ابن شوذب، قال: لما مات الحجاج، وولي سليمان، فأقطع الناس الموات، فجعل الناس يأخذون، فقال ابن الحسن لأبيه: لو أخذنا كما يأخذ الناس، فقال: اسكت، ما يسرني لو أن لي ما بين الجسرين بزنبيل تراب([26]).
15- إنكاره على فرقد:
عن صالح المري، قال: دُعي الحسن وفرقد السبخي إلى وليمة، فقرب إليهما ألوان الطعام، فاعتزل فرقد، ولم يأكل، فقال الحسن: ما لك، ما لك، يا فريقد، أترى أن لك فضلاً على إخوانك بكسيك هذا؟ فقد بلغني أن عامة أهل النار أصحاب الأكسية([27]).
16- إنكاره على الازدحام على جنازة:
عن وكيع، عن مهدي، عن رجل يقال له: إسماعيل الجحدري قال: خرجنا في جنازة فشهدها الحسن، قال: فرأى قوماً ازدحموا على السرير، فقال الحسن: ما شأن هؤلاء؟! إني لأظن الشيطان حسر من الناس، فاتبعهم ليحبط أجورهم([28]).
17- إنكاره على المغالاة بالمهور:
عن محمد بن الزبير عن الحسن قال: جاءه ابنه، قال: فقال له: سألتَ عن الرجل؟ فقال: نعم، لرجل كان خطب ابنته، قال: مولى عتاقة هو؟ قال: نعم، قال: فكان أصحابه وجدوا عليه من ذلك، قال: اذهب فزوجه، كم أعطاك؟ قال: أعطاني عشرة آلاف، قال: عشرة آلاف، عشرة الإلف، إذا أخذت منه عشرة آلاف فأي شيء يبقى؟ دع له ستة آلاف، وخذ منه أربعة آلاف، قال: فقال له رجل: يا أبا سعيد إن له معي لمائة ألف، قال: مائة ألف! قال: لا والله ما في هذا خير، لا تزوجه، قال: فجاءت أم الجارية، فقالت: أيش تحرمنا رزقاً ساقه الله إلينا؟ قال: اخرجي أيتها العلجة، كأني أنظر إليها عجوز طويلة([29]).
18- إنكاره على التحليل المحرم:
عن عباد بن منصور، قال: جاء رجل إلى الحسن، فقال: إن رجلاً من قومي طلق امرأته ثلاثاً، فندم وندمت، فأردت أن أنطلق فأتزوجها وأصدقها صداقاً، ثم أدخل بها كما يدخل الرجل بامرأته، ثم أطلقها حتى تحل لزوجها، قال: فقال له الحسن: “اتق الله يا فتى، ولا تكونن مسمار نار لحدود الله”([30]).
أقواله وآراؤه الاحتسابية
أُثر عن الحسن البصري -رحمه الله- آراء وأقوال احتسابية كثيرة، منها:
1- عن عمارة بن مهران قال: قيل للحسن: ألا تدخل على الأمراء، فتأمرهم بالمعروف، وتنهاهم عن المنكر؟ قال: ليس للمؤمن أن يذل نفسه، إن سيوفهم لتسبق ألسنتنا إذا تكلمنا قالوا بسيوفهم هكذا، ووصف لنا بيده ضرباً([31]).
2- عن سليمان بن علي الربعي قال: لما كانت الفتنة فتنة ابن الأشعث إذ قاتل الحجاج بن يوسف انطلق عقبة بن عبد الغافر وأبو الجوزاء وعبد الله بن غالب في نفر من نظرائهم فدخلوا على الحسن، فقالوا: يا أبا سعيد ما تقول في قتال هذه الطاغية الذي سفك الدم الحرام، وأخذ المال الحرام، وترك الصلاة، وفعل وفعل؟ قال: وذكروا من فعل الحجاج، قال:
فقال الحسن: أرى أن لا تقاتلوه، فإنها إن تكن عقوبة من الله فما أنتم برادي عقوبة الله بأسيافكم، وإن يكن بلاء فاصبروا حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين، قال: فخرجوا من عنده وهم يقولون: نطيع هذا العلج! قال: وهم قوم عرب، قالوا: وخرجوا مع ابن الأشعث، قال: فقتلوا جميعاً([32]).
3- عن أبي جميع سالم قال: سمعتُ الحسن، يقول: لقد أدركت أقواماً كانوا أأمر الناس بالمعروف، وآخذهم به، وأنهى الناس عن منكر، وأتركهم له، ولقد بقينا في أقوام أأمر الناس بالمعروف، وأبعدهم منه، وأنهى الناس عن المنكر، وأوقعهم فيه، فكيف الحياة مع هؤلاء؟!([33])
4- عن أبي التياح قال: شهدتُ الحسن وسعيد بن أبي الحسن حين أقبل ابن الأشعث، فكان الحسن ينهى عن الخروج على الحجاج، ويأمر بالكف، وكان سعيد بن أبي الحسن يحضض، ثم قال سعيد فيما يقول: ما ظنك بأهل الشام إذا لقيناهم غداً؟ فقلنا: والله ما خلعنا أمير المؤمنين، ولا نريد خلعه، ولكنا نقمنا عليه استعماله الحجاج، فاعزله عنا، فلما فرغ سعيد من كلامه تكلم الحسن، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: يا أيها الناس إنه والله ما سلط الله الحجاج عليكم إلا عقوبة، فلا تعارضوا عقوبة الله بالسيف، ولكن عليكم السكينة والتضرع، وأما ما ذكرت من ظني بأهل الشام، فإن ظني بهم أن لو جاؤوا فألقمهم الحجاج دنياه لم يحملهم على أمر إلا ركبوه، هذا ظني بهم([34]).
5- عن عمرو بن يزيد العبدي قال: سمعتُ الحسن يقول: لو أن الناس إذا ابتلوا من قبل سلطانهم صبروا ما لبثوا أن يفرج عنهم، ولكنهم يجزعون إلى السيف، فيوكلون إليه، فو الله ما جاؤوا بيوم خير قط([35]).
قلتُ: كان منهج الحسن البصري -رحمه الله- الترفق في الإنكار على الأمراء، وهو المنهج الحق، ولهذا أمرهم وناههم بالموعظة الحسنة، كما مر معنا.
إذ سلك الحسن منهج السلم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولم يؤيد الثورة المسلحة لأسباب:
أـ أن الدعوة إلى الخروج عليهم يتبعها فوضى في أمور، واضطراب الأمن وفساد الأحوال، وفوضى ساعة يرتكب فيها المظالم ما لا يرتكب في استبداد السنين.
ب ـ رأى أن كثرة الخروج على الولاة يضعف الدولة الإسلامية، ويجعل بأس المسلمين بينهم شديداً، فيكلب فيهم عدوهم، ويخرب عليهم حقوقهم.
ج ـ ولأنه رأى أن الدماء تراق في الخروج بدون حق يقام، ومظلمة تدفع والناس يخرجون من يد ظالم إلى أظلم.
س ـ وجد أن الطريق المعبّد لإصلاح هذا، إصلاح فساد المحكومين إذا تعذر عليه إصلاح فساد الحاكم، رأى أن الفساد عمّ الاثنين، وتغلغل في الفريقين، فاعتقد أن الحكام ما لم يتغير الشعب والملازمة ثابتة بينهما([36]).
6- عن مندل عن أبي مالك قال: كان الحسن إذا قيل له: ألا تخرج فتغير؟ قال: يقول: إن الله إنما يغير بالتوبة، ولا يغير بالسيف([37]).
7- عن هشام عن الحسن ومحمد قالا: لا تجالسوا أصحاب الأهواء، ولا تجادلوهم، ولا تسمعوا منهم([38]).
8- عن خالد بن دينار، عن الحسن، قال: خرج في جنازة فجعلوا يصيحون عليها، فرجع ثابت، فقال له الحسن: ندع حقاً لباطل، قال: فحضني([39]).
9- عن قُرَّة، قال: سمعتُ الحسن، يقول: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} [الروم (41)] قال: أفسدهم اللهُ بذنوبهم في بر الأرض وبحرها بأعمالهم الخبيثة {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم (41)] يرجع مَنْ بَعْدَهُمْ([40]).
10- وكان في جنازة وفيها نوائح ومعه رجل فهم الرجل بالرجوع، فقال له الحسن: يا أخي إن كنت كلما رأيت قبيحاً تركت له حسناً، أسرع ذلك في دينك([41]).
11- عن الربيع بن صبيح، قال: سمعت الحسن يقول: ليس للفاسق المعلن بالفسق غيبة، ولا لأهل الأهواء والبدع غيبة([42]).
12- عن سلم بن أبي الذيال قال: سأل رجل الحسن وهو يسمع وأناس من أهل الشام، فقال: يا أبا سعيد، ما تقول في الفتن مثل يزيد بن المهلب وابن الأشعث؟ فقال: لا تكن مع هؤلاء، ولا مع هؤلاء([43]).
13- قال الحسن البصري -رحمه الله-: “اعلم -عافاك الله- أن جور الملوك نقمة من نقم الله تعالى، ونقم الله لا تلاقى بالسيوف، وإنما تُتقى وتُستَدفع بالدعاء والتوبة والإنابة والإقلاع عن الذنوب، إن نقم الله متى لقيت بالسيف كانت هي أقطع، وقيل: سمع الحسن رجلاً يدعو على الحجاج، فقال: لا تفعل -رحمك الله- إنكم من أنفسكم أوتيتُم، إنما نخاف إِن عُزلَ الحجاجُ أو مات أن تليكم القردة والخنازير”([44]).
14- قال ابن كثير: وقوله تعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة (83)] أي: كلموهم طيباً، ولينوا لهم جانباً، ويدخل في ذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالمعروف، كما قال الحسن البصري([45]).
15- وسُئل الحسن البصري عن رجل له أم فاجرة، فقال: “يقيدها، فما وصلها بشيء أعظم من أن يكفها عن معاصي الله تعالى”([46]).
16- قال الحسن البصري -رحمه الله تعالى-: إذا كنت تأمر بالمعروف، فلتكن مراعياً له قبل أخذ الناس به، وإلا هلكت([47]).
17- قال الحسن البصري: أترغبون عن ذلك الفاجر؟ اذكروه بما فيه يحذره الناس([48]).
18- قال الحسن البصري: يريد أن لا يظفر الشيطان منكم بهذه الخصلة، وهو أن لا تأمروا بالمعروف حتى تفعلوا الأمر كله([49]).
19- قال الحسن البصري لمُطَرّف بن عبد الله -رحمهما الله تعالى-: عظْ أصحابك، فقال: إني أخاف أن أقول ما لا أفعل! قال: يرحمك الله، وأيُّنا يفعل ما يقول؟ يود الشيطان أنه قد ظفر منا بهذا؛ فلم يأمر أحد بمعروف، ولم ينه أحد عن منكر([50]).
مروياته الاحتسابية
للحسن البصري مرويات في الحسبة والاحتساب، منها:
1- عن الحسن، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((ألا لا يمنعن أحدكم رهبة الناس أن يقول بحق إذا رآه أو شهده، فإنه لا يقرب من أجل، ولا يباعد من رزق، أن يقول بحق أو يذكر بعظيم))([51]).
وفاته:
توفي الحسن البصري بعد حياة حافلة بالعلم والعمل، والحسبة والاحتساب، رحمه الله رحمة واسعة، وجزاه الله أفضل الجزاء، وكان ذلك سنة عشر ومائة عن ثمان وثمانين سنة.
قال رجل لابن سيرين: رأيتُ كأن طائراً آخذاً الحسن حصاه في المسجد، فقال ابن سيرين: إن صدقت رؤياك مات الحسن، قال: فلم يلبث إلا قليلاً حتى مات([52]).