احتساب سفيان بن عيينة رحمه الله
(107 – 198 هـ = 725 – 814 م)
اسمه:
سفيان بن عيينة بن ميمون الهلالي، الكوفي، أبو محمد، محدّث الحرم المكيّ، من الموالي، ولد بالكوفة، وسكن مكة، وتوفي بها، كان حافظاً ثقة، واسع العلم، كبير القدر، وكان أعور، له (الجامع) في الحديث، وكتاب في (التفسير)([1]).
وكان لسفيان تسعة إخوة، حدث منهم أربعة: محمد، وآدم، وعمران، وإبراهيم، وكان سفيان مقدماً على الكل.
وقال أبو أحمد محمد بن أحمد النيسابوري الحافظ: كان بنو عيينة عشرة خزازين، حدث منهم خمسة -فذكرهم-، وأخوال بني عيينة: بنو بني المتئد، حدث منهم يوسف ويعقوب ونعيم بن يعقوب بن المتئد، وأدرك سفيان ستة وثمانين نفساً من التابعين.
وروى عنه من الكبار الأعمش، والثوري، وشعبة، وابن المبارك، ووكيع، وابن مهدي، والشافعي، وأحمد، ويحيى، وكتب عن سفيان بن عيينة، وهو ابن خمسة وثلاثين سنة، قبل موت الأعمش بخمس سنين، وحدث في مجلس الأعمش([2]).
وعن أبي بكر بن أحمد بن عبد الله الطرسوسي قال: سمعت حامد بن يحيى البلخي يقول: سمعت سفيان بن عيينة يقول: رأيت كأني أسناني كلها سقطت، فذكرت ذلك للزهري، فقال: يموت أصحابك وتبقى أنت وحدك، فمات أصحابي، وبقيت([3]).
مناقبه:
قال أحمد بن حنبل: ما رأيتُ أحداً أعلم بالسنن من سفيان بن عيينة.
وقال ابن المبارك: سئل الثوري عن سفيان بن عيينة، فقال: ذاك أحد الأحدين ما أغربه.
وقال ابن المديني: قال لي القطان: ما بقي من معلمي أحد غير سفيان بن عيينة، سفيان إمام منذ أربعين سنة.
وقال ابن المديني: سمعت بشر بن المفضل يقول: ما بقي على وجه الأرض أحد يشبه ابن عيينة.
وذكر حرملة بن يحيى أن ابن عيينة قال له وأراه خبز شعير: هذا طعامي منذ ستين سنة([4]).
وقال علي بن المديني: حج سفيان ثنتين وسبعين حجة([5]).
وكان يقول ليلة الموقف: اللهم لا تجعله آخر العهد منك. فلما كان عام موته لم يقل ذلك، وقال: قد استحييتُ من الله تعالى([6]).
وقال منصور: دخلت على سفيان بن عيينة، فحدثني ووعظته، فلما أثارت الأحزان دموعه رفع رأسه وردها في عينيه، فقلتُ: هلا أسبلتها إسبالاً، وتركتها تجري سجالاً، قال: إن الدمعة إذا بقيت كان أبقى للحزن في الجوف([7]).
وقال ابن مهدي: عند ابن عيينة من معرفته بالقرآن وتفسير الحديث ما لم يكن عند سفيان الثوري.
وقال علي بن حرب الطائي: سمعت أبي يقول: كنتُ أحب أن تكون لي جارية في غنج ابن عيينة إذا حدث([8]).
ومن فقهه:
أنه سئل فقيل له: الرجلُ يعمل العمل لله يؤذِّن أو يؤمُّ أو يعين أخاه، فيعطى الشيء فيقبله، قال: نعم، ألا ترى أنَّ موسى عليه السلام لم يعمل للعمالة، وإنه عمل لله تعالى، فعرض له رزق من الله فقبله، ثم قرأ: {إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} [القصص (25)]([9]).
وعن علي بن المَديني قال: كنتُ جالسًا في مجلس مالك بن أنس، فاستأذن عليه سفيان بن عُيينة، فأذِنَ له فدخل فسلَّم، وقال: السلام خاصٌّ وعام، السلام عليك أبا عبد الله، فقال مالك: وعليك السلام أبا محمد ورحمةُ الله وبركاته، وقام إليه فصافحه، وقال: لولا أنَّ المعانقة بِدْعَةٌ لعانَقْتُكَ.
فقال سُفْيان: قد عانق من هو خير مني مَنْ هو خيرٌ منك، قال مالك: رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وجعفرًا؟ قال: نعم، قال مالك: ذاك خاصٌّ وليس بعامٍّ، فقال سفيان: ما عَمَّ جعفرًا يعمنا، وما خصَّه يَخُصُّنا.
ثم قال سُفْيان: يا أبا عبد الله أتأذن لي أن أُحَدِّثَ في مجلسك؟ قال: نعم، حدثنا عبد الله بن طاووس عن أبيه عن ابن عباس: أن جعفر بن أبي طالب لما قدم من أرض الحبشة تَلقَّاه رسول الله صلى الله عليه وسلم واعتنقه، وقال: جعفرٌ أَشْبَهُهُم بي خَلْقًا وخُلُقًا([10]).
سيرته الاحتسابية
كان لسفيان بن عيينة رحمه الله، مواقف الاحتسابية كثيرة، نذكر طرفاً منها:
1- إنكاره على ضعفاء المحدثين:
فقد كان سفيان بن عيينة يقول: جاءنا عبد الرحمن بن زياد الأفريقي بستة أحاديث، رفعها إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- لم أسمع أحداً من العلماء ذكرها، ورفعها([11]).
وقال سفيان بن عيينة: كنت إذا سمعت الحسن بن عمارة يروي عن الزهري، وعمرو بن دينار جعلت إصبعي في أذني([12]).
2- إنكاره على منصور بن عمار:
قال أبو بكر وعثمان ابنا أبي شيبة: كنا عند ابن عيينة، فجاء منصور بن عمار، فسأله عن القرآن، فزبره، وأشار بالعكاز إليه، وانتهره، فقيل: يا أبا محمد إنه عابد، قال: ما أرى إلا شيطاناً([13]).
3- إنكاره على بشر:
وحكى عن سفيانَ بن عُيينةَ قال لمَّا بلغه قولُ بِشرٍ: إنَّ اللهَ لا يُرى يومَ القيامة، قال: قاتله الله، ألم يسمع قولَه تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15] فجعل احتجابَه عنهم عقوبةً لهم، فإذا احتجب عن الأعداءِ والأولياء، فأيُّ فضلٍ للأولياء على الأعداء؟!([14]).
4- إنكاره على من يطعن في الصحابة:
قال سفيان بن عيينة: من نطق في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بكلمة فهو صاحب هوى([15]).
5- إنكاره على من يحتقر صغيراً:
عن عمار بن علي اللوزي قال: سمعت أحمد بن النضر الهلالي يقول: سمعت أبي يقول: كنت في مجلس سفيان بن عيينة، فنظر إلى صبي دخل المسجد، فتهاونوا به لصغر سنه، فقال سفيان: {كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} [النساء: 94].
ثم قال: يا نصر، لو رأيتني ولي عشر سنين طولي خمسة أشبار، ووجهي كالدينار، وأنا كشعلة نار، ثيابي صغار، وأكمامي قصار، وذيلي بمقدار، ونعلي كآذان الفار، أختلف إلي علماء الأمصار، مثل الزهري وعمرو بن دينار، أجلس بينهم كالمسمار، محبرتي كالجوزة، ومقلمتي كالموزة، وقلمي كاللوزة، فإذا دخلت المجلس قالوا: أوسعوا للشيخ، ثم تبسم ابن عيينة وضحك([16]).
6- إنكاره على من أراد صلب وكيع:
قال ابن خشرم: فلما حدث وكيع بهذا بمكة، اجتمعت قريش، وأرادوا صلب وكيع، ونصبوا خشبة لصلبه، فجاء سفيان بن عيينة، فقال لهم: الله الله، هذا فقيه أهل العراق، وابن فقيهه، وهذا حديث معروف، قال سفيان: ولم أكن سمعته، إلا أني أردت تخليص وكيع([17]).
7- وروى أن بشراً دخل يوماً على سفيان بن عيينة، وعنده أصحابه، فأخذ يتكلم بمهملاته، فقال ابن عيينة: اقتلوه، قال ابن خلاد: فأنا كنتُ ممن ضربه بيده([18]).
أقواله الاحتسابية
من أقوال سفيان بن عيينة رحمه الله الاحتسابية:
1- قال سفيان بن عيينة: إنَّما نهى عن الغشِّ؛ لأنَّه من أخلاقِ اليهودِ([19]).
2- وعن محمد بن الحسين بن الحرقان قال: سمعت سفيان بن عيينة يقول: إنما سموا إخواناً لتنزههم عن الخيانة، وسموا أصدقاء لأنهم تصادقوا حق المودة([20]).
3- وعن محمد بن ميمون الخياط قال: سمعت سفيان بن عيينة يقول: إذا كان نهاري نهار سفيه، وليلي ليل جاهل، فما أصنع بالعلم الذي جمعت؟([21]).
4- وقال سفيان بن عيينة: من فسد من علمائنا كان فيه شبه من اليهود، ومن فسد من عبادنا كان فيه شبه من النصارى([22]).
5- وقال: وسمعت سفيان بن عيينة يقول: سئل لقمان؛ أي الناس أشر؟ قال: الذي لا يبالي أن يراه الناس مسيئاً([23]).