احتساب معاذ بن جبل رضي الله عنه
(20 ق هـ – 18 هـ = 603 – 639 م)
اسمه ونسبه:
هو معاذ بن جبل بن عمرو بن أوس الأنصاري الخزرجي، أبو عبد الرحمن([1]).
فضله ومكانته:
معاذ بن جبل صحابي جليل، كان أعلم الأمة بالحلال والحرام، وهو أحد الستة الذين جمعوا القرآن على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم-، أسلم وهو فتى، وآخى النبي -صلى الله عليه وسلم- بينه وبين جعفر بن أبي طالب، وشهد العقبة مع الأنصار السبعين، وشهد بدراً وأحداً، والخندق، والمشاهد كلها، مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وبعثه رسول الله، بعد غزوة تبوك قاضياً ومرشداً لأهل اليمن، فبقي في اليمن إلى أن توفي النبي -صلى الله عليه وسلم-، وولي أبو بكر، فعاد إلى المدينة، ثم كان مع أبي عبيدة بن الجراح في غزو الشام، ولما أصيب أبو عبيدة (في طاعون عمواس) استخلف معاذاً، وأقره عمر، فمات في ذلك العام، وكان من أحسن الناس وجها، ومن أسمحهم كفاً، له (157) حديثاً، توفي بناحية الأردن، ودفن بالقصير المعيني (بالغور)([2]).
وقال الشّعبيّ، عن مسروق: كنا عند ابن مسعود، فقرأ: إن معاذاً كان أمة قانتاً للَّه، فقال فروة بن نوفل، نسيت. فقال: ما نسيت، إنا كنا نشبهه بإبراهيم -عليه السّلام-([3]).
وفي مسند أحمد: قال عمر بن الخطاب: فإن أدركني أجلي، وقد توفي أبو عبيدة، استخلفتُ معاذ بن جبل، فإن سألني ربي -عز وجل-: لم استخلفته؟ قلتُ: سمعتُ رسولك -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((إنه يحشر يوم القيامة بين يدي العلماء نبذة))([4]).
وعن الشعبي، قال: حدثني فروة بن نوفل الأشجعي، قال: قال ابن مسعود -رضي الله تعالى عنه-: “إن معاذ بن جبل -رضي الله تعالى عنه- كان أمة قانتاً لله حنيفاً” فقيل: إن إبراهيم كان أمة قانتاً لله حنيفاً، فقال: “ما نسيت، هل تدري ما الأمة؟ وما القانت؟” فقلتُ: الله أعلم، فقال: “الأمة الذي يعلم الناس الخير، والقانت المطيع لله وللرسول، وكان معاذ يعلم الناس الخير، ومطيعاً لله ولرسوله”([5]).
وعن أسامة بن زيد، أن محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان حدثه، أن معاذ بن جبل لما قدم من اليمن حين بعثه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قدم، وفي يده خاتم من ورق نقشه محمد رسول الله، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((يا معاذ ما هذا الخاتم؟)) فقال: يا رسول الله، إني كنتُ أكتب كتباً إلى الناس، فأفرق أن يزاد فيها، وينقص منها، واتخذتُ خاتماً أختم به، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((ما نقشه؟)) فقال معاذ: محمد رسول الله -عليه السلام-, فقال: ((آمن كل شيء من معاذ حتى خاتمه)) ثم أخذه رسول الله -عليه السلام-, فتختمه([6]).
وعن معاذ بن جبل -رضي الله عنه- أن رسول -صلى عليه وسلم- أخذ بيده، وقال: ((يا معاذ، والله إني لأحبك، والله إني لأحبك)) فقال: ((أوصيك يا معاذ، لا تدعن في دبر كل صلاة تقول: اللهم أعني على ذكرك، وشكرك، وحسن عبادتك))([7]) .
وعن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: سمعتُ النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((استقرئوا القرآن من أربعة، من ابن مسعود، وسالم، مولى أبي حذيفة، وأبي، ومعاذ بن جبل))([8]).
وعن أبي سفيان قال: حدثني أشياخ منا, قالوا: جاء رجل إلى عمر بن الخطاب، فقال: يا أمير المؤمنين إني غبتُ عن امرأتي سنتين، فجئتُ، وهي حبلى, فشاور عمر الناس في رجمها, قال: فقال معاذ بن جبل: “يا أمير المؤمنين إن كان لك عليها سبيل، فليس لك على ما في بطنها سبيل، فاتركها حتى تضع” فتركها، فولدت غلاماً، قد خرجت ثنياه، فعرف الرجل الشبه فيه, فقال: ابني ورب الكعبة, فقال عمر: عجزت النساء أن يلدن مثل معاذ، لولا معاذ هلك عمر”([9]).
سيرته الاحتسابية
كان لمعاذ بن جبل -رضي الله عنه- سيرة احتسابية حافلة، بالمواقف الكثيرة في الحسبة والاحتساب، نذكر طرفاً منها:
1- إنكاره على على يهودي أسلم ثم ارتدَّ:
عن سعيد بن أبي بردة، عن أبيه، قال: بعث النبي -صلى الله عليه وسلم- جده أبا موسى ومعاذاً إلى اليمن، فقال: ((يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا وتطاوعا)) فقال أبو موسى: يا نبي الله إن أرضنا بها شراب من الشعير المزر، وشراب من العسل البتع، فقال: ((كل مسكر حرام)) فانطلقا، فقال معاذ لأبي موسى: كيف تقرأ القرآن؟ قال: قائماً وقاعداً وعلى راحلتي، وأتفوقه تفوقاً، قال: أما أنا فأنام وأقوم، فأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي، وضرب فسطاطاً، فجعلا يتزاوران، فزار معاذ أبا موسى، فإذا رجل موثق، فقال: ما هذا؟ فقال أبو موسى: يهودي أسلم ثم ارتد، فقال معاذ: لأضربن عنقه([10]).
وفي رواية: عن أبي بردة، عن أبي موسى: أن رجلاً أسلم ثم تهود، فأتى معاذ بن جبل وهو عند أبي موسى، فقال: ما لهذا؟ قال: أسلم، ثم تهود، قال: “لا أجلس حتى أقتله، قضاء الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-“([11]).
وفي رواية: فألقى أبو موسى لمعاذا وسادة ليجلس عليها، قال: فأتى برجل كان يهودياً، فأسلم، ثم كفر، فقال معاذ: لا أجلس حتى تقبل قضاء الله ورسوله -ثلاث مرار-، فلما قتل قعد([12]).
2- إنكاره على مَن ضيق طريق الناس:
عن سهل بن معاذ الجهني، عن أبيه، قال: نزلنا على حصن سنان بأرض الروم، مع عبد الله بن عبد الملك، فضيق الناس المنازل، وقطعوا الطريق، فقال معاذ: أيها الناس، إنا غزونا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- غزوة كذا وكذا، فضيق الناس الطريق، فبعث النبي -صلى الله عليه وسلم- منادياً فنادى: ((من ضيق منزلاً، أو قطع طريقاً، فلا جهاد له))([13]).
3- إنكاره على عبد الله بن عمرو:
عن أبي سعيد الحميري، قال: كان معاذ بن جبل يتحدث بما لم يسمع أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ويسكت عما سمعوا، فبلغ عبد الله بن عمرو، ما يتحدث به، فقال: والله ما سمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول هذا، وأوشك معاذ أن يفتنكم في الخلاء، فبلغ ذلك معاذا، فلقيه، فقال معاذ: يا عبد الله بن عمرو إن التكذيب بحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نفاق، وإنما إثمه على من قاله، لقد سمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((اتقوا الملاعن الثلاث: البراز في الموارد، والظل، وقارعة الطريق))([14]).
4- إنكاره على مَن يطعن في كعب بن مالك:
كما جاء عن ابن شهاب في البخاري ومسلم في حديث طويل: أن رسول اللله -صلى الله عليه وسلم- قال وهو جالس في القوم بتبوك: ((ما فعل كعب بن مالك؟)) قال رجل من بني سلمة يا رسول الله حبسه برداه، والنظر في عطفيه، فقال له معاذ بن جبل: بئس ما قلتَ، والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيراً، فسكت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-… ([15]).
أقواله الاحتسابية
كان لمعاذ بن جبل -رضي الله عنه- أقوالٌ تتعلق بالحسبة، منها:
1- عن أبي إدريس الخولاني قال: أخبرني يزيد بن عميرة، أنه سمع معاذ بن جبل -رضي الله عنه- يقول في كل مجلس يجلسه: “هلك المرتابون، إن من ورائكم فتنا يكثر فيها المال، ويفتح فيها القرآن، حتى يأخذه الرجل والمرأة والحر والعبد، والصغير والكبير، فيوشك الرجل أن يقرأ القرآن في ذلك الزمان فيقول: ما بال الناس لا يتبعوني، وقد قرأت القرآن، فيقول: ما هم بمتبعي حتى أبتدع لهم غيره، فإياكم وما ابتدع، فإنما ابتدع ضلالة”([16]).
2- وعن أبي بحرية، قال: دخلتُ مسجد حمص، فسمعتُ معاذ بن جبل يقول: “من سره أن يأتي، الله -عز وجل- آمناً، فليأتِ هذه الصلوات الخمس، حيث ينادى بهن، فإنهن من سنن الهدى، ومما سنه لكم نبيكم -صلى الله عليه وسلم-، ولا يقل: إن لي مصلى في بيتي فأصلي فيه، فإنكم إن فعلتم ذلك تركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم -صلى الله عليه وسلم- لضللتم”([17]).
مروياته الاحتسابية
مما رواه معاذ بن جبل -رضي الله عنه-، وله تعلق بالحسبة، ما يلي:
1- عن جبير بن نفير، عن معاذ بن جبل -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- رأى رجلاً عليه جبة مزررة، أو مكففة بحرير، فقال له: ((طوق من نار يوم القيامة))([18]).
2- وعن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن معاذ بن جبل قال: استب رجلان عند النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى عرف الغضب في وجه أحدهما، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب غضبه: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم))([19]).
3- وعن الأسود بن ثعلبة، عن معاذ بن جبل -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إنكم على بينة من ربكم ما لم تظهر فيكم سكرتان، سكرة الجهل، وسكرة حب العيش، وأنتم تأمرون بالمعروف، وتنهون عن المنكر، وتجاهدون في سبيل الله فإذا ظهر فيكم حب الدنيا فلا تأمرون بالمعروف، ولا تنهون عن المنكر، ولا تجاهدون في سبيل الله، القائلون يومئذ بالكتاب، والسنة كالسابقين الأولين من المهاجرين، والأنصار))([20]).
4- وعن محارب بن دثار، قال: سمعتُ جابر بن عبد الله الأنصاري، قال: أقبل رجل بناضحين وقد جنح الليل، فوافق معاذاً يصلي، فترك ناضحه، وأقبل إلى معاذ، فقرأ بسورة البقرة -أو النساء- فانطلق الرجل وبلغه أن معاذاً نال منه، فأتى النبي -صلى الله عليه وسلم-، فشكا إليه معاذاً، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((يا معاذ، أفتان أنت)) أو ((أفاتن)) ثلاث مرار: ((فلولا صليت بسبح اسم ربك، والشمس وضحاها، والليل إذا يغشى، فإنه يصلي وراءك الكبير والضعيف وذو الحاجة))([21]).
وفي زيادة: فقال الأعمش: حدثني أبو صالح قال: لما كان يوم أحد لقي ذلك الفتى معاذاً فقال: زعمت أني منافق، تقدم، فقال معاذ: صدق الله وكذبت، فقاتل حتى قتل([22]).
5- وعن عبد الله بن أبي أوفى، أن معاذ بن جبل -رضي الله عنه- قدم الشام، فوجدهم يسجدون لبطارقتهم وأساقفتهم، فروى في نفسه أن يفعل ذلك للنبي -صلى الله عليه وسلم-، فلما قدم سجد للنبي -صلى الله عليه وسلم-، فأنكر ذلك، قال: يا رسول الله إني دخلت الشام، فوجدتهم يسجدون لبطارقتهم وأساقفتهم، فرويت في نفسي أن أفعل ذلك لك, فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها، فو الذي نفسي بيده لا تؤدي المرأة حق ربها -عز وجل-، حتى تؤدي حق زوجها كله حتى أن لو سألها نفسها، وهي على قتب أعطته)) أو قال: ((لم تمنعه))([23]).
7- وعن أبي عبد الرحمن الحبلي، قال: إن معاذ بن جبل كان على أرزاق أهل الشام، فجاء رجل فقال: أعطني، فإني رجل من أهل البادية، فقال معاذ: بك أبدأ أم بأهل الفسطاط؟ عليهم السكينة، ويأتيهم الخير، وبهم يبدأ يوم القيامة([24]).
8- وعن نافع بن يزيد، حدثني حيوة بن شريح، أن أبا سعيد الحميري، حدثه عن معاذ بن جبل، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((اتقوا الملاعن الثلاثة: البراز في الموارد، وقارعة الطريق، والظل))([25]).
وفاة معاذ:
كانت وفاته بالطاعون في الشام سنة سبع عشرة، أو التي بعدها، وهو قول الأكثر، وعاش أربعاً وثلاثين سنة، وقيل غير ذلك([26]).
وعن أبي منيب الأحدب قال: خطب معاذٌ بالشَّام، فذكر الطاعون فقال: “إنَّها رحمة ربِّكم ودعوةُ نبيِّكم، وقبض الصَّالحين قبلكم، اللهمَّ أدخِل على آل معاذٍ نصيبهم من هذه الرَّحمة” ثُم نزل من مقامه ذلك، فدخل على عبد الرحمن بن معاذٍ، فقال: عبد الرحمن: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [البقرة (147)] فقال معاذ: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات (102)]([27]).
([1]) انظر ترجمته في: الإصابة في تمييز الصحابة (6/ 107) وسير أعلام النبلاء (1/ 443) وحلية الأولياء وطبقات الأصفياء (1/ 228) والأعلام للزركلي (7/ 257-258) وغيرها.
([8]) أخرجه البخاري في كتاب مناقب الأنصار، باب مناقب معاذ بن جبل -رضي الله عنه- (5/ 36-3806) ومسلم في كتاب فضائل الصحابة -رضي الله تعالى عنهم-، باب من فضائل عبد الله بن مسعود وأمه -رضي الله تعالى عنهما- (4/ 1914-2464).
([10]) أخرجه البخاري في كتاب المغازي، باب بعث أبي موسى، ومعاذ إلى اليمن قبل حجة الوداع (5/ 162-4344).
([11]) أخرجه البخاري في كتاب الأحكام، باب الحاكم يحكم بالقتل على من وجب عليه، دون الإمام الذي فوقه (9/ 65-7157).
([14]) أخرجه ابن ماجه في باب النهي عن الخلاء على قارعة الطريق (1/ 119-328) وأبو داود في كتاب الطهارة، باب المواضع التي نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن البول فيها (1/ 7-26) وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود (ص: 2-26).