احتساب مكحول الشَّامي رحمه الله
(000 – 112 هـ = 000 – 730 م)
اسمه ونشأته:
هو مكحول بن أبي مُسْلِم شهراب بن شاذل، أبو عبد الله، الهذلي بالولاء، فقيه الشام في عصره، من حفاظ الحديث، أصله من فارس، ومولده بكابل، ترعرع بها، وسُبِي، وصار مولى لامرأة بمصر، من هذيل، فنُسب إليها، وأُعتق وتفقَّه، ورحل في طلب الحديث إلى العراق، فالمدينة، وطاف كثيرًا من البلدان، واستقر في دمشق، وتوفي بها([1]).
مناقبه وفضله:
عن الزهري قال: العلماء أربعة: سعيد بن المسيب بالمدينة، وعامر الشعبي بالكوفة، والحسن بن أبي الحسن بالبصرة، ومكحول بالشام([2]).
وعن برد، عن مكحول أنه كان يصوم يوم الاثنين والخميس، وكان يقول: ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين، وبعث يوم الاثنين، وتوفي يوم الاثنين، وترفع أعمال بني آدم يوم الاثنين والخميس([3]).
وقال الزهري: لم يكن في زمنه أبصر منه بالفتيا([4]).
وعن أبي وهب الكلاعي -عبد الله بن عبيد-، عن مكحول قال: أُعتقتُ بمصر فلم أدع بها علمًا إلا حويته فيما أرى، ثم أتيت العراق فلم أدع بها علمًا إلا حويت عليه فيما أرى، ثم أتيت المدينة فكذلك، ثم أتيت الشام فغربلتها، كل ذلك أسأل عن النقل، وذكر الحديث في النقل([5]).
وقال أبو حاتم الرازي: ما أعلم بالشام أفقه من مكحول([6]).
وعن سعيد بن عبد العزيز قال: سمعت مكحولًا يقول: “رأيت رجلًا يصلي، وكلما ركع وسجد بكى، فاتهمته أنه يرائي ببكائه، فحرمت البكاء سنة”([7]).
وقال سعيد بن عبد العزيز: لم يكن عندنا أحد أحسن سمتًا في العبادة من مكحول، وربيعة بن يزيد([8]).
سيرته الاحتسابية
كان لمكحول رحمه الله سيرة احتسابية عظيمة، وله مواقف كثيرة، نذكر طرفًا منها:
1- إنكاره على الزهري:
عن النعمان بن المنذر، عن مكحول قال: اجتمعت أنا والزهري، فتذاكرنا التيمم، فقال الزهري: المسح إلى الآباط، فقلت: عن من أخذت هذا؟
قال: عن كتاب الله، إن الله تعالى يقول: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ} [المائدة: 6] فهي يد كلها.
قلت: فإن الله تعالى يقول: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] فمن أين تقطع اليد؟
قال: فخصمته([9]).
2- إنكاره على وهب بن منبه:
عن يزيد الخراساني، قال: “بينا أنا ومكحول، إذ قال: يا وهب بن منبه أي شيء بلغني عنك في القدر؟
قال: عني؟ قال: نعم، فقال: والذي كرَّم محمدًا صلى الله عليه وسلم بالنبوة، لقد اقترأت من الله عز وجل اثنين وسبعين كتابًا، منه ما يسر، ومنه ما يعلن، ما منه كتاب إلا وجدت فيه: من أضاف إلى نفسه شيئًا من قدر الله، فهو كافر بالله، فقال مكحول: الله أكبر([10]).
3- إنكاره على غيلان القدري:
عن ثابت بن ثوبان، قال: سمعتُ مكحولًا يقول: ويحك يا غيلان، ركبت بهذه الأمة مضمار الحرورية، غير أنك لا تخرج عليهم بالسيف([11]).
وعن ابن جابر، قال: سمعت مكحولًا يقول: ويحك يا غيلان ما تموت إلا مفتونًا ([12]).
وعن ثابت بن ثوبان، قال: سمعت مكحولًا، يقول: ويحك يا غيلان، ركبت بهذه الأمة مضمار الحرورية، غير أنك لا تخرج عليهم بالسيف، والله لأنا على هذه الأمة منك أخوف من المزققين أصحاب الخمر([13]).
وعن سعيد بن عبد العزيز، قال: قال مكحول: حسيب غيلان الله، لقد ترك هذه الأمة في لجج مثل لجج البحار([14]).
وعن محمد بن عبد الله الشعيثي، قال: سمعت مكحولًا، يقول: “بئس الخليفة كان غيلان لمحمد صلى الله عليه وسلم على أمته من بعده([15]).
وعن إبراهيم بن عبد الله الكناني، قال: حلف مكحول لا يجمعه وغيلان سقف بيت إلا سقف المسجد، وإن كان ليراه في أسطوان من أسطوانات السوق، فيخرج منه”([16]).
قلت وهذا يبطل قول من قال: إن مكحولًا كان قدريًّا.
وقد روي عن إبراهيم بن مروان، قال: قال أبي: قلت لسعيد بن عبد العزيز: يا أبا محمد إن الناس يتهمون مكحولًا بالقدر، فقال: “كذبوا، لم يك مكحول بقدري”([17]).
وقال الأوزاعي: لم يبلغنا أن أحدًا من التابعين تكلَّم في القدر إلا هذين الرجلين: الحسن ومكحولًا، فكشفنا عن ذلك، فإذا هو باطل([18]).
وقال الأوزاعي: ” لا نعلم أحدًا من أهل العلم نُسب إلى هذا الرأي إلا الحسن ومكحولًا، ولم يثبت ذاك عنهما، قال أبو مسهر: كان سعيد بن عبد العزيز يُبرئ مكحولًا، ويدفعه عن القدر([19]).
وعن إبراهيم بن أبي عبلة قال: وقف رجاء بن حيوة على مكحول، وأنا معه فقال: يا مكحول بلغني أنك تكلمت في شيء من القدر، ووالله لو أعلم ذلك لكنت صاحبك من بين الناس، فقال مكحول: لا والله أصلحك الله، ما ذاك من شأني، ولا من قولي، أو نحو ذلك([20]).
4- إنكاره على إمام:
عن برد، عن مكحول، أنه انطلق حاجًّا، فقدم تبوك في يوم الجمعة، فصلى إمامهم ركعتين، ولم يخطب، فقال مكحول: “قاتل الله هذا، الذي نقص صلاة القوم، ولم يخطب، وإنما قصرت صلاة الجمعة من أجل الخطبة”([21]).
5- إنكاره على رجل زار غيلان القدري:
وعن مسافر، قال: جاء رجل إلى مكحول من إخوانه، فقال: يا أبا عبد الله، ألا أعجبك أني عدت اليوم رجلًا من إخوانك، فقال: من هو؟
قال: لا عليك، قال: أسألك، قال: هو غيلان، فقال: إن دعاك غيلان فلا تجبه، وإن مرض فلا تعده، وإن مات فلا تمش في جنازته، ثم حدثهم مكحول، عن عبد الله بن عمر، وذكروا عندهم القدرية، فقال: أو قد أظهروه وتكلموا به؟ قال: نعم، فقال ابن عمر: “أولئك نصارى هذه الأمة ومجوسها”([22]).
6- إنكاره على يزيد بن عبد الملك:
عن ابن جابر، قال: أقبل يزيد بن عبد الملك بن مروان إلى مكحول وأصحابه، فلما رأيناه هممنا بالتوسعة له، فقال مكحول: “مكانكم، دعوه يجلس حيث أدرك، يتعلم التواضع”([23]).
7-إنكاره على محو القرآن بالرجل:
عن أبي شيبة، عن مكحول، عن ابن عباس، أنه رأى رجلًا يمحو لوحًا برجله، فنهاه، وقال ابن عباس: “لا تمح القرآن برجلك”([24]).
أقواله الاحتسابية
كان لمكحول رحمه الله كثير من الأقوال الاحتسابية، منها:
1- عن معقل بن عبيد الله الجزري، عن مكحول قال: أتاه رجل فقال: يا أبا عبد الله، قوله عز وجل: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105] قال: “يا ابن أخي، لم يأت تأويل هذه بعد، إذا هاب الواعظ، وأنكر الموعوظ، فعليك حينئذٍ نفسك لا يضرك من ضل إذا اهتديت، يا أخي الآن نعظ ويسمع منا”([25]).
2- وعن مغيرة بن زياد، عن مكحول قال: “من لم ينفعه علمه ضره جهله، اقرأ القرآن ما نهاك، فإذا لم ينهك فلست تقرؤه”([26]).
3- وعن الأوزاعي، عن مكحول قال: “لأن تضرب عنقي أحب إلي من أن ألي القضاء، ولأن ألي القضاء أحب إلي من بيت المال”([27]).
4- وعن الأوزاعي يحدِّث عن مكحول قال: من قال: “أستغفر الله الذي لا إله إلا هو، الحي القيوم، وأتوب إليه، غفرت له ذنوبه، ولو كان فارًّا من الزحف”([28]).
5- وعن النعمان بن المنذر، عن مكحول في قوله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب: 5]، قال: “وضع عنهم الإثم في الخطأ، ووضع المغفرة على العمد”([29]).
6- وعن صدقة، عن مكحول قال: “إذا كان في أمة خمسة عشر رجلًا يستغفرون الله كل يوم خمسًا وعشرين مرة لم يؤاخذ الله تلك الأمة بعذاب العامة”([30]).
7- وعن سعيد بن عبد العزيز قال: كنتُ جالسًا عند مكحول، فاستطال عليه رجل، فقال مكحول: “ذل من لا سفيه له”([31]).
8- وعن النعمان بن المنذر، عن مكحول قال: “لا تعاهدوا السفيه ولا المنافق، فما نقضوا من عهد الله أكبر من عهدكم”([32]).
مروياته الاحتسابية
من مرويات مكحول الاحتسابية:
1- عن محمد بن يزيد الدمشقي عن مكحول عن بلال أنه رأى رجلًا يتوضأ، فنزع خفيه، فقال له بلال: لا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين، فقال الرجل: أفي الوضوء اعتداء يا بلال؟ فقال: نعم، لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على الخفين، وعلى النصيف.
2- وعن حفص بن غيلان، عن مكحول، عن أنس بن مالك قال: قيل: يا رسول الله، متى يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ قال: “إذا ظهر فيكم ما ظهر في بني إسرائيل قبلكم” قالوا: وما ذاك يا رسول الله؟ قال: “إذا ظهر الادهان في خياركم، والفاحشة في شراركم، وتحول الفقه في صغاركم ورذالكم”([33]).
3- وعن حمزة النصيبي، عن مكحول، عن حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “للساعة أشراط” قيل: وما أشراطها؟ قال: “غلو أهل الفسق في المساجد، وظهور أهل المنكر على أهل المعروف” قال أعرابي: فما تأمرني يا رسول الله؟ قال: “دع، وكن حلسًا من أحلاس بيتك”([34]).
4- وعن أبي معيد حفص بن غيلان الرعيني، عن مكحول، عن أنس بن مالك، قال: قيل: يا رسول الله متى نترك الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر؟ قال: “إذا ظهر فيكم ما ظهر في الأمم قبلكم” قلنا: يا رسول الله وما ظهر في الأمم قبلنا؟ قال: “الملك في صغاركم، والفاحشة في كباركم، والعلم في رذالتكم”([35]).
5- وعن أبي معيد، قال: حدثنا مكحول، عن أنس بن مالك قال: قيل: يا رسول الله، متى ندع الائتمار بالمعروف، والنهي عن المنكر؟ قال: “إذا ظهر فيكم ما ظهر في بني إسرائيل، إذا كانت الفاحشة في كباركم، والملك في صغاركم، والعلم في رذالكم”([36]).
6- وعن أبي الحسن، عن مكحول، عن قبيصة بن ذويب، عن أبي عبيدة بن الجراح، قال: قلت يا رسول الله: أي الشهداء أكرم على الله؟، قال: “رجل قام إلى أمير جائر، فأمره بمعروف ونهاه عن منكر فقتله” قيل: فأي الناس أشد عذابًا؟، قال: “رجل قتل نبيًا، أو قتل رجلًا أمره بمعروف أو نهاه عن منكر” ثم قرأ: {وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [آل عمران: 21] ثم قال: “يا أبا عبيدة قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبيًّا في ساعة واحدة، فقام مائة رجل واثنا عشر رجلًا من عباد بني إسرائيل، فأمروا بالمعروف، ونهوا عن المنكر فقُتلوا جميعًا”([37]).
(([1] انظر ترجمته في: تاريخ الإسلام (7/ 478)، والبداية والنهاية (9/ 334)، وحلية الأولياء وطبقات الأصفياء (5/ 177)، والأعلام للزركلي (7/ 284)، وغيرها.