منصور رحماني
ثانيًا: الأسلوب العلاجي:
يأتي هذا الأسلوب بعد وقوع الجريمة، وهذا الأسلوب واضح المعالم في الشريعة الإسلامية، فلا غموض فيه ولا اختلاف بشأنه، والهدف منه منع تكرار الجريمة التي وقعت, وإصلاح ما خلفته من أضرار، ويتضمن هذا الأسلوب العقاب وبدائله: كالدية, والصلح, والعفو, بالإضافة إلى الكفارة.
1- العقـاب:
لا خلاف بين المسلمين جميعًا حول العقاب، لا في مشروعيته ولا في أنواعه، وهذا بخلاف الأمر اليوم في القوانين الحديثة، التي اختلفت في العقاب اختلافًا كبيرًا بين داع إلى إلغائه؛ حتى دعا بعضهم إلى تغيير تسمية قانون العقوبات، ومدافع عن بقائه، وهؤلاء المدافعين اختلفوا في أنواع العقوبات, وخاصة عقوبة الإعدام، كما اختلفوا حتى في العقوبات السالبة للحرية والبدائل المطروحة، أما العقاب في الإسلام فهو من المبادئ التي لا يمكن حتى مجرد التفكير في إلغائها، ويمتاز العقاب في الإسلام عنه في القوانين الوضعية الحديثة بعدة مميزات، كل منها له دوره الفعال في مكافحة الجريمة، وهده المميزات هي:
أ- أنه جمع بين العدل والرحمة:
الجمع بين العدل والرحمة ليس من السهولة بمكان، ففي الوقت الذي غلبت القوانين الحديثة منطق الرحمة اعتمادًا على العبارة المشهورة: العدل فوق القانون, والرحمة فوق العدل”.
وأصبح اهتمامها منصبًا على الجاني وحده, فتتحدث عن سلوكه الإجرامي، وطبيعة فعله، فاعل أصلي أم شريك، وظروفه وأعذاره, دون أدنى اهتمام بالمجني عليه، في توجه واضح ضد العدل، واعتماد مفضوح على الإحساس دون العقل، حتى قال جيرمي بنتام: “وإنا لنعجب كل العجب من حال قوم سخفاء العقول, يريدون أن يجعلوا من إحساسهم قانونًا للناس، ويدعون أنهم من الخطأ معصومون؛ لأن أصلهم الذي ركنوا إليه, وسموه: وجدانًا ليس عقليًا, بل العقل يأباه كل الإباء”(1). [جرمي بنتام – أصول الشرائع – ترجمة فتحي زغلول (1/ 21)].
وبالتالي فإن العقاب المطبق لا يعود على المجني عليه أو وليه بأي فائدة ولا بأي إحساس، وهذا ناشئ عن إذابة حق الفرد في حق الدولة والمجتمع، أما الإسلام فإنه أبقى على حق الفرد وكيانه مستقلًا عن الدولة، وأخذ بالعدل ولكنه لم يهمل الرحمة، والعدل يقتضي أن من أجرم يعاقب، وفي هذا رحمة عامة بالمجتمع كله، كما أنه أبقى هامشًا للرحمة الخاصة, ولكنها في إطار العدل، وذلك حين خير المجني عليه أو وليه بعقاب المجرم أو التصالح معه أو العفو عنه ورغب في العفو، قال تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة:178].
والرحمة التي أقرها الإسلام موزعة بين الجاني والمجني عليه، فأين هذا من العفو الذي يصدره حكام اليوم على القتلة والمجرمين، وحتى لو حكم على القاتل بالإعدام, فإن هذه العقوبة لا تكاد تطبق، ويذكر أستاذنا الدكتور أبو المعاطي أن المحاكم في مصر أصدرت سنة (1971م) عقوبة واحدة بالإعدام, وكان عدد جنايات القتل في ذلك العام (1611) بين قتل وضرب أدى إلى الموت، وفي عام (1970م) لم تصدر المحاكم عقوبات بالإعدام إطلاقًا، وكان عدد جرائم القتل (1562) جريمة.
وفي الجزائر أوقف تنفيذ حكم الإعدام منذ عام (1994م)، وهناك اليوم دول كثيرة ألغت حكم الإعدام, فلا تحكم به إطلاقًا, مثل: دول الاتحاد الأوربي، وهذا يجعل المجني عليه أو وليه يشعر بالظلم من جهة، ويزيد المجرم عتوًا وإجرامًا من جهة أخرى، والإفراط في الرحمة بالجاني جعل الجرائم تكثر وتنتشر بشكل رهيب، فرغم الدراسات والمؤتمرات التي تعقد الآن من أجل مكافحة الجريمة لم تستطع أن تسهم إلا في زيادتها؛ نظرًا للاقتراحات التي تقدمها بشأن مراعاة الإنسانية عند التعامل مع المجرمين الخطرين.
ب- المساواة بين الناس في العقاب:
لا تفرق العقوبات في الشريعة الإسلامية بين حاكم ومحكوم، ولا بين شريف ووضيع؛ إذ إن كل الناس أمام العقاب سواء، لا فرق بين رئيس الدولة وأضعف إنسان فيها، فعن أبي فراس قال: «خطبنا عمر ابن الخطاب -رضي الله عنه- فقال: إني لم أبعث عمالي ليضربوا أبشاركم ولا ليأخذوا أموالكم، فمن فعل به غير ذلك فليرفعه إلي أقصه منه، فقال عمرو بن العاص –رضي الله عنه-: لو أن رجلًا أدب بعض رعيته أتقصه منه؟ فقال: إي والذي نفسي بيده أقصه, وقد رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أقص من نفسه»(2).
والأمثلة على هذا في تاريخ الإسلام كثيرة، نذكر منها على سبيل المثال حديث المرأة المخزومية الشهير(3).
وحكم عمر –رضي الله عنه- على جبلة بن الأيهم الذي لطم رجلًا من فزارة, وأمر عمر بالقصاص منه(4).
وفعل عمر –رضي الله عنه- مع عمرو بن العاص –رضي الله عنه- والي مصر وابنه الذي ضرب ابن القبطي(5).
وبمثل هذه الأحكام وميزاتها يكون القضاء على ظلم الحكام والمسؤولين.
ولا نجد مثل هذه المساواة في القوانين العقابية الحديثة, بل إن تمييز بعض المسؤولين أصبح أمرًا مقننًا تحت ما يسمى بالحصانة، سواء كانت ديبلوماسية أو برلمانية، ومن شأن هذه الحصانة أن تدفع إلى الإجرام؛ لأن المتمتع بها لا يخشى ما يخشاه سائر الناس من خوف من العقاب، وهذا ما لاحظناه بالنسبة لبعض المتمتعين بالحصانة، فهذا يخرج مسدسه لأتفه سبب ويهدد بالقتل، وذاك أطلق النار على من كان له معه خلاف، وذلك أنقذته من المحاكمة بفرنسا حصانة ديبلوماسية, وكل ما ارتكبه هؤلاء ما كان ليحدث لو كانت هناك مساواة بين كل الناس.
ج- يمتاز العقاب في الإسلام:
يمتاز العقاب في الإسلام بكونه يحقق الردع، ويجبر خاطر المجني عليه أو وليه، وهذان العنصران ضروريان جدًا في العقاب، فأما الردع ويقصد به أن العقوبة عندما توقع على مجرم معين تصرفه عن العودة إلى هذه الجريمة، وهذا هو الردع الخاص، كما تصرف غيره عن فعل مثلها، وهذا هو الردع العام، وكل عقوبة لا تحقق الردع بنوعيه فهي لغو ضررها أكبر من نفعها، والعرب في الجاهلية كانوا يراعون هذا الهدف، فعندما كانوا يقتلون القاتل يقولون: “القتل أنفى للقتل”, فقتله يمنع الثأر وما ينجر عنه، ويمنع باقي الناس من القتل، والذي يتأمل في العقوبات الشرعية يلاحظ بوضوح هذه الخاصية، فالذي يسرق مثلًا وتقطع يده، فإن مظهر يده المقطوعة أكبر رادع؛ بحيث تذكره هو وتذكر غيره بعقاب السرقة, فيتحاشونها، ونفس الشيء يقال عن عقوبة الزنا، ويفهم الردع جيدًا في قوله تعالى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النــور:2].
وأما القانون الوضعي فلا يتوافر على هذه الخاصية, ودليل ذلك كثرة العود في ارتكاب الجريمة الواحدة؛ نظرًا لتفاهة العقوبة، وأما الجبر فيقصد به عمل شيء ما، يرضي الأولياء، ويواسيهم جراء ما وقع عليهم، وله أهمية أوسع وأبلغ من أهمية الردع، ذلك أن الردع قد يمنع المجرم من العود، كما يمنع بعض الناس من الجريمة، أما الجبر فإنه إذا لم يراع فإنه يؤدي بالتأكيد إلى وقوع جرائم أخرى من قبل أولياء المجني عليه أو خصومهم، فهناك غريزة فطرية في الإنسان وهي غريزة الانتقام, فلا بد من إخراجها وإفراغها من نفوس الأولياء بشكل منظم, وتحت إشراف الدولة، فإن لم نفعل وقع أحد أمرين:
فإما أن تخرج بشكل غير منظم بعيًدا عن القانون، وقد يكون إخراجها فظيعًا بعيدًا عن العدل، ويمكن أن تنجر عنها جرائم جديدة.
وإما ألا تخرج وتبقى حبيسة في الباطن تحرق القلب وتعذبه باستمرار، وقد تؤدي إلى اضطرابات نفسية.
والمتأمل في العقوبات التي جاء بها الإسلام يلاحظ لأول وهلة فعاليتها في مكافحة الجريمة؛ بسبب تحقيقها للردع والزجر والجبر، فالقصاص الذي يطبق في الجرائم العمدية سواء كانت قتلًا أو جرحًا أو ضربًا يمنع الجاني بلا شك من العود كما يمنع غيره من أن يسلك سبيله، فالذي يسعى لقتل غيره يعلم أنه يسعى أيضًا إلى قتل نفسه، ولا نجد شخصًا سويًا يسعى لقتل نفسه أو قطع بعض أطرافه، وهذه العقوبة التي يفعل فيها بالجاني المتعمد مثل ما فعل ما لم يكن تعذيبًا من أعدل العقوبات، وأكثرها تحقيقًا للردع والزجر والجبر أيضًا، وفي هذا يقول الأستاذ عبد القادر عودة: “وليس في العالم كله قديمه وحديثه عقوبة تفضل عقوبة القصاص, فهي أعدل العقوبات؛ إذ لا يجازى المجرم إلا بمثل فعله، وهي أفضل العقوبات للأمن والنظام؛ لأن المجرم حينما يعلم أنه سيجزى بمثل فعله لا يرتكب الجريمة غالبًا, والذي يدفع المجرم بصفة عامة إلى القتل والجرح هو تنازع البقاء، وحب التغلب والاستعلاء، فإذا علم المجرم أنه لن يبقى بعد فريسته أبقى على نفسه بإبقائه على فريسته”(6).
وإلى جانب عقوبة القصاص التي تطبق في الجرائم العمدية التي يمكن فيها المماثلة ولم يكن فيها عفو من جانب الأولياء نجد العقاب بالجلد على الجرائم الحدية كما هو الحال في القذف والزنا لغير المحصن والسكر، وهذه العقوبة تنطوي على فوائد متعددة, فهي تحقق الردع والزجر؛ كونها تطبق أمام الناس، كما أنها لا تفوت على الجاني المعاقب القيام بمصالحه ومصالح أسرته بخلاف عقوبة السجن المطبقة اليوم, التي توفِّر للجاني فرصة أفضل للتكوين الإجرامي بمخالطته لمجرمين آخرين داخل السجن، إضافة إلى الإهمال الذي يصيب الأسرة ويؤدي بأولاده في غيابه إلى سلوك سبيله، ومن أجل هذه السلبية التي تتصف بها عقوبة السجن تعالت الأصوات في المؤتمرات الدولية تنادي بإلغاء العقوبات السالبة للحرية، وضرورة إيجاد بدائل لها، ومن ذلك المؤتمر السادس لعلم الإجرام الذي انعقد عام (1980م) في كرا كاس بفنزويلا, الذي نوقشت فيه عيوب العقوبات السالبة للحرية، وأجمعت الآراء على جعل هذه العقوبة استثناء, وعدم التوسع فيها(7).
وكما يتحقق الزجر بالعقوبات البدنية التي ذكرنا بعضها؛ لأننا لم نتحدث عن القطع والرجم والتعزير، يتحقق أيضًا مع الجبر حين العقاب بالدية في الجرائم التي تعذر فيها تطبيق القصاص, سواء في الجرائم الواقعة على النفس أو على الأطراف، وحتى حق العفو الذي منحه الإسلام للمعني بالضرر شخصيًا, ولم يمنحه للحكام كما هو حال القوانين اليوم يحقق الردع والجبر، فالمجني عليه عندما يشعر أن أمر الجاني متعلق بمشيئته في العقاب أو العفو تستكن نفسه وتطيب، فإذا عفا وهو أعلم بمن يستحق العفو، فإن عفوه يشكل في الحقيقة عقوبة نفسية للجاني الذي عفا عنه, على نحو قول المتنبي:
وما قتل الأحرار كالعفو عنهم *** ومن لك بالحر الذي يحفظ اليد
وهذا العفو مقصور على الجرائم التي تمس حق الفرد, أو أن حقه فيها هو الغالب, أما التي تمس حق المجتمع فلا عفو فيها، ومن الملاحظ اليوم أن عفو الحاكم عن المجرمين في المناسبات والأعياد أصبح من أسباب انتشار الجريمة، يدل على ذلك موجة الإجرام التي نلاحظها بعد كل إفراج عن المحكوم عليهم.
2- الكفــارة:
الكفارة عقوبة أيضًا، ولكنها تختلف عما سبق من عقوبات, وهي تتعلق بجرائم القتل لا غير، وتختص بالصيام أو العتق، ووجه اختلافها عما تقدم ذكره من عقوبات أن تنفيذها ذاتي موكول إلى الجاني نفسه, فلا القاضي ولا الحاكم يمكنه أن يلزمه بها؛ ولذلك فهي مرتبطة بإيمان الجاني ليستدرك ما فاته بارتكابه للجريمة، وهذه الكفارة من شأنها أن تمحو الإثم الذي اقترفه، ومشروعيتها فيها ربط واضح للفرد بالإيمان بالله واليوم الآخر, وتذكير بذلك بعد النسيان أو الإهمال الذي أصابه أثناء ارتكاب الجريمة.
ثانيًا: قلة تكاليف وسلبيات التشريع القرآني:
قلة هذه التكاليف تدرك جيدًا عندما نقارنها بما يقابلها اليوم في التشريعات الحديثة سواء على المستوى العالمي أو الدولي أو حتى المحلي، فعلى المستوى العالمي أنشئت اليوم مؤسسات دولية هدفها مكافحة الجريمة على غرار الشرطة الدولية، ومحاكم الإجرام الدولية، ناهيك عن المؤتمرات التي تعقد هنا وهناك للغرض ذاته، ولا يمكن تصور ما تحتاج إليه هذه الإجراءات من نفقات، ومقابل ذلك لا يشعر العالم بأدنى تحسن في مجال مكافحة الجريمة، بل لعل بعض الاقتراحات التي ما فتئ يقدمها بعض المختصين في الإجرام قد ساهمت إلى حد ما في استفحال الظاهرة الإجرامية، ثم إن الكثير من المبادئ لم يحصل بشأنها اتفاق، مثل: تعريف الجريمة، والإرهاب.. وغيرها.
وأما على المستوى الدولي ولنأخذ الجزائر على سبيل المثال لنلاحظ تكاليف مكافحة الجريمة، فماذا نجد؟ إننا نجد وزارتين على الأقل في خدمة مكافحة الجريمة, هما وزارتا السجون والعدل، بالإضافة إلى الهياكل الإدارية التابعة لكل واحدة منهما في مختلف الولايات: كالمحاكم, والسجون, وما فيهما من موظفين ومساجين، ففي سجن يتسع ل(650) سجينًا نجد (250) من الموظفين, أي: ما يعادل موظف واحد لكل سجينين أو ثلاثة، وإذا قرأنا الرقم بشكل آخر فنقول بأن هذا السجن يضم في الحقيقة (900) فرد، وإذا حسبنا نفقات صيانة السجن وحاجيات المقيمين فيه من مساجين وحراس، بالإضافة إلى نفقات المحاكم والوزارات وحتى الشعب المختصة بالتشريع نجد أرقامًا خيالية، وبتعبير آخر فإن تكاليف مكافحة الجريمة من وقت التشريع إلى وقت التنفيذ مرورًا بمرحلة القضاء لا تتناسب بتاتًا مع نتائج المكافحة, ففي ولاية عنابة على سبيل المثال سجلت مصالح الأمن ارتكاب أكثر من (2500) جريمة خلال ثلاثة أشهر(8).
وهي الأشهر الثلاثة الأولى من عام (2003م)، وهذا الرقم يعني: أن هناك أكثر من (27) جريمة ترتكب في اليوم، وهذا في فصل الشتاء الذي عادة ما تقل فيه الجرائم.
وأما السلبيات التي تخلفها عملية المكافحة فهي ترتبط بصفة أساسية بعقوبة السجن التي لا يكاد يعرفها الإسلام, وهي التي تطبق اليوم على نطاق واسع على الرغم من أن بعض العلماء في مؤتمر كاراكاس عام (1980م) قد نادوا بعدم التوسع فيها، واقترح بعضهم عقوبات بديلة مثل: الجلد، وسلبيات هذه العقوبة اليوم نلخصها في النقاط التالية:
1- أن السجن في حد ذاته لا يشكل عقوبة رادعة؛ لأن من شأن العقوبة الرادعة الألم، وأن تنفذ أمام الناس لكن هل يسبب السجن اليوم ألمًا؟ لقد قال يوسف -عليه السلام-: {السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} [يوسف:33].
وقالت امرأة العزيز لزوجها: {مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءًا إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [يوسف:25].
مما يدل على أن السجن شيء والألم شيء آخر، في سجون كانت تفتقر بكثير إلى ما هو متوافر فيها اليوم، بل يمكن الجزم أن بعض السجون تتوافر على مرافق لا تتوافر في البيت أو البيئة التي يحيا فيها المجرم، مما يجعل السجن يغوي بالإجرام لا مانعًا منه، فقد جاء في التقرير الذي تقدمت به هيئة سجن مصر إلى مؤتمر جنيف عام (1955م) ما نصه: “حتى جاءت الثورة المصرية عام (1952م)، وانقلبت الجمهورية المصرية بأسرها إلى مجموعة من النهضات المتباينة في مختلف الشؤون، نالت السجون المصرية حظًا وفيرًا منها؛ إذ تحسن الغذاء والكساء، وأنشئت الكانتينات، وأبيح التدخين، وأدخلت إذاعات الراديو، وعرض الأفلام السينمائية، والألعاب الرياضية، والتمثيل، وسهلت الزيارات، والمراسلات، وأنشئت المكتبات، وألغيت المراقبة الإدارية، وكذلك السابقة الأولى، ونتيجة هذه الإصلاحات أوجزها كمال دسوقي حين نقل عن صحف الصحاح الصادرة بتاريخ (18/ 09/ 1957م) قصة السجين الذي تعمد لدى خروجه خنق أول طفل يصادفه وتسليم نفسه ليعود إلى السجن(9).
وأما في الجزائر فكثيرًا ما يلقى القبض مساء على من أطلق سراحه في الصباح، وكم من متشرد ارتكب جريمة, وليس له من غرض إلا الحصول على مأوى.
2- أن عقوبة السجن تفوت على من عوقب بها الكثير من المصالح، فإذا كان عاملًا فقد عمله، وإذا كان طالبًا فاتته دراسته، وإذا كان تاجرًا كسدت تجارته، ناهيك عن الآثار المتعلقة بأولاده وأسرته، ويفقد العقاب صفة التفريد التي نادى بها علماء الإجرام، فيحرم الأولاد من عاطفة الأبوة وتفقد الزوجة أهم حقوقها الزوجية، وعندما يخرج من السجن يجد أسرته قد شردت, وأولاده قد سلكوا سبيله.
3- إن الواقع اليوم يجعل السجن يساهم في الفساد أكثر من الإصلاح، بل يمكن أن يؤدي دور مدرسة في تعليم فنيات الإجرام بسبب الجمع فيه بين فئات مختلفة من المجرمين، وكل واحد يمكن أن يتعلم من غيره، فالسارق البسيط قد يتحول إلى لص محترف، والذي انكشف أثناء ارتكاب الجريمة أو بعدها، يتعلم كيف يخفي آثار إجرامه، هذا بالإضافة إلى أن الحجز في السجن لمدة طويلة, يجعل السجين يخرج وهو متخلف حضوريًا عن واقع المجتمع، ويكون تأقلمه بعد ذلك صعبًا، كما قد يفوت عليه السجن مصالح كثيرة، فيخرج فيجد نفسه في حالة يأس، ولا يجد وسيلة للحاق بالمجتمع والتعويض عما أصابه إلا بسلوك سبيل الجريمة, خصوصًا وأن المتابعة الإصلاحية منعدمة بعد الخروج من السجن، ومن جهة ثالثة فإن السجين عندما يخرج من السجن يجد دون الاندماج في الناس سورًا عاليًا من التحفظ والاحتياط، فكل الناس يحذرونه! وكلهم يحتاطون من التعامل معه، ولن يجد من يطمئن إليه إلا من كان سجينًا مثله أو من كان يريد أن يتعلم منه صنعة الإجرام وفي كل الأحوال يؤدي به ذلك إلى سلوك طريق الجريمة.
إن التشريع القرآني قد تفادى جميع هذه السلبيات.. وغيرها ممن لم نذكره في هذا المقام، والعقوبات التي نص عليها لا تفوت على المعاقب بها حقًا ولا واجبًا، فإذا عوقب بالجلد أو بالقصاص فيمكنه على إثرها مباشرة أن يلتحق بعمله وبأسرته دون ما حاجة إلى بناء يضمه وحرس يقومون على خدمته، وفوق هذا كله فهو عقاب رادع زاجر جابر, مكفر عن الإثم الناتج عن الجرم, وهذه الأحكام التي نص عليها القرآن الكريم على سهولتها وبساطتها وقلة تكاليفها قد حققت من النتائج في وقت وجيز ما لم يحققه غيرها بإمكانيات ضخمة في وقت طويل, مما يدل على إعجاز القرآن التشريعي في مكافحة الجريمة(10).
المصدر: دار الإسلام.
________________
(1) أبو المعاطي حافظ أبو الفتوح – النظام العقابي الإسلامي – مؤسسة دار التعاون للطبع والنشر (1976م) (ص:410-411).
(2) أبو داوود – كتاب الديات, باب القصاص من النفس.
(3) مسلم كتاب الحدود – باب قطع السارق الشريف.. وغيره (5/ 114).
(4) الأندلسي, ابن عبد ربه, العقد الفريد – دار الكتاب العربي – بيروت – لبنان, (2/ 56-62).
(5) ابن الجوزي, تاريخ عمر بن الخطاب – الزهراء للنشر والتوزيع – الطبعة الأولى (ص:93-94).
(6) عودة عبد القادر – التشريع الجنائي الإسلامي – مؤسسة الرسالة – الطبعة السادسة (1985م) (1/ 447).
(7) منصور رحماني – الوجيز في القانون الجنائي العام – دار الهدى للطباعة والنشر والتوزيع – الجزائر (ص:59).
(8) جريدة الخبر عدد يوم 22 مايو (2003م), رقم: (3785) (ص:5), تحت عنوان: معدل الإجرام في تزايد مستمر بعنابة.
(9)- دسوقي كمال -علم النفس العقابي (ص:161).
(10) دسوقي, المرجع السابق (ص:315).