الاحتساب وأثره في تغيير المنكر
الاحتساب:
الاحتساب لغة: مصدر احتسب وهو من مادة (حَ سَ بَ) التي تدل في اللغة على معانٍ عديدةٍ، منها: العدُّ والكفاية. ومن المعنى الأول (العدُّ) قولهم: حسبت الشيء أحسبه حسباً وحسباناً، ومن الباب: الحِسبَةُ وهو الأجر أو احتساب الأجر، ويقال: أحتسب بكذا أجراً عند الله، وفي الحديث: «من صام رمضانَ إيماناً واحتساباً». أي: طلباً لوجه الله تعالى وثوابه.
والاحتساب اصطلاحاً:
قال الكفوي: الاحتساب: هو طلب الأجر من الله تعالى بالصبر على البلاء مُطمئنةً نفس المحتسب غير كارهةٍ لما نزل بها من البلاء.
وقال ابن الأثير: الاحتساب في الأعمال الصالحة، وعند المكروهات البِدار إلى طلب الأجر وتحصيله بالتسليم والصبر، أو باستعمال أنواع البر والقيام بها على الوجه المرسوم فيها طلباً للثواب المرجو منها.
ومن التعريفيين السابقين، يكون الاحتساب ثلاثة أنواع هي:
1- احتساب الأجر من الله تعالى عند الصبر على المكاره، وخاصة فقد الأبناء إذا كانوا كباراً.
2- احتساب الأجر من الله تعالى عند عمل الطاعات يُبتغى به وجهه الكريم كما في صوم رمضان إيماناً واحتساباً، وكذا في سائر الطاعات.
3- احتساب المولى -عز وجل- ناصراً ومعيناً للعبد عند تعرضه لأنواع الابتلاء من نحو منع عطاء، أو خوف وقوع ضرر، ومعنى الاحتساب في هذا النوع الثالث: الاكتفاء بالمولى -عز وجل- ناصراً ومعيناً، والرضا بما قسمه للعبد إن قليلاً وإن كثيراً.
والأدلة عليه من الكتاب والسنة كثيرة، ومنه قوله تعالى: ?الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ? [آل عمران:173]. وهذه الآية في النوع الثالث من أنواع الاحتساب.
وقوله سبحانه: ?الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ? [البقرة:156-157]. وهاتان الآيتان مما ورد في معنى الاحتساب بالصبر على المكاره.
ومن الأدلة على الاحتساب عند الطاعات: قوله تعالى: ?إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللّهِ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ? [البقرة:218].
والآيات والأحاديث في الاحتساب كثيرة، قد يطول المقام حصرها.
المنكر:
المنكر لغة: النُّكر والنكراء: الدهاء والفطنة. والإنكار الجحود. والنكرة: إنكارك الشيء، وهو نقيض المعرفة، وفي التنزيل: ?نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً? [هود:70]. والمنكر من الأمر: خلاف المعروف، والجمع مناكير، والنَّكِير والإنكار: تغيير المنكر.
وأما تعريفه اصطلاحاً فهو: كل ما قبّحه الشرع وحرمه ونهى عنه.
وسيرد فيما يأتي من الموضوع الأدلة على الأمر بتغيير المنكر.
شروط الاحتساب:
أولاً: أن يكون المنكر ظاهراً:
هذا الشرط هو حجر الأساس في بناء الحسبة، قال الجوهري: “ظهر الشيء -بالفتح- ظهوراً تبين.. والظاهر خلاف الباطن، ويراد بالظهور هنا الانكشاف إما بالرؤية أو السماع أو النقل الموثوق الذي يقوم مقامهما؛ فإن ظهر له شيء بأحد هذه الطرق، فله الاحتساب في هذه الحال. فإذا استبان المنكر وظهر للعيان يكون على المتحسب الإنكار، أما ما توارى عن الأنظار فلا إنكار فيه كما صرّح بذلك أهل العلم”.
قال الماوردي رحمه الله: “إن عليه -أي المحتسب- أن يبحث عن المنكرات الظاهرة ليصل إلى إنكارها، ويفحص عما ترك من المعروف الظاهر ليأمر بإقامته” اهـ.
برهان ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده؛ فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان». وفي رواية الترمذي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: «… فلينكره بيده، ومن لم يستطع فبلسانه، ومن لم يستطع فبقلبه …».
وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلاّ كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته، ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلِف من بعدهم خُلوف يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون، ثم إنها تخلِف من بعدهم خُلوف يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون؛ فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل».
وقوله صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكراً»، يدل على أن الإنكار متعلق بالرؤية، فلو كان مستوراً فلم يره، ولكن علم به، فالمنصوص عن أحمد في أكثر الروايات: “أنه لا يعرض له، وأنه لا يفتش على ما استراب به”، وعنه في رواية أخرى: “أنه يكشف المغطى إذا تحققه”.
قال القاضي أبو يعلى -رحمه الله-: “وكان –أي: الإمام أحمد بن حنبل- يذهب إلى أنه لا يجوز كشف منكر قد استتر به، كما لا يجوز ترك إنكاره مع المظاهرة والمجاهرة به، ويأمر أن يظن بالمسلمين خيراً”. وكان يقول: “إنَّ التواري بالمنكر لا يمنع إنكاره إذا ظهرت رائحة أو صوت”.
روى الخلال عن منصور بن الوليد: أنَّ جعفر بن محمد النسائي حدثهم قال: “سمعت أبا عبد الله –يعني: أحمد بن حنبل- سئل عن الرجل يمر بالقوم يغنون؟ قال: إذا ظهر له وهم داخل، قلت: لكن الصوت يُسمع في الطريق، قال: هذا قد ظهر، عليه أن ينهاهم، ورأى أن ينكر الطبل، يعني إذا سمع حسَّه” اهـ.
وروى أيضاً عبد الكريم بن الهيثم العاقولي قال: “سمعت أبا عبد الله سئل عن الرجل يسمع حسَّ الطبل والمزمار ولا يعرف مكانه، فقال: وما عليك؟ وقال: ما غاب فلا تفتش” اهـ.
فالُمظهر للمنكر استحق الإنكار علانية من الناس.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “إذا أظهر الرجل المنكرات وجب الإنكار عليه علانية بما يردعه عن ذلك من هجر وغيره، فلا يُسلم عليه، ولا يُرد عليه السلام، إذا كان الفاعل لذلك متمكناً من ذلك من غير مفسدة راجحة” اهـ.
وقال القاضي أبو يعلى رحمه الله: “فأما ما لم يظهر من المحظورات فليس للمحتسب أن يتجسس عنها، ولا أن يهتك الأستار حذراً من الاستسرار بها” اهـ.
وأما تسور الجدران على من عُلِمَ اجتماعهم على منكر فقد أنكره الأئمة مثل سفيان الثوري رحمه الله وغيره، وهو داخل في التجسس المنهي عنه، ولا يجب على العالم ولا على العامي أن يكشف منكراً قد سُتِرَ، بل محظور عليه كشفه؛ لقوله تعالى: ?وَلَا تَجَسَّسُوا? [الحجرات:12]، ولحديث أبي بَرزة الأسلمي رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه! لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم؛ فإنه من اتبع عوراتهم يتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في بيته». فكل من الآية والحديث أصل في تحريم التجسس واتباع عورات المسلمين؛ فإنَّ للبيوت حرمة، فلا يجوز دخولها من غير إذن أصحابها، لذلك لا ينبغي للآمر بالمعروف البحث والتجسس واقتحام الدور بالظنون، بل إن عثر على منكر غيَّره جهده، هذا كلام إمام الحرمين، فكما أن الحكم على الناس بالكفر أو بالإسلام أو بالفسوق والعدالة أو غيرها إنَّما يكون على الظاهر من أعمالهم دون السرائر منها؛ فإنَّ الاحتساب كذلك لا يتأتى إلاَّ على ما ظهر من أعمالهم، إلاَّ أن يصله علم ممن يثق به باقتراف منكر يُخشى من عدم تداركه شر عظيم، ففي هذه الحالة عليه أن يقارن بين حرمة المستترين وحرمة ذلك المنهي عنه، ثم يسلك أخف الطريقين في ذلك دفعاً للمفسدة وتحقيقاً للمصلحة، مثل أن يخبره من يثق بصدقة أنَّ رجلاً خلا برجل ليقتله أو بامرأة يزني بها، فيجوز له في مثل هذه الحال أن يتجسس ويقدم على الكشف والبحث حذراً من فوات ما لا يُستدرك من انتهاك المحارم، وارتكاب المحظورات.
ولقد أجمل الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله هذه القاعدة الجوهرية في سياق احتسابه على مطاوعة أهل الدرعية المتقدم، حيث قال رحمه الله: “ومتى لم تتبيّن لكم المسألة لم يحل لكم الإنكار على من أفتى أو عمل حتى يتبيّن لكم خطؤه، بل الواجب السكوت والتوقف” اهـ.
الشرط الثاني: ألاّ يؤدي إنكار المنكر إلى منكر أكبر منه:
من أهم ضوابط وشروط إنكار المنكر ألاّ يؤدي إنكاره على منكر إلى حدوث منكر أكبر منه، وقد قرر الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله هذه القاعدة الأساسية في حسبته، فقال في رسالته التي أرسلها إلى إخوانه من أهل سدير، يذكر العلماء أنَّ إنكار المنكر إذا صار يحصل بسببه افتراق لم يجز إنكاره: “فالله الله في العمل بما ذكرت لكم والتفقه فيه؛ فإنَّكم إن لم تفعلوا صار إنكاركم مضرة على الدين”.
وقال الشيخ الإمام رحمه الله في الرسالة نفسها معاتباً من يخالف هذه القاعدة: “إن بعض أهل الدين ينكر منكراً وهو مصيب، لكن يخطئ في تغليظ الأمر إلى شيء يوجب الفرقة بين الإخوان”.
والشيخ رحمه الله حينما يقرر هذه القاعدة الأساسية في الحسبة لم ينطلق من فراغ، ولم يأت بها من تلقاء نفسه، إنَّما كان رحمه الله مرآة صافية تعكس إشعاع العلم الذي أمضى في طلبه حيناً من الدهر، وهذه القاعدة في فقه إنكار المنكر القاضية بعدم مشروعية الإنكار إذا ترتب عليه حدوث منكر أعظم منه مستمدة من القاعدة الأصولية المعروفة: “درء المفاسد مقدم على جلب المصالح”.
قال العز بن عبد السلام رحمه الله: “إذا اجتمعت مصالح ومفاسد فإن أمكن تحصيل المصالح ودرء المفاسد فعلنا ذلك امتثالاً لأمر الله تعالى فيهما؛ لقوله سبحانه وتعالى: ?فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ? [التغابن:16]، وإن تعذر الدرء والتحصيل فإن كانت المفسدة أعظم من المصلحة درأنا المفسدة ولا نبالي بفوات المصلحة” اهـ.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “المفسدة إذا عارضتها المصلحة الراجحة قُدِّمت عليها”. ويضيف 0قائلاً: “فلا يجوز دفع الفساد القليل بالفساد الكثير، ولا دفع أخف الضررين بتحصيل أعظم الضررين، فإنَّ الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها بحسب الإمكان، ومطلوبها ترجيح خير الخيرين إذا لم يمكن أن يجتمعا جميعاً، ودفع شر الشرين إذا لم يندفعا جميعاً” اهـ.
ثم يذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله توضيحاً لهذه القاعدة فيقول: “أن تدعو الناس إلى السنّة بحسب الإمكان، فإذا رأيت من يعمل هذا ولا يتركه إلاَّ إلى أشر منه فلا تدعو إلى ترك منكر بفعل ما هو أنكر منه، أو بترك واجب أو مندوب تركه أضر من فعل ذلك المكروه، ولكن إذا كان في البدعة من الخير فعوض عنه من الخير المشروع بحسب الإمكان؛ إذ النفوس لا تترك شيئاً إلاّ بشيء، ولا ينبغي لأحد أن يترك خيراً إلاّ إلى مثله أو إلى خير منه” اهـ.
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله موضحاً هذه القاعدة: “إنَّ النبي صلى الله عليه وسلم شرع لأمته إيجاب إنكار المنكر؛ ليحصل بإنكاره من المعروف ما يحبه الله ورسوله، فإذا كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر منه وأبغض على الله ورسوله فإنَّه لا يسوغ إنكاره، وإن كان الله يبغضه ويمقت أهله، وهذا كالإنكار على الملوك والولاة بالخروج عليهم، فإنه أساس كل شر وفتنة إلى آخر الدهر، ومن تأمل ما جرى على الإسلام من الفتن الكبار والصغار رآها من إضاعة هذا الأصل، وعدم الصبر على منكر، فطلب إزالته فتولد منه ما هو أكبر منه، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى بمكة أكبر المنكرات ولا يستطيع تغييرها، بل لما فتح الله مكة وصارت دار إسلام عزم على تغيير البيت وردِّه إلى قواعد إبراهيم، ومنعه من ذلك -مع قدرته عليه- خشية وقوع ما هو أعظم منه من عدم احتمال قريش لذلك؛ لقرب عهدهم بالإسلام، وكونهم حديثي عهد بكفر، ولهذا لم يأذن في الإنكار على الأمراء باليد؛ لما يترتب عليه من وقوع ما هو أعظم منه، كما وجد سواء.
فإنكار المنكر أربع درجات:
الأولى: أن يزول ويخلفه ضده.
الثانية: أن يقل وإن لم يزل بجملته.
الثالثة: أن يخلفه ما هو مثله.
الرابعة: أن يخلفه ما هو شر منه.
فالدرجتان الأوليان مشروعتان، والثالثة موضع اجتهاد، والرابعة محرمة” اهـ.
ومن فقه إنكار المنكر: أنَّه ينبغي للآمر بالمعروف أن يأمر في السر إن كان مستطيعاً ليكون أبلغ في الموعظة والنصيحة. قال الإمام الشافعي رحمه الله:
تعمدنـي بنصحك في انفرادي *** وجنبني النصيحة في الجماعــة
فإنَّ النصح بين الناس نـــوع *** من التوبيخ لا أرضى استماعــه
وإن خالفتني وعصيت أمري *** فلا تجزع إذا لم تلق طاعـــــــة
وذلك مع كافة أصناف المحتسب عليهم، ويزداد الأمر وجوباً مع ولاة الأمر.
ولقد استوعب الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله هذه القواعد جيداً؛ لذلك نجده في الرسالة نفسها التي قرر فيها هذه القاعدة الأصولية التي ذكرناها في بداية المطلب يبين فقه إنكار المنكر على ولي الأمر، فيقول: “إذا صدر المنكر من أمير أو غيره أن يُنصح برفق خفية ما يشترف أحد، فإن وافق وإلاَّ استلحق عليه رجلاً يقبل منه بخفية، فإن لم يفعل فيمكن الإنكار ظاهراً، إلاَّ إن كان على أمير ونصحه ولا وافق فاستلحق عليه، ولا وافق فيرفع الأمر يمناً خفية”. اهـ.
وذلك سداً لذريعة الشر والفتنة؛ فإن إنكار المحتسب على ولي الأمر لا يؤتي أكله وثماره الطيبة إلا إذا كان بطريقة خفية سرية رفيقة لمن هو قادر عليه، فإن لم ير له قبولاً فيكتفي برفعه للعلماء لتولي هذه المهمة بطريقتهم الخاصة، وبذلك تكون قد برئت ذمة المحتسب، ولا يحق له استخدام الإنكار العلني في حالة عدم الاستجابة بأي حال من الأحوال.
وحول هذا المعنى قال سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله: “ليس من منهج السلف التشهير بعيوب الولاة وذكر ذلك على المنابر؛ لأنَّ ذلك يفضي إلى الفوضى، وعدم السمع والطاعة في المعروف، ويفضي إلى الخوض الذي يضر ولا ينفع، ولكن الطريقة المتبعة عند السلف النصيحة فيما بينهم وبين السلطان، والكتابة إليه، أو الاتصال بالعلماء الذين يتصلون به حتى يوجّه إلى الخير، وإنكار المنكر يكون من دون ذكر الفاعل؛ فينكر الزنا وينكر الخمر وينكر الربا دون ذكر من فعله، ويكفي إنكار المعاصي والتحذير منها من غير أن يذكر فلاناً يفعلها لا حاكم ولا غير حاكم … ولمّا فتحوا -أي الخوارج- الشر في زمن عثمان رضي الله عنه، وأنكروا على عثمان جهرة، تمت الفتنة والقتال والفساد الذي لا يزال الناس في آثاره إلى اليوم، حتى حصلت الفتنة بين علي ومعاوية، وقُتل عثمان بأسباب ذلك، وقُتل جمع كثير من الصحابة وغيرهم بأسباب الإنكار العلني، وذكر العيوب علناً حتى أبغض الناس وليَّ أمرهم وقتلوه، نسأل الله العافية” اهـ.
وفي الأثر: قيل لأسامة: “لو أتيت فلاناً فكلمته. قال: إنَّكم لترون أني لا أكلمه إلاّ أُسمعكم؟! إنّي أكلمه في السر دون أن أفتح باباً لا أكون أول من فتحه …”. يعني المجاهرة بالإنكار على الأمراء في الملأ.
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله: “أرادوا من أسامة رضي الله عنه أن يكلم عثمان رضي الله عنه، وكان من خاصته وممن يخف عليه في شأن الوليد بن عقبة؛ لأنَّه كان ظهر عليه ريح نبيذ وشَهُر أمره، وكان أخا عثمان رضي الله عنه لأمه، وكان يستعمله … وجزم الكرماني بأنَّ المراد أن يكلّمه فيما أنكره الناس على عثمان رضي الله عنه من تولية أقاربه وغير ذلك مما اشتهر. فقال أسامة: قد كلمته سراً دون ما أن أفتح باباً ـ أي باب الإنكار على الأئمة علانية خشية أن تفترق الكلمة. وقال عياض: مراد أسامة أنَّه لا يفتح باب المجاهرة بالنكير على الإمام لما يخشى من عاقبة ذلك، بل يتلطف به وينصحه سراً فذلك أجدر بالقبول، ثم عرّفهم أنّه لا يداهن أحداً ولو كان أميراً، بل ينصح له في السر جهده، وذكر لهم قصة الرجل يُطرح في النار لكونه كان يأمر بالمعروف ولا يفعله ليتبرأ مما ظنوا به من سكوته عن عثمان في أخيه.. فأشار أسامة إلى المداراة المحمودة والمداهنة المذمومة، وضابط المداراة أن لا يكون فيها قدح في الدين، والمداهنة المذمومة أن يكون فيها تزيين القبيح وتصويب الباطل. كأن يشكر ظالماً على ظلمه، أو مبتدعاً على بدعته، أو مبطلاً على إبطاله، فهذه مداهنة محرمة، بينما المداراة المشروعة كشكر الظلمة والفسقة الذين يُتقى شرهم، والتبسم في وجوههم.
والدليل من السنة على وجوب سرية الإنكار على ولاة الأمر: حديث شريح بن عبيد الحضرمي وغيره قال: “جلد عياض بن غنم رضي الله عنه صاحب دار حين فتحت، فأغلظ له هشام بن حكيم رضي الله عنه القول حتى غضب عياض، ثم مكث ليالي، فأتاه هشام بن حكيم فاعتذر إليه، ثم قال هشام لعياض: ألم تسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إنَّ من أشد الناس عذاباً أشدهم عذاباً في الدنيا للناس»، فقال عياض بن غنم: يا هشام بن حكيم قد سمعنا ما سمعت ورأينا ما رأيت، أو لم تسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من أراد أن ينصح السلطان بأمر فلا يبد له علانية، ولكن ليأخذ بيده فيخلو به؛ فإن قبل منه فذاك، وإلاَّ كان قد أدى الذي عليه له”، وإنَّك يا هشام لأنت الجريء إذ تجترئ على سلطان الله، فلا خشيتَ أن يقتلك السلطان فتكون قتيل سلطان الله تبارك وتعالى”».
وهذا الحديث أصل في إخفاء نصيحة السلطان، وأنَّ المحتسب إذا قام بالإنكار عليه على هذه الوجه فقد برئت ذمته، فولاة الأمر لهم منزلة القيادة في الأمة فينبغي احترامهم، ومن احترامهم أن يكون أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر بالتعريف والوعظ اللين، فأما تخشين القول نحو يا ظالم، يا من لا يخاف الله، فليس من منهج السلف الصالح.
ومما وعظ به ابن الجوزي الخليفة المستضيء بأمر الله قوله: “يا أمير المؤمنين! كن لله سبحانه مع حاجتك إليه كما كان لك مع غناه عنك، إنَّه لم يجعل أحداً فوقك فلا ترضى أن يكون أحد أشكر له منك”، فتصدق أمير المؤمنين بصدقات وأطلق مسجونين.
وهكذا يثمر الإنكار السري والوعظ اللطيف مع الولاة ثماراً طيبة -بإذن الله- حيث يلين قلب من وفقه الله للحق فيرعوي الظالم عن ظلمه، ويقبل المدبر منهم إلى الله إقبالاً؛ لأن النفس البشرية جبلت على عدم الاستجابة لمن يقرعها على ملأ من الناس، فما بالك بالأمير والسلطان الذي آتاه الله الرفعة والجاه بين الناس؟ لذلك شدد أهل السنة والجماعة في عدم الإنكار العلني على الولاة، واستخدام أسلوب المصادمة أو العنف مع الظلمة منهم، درءً لمفسدة أعظم من ظلمهم هي الخروج والفتنة الناجمة عنه، قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: “ولا يحل قتال السلطان ولا الخروج عليه لأحد من الناس؛ فمن فعل ذلك فهو مبتدع على غير السنّة والطريق” اهـ.
ولقد فسر ابن الأثير النصيحة لأئمة المسلمين بقوله: “أن يطيعهم في الحق، ولا يرى الخروج عليهم بالسيف وإن جاروا”؛ لأنَّ الشر الحادث من الخروج الناتج عن الإنكار العلني على الولاة أعظم خطورة من الشر الناتج عن ظلمهم ومنكراتهم.
كما حذر أهل السنة والجماعة من الوقيعة في أعراض الأئمة، والتنقص لهم، أو الدعاء عليهم؛ لأنَّ هذه الأمور من أسباب وجود الضغائن والأحقاد بين الولاة والرعية، ومن أسباب نشوب الفتن والنزاع في صفوف الأمة.
قال الإمام الطحاوي رحمه الله: “ولا نرى الخروج على أئمتنا ولاة أمورنا وإن جاروا، ولا ندعو عليهم، ولا ننزع يداً من طاعتهم، ونرى طاعتهم من طاعة الله عز وجل فريضة ما لم يأمروا بمعصية، وندعو لهم بالصلاح والمعافاة” اهـ.
وقال الفضيل بن عياض رحمه الله: “لو أنَّ لي دعوة مستجابة ما صيرتها إلاَّ في الإمام، قيل له: وكيف ذلك يا أبا علي؟ قال: متى ما صيرتها في نفسي لم تحزني، ومتى صيرتها في الإمام فصلاح الإمام صلاح العباد والبلاد”.
وروى ابن كثير أنَّ رجلاً من المبتدعة يقال له ابن البلخي وشى إلى الخليفة المتوكل شيئاً، فقال: إنَّ رجلاً من العلويين قد آوى إلى منزل أحمد بن حنبل وهو يبايع له الناس في الباطن، فأمر الخليفة نائب بغداد أن يكْبِس منزل أحمد من الليل، فلم يشعروا إلاَّ والمشاعل قد أحاطت بالدار من كل جانب حتى من فوق الأسطحة، فوجدوا الإمام جالساً في داره مع عياله، فسألوه عمّا ذكر عنه فقال: ليس عندي من هذا علم، وليس من هذا شيء ولا هذا من نيتي، وإني لأرى طاعة أمير المؤمنين في السر والعلانية، وفي عسري ويسري، ومنشطي ومكرهي، وأثرة عليّ، وإني لأدعو الله له بالتسديد والتوفيق، في الليل والنهار” اهـ.
هكذا يعامل السلف حكامهم على هدي من الكتاب والسنة، ولقد استفاضت الأدلة في وجوب السمع والطاعة لولاة الأمر وإن جاروا، والصبر عليهم، ولا يتسع المقام لحصرها، ولكن نذكر منها شاهداً من السنة: عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنَّه يُستعمل عليكم أمراء فتعرفون منهم وتنكرون، فمن كره فقد برئ، ومن أنكر فقد سلم، ولكن من رضي وتابع، قالوا: يا رسول الله ألا نقاتلهم؟ قال: لا. ما صلوا» قال قتادة: “يعني من أنكر بقلبه وكره بقلبه”.
ولقد قرر هذا المنهج الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله حيث قال: “مذهب أهل السنة والجماعة: أنَّ الأمراء الظلمة مشاركون فيما يُحتاج إليهم فيه من طاعة الله، فيُصلي خلفهم، ويُجاهد معهم، ويُستعان بهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن حكم منهم بعدل نفذ حكمه، وإن أمكن تولية برٍّ لم يجز تولية فاجر، فيجتهدون في الطاعة بحسب الإمكان، كما قال تعالى: ?فاتقوا الله ما استطعتم?، ويعلمون أنَّ الله بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بصلاح العباد، فإذا اجتمع صلاح وفساد رجَّحوا الراجح منهما، وقلَّ من خرج على دين سلطان إلاَّ كان ما تولد عن فعله من الشر أعظم من الخير، فلا أقاموا ديناً ولا أبقوا دنيا، وإن كان فيهم خَلْق من أهل العلم والدين، وهذا مما يبين، أنَّ ما أمر به صلى الله عليه وسلم من الصبر على جور الأئمة هو الأصلح، فالشارع أمر كلاً بما هو أصلح له وللمسلمين، فأمر الولاة بالعدل والنصح لرعيتهم، وأمر بالصبر على استيثارهم ومنازعتهم الأمر والفتن في كل زمان بحسب رجاله، والفتنة تمنع معرفة الحق وقصده والقدرة عليه، ففيها من الشبهات ما يلبس الحق بالباطل، حتى لا يتميز لكثير من الناس، ومن الشهوات ما يمنع قصد الحق، ومن قوة الشر ما يضعف القدرة على الخير، ولهذا يقال: “فتنة عميا صما” اهـ عياذاً بالله.
الشرط الثالث: ألاَّ يكون الإنكار في مسائل الاجتهاد:
من دلائل يسر الشريعة الإسلامية وسماحتها: أنَّ الله عز وجل يثيب كل مجتهد على اجتهاده الذي توفرت فيه شروط الاجتهاد، ومن ثمَّ فإنَّ الشريعة الإسلامية تصون للمجتهد حرمته، أصاب أم أخطأ، وتمنع الإنكار في مسائل الاجتهاد. وهذا هو الشرط الثالث والأخير من شروط الاحتساب عند الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله.
فما هو الاجتهاد؟
الاجتهاد لغة: الجُهْدُ: الطاقة، والجَهْدُ: المشقة.. والاجتهاد والتجاهد: بذل الوُسْعِ والمجهود. وهو بذلك الوُسْعِ في طلب المقصود أو تحصيل الشيء.
واصطلاحاً: بذل الجهد في تعريف الأحكام، واستفراغ الفقيه الوسع في درك الأحكام الشرعية الفرعية من أدلتها التفصيلية.
ويقصد به استفراغ الفقيه الوسع ليحصل به ظن بقضية أو حكم فقهي. والمراد ببذل الجهد: بذل تمام المقدرة والطاقة واستقصاء الوسع بحيث يحس الباذل بالعجز عن بذل المزيد.
والمجتهد: هو من يمكنه تعرف الصواب بدليله، ومن لا يعرفه بدليله يكون مقلداً.
فالمجتهد هو الفقيه المستفرغ لوسعه لتحصيل ظن بحكم شرعي، فهو من حفظ وفهم أكثر الفقه وأصوله وأدلته في مسائله إذا كانت له أهلية تامة يمكّنه معرفة أحكام الشرع فيها بالدليل.
ويشترط في المجتهد عدة شروط منها:
1- أن يكون عالماً بنصوص الكتاب والسنة، خاصة بما يتعلق منها بالأحكام.
2- أن يكون عارفاً بالناسخ والمنسوخ، بحيث لا يخفى عليه شيء من ذلك مخافة أن يقع في الحكم المنسوخ.
3- أن يكون عارفاً بما يتعلق بصحة الحديث وضعفه، كمعرفة الإسناد ورجاله وغير ذلك.
4- أن يكون عالماً بلسان العرب، بحيث يمكنه تفسير ما ورد في الكتاب والسنة من الغريب ونحوه.
5- أن يكون عالماً بطرق الاجتهاد، أي: أن يعرف الأدلة الشرعية وهي على نوعين.. منها ظاهر ومنها استنباط، وكيفية الاستدلال بها.
6- أن يكون عارفاً بمسائل الإجماع، حتى لا يفتي بخلاف ما وقع الإجماع عليه.
7- أن يكون عالماً بعلم أصول الفقه، فهو عمود فسطاط الاجتهاد وأساسه الذي يقوم عليه أركان بنائه.
ولقد ذكر الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في رسالته إلى العلماء الأعلام في بلد الله الحرام القاعدة الأصولية المتعلقة بالاجتهاد حيث قال رحمه الله: “إن كانت مسألة اجتهاد فمعلومكم أنَّه لا إنكار في مسائل الاجتهاد، فمن عمل بمذهبه في محل ولايته لا ينكر عليه”.
كما أشار إليها في المسألة الخامسة في مسائله رحمه الله، وقال رحمه الله موضحاً لهذه القاعدة الأصولية: “وأما المسألة الخامسة وهي قول من قال: لا إنكار في مسائل الاجتهاد. فإن أراد القائل مسائل الخلاف كلها فهذا باطل يخالفه إجماع الأمة، فما زال الصحابة ومن بعدهم ينكرون على من خالف أو أخطأ كائناً من كان، ولو كان أعلم الناس وأتقاهم، وإذا كان الله قد بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق وأمرنا باتباعه وترك ما خالفه، فمن تمام ذلك أنَّ من خالفه من العلماء مخطئاً نُبِّه على خطئه وأُنْكِر عليه.
وإن أريد بمسائل الاجتهاد مسائل الخلاف التي لم يتبين فيها الصواب، فهذا كلام صحيح، لا يجوز للإنسان أن ينكر الشيء لكونه مخالفاً لمذهبه أو لعادة الناس، فكما لا يجوز للإنسان أن يأمر إلاَّ بعلم، لا يجوز أن ينكر إلاَّ بعلم، وهذا كله داخل في قوله تعالى: ?وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ? [الإسراء:36]. وهذه القاعدة قد استفاضت بها كتب أهل العلم في الفقه وأصوله، قال السيوطي رحمه الله: “القاعدة الخامسة والثلاثون: لا ينكر المختلف فيه وإنَّما ينكر المجمع عليه”.
قال الحجاوي المقدسي رحمه الله: “… فيحكم كل واحد باجتهاده، وليس للآخر الاعتراض عليه ولا نقض حكمه”. وهي نفسها القاعدة الأصولية المعروفة: “الاجتهاد لا ينقض بمثله”، والتي حللها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قائلاً: “مسائل الاجتهاد من عمل فيها بقول بعض العلماء لم ينكر عليه ولم يهجر، ومن عمل بأحد القولين لم ينكر عليه” اهـ.
وقال رحمه الله في موضع آخر: “فهذه مسائل الاجتهاد التي تنازع فيها السلف والأئمة، فكل منهم أقر الآخر على اجتهاده، من كان فيها أصاب الحق فله أجران، ومن كان قد اجتهد فأخطأ فله أجر، وخطأه مغفور له، فمن ترجح عنده تقليد الشافعي لم ينكر على من ترجح عنده تقليد مالك، ومن ترجح عنده تقليد أحد لم ينكِر عليه من ترجح عنده تقليد الشافعي ونحو ذلك” اهـ.
وقال القاضي أبو يعلى رحمه الله: “فإن كان الشيء مما اختلف الفقهاء وسوغوا الاجتهاد في حكمه فقال بعضهم: إنَّه جائز، وقال بعضهم: إنَّه غير جائز لم يقدم على إنكاره” اهـ,
وقد قال أحمد في رواية المروذي رحمهما الله: “لا ينبغي للفقيه أن يحمل الناس على مذهبه ولا يُشدِّد عليهم”.
وقال سفيان الثوري رحمه الله: “إذا رأيت الرجل يعمل العمل الذي قد اختلف وأنت ترى غيره فلا تنهه”.
وروى الخطيب البغدادي عنه -أي عن سفيان الثوري رحمهما الله- قوله: “ما اختلف فيه الفقهاء فلا أنهى أحداً من إخواني أن يأخذ به”.
إلاَّ أنَّ المحور الذي تدور عليه هذه القاعدة هي فروع الشريعة لا أصولها، قال القاضي أبو يعلى رحمه الله: “المصيب واحد من المجتهدين في أصول الديانات، وقد نص أحمد رحمه الله في مواضع على تكفير جماعة من المتأولين كالقائلين بخلق القرآن ونفي الرؤية وخلق الأفعال وهذا يمنع إصابتهم في اجتهادهم وهو قول الجماعة”. وهذا مما يسوغ الإنكار على المخطئ من المجتهدين في أصول الدين؛ لأنَّه لا مجال فيها للاجتهاد كونها توقيفية، بينما لا يسوغ ذلك في فروع الدين الاجتهادية”.
قال ابن بدران رحمه الله: “لا يُنقض حكم حاكم في مسائل اجتهادية عند الأئمة الأربعة ومن وافقهم، وهو معنى قول الفقهاء في الفروع: لا ينقض الاجتهاد بالاجتهاد”.
كما أنَّ هذه القاعدة مقيدة بشرط أساسي هو معارضة الدليل، وقد أشار الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله إلى ذلك في قوله: “وأما مذهبنا فمذهب أحمد بن حنبل إمام أهل السنّة، ولا ننكر على أهل المذاهب الأربعة إذا لم يخالف نص الكتاب والسنّة وإجماع الأمة وقول جمهورها”.
فمتى اختل هذا الشرط امتنع تعميم القاعدة، قال الحجاوي المقدسي رحمه الله: “فإن حَكَم باجتهاده فليس لأحد منهم الاعتراض عليه وإن خالف؛ إلاَّ يحكم بما يخالف نصاً أو إجماعاً” اهـ.
قال السفاريني رحمه الله: “إنَّما يتمشى عدم الإنكار في مسائل الاختلاف حيث لم يُخالف نصاً صريحاً في كتاب وسنّة صحيحة صريحة وإجماع قديم، وأما متى خالفت ساغ الإنكار” اهـ.
لإخلالها بشرطها المذكور: “لأن أحد الاجتهادين ليس بأولى بالصواب من الآخر، ونقض الأول بالثاني فتح لباب الفوضى، وعدم الاستقرار”.
“فأما أحكام الفروع فالحق فيها واحد عند الله تعالى، وقد نصب الله على ذلك دليلاً غامضاً أو جلياً، وكلف المجتهد طلبته وإصابته بذلك الدليل، فإذا اجتهد وأصابه كان مصيباً عند الله تعالى وفي الحكم، وله أجران: أحدهما على إصابته، والآخر على اجتهاده، وإن أخطأ كان مخطئاً عند الله وفي الحكم، وله أجر على اجتهاده، والخطأ موضوع عنه” اهـ.
فهو معذور مأجور على اجتهاده؛ لأنَّ اجتهاده في طلب الحق عبادة، وذلك لحديث عمرو ابن العاص رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر”.
فهذا الحديث صريح في أنَّ المجتهد يحكم باجتهاده فيخطئ ويؤجر دون أجر المصيب، كما أنَّه يدحض قول المعتزلة: “كل مجتهد مصيب”، وهذا المذهب الذي أوله سفسطة وآخره زندقة؛ لأنَّه في الابتداء يجعل الشيء ونقيضه حقاً، وبالآخر يُخيِّر المجتهدين بين النقيضين عند تعارض الدليلين ويختار من المذاهب أطيبها.
وما أشنع ما قاله هؤلاء الجاعلون حكم الله عز وجل متعدداً بتعداد المجتهدين، تابعاً لما يصدر عنهم من الاجتهادات، فإنَّ هذه المقالة مع كونها مخالفة للأدب مع الله عز وجل ومع شريعته المطهرة، هي أيضاً صادرة عن محض الرأي الذي لم يشهد له دليل ولا عضدته شبهة تقبلها العقول، وهي أيضاً مخالفة لإجماع الأمة سلفها وخلفها، فإن الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم في كل عصر من العصور ما زالوا يُخطئون من خالف في اجتهاده. والله أعلم.
صفات المحتسب:
أولاً: الإخلاص: قبيل أن يباشر المحتسب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا بد له أن يتزود، فالمسير طويل، وخير ما يتزود به في رحلته الإخلاص.
والإخلاص في اللغة: من خلص الشيء بالفتح، وأخلص الشيء اختاره، وأخلص لله دينه: محضه، وكل شيء يتصور أن يشوبه غيره، فإذا صفا عن شوبه وخلص سمي خالصاً أو يسمى الفعل المصفَّى إخلاصاً.
أما في الاصطلاح فهو: تجريد قصد القُرب إلى الله تعالى عن جميع الشوائب، وتصفية العمل عن شوائب الكدر وعن ملاحظة المخلوقين. فالإخلاص من عمل القلب الذي يراد به وجه الله تعالى لا غيره، بأن يأتي بالعمل خالصاً له تعالى لا يشرك به سواه، فإذا افترضنا أن العمل الصالح كالجسد، فإن الإخلاص هو روح ذلك الجسد، ولا قيمة للجسد في الحياة إذا فاضت روحه! وهكذا فإن الأعمال التي يستعظمها الناس لا وزن لها عند الله عز وجل إذا فقدت هذه الروح.
قال تعالى: ?قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا? [الكهف:110]، ففي الآية الكريمة دلالة على اشتراط الإخلاص في العمل الصالح، والله أعلم.
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسير الآية: “وهو -أي العمل الصالح- الذي يراد به وجه الله وحده لا شريك له، وهذان ركنا العمل المُتقبل، لا بد أن يكون خالصاً لله صواباً على شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم”. اهـ.
فإذا اختل واحد من هذين الشرطين لم يكن العمل صالحاً ولا مقبولاً، وإنَّما يكون جاعلاً له شريكاً بعبادته إذا رأى بعمله الذي ظاهره أنَّه لله وهو مريد به غيره.
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنما الأعمال بالنيات، وإنَّما لكل امرئٍ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو إلى امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه».
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال الله تبارك وتعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه»، فقد دل الحديث الشريف على أنَّ عمل المرائي باطل لا ثواب فيه ويأثم به وكذا من يُسمِّع بأعماله.
والفرق بين الرياء والسمعة: أن الرياء هو العمل لرؤية الناس، والسمعة العمل لأجل سماعهم، فالرياء يتعلق بحاسة البصر، والسمعة بحاسة السمع.
وأخرج ابن أبي الدنيا عن عمر بن عبد العزيز -رحمهما الله- قال: “يا معشر المستترين! اعلموا أنَّ عند الله مسألة فاضحة، قال تعالى: ?فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ? [الحجر:92-93]“.
وعن عبد الله الجزري رحمه الله قال: “كانت العلماء إذا التقوا تواصوا بهذه الكلمات، وإذا غابوا كتب بعضهم إلى بعض أنَّه: من أصلح سريرته أصلح الله علانيته، ومن أصلح ما بينه وبين الله كفاه الله ما بينه وبين الناس، ومن اهتم بأمر آخرته كفاه الله أمر دنياه”.
قيل لبعض الحكماء: من المُخْلص؟ قال: المخلص الذي يكتم حسناته كما يكتم سيئاته.
وقيل لبعضهم: ما غاية الإخلاص؟ قال: ألاَّ تُحب مَحْمَدَةَ الناس.
ويتأكد وجوب الإخلاص في حال كون العمل بارزاً ظاهراً يراه الناس ويشاهدونه، كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لذلك يجب على المحتسب أن يقصد بقوله وفعله وجه الله تعالى وطلب مرضاته، خالص النية لا يشوبه في طويته رياء ولا سمعة، ويجتنب في رياسته منافسة الخلق، ومفاخرة أبناء الجنس، وعليه أن يتجرد من حظوظ النفس الأمّارة بالسوء من طلب الشهرة، وطلب المنزلة في قلوب العامّة، أو الطمع في تحصيل وظيفة دنيوية، أو شيء من حطام الدنيا الفانية، أو أن يظهر فضله في دينه أو علمه أو عمله أو عقله على من يأمره وينهاه، ونحو ذلك مما يزينه الشيطان ويكيد به الإنسان؛ ليبطل عمله، ويفسد سعيه؛ لينشر الله تعالى عليه رداء القبول وعَلَم التوفيق، ويقذف له في القلوب مهابةً وجلالاً، ومبادرةً إلى قبول قوله بالسمع والطاعة.
وأبرز ما يدل على إخلاص المحتسب: أن يكون زوال المنكر بإنكار غيره أحب إليه من زواله على يده؛ فإنَّ الآمر بالمعروف إذا لم يفطن لهذا الجانب فإنَّه على خطر عظيم؛ لأنَّ الشيطان حريص على أن يفسد عليه عمله.
وقد بيّن الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله الأسلوب الأمثل في الاحتساب على من يُخشى عليه الإخلال بالإخلاص، فقال في إحدى رسالاته رحمه الله: “فإذا خاف أحد منكم من بعض إخوانه قصداً سيئاً فلينصحه برفق وإخلاص لدين الله، وترك الرياء والقصد الفاسد، ولا يفل عزمه عن الجهاد، ولا يتكلم فيه الظن السيئ، وينسبه إلى ما لا يليق”.
ولا يخفى أن اتهام الإنسان المقبل بحماس على الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في نيته قد يصيب همته بشيء من التراخي والفتور، وربما أدى به الحال إلى الإحباط، وهذا جُلُّ ما يتمناه الشيطان -أعاذنا الله منه-.
كما أنَّ النوايا أسرار خفية لا يعلمها إلاَّ الله عز وجل، والشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب بكلامه السابق يضع ضابطاً جوهرياً في قضية الحكم على الآخرين، وهو عدم الحكم على النوايا والسرائر بأي حال من الأحوال؛ لأنَّ علمها عند الله عز وجل.
ثانياً: العلم والعمل:
العلم بعد الإخلاص أهم ما ينبغي على المحتسب أن يتزود به، فهو المصباح الذي يضيء الطريق لحامله فيبصر من خلال ضوئه طريق الخير وطريق الشر، قال تعالى: ?وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ? [الحـج:54].
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: “أي: وليعلم الذين أوتوا العلم النافع الذي يفرقون به بين الحق والباطل، المؤمنون بالله ورسوله أنَّ ما أوحيناه إليك هو الحق من ربك” اهـ.
وليس العلم غاية في حد ذاته إنَّما هو وسيلة مثلى للغاية الحقيقية من خلق الإنسان وهي عبادة الله عز وجل، فالعلم يورث الإيمان والإخبات والخضوع كما في الآية السابقة ويورث الخشية كما في قوله تعالى: ?إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء? [فاطر:28]. لذلك وجب طلب ذلك العلم.
قال صلى الله عليه وسلم: «طلب العلم فريضة على كل مسلم».
وبعد أن أدركنا أهمية طلب العلم الشرعي بوجه عام ننتقل إلى خصوصية ذلك بالنسبة للمحتسب، وهو ما أكد عليه الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب في بعض رسائله، حيث قال في رسالته التي كتبها إلى أحمد بن محمد بن سويلم وثنيان بن سعود: “والإنسان لا يجوز له الإنكار إلاَّ بعد المعرفة، فأول درجات الإنكار معرفتك أن هذا مخالف لأمر الله”.
ويتأكد وجوب الطلب لمن يتربص به الخصوم قال الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: “وقد يكون لأعداء التوحيد علوم كثيرة وكتب وحجج كما قال تعالى: ?فَلَمَّا جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِّنَ الْعِلْمِ? [غافر:83]، فإذا عرفت ذلك وعرفت أن الطريق إلى الله لا بد له من أعداء قاعدين عليه أهل فصاحة وعلم وحجج، كما قال تعالى: ?وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُواْ إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ? [الأعراف:86]. فالواجب عليك أن تعلم من دين الله ما يصير لك سلاحاً تقاتل به هؤلاء الشياطين”.
ولما كان احتساب الجاهل يفسد أكثر مما يصلح؛ فقد حذر أهل العلم من الاحتساب بغير علم، كما جاء في رسالة الشيخ محمد بن عبد الوهاب التي أرسلها إلى مطاوعة أهل الدرعية عندما كان في بلد العيينة فقال: “ومتى لم تتبين لكم المسألة لم يحل لكم الإنكار على من أفتى أو عمل حتى يتبين لكم خطؤه، بل الواجب السكوت والتوقف، فإذا تحققتم الخطأ بينتموه”.
وقال رحمه الله في رسالته إلى إخوانه من أهل سدير بسبب أمر جرى بين أهل الحوطة من بلدان سدير، والتي قرّر فيها قاعدة أساسية في الاحتساب: “وأهل العلم يقولون الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر يحتاج على ثلاث: أن يعرف ما يأمر به، وينهى عنه، ويكون رفيقاً فيما يأمر به وينهى عنه، صابراً على ما جاء من الأذى، وأنتم محتاجون للحرص على فهم هذا والعمل به؛ فإنَّ الخلل إنَّما يدخل على صاحب الدِّين من قلّة العمل بهذا أو قلّة فهمه”.
وقد أصّل هذه القاعدة قبله بعض علماء السف رحمهم الله، فعن أبي الربيع قال: “دخلت على سفيان -أي الثوري- بالبصرة فقلت: يا أبا عبد الله إني أكون مع هؤلاء المحتسبة، فندخل على الحنينين، ونتسلق عليهم الحيطان، قال: أليس لهم أبواب؟ قلت: بلى، ولكن ندخل عليهم كي لا يفروا، فأنكر ذلك إنكاراً شديداً، وعاب فعلنا، فقال رجل: من أدخل هذا؟ قلت: إنَّما دخلت إلى الطبيب أخبره بدائي، فانتفض سفيان وقال: إنَّما هلكنا إذ نحن سقمى فسمونا أطباء، ثم قال: لا يأمر بالمعروف، ولا ينهى عن المنكر إلاّ من كان فيه ثلاث خصال: رفيق بما يأمر، رفيق بما ينهى، عدل بما يأمر، عدل بما ينهى، عالم بما يأمر، عالم بما ينهى”.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “فلا بد من هذه الثلاثة: العلم والرفق والصبر، والعلم قبل الأمر والنهي، والرفق معه، والصبر بعده، وإن كان كل من الثلاثة مستصحباً في هذه الأحوال، وهذا كما جاء في الأثر عن بعض السلف ورووه مرفوعاً ذكره القاضي أبو يعلى في المعتمد: “لا يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر إلاّ من كان فقيهاً فيما يأمر به، فقيهاً فيما ينهى عنه، رفيقاً فيما يأمر به، رفيقاً فيما ينهى عنه، حليماً فيما ينهى عنه” اهـ.
ورفعه رحمه الله في موضع آخر قائلاً: “كما جاء في الحديث: “ينبغي لمن أمر بالمعروف، ونهى عن المنكر أن يكون فقيهاً فيما يأمر به، فقيهاً فيما ينهى عنه، رفيقاً فيما يأمر به، رفيقاً فيما ينهى عنه، حليماً فيما يأمر به، حليماً فيما ينهى عنه”، فالفقه قبل الأمر ليعرف المعروف وينكر المنكر، والرفق عند الأمر ليسلك أقرب الطرق إلى تحصيل المقصود، والحلم بعد الأمر ليصبر على أذى المأمور المنهي، فإنَّه كثيراً ما يحصل له الأذى بذلك”.
واشتراط العلم في المحتسب أمر في غاية الأهمية؛ لأنَّه إن كان جاهلاً بالأمر المحتسب فيه فقد يأمر بما ليس بمعروف، وينهى عما ليس بمنكر فيفسد من حيث أراد الإصلاح، وفي ذلك يقول ابن حزم: “لا يجوز أن يدعو إلى الخير إلاَّ من علِمه ولا يمكن أن يأمر بالمعروف إلاَّ من عرَفه، ولا يقدر على إنكار المنكر إلاَّ من ميّزه”.
والعلم بحسب أهميته على درجات:
أولاً: أهم ما على المحتسب تعلمه التوحيد الذي يتعلمه والعمل به، وبتعليمه تتحقق الغاية من خلق الإنسان المتضمن لها قوله تعالى: ?وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ? [الذاريات:56]، فهو أول ما دعت إليه الرسل قاطبة وأمرت به أقوامها قال تعالى: ?وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ? [النحل:36].
وهو أهم ما بدأ به مجدد التوحيد الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب حيث ذكر -رحمه الله- أنَّ قوله تعالى: ?ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئِن أشركتَ ليحبطنَّ عملك ولتكونن من الخاسرين?، شدة الحاجة إلى تعلم التوحيد، فإذا كان الأنبياء يحتاجون إلى ذلك ويحرصون عليه فكيف بغيرهم؟ ففيها رد على الجهال الذين يعتقدون أنَّهم عرفوه فلا يحتاجون إلى تعلمه.
ثانياً: كذلك يجب على المحتسب أن يهتم بطلب العلم الشرعي في الفروع من العبادات والمعاملات، “فإن الفقه في الدين من الأمور الضرورية للمحتسب في عمله”، وذلك ليستطيع أن يميز بين المعروف والمنكر، حتى يأمر بالأول وينهى عن الثاني، فلا يتأتي عليه الاحتساب حتى يكون لديه “علم بالمنكرات الظاهرة” وبأدلتها الشرعية، فلا يحكم على أمر بأنَّه منكر إلاَّ إذا قام عليه دليل من كتاب الله أو سنة نبيه صلى الله عليه وسلم أو إجماع المسلمين، فكما أنَّ من يعالج المريض يحتاج إلى فهم بالمرض والدواء -أي يكون طبيباً جيداً- فكذلك المحتسب يحتاج إلى علم وفهم بأمراض المجتمع وانحرافاته؛ فلا بد من العلم بالأمور الآتية:
1- أصل الداء والمرض.
2- طبيعته وأعراضه.
3- الدواء الناجح لعلاجه، وبذلك يستطيع أن يحدد الداء والداء ليصل إلى الغاية المرجوة بأقصر طريق بإذن الله.
ثالثاً: من لوازم الاحتساب أيضاً أن يتعلم المحتسب كيفية الاحتساب، وهذا ما أشار إليه شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب في حديثه عن الرفق في الأمر الآنف الذكر، كما يتعلم مواقع الحسبة وحدودها ومجالاتها وموانعها؛ ليقتصر على حد الشرع فيها، فإنَّ إلمامه بالمحيط والظروف والأوضاع الفكرية والاجتماعية التي تحيط بمجال عمله، يُمَكِّنه من ممارسة عملية التغيير، وانتهاج الأسلوب والطريقة المناسبة، وأهم ما على المحتسب معرفته قبيل احتسابه حال المُحْتَسَبِ عليه، المأمور والمنهي.
ومما تجدر الإشارة إليه أنَّ على المحتسب التثبت في الرواية؛ فلا يروي حديثاُ إلاَّ وقد ثبت لديه صحة نسبته للرسول صلى الله عليه وسلم، حتى لا يتخبط في احتسابه من حيث لا يشعر، فيأمر بخلاف السنة أو ينهى عن بعضها -والعياذ بالله-.
وبالجملة: فإنه لا بد للآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يطلب العلم، ويلحق بركاب العلماء، حتى يجد النور ساطعاً في كل فج يسلكه، وحتى يعضد أمره ونهيه بالأدلة الشرعية مما يجعل الحجة معه، ومن ثم يكون لأمره ونهيه تأثير في المجتمع -بإذن الله-.
وتمام العلم العمل به، فلا قيمة للعلم بلا عمل ولا قيمة للعمل بدون علم، قال الإمام الحسن البصري -رحمه الله-: “إذا كنت آمراً بالمعروف؛ فكن من آخذ الناس به وإلاَّ هلكتَ، وإذا كنت ممن ينهى عن المنكر فكن من أنكر الناس له وإلاَّ هلكتَ”.
وقد أجمل الإمام ابن الجوزي -رحمه الله- هذا المعنى بعبارة بليغة قال فيها: “من لم يعمل بعلمه لم يدر ما معه حامل المسك إذا كان مزكوماً؛ فلا حظ له فيما حمل”، فلا بد أن يكون فعل المحتسب مطابقاً لأمره حتى إذا وافته المنيّة وهو في حال إصلاح نفسه، كان خيراً له من أن يموت وهو ساع لإصلاح غيره دون نفسه فيحاسب على ترك واجبات وفرائض، والوعيد في هذا الباب معلوم بالكتاب والسنة قال تعالى: ?أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ? [البقرة:44]، فدلت الآية الكريمة على زجر من يأمر الناس بالخير وينسى نفسه من ذلك، والله أعلم.
ولكن هذا لا يعني أن يتقاعس المحتسب عن احتسابه إذا رأى في نفسه قصوراً؛ فذلك من كيد الشيطان له ليصرفه عن طريق الخير الذي يسلكه، قال ابن كثير رحمه الله في تفسير الآية السابقة: “فكل من الأمر بالمعروف وفعله واجب، لا يسقط أحدهما بترك الآخر على أصح قولي العلماء من السلف والخلف، وذهب بعضهم إلى أنَّ مرتكب المعاصي لا ينهى غيره عنها، وهذا ضعيف، وأضعف منه تمسكهم بهذه الآية، فإنَّه لا حجة لهم فيها. والصحيح أنَّ العالم يأمر بالمعروف، وإن لم يفعله، وينهى عن المنكر وإن ارتكبه، ولكنَّه -والحالة هذه- مذموم على ترك الطاعة وفعله المعصية، لعلمه بها ومخالفته على بصيرة، فإنَّه ليس من يعلم كمن لا يعلم، ولهذا جاءت الأحاديث في الوعيد على ذلك” اهــ.
عن أبي وائل قال: قيل لأسامة: “لو أتيت فلاناً فكلمته، قال: إنَّكم لترون أنّي لا أكلّمه إلاَّ أُسْمِعُكُم، إنّي أكلمه في السر دون أن أفتح باباً لا أكون أول من فتحه، ولا أقول لرجل إن كان عليًّ أميراً إنَّه خير الناس، بعد شيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: وما سمعته يقول؟ قال سمعته يقول: «يُجاء بالرجل يوم القيامة فيُلقى في النار فتندلق أقتابه في النار فيدور كما يدور الحمار بِرَحاه، فيجتمع أهل النار عليه، فيقولون: أي فلان ما شأنك؟ أليس كنت تأمرنا بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ قال: كنت آمركم بالمعروف ولا آتية، وأنهاكم عن المنكر وآتية»، ففي الحديث دلالة على هول العقوبة التي تنتظر الآمر بالمعروف الناهي عن المنكر إذا لم يعمل بعلمه، والله أعلم.
وقد نقل الحافظ ابن حجر العسقلاني -رحمه الله- قول أحد أهل العلم ولم يسمه: “يجب الأمر بالمعروف لمن قدر عليه ولم يخفْ على نفسه منه ضرراً ولو كان الآمر متلبساً بالمعصية؛ لأنَّه في الجملة يؤجر على الأمر بالمعروف ولا سيما إن كان مطاعاً، وأما إثمه الخاص به فقد يغفره الله وقد يؤاخذه به، وأما من قال: لا يأمر بالمعروف إلاَّ من ليست فيه وصمة فإن أراد أنَّه الأولى فجيد وإلاَّ فيستلزم سد باب الأمر إذا لم يكن هناك غيره” اهـ.
وقال الفقيه السبكي -رحمه الله-: “لا يشترط في القيام به -أي بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- أن يكون الآمر ممتثلاً في نفسه؛ لأنَّه تعلق به حقان، حق الكف في نفسه، وحق نهي غيره، ولا يُسْقِطُ حقٌ حقا، وهذا لا ينافي أنَّ الكمال أن يكون الآمر عاملاً بما يأمر به مجتنباً ما نهى عنه ليكون أدعى في القبول” اهـ.
إذن على المحتسب أن يبادر للعلم والعمل معاً بهمَّةٍ عالية قبل شروعه في الاحتساب؛ فإن وجد في نفسه خللاً فلا يثنيه ذلك عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فإنَّه من كيد الشيطان ليصدّه عن هذا الخير العظيم، إنَّما عليه المبادرة إلى إصلاح نفسه بالتوبة والاستغفار، وفعل الطاعات، والسير قدماً في طريق الإصلاح الوعر بعزم الجبال، نحو إصلاح نفسه وإصلاح الآخرين على حد سواء.
روى الخطيب البغدادي -رحمه الله- عن أبي برزة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مثل الذي يُعلِّم الناس الخير وينسى نفسه مثل الفتيلة تضيء للناس وتحرق نفسها».
وقد ورد في تقسيم الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر ثمانية أصناف هي:
أولهم: أرباب القلوب والعزائم: أخذاً بقوله تعالى: ?وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ? [آل عمران:187]، وهم المقصودون بقوله تعالى: ?كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ? [آل عمران:110]، وهم الصابرون أخذاً بقوله تعالى: ?وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ? [آل عمران:146].
وثانيهم: قوم من أهل العلم والعمل متلبسون بكريم الخلق، تاركون لما كره الله، لا تأخذهم في الله لومة لائم، لكن فيهم حدة وصلابة في التعبير، ففاتهم الرفق الواجب في الأمر والنهي، فكانوا دون من قبلهم.
ثالثهم: علماء بما يأمرون وينهون: لكنَّهم غافلون عن الآفات المفسدة للأمر والنهي، فيغلب عليهم سوء الظن بالمسلمين.
ورابعهم: قوم صلحاء أخيار، ولكنَّهم لا يعرفون قواعد الأمر والنهي، ومنهم من يكون رفيقاً صبوراً على الأذى سراً وجهراً، ومنهم من يأمر وينهى بمقتضى الغيرة، ولكنَّهم لا يصبرون.
وخامسهم: العامّة الذين رزقوا حظاً من القبول بين الناس، يخبطون في الأمر والنهي على غير علم، فيفسدون أكثر مما يصلحون.
وسادسهم: وهم في الجهل كسابقيهم، إلاَّ أنَّهم غافلون عن كل ما يأمرون وينهون، مقارفون للمعاصي.
وسابعهم: دون الذين قبلهم وأخس؛ لأنَّهم نصبوا أنفسهم للأمر والنهي رياء وسمعة، واكتساباً للمحامد والرفعة، وتزينوا بزي الصالحين، وأخذوا سمتهم وسيلة لنيل مآربهم.
وثامنهم: ليس لهم نية ثابتة صحيحة؛ فهم يأمرون الضعفاء، ويضعفون عن الأقوياء مع قدرتهم، ويحابي بعضهم الأصحاب وذوي الهيئات لغرض شيطاني مذموم.
فمن وفقه الله لبلوغ المرتبة الأولى من تلك الأصناف فجاهد نفسه وزكَّاها حتى أشربت بالإخلاص والعلم والعمل كان هو المحتسب الأمثل: ?ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ? [الجمعة:4].
ثالثاً: الحكمة:
قال الله عز وجل في محكم التنزيل: ?يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ? [البقرة:269].
الحكمة في اللغة -بكسر الحاء وإهمال الكاف وفتح الميم-: العدل. والحكيم: المتقن للأمور. والحكيم: العالم.
أما في الاصطلاح فقد ذكر العلماء لها عدة معان منها:
عن ابن عباس رضي الله عنهما: يعني المعرفة بالقرآن، ناسخه ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه، ومقدمه ومؤخره، وحلاله وحرامه، وأمثاله.
قال السدي: الحكمة النبوة.
قال أبو مالك: الحكمة السنة.
قال أبو العالية: الحكمة خشية الله.
قال إبراهيم النخعي: الحكمة الفهم.
قال زيد بن أسلم: الحكمة العقل.
قال مالك: وإنه ليقع في قلبي أن الحكمة: هو الفقه في دين الله، وأمر يدخله الله في القلوب من رحمته وفضله.
قال الراغب الأصفهاني: الحكمة: إصابة الحق بالعلم والعقل.
قال إسماعيل الهروي: هي وضع الشيء في موضعه.
أما ابن القيم فعرف الحكمة بأنها: فعل ما ينبغي، على الوجه الذي ينبغي، في الوقت الذي ينبغي.
والذي أراه أنَّ الأرجح من هذه الأقوال هو تعريف الإمام ابن القيم، والله تعالى أعلم بالصواب.
هذا فيما يتعلق بمفهوم الحكمة على الإطلاق، أما باعتبار خصوصيتها للمحتسب فهي: معيار ضابط للقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باعتبار حال المأمور والمنهي، والأسلوب المناسب له في الوقت المناسب.
فليس كل الناس يصلح لهم أسلوب واحد في الاحتساب، وليست جميع المنكرات يصلح لها الاحتساب نفسه في الوقت نفسه، هذا التفاوت يقتضي استخدام المعيار الضابط لذلك كله وهو الحكمة في جميع الأحوال، بحيث يستخدم المحتسب الأسلوب المناسب للاحتساب مع من يناسبه من الناس في الوقت المناسب.
“فليس من الحكمة استخدام أسلوب واحد في الأمر والنهي مع الكبير والصغير والرجل والمرأة والمثقف والجاهل والأمير والحقير والغضوب والهادئ، بل لا بد من تنويع أسلوب المخاطبة بما يناسب السن والثقافة والطبيعة النفسية والمركز الاجتماعي لكل فرد”؛ لأن الحكمة تعني الإصابة في الأقوال والأفعال ووضع كل شيء في موضعه، إذن هي لين في وقت اللين فحسب، وشدة في وقت الشدة فحسب، فهي تعني العلم والوعي وتقدير الموقف، ثم التفاعل مع الحدث تفاعلاً مثمراً.
وهذا ما أشار إليه الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في رسالته التي أرسلها إلى إخوانه من أهل سدير حيث قال رحمه الله: “إن بعض أهل الدين ينكر منكراً وهو مصيب لكن يخطئ في تغليظ الأمر إلى شيء يوجب الفرقة بين الإخوان”.
هذا التغليظ ناتج عن عدم انضباط معيار الحكمة في الاحتساب عند بعض الناس، ولقد وضع ابن القيم رحمه الله للحكمة ثلاثة أركان وأضداد فقال: “للحكمة ثلاثة أركان هي: العلم والحلم والأناة وآفاتها. وأضدادها: الجهل والطيش والعجلة، فلا حكمة لجاهل ولا طائش ولا عجول”.
ومن حكمة المحتسب: أن يجعل لاحتسابه أولويات أساسية يقدم بعضها على بعض حسب الأهمية، وسلَّم الأولويات هذه يتطلب البدء بأمور العقيدة وتقديم الكليات على الجزئيات.
رابعاً: الأناة والتثبت:
الأناة والأنى الحلم والوقار.
والحِلم: بالكسر الأناة، والتثبت في الأمور وذلك من شعار العقلاء.
والحلم: ضبط النفس والطبع عن هيجان الغضب، وجمعه أحلام.
ولقد وصف الله تعالى إبراهيم عليه السلام بهذه الصفة مادحاً له في قوله تعالى: ?إن إبراهيم لحليم أواه منيب?. وقال الله تعالى: ?أم تأمرهم أحلامهم? أي عقولهم.
لذلك قال صلى الله عليه وسلم لأشج عبد القيس: “إن فيك خصلتين يحبهما الله الحلم والأناة”. قال النووي -رحمه الله-: “وأما الحلم فهو العقل، وأما الأناة فهي التثبت وترك العجلة وهي مقصورة، وسبب قول النبي صلى الله عليه وسلم ذلك له ما جاء في حديث الوفد: أنهم لما وصلوا المدينة بادروا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأقام الأشج عند رحالهم فجمعها، وعقل ناقته، ولبس أحسن ثيابه، ثم أقبل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقربه صلى الله عليه وسلم وأجلسه إلى جانبه، ثم قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: «تبايعون على أنفسكم وقومكم، فقال القوم: نعم. فقال الأشج: يا رسول الله! إنك لم تزاول الرجل على شيء أشد عليه من دينه، نبايعك على أنفسنا ونرسل من يدعوهم؛ فمن اتبعنا كان منا ومن أبى قاتلناه. قال: صدقت إن فيك خصلتين …» الحديث، قال القاضي عياض رحمه الله: فالأناة تربصه حتى نظر في مصالحه ولم يعجل، والحلم هذا القول الذي قاله الدال على صحة عقله وجودة نظره للعواقب” اهـ.
ولا يعني التأني في الأمور البلادة والكسل! إنما التفكر والحذر من زلل المستعجل، والرغبة في إصابة العاقل.
ولأن المحتسب بأمره ونهيه يخالف المألوف والشهوات الجامحة لدى أصناف المحتسب عليهم، فإنه غالباً ما يكون مرفوضاً من قبلهم ممقوتاً، مما يدفعهم إلى الإساءة إليه ومعاداته. لذلك يجب على الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يكون حليماً حتى لا يثور ويغضب عندما يُجابه بشيء لا يرضيه أو لم يتوقعه، فيفسد أكثر مما يصلح، وحتى لا يثأر فيصبح الموضوع انتقاماً للنفس وتشفياً لا إنكاراً لرضا الله سبحانه وتعالى، ورغبة في تصحيح الأوضاع. قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله عندما سئل عن كيفية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: “إن أسمعوه ما يكره لا يغضب، فيكون يريد ينتصر لنفسه” اهـ.
فإن من يتصدى للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يحمله على عمله ذلك بغض لمن قام بأمره بالمعروف أو نهيه عن المنكر أو الحمية والتشفي، كلا بل يحمله على ذلك أمور حميدة منها المحبة للمسلمين والرغبة في إسداء الخير إليهم، ومنعهم مما يؤول بهم إلى عصيان الله واستحقاق العقوبة على المعاصي. قال تعالى: ?خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ? [الأعراف:199]. ففي الآية دلالة على تأديب المسلمين بالعفو عن المعتدين والتجاوز عن المسيئين.
أما التثبت فهو كما سبق من مرادفات الأناة، وتثبت في الأمر والرأي، واستثبت: تأنى فيه ولم يعجل.
والتثبت صفة لأهل اليقين من المؤمنين وبسبب هذه الصفة التي فيهم يبين الله لهم الآيات والعلامات في الأمم التي مضت، حتى يستخرجوا العبر التي تقيهم ما وقع به غيرهم من غضب الله تعالى.
قال تعالى: ?قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ? [البقرة:118]. ففي الآية الكريمة دلالة على بيان الآيات ووضوحها لأهل اليقين والتثبت. قال الإمام الطبري رحمه الله: “وخصّ الله بذلك القوم الذين يوقنون؛ لأنهم أهل التثبت في الأمور، والطالبون معرفة حقائق الأشياء على يقين وصحة فأخبر جل ثناؤه أنه بيّن لما كانت هذه صفته”.
وإذا كانت الأناة والتثبت من الصفات الحميدة فإن ضدها وهي العجلة من أقبح الصفات الذميمة.
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله محللاً لصفة العجلة: “… فإنها خفة وطيش وحدِّة في العبد تمنعه من التثبت والوقار والحلم، وتوجب وضع الأشياء في غير موضعها، وتجلب عليه أنواعاً من الشرور وتمنعه أنواعاً من الخير وهي قرين الندامة، فقلَّ من استعجل إلاَّ ندم”.
وذلك تحرزاً من الاندفاع وراء تيار اتهام الناس بالباطل قال تعالى: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ? [الحجرات:6]. وقد دلت الآية على أن الله تعالى يأمر بالتثبت في خبر الفاسق ليُحتاط له، لئلا يحكم بقوله فيكون في نفس الأمر كاذباً أو مخطئاً، فيكون الحاكم بقوله قد اقتفى وراءه وقد نهى الله عن اتباع سبيل المفسدين. فالمندفع غير المتثبت يكون عرضة للندم ولات حين مندم.
قال الكسائي وغيره: “التبيّن التثبت في الأمر”.
أوصى أعرابي أولاده فقال: “إياكم والعجلة؛ فإنَّ أبي كان يكنيها أم الندم”.
فعلى الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن لا يأخذ القول الذي يأتيه عن وجود منكر قولاً مسلَّماً، بل عليه بالتحري والتثبت حتى لا يأمر إنساناً بمعروف لم يتركه، أو ينهاه عن منكر لم يقترفه. فإن الإنسان تكتنفه نوازع الخير ونوازع الشر وربما فكّر في عمل منكر ولكنه تراجع عنه.
ومما جاء في رسالة الإمام محمد بن عبد الوهاب إلى أحمد بن محمد بن سويلم وثنيان بن سعود: “وهذه مسالة جليلة ينبغي التفطن لها، وهي قوله تعالى: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا? [الحجرات:6]، فالواجب عليهم إذا ذُكر لهم عن أحدٍ منكر عدم العجلة، فإذا تحققوه أتوا صاحبه ونصحوه؛ فإن تاب ورجع وإلا أُنكر عليه وتُكلم فيه، فعلى كل حال نبهوهم على مسألتين:
الأولى: عدم العجلة، ولا يتكلمون إلاّ مع التحقق فإن التزوير كثير.
الثانية: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعرف المنافقين بأعيانهم ويقبل علانيتهم ويكل سرائرهم إلى الله، فإذا ظهر منهم ما يوجب جهادهم جاهدهم”. اهــ.
خامساً: الرفـــــــق:
حد علماء اللغة كلمة الرفق ببعض التعريفات منها:
1- لين الجانب.
2- لين الجانب ولطافة الفعل.
3- لين الجانب وهو خلاف الضعف.
وقد بوب له البخاري في صحيحه فقال: “باب الرفق في الأمر كله”، مورداً فيه حديث عروة بن الزبير رضي الله عنهما: إن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: دخل رهط من اليهود على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: السام عليكم، قالت عائشة: ففهمتها فقلت: وعليكم السام واللعنة، قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مهلاً يا عائشة! إن الله يحب الرفق في الأمر كله، فقلت: يا رسول الله أولم تسمع ما قالوا؟! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد قلت وعليكم». فدل الحديث الشريف على محبة الله عز وجل للرفق في التعامل مع الناس حتى الأعداء منهم، والله أعلم.
قال ابن الأثير -رحمه الله-ـ: الرفق: “لين الجانب وهو خلاف العنف. يقال منه رفق يرفُقُ ويرفق” اهـ.
وعن عمرة يعني بنت عبد الرحمن عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يا عائشة! إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على ما سواه».
وعن جرير عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من يحرم الرفق يحرم الخير».
لذلك دعا صلى الله عليه وسلم على من اتصف بضد هذه الصفة ممن ولي من أمور المسلمين شيئاً، كما دعا لمن تحلى بالرفق منهم، فعن عبد الرحمن بن شُماسة قال: أتيت عائشة أسألها عن شيء فقالت: من أنت؟ فقلت: رجل من أهل مصر، فقالت: كيف كان صاحبكم لكم في غزاتكم هذه؟ فقال: ما نقمنا منه شيئاً وإن كان ليموت للرجل منّا البعير فيعطيه البعير والعبد فيعطيه العبد، ويحتاج إلى النفقة فيعطيه النفقة، فقالت: أما إنَّه لا يمنعني الذي فعل فيَّ محمد بن أبي بكر –أخي- أن أخبرك ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في بيتي هذا: «اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فارفق به». وفي هذه الأحاديث دلالة واضحة على فضل الرفق والحث على التخلق به وذم العنف.
روى الخلال عن أبي عبد الله أحمد بن حنبل -رحمهم الله- أنه سئل عن الأمر بالمعروف والنهي عن النكر كيف ينبغي أن يأمر؟ قال: “يأمر بالرفق والخضوع”.
وقال سفيان الثوري رحمه الله: “يؤمر بالمعروف في رفق، فإن قَبِلَ منك حمدت الله عز وجل وإلا أقبلت على نفسك”.
ولهذا قيل: ليكن أمرك بالمعروف، ونهيك عن المنكر غير منكر.
ولقد تخلّق السلف رحمهم الله بهذا الخلق العظيم في احتسابهم، قال أحمد بن حنبل رحمه الله: “كان أصحاب ابن مسعود رضي الله عنه إذا مروا بقوم يرون منهم ما يكرهون، يقولون: مهلاً رحمكم الله”.
وهكذا فإن المحتسب إذا كانت شيمته الرفق ولين القول وطلاقة الوجه وسهولة الأخلاق عند أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر فإن ذلك أبلغ في استمالة القلوب.
والسؤال الذي يطرح نفسه الآن:
هل الرفق يكون دائماً أو في بعض الأحيان دون بعض؟
إن ما ذكر آنفاً لا يعني أن الرفق هو الأسلوب الوحيد للاحتساب، أو أنه لا يجوز تركه في بعض الأحيان؛ فإن المرء قد يداوي أحب الناس إليه بالكي، أو ببتر عضواً من أعضائه؛ فإذا لم ينفع الرفق تحول المحتسب إلى الشدة. وهذا ما نبه إليه إمام أهل السنة أحمد بن حنبل رحمه الله بقوله: “والناس يحتاجون إلى مداراة ورفق في الأمر بالمعروف بلا غلظة، إلاّ رجلاً مبايناً معلناً بالفسق والردى، فيجب نهيه وإعلانه؛ لأنَّه يقال: ليس لفاسق حرمة، فهذا لا حرمة له”.
كذلك في حالة ظهور منكر أو ترك معروف من قبل أشخاص لا يُتوقّع ذلك منهم، لما عُرف من معرفتهم بأمور الدين أو صلاحهم أو رعهم، فيُستخدم معهم أسلوب الشدَّة والتعنيف كي يكون وقع الإنكار في قلوبهم أبلغ وأشد فيبتعدوا عمّا صاروا إليه.
وهذا التأديب أو هذه الشدة تكون في أضيق الحالات ولنوعية محدودة من أصناف المحتسب عليهم، أما أكثر الناس فالأصل معهم استعمال الرفق.
سادساً: الصبر:
الصبر في اللغة: الإمساك في ضيق… ويضاده الجزع.
وأصل الصبر: الحبس، وكل من حبس شيئاً فقد صبره.
وهو في الاصطلاح كما عرفه ابن القيم رحمه الله: “حبس النفس عن الجزع، واللسان عن التشكي، والجوارح عن لطم الخدود وشق الثياب ونحوهما” اهـ.
“أما حقيقته فهو خُلُق فاضل من أخلاق النفس يُمتنع به من فعل ما لا يحسن ولا يجمل وهو قوّة من قوى النفس التي بها صلاح شأنها وقوام أمرها”.
ولقد ميّز رحمه الله بينه وبين القسوة فقال: “والفرق بين الصبر والقسوة أن الصبر خلق كَسْبي يتخلق به العبد، وهو حبس النفس عن الجزع والهلع ولتشكي، فيحبس النفس عن التسخط واللسان عن الشكوى والجوارح مما لا ينبغي فعله، وهو ثبات القلب على الأحكام القدرية والشرعية، وأما القسوة فيبس في القلب يمنعه من الانفعال، وغلظة تمنعه من التأثر بالنوازل، فلا يتأثر لغلظته وقساوته لا لصبره واحتماله”.
قال تعالى: ?وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ? [لقمان:17]. فدلّت الآية الكريمة على أهمية اقتران الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالصبر على الأذى في سبيلهما، والله أعلم.
وقال ابن القيم رحمه الله مقرِّباً معنى الآية: “كقوله يا بني افعل المأمور واجتنب المحظور واصبر على المقدور” اهـــ.
والمعنى: اصبر على ما أصابك من المحن والبلايا، أو فيما أمرت به من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأنَّ الداعي إلى الحق مُعرَّض لإيصال الأذى إليه.
وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: الإيمان نصفان نصف صبر ونصف شكر، ولهذا جمع الله سبحانه بين الصبر والشكر في قوله تعالى: ?إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ? [الشورى:33].
قال الإمام ابن القيم رحمه الله: قال غير واحد من السلف: “الصبر نصف الإيمان”
وقال رحمه الله أيضاً: “الإيمان مبني على ركنين: يقين وصبر، وهما الركنان المذكوران في قوله تعالى: ?وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ? [السجدة:24]“. فدلّت الآية الكريمة على أنهم لما كانوا صابرين على أمره تعالى وترك زواجره وتصدير رسله وأتباعهم فيما جاءوهم به كان منهم أئمة يهدون إلى الحق بأمره ويدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر. ولا تأتي الإمامة في الدين والتمكين إلاّ بعد التمحيص والابتلاء، فمن صبر وثبت عند الابتلاء موقناً بنصر الله نال شرف التمكين.
قال الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: “سئل بعضهم: أيهما أول الابتلاء أو التمكين؟ فقال: الابتلاء ثم التمكين. وسئل الشافعي رحمه الله: “أيما أفضل للرجل أن يُمكَّن أو يُبتلي؟ فقال: لا يُمكَّن حتى يُبتلى، والله عز وجل ابتلى أولى العزم من رسله، فلما صبروا مكنهم” اهـ.
وحول ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “الإمامة في الدين موروثة عن الصبر واليقين”، ويقول الإمام ابن القيم رحمه الله: “بالصبر واليقين تُنال الإمامة في الدين” ويحلل ذلك فيقول: “فباليقين يعلم حقيقة الأمر والنهي والثواب والعقاب، وبالصبر يُنفذ ما أمر به ويكف نفسه عما نهى عنه، ولا يحصل له التصديق بالأمر والنهي إنه من عند الله وبالثواب والعقاب إلاّ باليقين، ولا يمكنه الدوام على فعل المأمور وكف النفس عن المحظور إلاّ بالصبر، فصار الصبر نصف الإيمان، والنصف الثاني الشكر بفعل ما أمر به وترك ما نهى عنه” اهـ.
فلا بد من الابتلاء والإيذاء لمن حمل لواء الحسبة، ولا يظن لمحتسب أنَّ طريقه سيكون مفروشاً بالأزهار والرياحين! بل على النقيض تماماً.. طريقة مفروش بالأشواك ومحاط بالأسلاك فلا يستطيع لمضي فيه إلاّ من أوتي حظاً وافراً من الصبر واليقين؛ لأنَّ المحتسب بأمره ونهيه يخالف أهواء الناس، ومن يخالف أهواءهم يُصوبون سهامهم إليه ويتفننون في إيذائه حتى يحمله ذلك على السآمة أو الفتور، وهنا يتألق الإيمان القوي فيرتفع بهمّة المحتسب إلى الآفاق ويزيد من تثبيته رغم أشواك الطريق، وتبقى حاجته للصبر كحاجة الإنسان للهواء والماء.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “والصبر بتناول الصبر على المصائب التي منها أذى المأمور المنهي للآمر الناهي”.
فإذا كان صاحب المزرعة والمصنع والتجارة وطلاب الدنيا يصبرون على ما يجدون من مكروهات وتعب ومشقة من ترك الأهل والأولاد والغربة؛ فما بالك بالمحتسب الذي يرجو ما عند الله والدار الآخرة؟ إن له في الأنبياء والرسل وعلى وجه الخصوص محمد صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة.
قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: كأني أنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم يحكي نبياً من الأنبياء ضربه قومه فأدموه، وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول: «اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون».
فلا نصب ولا حزن ولا انتقام للنفس ولا دعاء بالشر، إنَّما دعاء بالخير والمغفرة للمعتدي ورباطة جأش وسكينة.. تلك هي أخلاق النبوة الراقية التي تسمو بالإنسان إلى أعلى مراتب الإنسانية.
درجات إنكار المنكر:
أولاً: الإنكار باليد:
إنَّ القلب المتلألئ بنور الإيمان لا يُقنعه القليل من الأعمال، وإذا بدا له منكر ظاهر يستطيع تغييره، فإنَّه يدفعه بهمّة عالية لأقوى درجات الإنكار، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، وأعلى درجات الإنكار التغيير باليد.
ولمّا كان الشرك بالله تعالى أعظم المنكرات قاطبة، أعلن الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله النكير عليه بكل ما أوتي من قوّة وعزيمة ونصرة لدين الله عز وجل وللعقيدة الصحيحة؛ فقال رحمه الله في معرض حديثه عن فوائد قصة مسجد الضرار ضمن اختصاره لكتاب زاد المعاد في هدي خير العباد للإمام ابن القيم رحمه الله: “ومنها تحريق أمكنة المعصية كما حرَّق مسجد الضرار، وكل مكان مثله فالواجب على الإمام تعطيله، إما بهدم أو تحريق، وإما بتغيير صورته وإخراجه عمّا وضع له، وإذا كان هذا شأن مساجد الضرار، فمشاهد الشرك أحق وأوجب، وكذا بيوت الخمارين، وأرباب المنكرات، وقد حرق عمر رضي الله عنه قرية بكاملها يباع فيه الخمر، وحرَّق حانوت رُويشد وسمّاه فويسقاً، وحرَّق قصر سعد لمّا احتجب فيه عن الرعية، وهمَّ صلى الله عليه وسلم بتحريق بيوت تاركي الجمعة والجماعة، وإنَّما منعه من فيها، ممن لا تجب عليهم … وعلى هذا فيُهدم المسجد الذي بُني على قبرٍ كما يُنبش الميت إذا دفن في المسجد، فلا يجتمع في دين الإسلام مسجد وقبر، فهذا دين الإسلام الذين بعث الله به رسوله، وغربته بين الناس كما ترى” اهـ.
وقال أيضاً رحمه الله: “لا يجوز إبقاء مواضع الشرك والطواغيت بعد القدرة على هدمها وإبطالها يوماً واحداً، فإنَّها شعائر الشرك والكفر وهي أعظم المنكرات، فلا يجوز الإقرار عليها مع القدرة البتة، وهذا حكم المشاهد التي بُنيت على القبور، التي اتخذت أوثاناً تعبد من دون الله، والأحجار التي تقصد للتبرك والنذر والتقبيل لا يجوز إبقاء شيء منها على وجه الأرض مع القدرة على إزالته، وكثير منها بمنزلة اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، بل أعظم شركاً عندها وبها والله المستعان” اهـ.
والشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله بكلامه السابق يقرر قاعدة أساسية في فقه إنكار المنكر وهي اشتراط القدرة على إزالة المنكر في أولى درجات الإنكار وهي الإنكار باليد، وذلك لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم المتقدم: «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان». وفي رواية الترمذي: «فلينكره بيده…»، قال القاضي عياض رحمه الله: “الحديث أصل في كيفية التغيير فيجب على المغير أن يغير بكل وجه أمكنه زواله به، فالتغيير باليد أن يكسر آلات الباطل ويريق الخمر وينزع العصب أو يأمر بذلك” اهـ.
وفي حديث أبي الهياج الأسدي رحمه الله قال: قال لي علي بن أبي طالب رضي الله عنه: “ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن لا تدع تمثالاً إلاَّ طمسته ولا قبراً مشرفاً إلاّ سويته”.
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة وحول البيت ستون وثلاثمائة نُصُبٍ فجعل يطعنها بعود في يده ويقول: “?وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا? [الإسراء:81]، ?قُلْ جَاء الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ? [سبأ:49]“.
فدلّ الحديثان الشريفان على مشروعية إنكار المنكر باليد مع القدرة عليه، والله أعلم.
ولقد ضرب الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين أروع مثل في سرعة الاستجابة لشرع الله عز وجل وتغيير المنكر باليد حينما حرَّم الله تعالى الخمر، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كنت أسقي أبا عبيدة وأبا طلحة وأبيَّ بن كعب من فضيخ زهوٍ وتمر فجاءهم آت، فقال: إنَّ الخمر قد حُرِّمت، فقال أبو طلحة: قم يا أنس فأهْرِقها فأهْرقتُها. هكذا الإيمان حينما تتشربه القلوب الصافية يجعل المبادرة إلى تغيير المنكر باليد فورية لا تحتمل التسويف والتأخير.
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المِرْبد فخرجت معه، فكنت عن يمينه، وأقبل أبو بكر، فتأخرت له، فكان عن يمينه وكنت عن يساره، ثم أقبل عمر رضي الله عنه، فتنحيت له، فكان عن يساره، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم المربد، فإذا بأزقاق على المربد فيها خمر، قال ابن عمر رضي الله عنه فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمُدية، قال: وما عرفت المدية إلاَّ يومئذ، فأمر بالزقاق فشُقَّت، ثم قال: «لُعنت الخمرُ وشاربُها، وساقيها، وبائعها، ومبتاعُها، وحاملها، والمحمولة إليه، وعاصرُها، ومُعْتصِرُها، وآكل ثمنِها». فالتغيير باليد لا مندوحة عنه متى وُجدت القدرة عليه.
قال المروذي: “سألت أبا عبد الله أحمد بن حنبل رحمهما الله قلت: أمرُّ في السوق فأرى الطبول تباع، أكسرها؟ قال: ما أراك تقوى، إن قويت يا أبا بكر -أي فافعل- قلت: أُدعى أغسل الميت فأسمع صوت الطبل، قال: إن قدرت على كسره وإلاَّ فاخرج”.
وقال أيضاً رحمه الله: قلت لأبي عبد الله: “لو رأيت مسكراً مكشوفاً في قِنّينة أو قربة ترى أن تُكسر أو تُصبّ؟ قال: تَكسره”.
وقال أبو داود رحمه الله: “سمعت أحمد يُسأل عن قوم يلعبون بالشطرنج فنهاهم فلم ينتهوا، فأخذ الشطرنج فرمى به. قال: قد أحسن. قيل: فليس عليه شيء؟ قال: لا. قيل له: وكذلك إن كسر عوداً أو طنبوراً؟ قال: نعم”.
وقال عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل رحمهما الله: “قال أبي سُئل عن رجل رأى مثل الطنبور والعود، أو الطبل وما أشبه هذا، ما يصنع به؟ قال: إذا كان مغطى فلا، وإذا كان مكشوفاً فاكسره”.
وبناءً على ذلك فإنَّه يجوز للناهي عن المنكر أن يُتلف الأشياء العينية المحرمة مثل الأصنام المعبودة من دون الله بشتى أنواعها وأيّاً كانت مادتها من خشب أو ذهب أو نحاس، فله تكسيرها وإتلافها، وكذلك آلات اللهو بشتى أنواعها من عود وآلات موسيقية ونحو ذلك، أو الأشرطة التي سجل فيها أغاني خليعة وموسيقى ماجنة ونحو ذلك، أو الصور الخليعة المحرمة، فله طمسها أو تمزيقها وإتلافها. كل ذلك يجوز له تغييره باليد وإتلافه لكن عليه أن ينظر إلى قواعد الشرع قبل الإقدام على ذلك ومراعاة المصلحة لئلا يخلف ذلك منكراً أكبر منه.
كما ينضم إلى شرط الاستطاعة شرط آخر وهو ألاّ يكون الإنكار بالسلاح، روى الخلال عن صالح بن أحمد بن حنبل رحمهم الله أنَّ أباه قال: “التغيير باليد ليس بالسيف والسلاح”.
وقال القاضي عياض رحمه الله: “ولا ينكر بسيف إلاَّ مع سلطان” اهـ.
وقال الإمام ابن الجوزي رحمه الله: “الضرب باليد والرجل وغير ذلك مما ليس فيه إشهار سلاح أو سيف يجوز للآحاد، بشرط الضرورة والاقتصار على قدر الحاجة، فإن احتاج إلى أعوان يشهرون السلاح فلا بد من إذن السلطان على الصحيح”. اهـ.
لأنَّ شهر السلاح بين الناس قد يكون مخرجاً إلى الفتنة وآيلاً إلى فساد أكثر من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والله المستعان.
ثانياً: الإنكار باللسان:
اللسان أداة نقل الكلام الذي يدور في عقل الإنسان، وهو من أعظم نعم الله تعالى عليه، ومن تمام شكر هذه النعمة استخدامه في طاعة الله، ومنها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولإيصال الكلام للمستعين طريقتان: إما مشافهة باللسان، وإما مكاتبة بالقرطاس والقلم، وكلتا هاتين الوسيلتين تنضويان تحت الدرجة الثانية من درجات الاحتساب، التي أصّلها حديث أبي سعيد رضي الله عنه: «فإن لم يستطع فبلسانه…».
ففي الحديث دلالة على أنَّ من لم يستطع تغيير المنكر بيده لضعفه وعدم قدرته، أو خشيته أن يترتب على تغييره باليد مفسدة أشد فليغيره بلسانه، بالأمر والنهي ويكون بلين ورفق ما لم تَدْعُ الحاجة إلى الشدة ليكون أقرب إلى تحصيل المطلوب.
قال القاضي عياض: “… فإن خالف في التغيير باليد مفسدة أشد غيّر بالقول، فيعظ ويخوف ويندب إلى الخير، ويستحب أن يرفق بالجاهل وذي العزة الظالم المُتَّقى شره؛ فإنَّه أدعى للقبول، ولهذا استُحِب في المُغيِّر: أن يكون من أهل الصلاح، فإنَّ القول منه أنفع، ويغلظ على غيرهما”، بشرط ألاَّ يغلب ظن أنَّ المنهي يزيد عناداً ويبدأ في الإنكار بالأسهل فإن زال وإلاَّ أغلظ، فإن زال وإلاَّ رفعه إلى الإمام”.
قال المرداوي:
وبِالأَسْهَلِ ابدأْ ثُمَّ زِدْ قَدْرَ حَاجـَةٍ *** فَإِنَّ لَمْ يَزُلْ بِالنَّافِذِ الأَمْرِ فاصـْدُد
لذلك عقَّب الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في ذيل كتابه الشديد اللهجة الذي أرسله إلى عبد الله بن سحيم موجهاً كلامه للشخص الذي أرسل معه تلك الرسالة بقوله: “… وأنت لا تلمني على هذا الكلام، تراني استدعيته أولاً بالملاطفة وصبرت منه على أشياء عظيمة، والآن أشرفت منه على أمور ما ظننتها لا في عقله ولا في دينه، منها أنَّه كاتب إلى أهل الحسا يعاونهم على سب دين الله ورسوله”.
ثالثاً: الإنكار بالقلب:
قال الإمام ابن حزم رحمه الله: “واتفقوا في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالقلوب”. اهـ.
فالحديث الشريف يدل على أنَّه إن لم يستطع الإنكار بلسانه لوجود مانع، كخوف فتنة أو خوف على نفس أو عضو أو مال محترم أو شهر سلاح، فبقلبه ينكره وجوباً، بأن يكرهه به ويعزم أنَّه لو قدر بقول أو فِعْلٍ فعل، وهذا واجب عينيٌ على كل أحد بخلاف الذي قبله، فأفاد الخبر وجوب تغيير المنكر بكل طريق ممكن فلا يكفي الوعظ لمن يمكنه إزالته بيده، ولا القلب لمن يمكنه باللسان، والإنكار بالقلب وهو الكراهية أضعف أعمال الإيمان المتعلقة بإنكار المنكر في ذاته، لا بالنظر إلى غير المستطيع؛ فإنَّه بالنظر إليه هو تمام الوسع والطاقة وليس عليه غيره فلا يكتفي به إلاَّ من لا يستطيع غيره.
وفي توضيح معنى قول صلى الله عليه وسلم: «ليس وراء ذلك مثقال حبة خردل من إيمان»، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “مراده أنَّه لم يبق بعد هذا الإنكار ما يدخل في الإيمان حتى يفعله المؤمن، بل الإنكار بالقلب آخر حدود الإيمان، ليس مراده أنَّ من لم ينكر ذلك، لم يكن معه من الإيمان حبة خردل، ولهذا قال: «ليس وراء ذلك»، فجعل المؤمنين ثلاث طبقات، وكل منهم فعل الإيمان الذي يجب عليه، لكن الأول لما كان أقدرهم، كان الذي يجب عليه أكمل مما يجب على الثاني، وكان ما يجب على الثاني أكمل مما يجب على الآخر، وعلم بذلك أنَّ الناس يتفاضلون في الإيمان الواجب عليهم بحسب استطاعتهم مع بلوغ الخطاب إليهم كلهم”. اهـ.
وهنا نكتة حول معنى الحديث ينبغي التفطن لها:
كثير من الناس قد يظن أنَّ الحديث في آخره يعني السلبية، إذا ترك كل مسلم المجتمع دون أن يَعْنَى بالإصلاح لما فسد به، ولكن ذلك مردود بأنَّ السلبية تعني عدم الاهتمام أصلاً بما يجري في المجتمع المسلم، بينما الاستنكار أو الإنكار على ما يظهر من فساد هو أول درجات هذا الاهتمام، لكن هذا الاهتمام خاضع لمعيار القدرة ويتناسب معه تناسباً طردياً، فكلما زاد معيار القدرة زاد اهتمام المحتسب واشتد في إنكاره، والعكس بالعكس.
يقول الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله عن درجات الإنكار: “هو باليد مع القدرة، وباللسان عند عدم المَكَنَة، وبالقلب عند خوف الفتنة والعجز عن القيام بالفريضة، وهو أضعفها”.
وسأل إسحاق بن إبراهيم بن هانئ الإمام أحمد بن حنبل رحمهما الله: “متى يجب على الرجل الأمر والنهي؟ قال: ليس هذا زمان نهي، إذا غيرت بلسانك، فإن لم تستطع فبقلبك، فهو أضعف الإيمان”.
قال ابن مسعود رضي الله عنه: “إنها ستكون هنّات وهنّات بحسب امرئٍ إذا رأى أمراً لا يستطيع له تغييراً أن يعلم الله أنَّ قلبه له كاره”.
وعن أبي الطفيل رحمه الله قال: قيل لحذيفة رضي الله عنه” ما ميت الأحياء؟ قال: “من لم يعرف المعروف بقلبه وينكر المنكر بقلبه”.
وبكراهية القلب للمنكر تبرأ ذمة المحتسب إن لم يستطع الإنكار باليد أو اللسان، عن العُرْس بن عميرة الكندي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا عُمِلتِ الخطيئة في الأرض كان من شهدها فكرهها -وقال مرة: أنكرها- كان كمن غاب عنها، ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها».
قال الشيخ أبو الطيب آبادي رحمه الله في معنى قوله “كمن غاب عنها”: “أي في عدم لحوق الإثم له، وهذا في من يعجز عن إزالتها بيده ولسانه، والأفضل أن يضيف إلى القلب اللسان فيقول: اللهم هذا منكر لا أرتضيه قاله العزيزي” اهـ.
وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله: “فمن شهد الخطيئة فكرهها في قلبه كان كمن لم يشهدها إذا عجز عن إنكارها بلسانه ويده، ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها وقدر على إنكارها ولم ينكرها، لأنَّ الرضا بالخطايا من أقبح المحرمات ويفوت به إنكار الخطيئة بالقلب، وهو فرض على كل مسلم، لا يسقط عن أحد في حال من الأحوال” اهـ.
والسؤال الذي يطرح نفسه الآن:
ما حقيقة الإنكار بالقلب؟ فإنَّ البعض يظن مخطئاً أنَّه ما دام كارهاً للمنكر فلا بأس عليه بمخالطة فاعله والجلوس معه حال مواقعته للمنكر، أو البقاء في مكان فيه منكر مبرراً ذلك الفعل بكراهية قلبه لذلك المنكر، وهذا الفعل مخالف لصريح الكتاب والسنة.
قال تعالى: ?وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا? [النساء:140].
قال الإمام القرطبي رحمه الله في تفسير هذه الآية: “… فدل بهذا على وجوب اجتناب أصحاب المعاصي إذا ظهر منهم منكر؛ لأنَّ من لم يجتنبهم فقد رضي فعلهم والرضا بالكفر كفر”.
وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله: “لأنَّكم رضيتم بكفرهم واستهزائهم، والراضي بالمعصية كالفاعل لها. والحاصل أنَّ من حضر مجلساً، يُعصى الله به فإنَّه يتعين عليه الإنكار عليهم، مع القدرة، أو القيام مع عدمها”. اهـ.
وحديث جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يُدخِل حليلَتَهُ الحمَّام، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يَدخُل الحمام بغير إزار، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجلس على مائدة يدار عليهم الخمر».
فدل على تحريم الجلوس في مكان المنكر بدون إنكار له، وأنَّ من علامات الإنكار بالقلب المتضمن لأقل درجات الإيمان مفارقة مكان المنكر. والله أعلم.
وأخرج ابن جرير عن هشام بن عروة رضي الله عنه قال: أخذ عمر بن عبد العزيز قوماً على شراب، فضربهم وفيهم صائم، فقالوا: إنَّ هذا صائم؛ فتلا: ?فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا? [النساء:140].
وهكذا تعتبر هذه المرحلة الإيمانية النهائية، وهي الكراهة أو الإنكار بالقلب الذي يقتضي مفارقة مكان المنكر، حتمية على كل مسلم ومسلمة، ولا رخصة لأحد في تركها البتة؛ فإن الجلوس في أماكن المنكرات على افتراض كراهية القلب لها مخالف لمفهوم الإنكار بالقلب الذي يعني اقتران البغض القلبي للمنكر، بالمفارقة الجسدية للمكان الذي يتواجد فيه ذلك المنكر.
المصدر: صيد الفوائد