التربية على الاحتساب
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين؛ نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد:
فلا يزال الصراع بين الحق والباطل مستمراً إلى يوم القيامة، وهذا من سنة الله عز وجل التي لا تتبدل ولا تتحول في خلقه، ?سنَّةَ اللهِ فِي الَذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا? [الأحزاب:62].
فحري علينا معاشر المسلمين أن نجدَّ في الأخذ بالأسباب التي وضعها الله لنا في الأرض من العمل بسننه عز وجل، فمع كثرة ما نرى من المنكرات التي تفشت في ديار المسلمين، نجد سنة “المدافعة” غائبة عن ذهن أهل الخير والصلاح، وهذه السنة ذكرها الله عز وجل في وسط آيات الجهاد: ?الذِينَ أُخْرِجوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ? [الحج:40].
قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: “لولا أنه يدفع عن قوم بقوم، ويكشف شر أناس عن غيرهم، بما يخلقه ويقدره من الأسباب، لفسدت الأرض، وأهلك القوي الضعيف”(1).
?فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ? [البقرة:251].
“ومن هنا كانت الفئة القليلة المؤمنة الواثقة بالله تغلب في النهاية وتنتصر؛ ذلك أنها تمثل إرادة الله العليا في دفع الفساد عن الأرض، وتمكين الصلاح في الحياة. إنها تنتصر لأنها تمثل غاية عليا تستحق الانتصار”(2).
إن التربية على الاحتساب هي تنشئة على سنة المدافعة والأخذ بالأسباب، وعمل لتحقق التوحيد.
سنقف مع التربية على الاحتساب عدة وقفات:
1- إن القيام بشعيرة الأمر والمعروف والنهي عن المنكر فريضة شرعية جاءت النصوص الشرعية بالأمر بها والترغيب فيها، فهي تحتاج إلى “العلم” بأركانها وشروطها، وكثير من فقهها، فأولى خطوات التربية على الاحتساب: هي تعلم العلم الشرعي، قال سفيان الثوري: “لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر إلا من كن فيه خصال ثلاث: رفيق بما يأمر، رفيق بما ينهى عدل بما يأمر، عدل بما ينهى، عالم بما يأمر، عالم بما ينهى”(3).
قَالَ شيخ الإِسْلام رحمة الله: “لا بد من العلم بالمعروف والْمُنْكَر والتمييز بينهما. الثاني أَنَّهُ لا بد من العلم بحال المأمور والنهي، ومن الصلاح أن يأتي بالأَمْر والنهي بالصراط المستقيم، وَهُوَ أقرب الطرق إلى حصول المقصود، ولا بد من الرفق، ولا بد أن يكون حليمًا صبورًا على الأَذَى؛ فإنه لا بد أن يحصل لَهُ أذى؛ فَإِنَّ لم يحلم ويصبر كَانَ مَا يفسد أَكْثَر مِمَّا يصلح فَلا بُدَّ مِنْ العلم والرفق والصبر، والعلم قبل الأَمْر والنهي، والرفق معه والصبر بعده”(4).
2- يجب أن نربي الشباب على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تدخل فيه الأحكام الفقهية، وتختلف باختلاف الحال، فلا يقبل من أب -مثلاً- أن يأمر أو ينهى بقلبه؛ لأنه مسئول وراعٍ في بيته، كما جاء عن عبد الله بن عمرو بن العاص: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين»(5).
وقل مثل الأب الحاكم وولي أمر المسلمين، وقل مثله عن العالم الذي ينتظر الناس رأيه، عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف: أنه سمع معاوية بن أبي سفيان عام حج وهو على المنبر، وتناول قصة من شعر كانت في يد حرسي، يقول: “يا أهل المدينة أين علماؤكم؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن مثل هذه، ويقول: «إنما هلكت بنو إسرائيل حين اتخذ هذه نساؤهم»“(6).
3- إن الاحتساب والقيام بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليست مختصة في جهة أو هيئة أو جماعة، بل هي واجب شرعي وفرض كفائي، كان أحمد بن محمد النوري إذا رأى منكراً غيره، ولو كان فيه تلفه، نزل يوماً فرأى زورقاً فيه ثلاثون دِناً، فقال للملاح: ما هذا؟ قال: ما يلزمك؟ فألح عليه، فقال: أنت -والله- صوفي كثير الفضول، هذا خمر للمعتضد. قال: أعطني ذلك المدرى، فاغتاظ، وقال لأجيره: ناوله حتى أبصر ما يصنع. فأخذه ونزل، فكسرها كلها غير دن، فأخذ وأدخل إلى المعتضد، فقال: من أنت ويلك؟! قال: محتسب. قال: ومن ولاك الحسبة؟ قال: الذي ولاك الإمامة يا أمير المؤمنين(7).
4- يجب أن يربى الشباب على أن لا يخجلوا من هذه الفريضة، ومن التذكير الناس بحق الله عز وجل، وعدم الخجل من إظهار سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن التمسك بها، عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لا يحقر أحدكم نفسه؟ قالوا: يا رسول الله كيف يحقر أحدنا نفسه؟ قال: يرى أمراً لله عليه فيه مقال، ثم لا يقول فيه، فيقول الله عز وجل يوم القيامة: ما منعك أن تقول في كذا وكذا؟ فيقول: خشية الناس. فيقول: فإياي أحق أن تخشى» (8).
قال يحيى بن عبد الملك بن أبي غنية: “ما رأيت أحداً أصفق وجهاً في ذات الله من سفيان”(9)، يعني سفيان الثوري رحمه الله.
وإذا كان أهل الباطل لا يخجلون من باطلهم، أيعقل أن نخجل نحن من الحق؟!
5- إن تربية الشباب على الاحتساب هي تربية وتنشئة للمصلحين وإكثار لهم، وهو سبب عدم هلاك هذه الأمة، كما جاء في قوله تعالى: ?وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ? [هود:117]، وجاء في الحديث الصحيح: «أن النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم دخل على زينت بنت جحش فزعا يقول: لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليومَ من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا. وحلق بإصبعه وبالتي تليها، فقالتْ زينب: فقُلْت: يا رسولَ اللهِ، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثر الخبث»(10).
وكان السلف الصالح لا يقبلون بحال أن يحدث المنكر وهم لايقومون بواجبهم الشرعي من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، جاء في ترجمة الصحابي الجليل هشام بن حكيم رضي الله عنه قول الزهري: “كان يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، فكان عمر إذا رأى منكراً، قال: أما ما عشت أنا وهشام بن حكيم فلا يكون هذا”(11).
6- التربية على الاحتساب هي تربية للشباب أن يكونوا فاعلين في مجتمعاتهم، قائمين بدورهم، حريصين على توجيه الناس وتعليمهم، مخلصين وصابرين على ذلك، جاء في الحديث الصحيح: «المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم، خير من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم»(12).
___________________
(1) تفسير ابن كثير (5/ 435).
(2) في ظلال القرآن (1/ 271).
(3) الآداب الشرعية لابن مفلح (1/ 282).
(4) الأمر بالمعروف لابن تيمية (ص19).
(5) صحيح الجامع (رقم5868).
(6) الموطأ (رقم1991).
(7) سير أعلام النبلاء (14/ 76).
(8) سنن ابن ماجه (رقم4006).
(9) سير أعلام النبلاء (7/ 278).
(10) رواه البخاري (رقم3598)، ومسلم (رقم2880).
(11) سير أعلام النبلاء (3/ 52.)
(12) صحيح الأدب المفرد، (رقم300).