الحسبة في الإسلام.. شروط وضوابط
عرف نظام الحسبة في الشريعة الإسلامية بأنه إزالة المنكر إذا ظهر فعله، والأمر بالمعروف إذا ظهر تركه، ويمثل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بذلك نظاماً رقابياً يتكامل مع النظام الاجتماعي والسياسي في المجتمع الإسلامي المثالي.
وفي هذا اللقاء نضع ستة أسئلة حول نظام الحسبة في الإسلام أمام مجموعة من العلماء ليحدثونا عن هذا الموضوع:
– ما هو مدلول مصطلحي المعروف والمنكر؟
– ما هي صفات القائمين بالحسبة؟
– كيف تحدد طريقة تغير المنكر؟
– ما حكم الإتلاف في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟
– كيف تطبق المجتمعات نظام الحسبة؟
– في المجتمعات التي لا تطبق الشريعة الإسلامية، كيف يمكن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟
يبدأ الدكتور صالح السدلان حديثه بتعريف المعروف بأنه كل ما عرف في الشرع حسنه، والمنكر هو كل ما عرف الشرع قبحه، وعلى ذلك فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يتناول الأمور التالية:
– الأمور الدينية: ما أمر الله به وأمر به رسوله صلى الله عليه وسلم وأجمع العلماء عليه، أو كان مستحسنا شرعا وعرفا ثم تركه شخص، تعين أمره بالمعروف وبيان كونه معروفا لا يجوز تركه، وكذلك من ارتكب شيئا من النواهي الشرعية التي جاء بها النص عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، وأجمع العلماء عليه، أو كان مستقبحا شرعا وعرفا وعادة فإنه يتعين الإنكار عليه وبيان وجه الحق له وتحذيره من مغبة ارتكاب النواهي.
– الأمور العرفية: فما استحسنه الناس ولم يكن فيه مخالفة للشرع بأي وجه من الوجوه، ثم خالفه شخص بالفعل أو الترك؛ فإنه ينكر عليه ذلك حتى لو كان من قبيل العادات التي تدخل تحت قاعدة المباحات، وكذلك ما استقبح الناس فعله عادة وعرفا ولكن الشرع لم يتعرض له فسكت عنه؛ فإنه يتعين الإنكار على فاعل لمخالفة العادة والعرف الذي ألفه الناس.
ويضيف فضيلة الشيخ محمد حسن الدريعي -الأستاذ بكلية المعلمين- بأن مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا تخضع للتذوق والهوى النفسي، وإنما ترتبط بشريعة الله التي ألزمتنا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ولما كان الأمر كذلك فإن الشريعة الإسلامية -كما يقول الدكتور مناع القطان رحمه الله وكيل جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية للدراسات العليا:- “لم تكتف ببيان المعروف وتعدد أنواعه، ولكنها ترسم للإنسانية منهاج الحياة المتكامل على وجه ينمي فيها المكارم والفضائل، ويبعث فيها روح الخير، ويساعدها على النماء والرقي، ويحبب إليها فعل المعروف بكافة صوره، كما لا تكتفي بالنهي عن المنكر وبيان الرذائل، وإنما توضح مضارها وتحذر من اقترافها حتى يصير المجتمع المسلم مجتمعا فاضلا نظيفا”.
هذا وقد اتفق العلماء على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولكن هل هذا الأمر فرض عين أم فرض كفاية؟
يقول الدكتور مناع القطان رحمه الله: “إن بعض العلماء يرى أن الحسبة فرض عين، وفرض العين هو ما طلبه الشارع من كل فرد من أفراد المكلفين، ولا يجزي قيام مكلف به آخر، واستدل أصحاب هذا القول بقوله تعالى: ?وَلْتَكُن منكُمْ أُمةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ همُ الْمُفْلِحونَ? [آل عمران:104]، وجه الدلالة عندهم: أن (من) هنا بيانية وليس للتبعيض، فالمعنى: كونوا كلكم أمة تدعون إلى الخير وتأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر، كما في قوله تعالى: ?فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبوا قَوْلَ الزُّورِ? [الحـج:30].
وقال آخرون: إن الحسبة فرض كفاية، وفرض الكفاية هو ما طلب الشارع فعله من مجموع المكلفين، لا من كل فرد منهم، بحيث إذا قام به بعض المكلفين أدى الواجب وسقط الإثم عن الباقين، وإذا لم يقم به أي فرد من أفراد المكلفين أثموا جميعا، وقال أصحاب هذا القول: إن (من) في قوله تعالى: ?مِنكُمْ? للتبعيض، واستدلوا بأدلة أخرى لا يتسع المقام لبيانها، وإذا قلنا إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من فروض الكفاية، وهو الحكم السائد، فإن مسؤولية ذلك تقع على ولي الأمر الذي أناط الإسلام به حراسة دين الله وإصلاح شؤون الأمة في دينها ودنياها، وهذا هو شأن الأمة التي تطبق شريعة الله، فيكون فيها من أنواع الولايات ولاية الحسبة للقيام على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وليست الحسبة أمرا مطلقا يفعله كل من شاء، بل إن لها شروطا لا بد من تحققها، وصفات يتحتم توافرها.
ويعرض لنا الدكتور مناع القطان رحمه الله شروط الحسبة فيما يلي:
– “أن يكون المحتسب عاقلا يميز بين الخير والشر والحلال والحرام”، وبناء على ذلك فإن الدكتور مناع يرى أنه لا يمنع الصبي من الحسبة؛ لأن الاحتساب إحدى القربات التي يتقرب بها إلى الله، وهو من أهل التقرب إلى الله فلا يمنع منها كالصلاة وإن كان في نفس الوقت لا يكون من أهل ولاية الحسبة حتى يصير بالغا عاقلا فبالبلوغ والعقل يكون مكلفا.
– “أن يكون المحتسب مسلما؛ لأن الحسبة تهدف إلى إصلاح الناس وحماية الدين ولا يقوم بهذا إلا مؤمن بالدين.
– العدالة بأن يعمل بما يأمر الناس به ويدعوهم إليه”، وإن كان هذا الشرط محل خلاف بين العلماء.
أما الصفات التي ينبغي توافرها في العاملين في مجال الحسبة فيبينها الدكتور صالح بن سعود آل علي -المدرس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية- فيما يلي:
– ينبغي أن يكون الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر عارفا عالما بالمعروف الذي يدعو إليه والمنكر الذي ينهى عنه؛ لأنه إذا لم يكن عارفا بهما لا يأمن أن يأمر بمنكر أو ينهى عن معروف، وكما هو معلوم فإن الحكم على الشيء فرع من تصوره، ولذا قال الله تعالى: ?وَلاَ تَقُولواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحونَ? [النحل:116].
– أن يكون بصيرا بالأمور وعواقبها، فيعرف ما قد يترتب على أمره ونهيه، بحيث يعرف موقع ما يقوم به هل يؤدي أمره ونهيه إلى منكر أكبر فيحجم، فيدرأ السيئة الكبرى بالسكوت عن الصغرى، فلا ينهى عن شرب خمر وهو يعلم أن نهيه هذا سيؤول إلى قتل نفس معصومة مثلا، ويؤكد هذا الأمر الشيخ الدريعي مستدلا على ذلك بقول الله تعالى: ?وَلاَ تَسُبُّواْ الَذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ فَيَسُبُّواْ اللهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ? [الأنعام:108].
– أن يكون -والكلام للدكتور صالح العلي- على علم بحال المدعوين وأعرافهم وعاداتهم ونفسياتهم بحيث يأتيهم من المدخل الذي يسهل انصياعهم لدعوتهم وعدم نفرتهم منه، وهذا مهم جدا لكل داع إلى الخير ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم»، وهي الإبل النفيسة. فالجاهل بأحوال المدعوين لا يأمن أن يحصل له عكس ما قصد، وربما نشأت عن دعوته مفاسد كبيرة تضر بالإسلام والمسلمين.
– أن يكون طويل البال واسع الصدر لا يتسرع الإجابة، وله في رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسوة الحسنة؛ فإنه لما خرج من الطائف بعدما آذته ثقيف ولم يستجيبوا لدعوته، بل ورموه بالحجارة حتى أدموا عقبيه؛ فأتاه ملك الجبال وقال له: إن الله أرسلني إليك، وأمرني أن أعمل بأمرك، أتريد أن أطبق عليهم الأخشبين -الجبلين العظيمين- فقال عليه الصلاة والسلام: «لا. لعل الله يخرج من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئا».
– أن يتدرج في أمره ونهيه بحسب حال من يدعوهم، ويجعل نفسه بمثابة الطبيب مع المريض الذي قد يؤجل العلاج عنه فترة، ثم إذا كان مهيأ بدأه بالعلاج، ولكن على جرعات قد تمتد أياما وليال، وقد تستمر شهورا، بل قد تمتد سنين طويلة بحسب المرض، والداعية البارع يقدر حال المدعوين؛ إذ قد يكتفي في البداية بالاتصال بهم ومخالطتهم وإيناسهم، وإذا ما رأى أن الفرصة سانحة بدأ شيئا فشيئا.
– أن يبدأ بالأهم قبل المهم، ويأمر بالأركان قبل الواجبات، وبالواجبات قبل المندوبات، ونهى عن الموبقات من الكبائر قبل المحرمات الدنيا، وهكذا وقد علم هذا من منهجه صلى الله عليه وسلم، فقد مكث في مكة زهاء ثلاثة عشر سنة وهو يدعو إلى التوحيد ومكة تمارس فيها صنوف المعاصي.
– أن يكون رفيقا كما أمر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: «يا عائشة! إن الرفق ما كان في شيء إلا زانه، ولا نزع من شيء إلا شانه»، وذلك أن العنف لا جدوى منه بل هو ضار، وكثيراً ما يأتي بأوخم العواقب، ولا سيما في هذا العصر الذي كثر فيه المثقفون الذين يحتم وضعهم أن يكون الحوار معهم هادئا رفيقا بعيدا عن القسوة والحدة حتى لا ينفروا أو ينأوا بأنفسهم إلى الشر. وصدق الله: ?فَبِمَا رَحْمَةٍ منَ اللهِ لِنتَ لَهمْ وَلَوْ كُنتَ فَظا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ? [آل عمران:159].
ويوافق الدكتور الدريعي على ما ذكره الدكتور العلي، ويضيف إلى تلك الشروط ما يلي:
– أن يصبر ويتحمل ما قد يلاقيه من العنت والتعب، ويعلم أنه قد يؤذى بالكلمة أو بالإشارة فلا بد له من الصبر، أما من يتحمل هذه المسؤولية ثم يحدث له فتنة إذا أوذي أو أسيء إليه فهذا ليس مرشحا لهذه المهمة، وهذا يجب أن يقرأ قوله تعالى: ?وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ? [العصر:3].
– أن يدفعه إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دافع الإخلاص لدينه، والإصلاح للمجتمع، بعيدا عن المطامع الدنيوية، وهذا سيسدد -بإذن الله- ويوفق وسيعدل في الناس فلا يعامل أحدا بشراسة وقهر وقوة بل سيتعامل مع الآخرين باللين والسهولة والتسامح، فالعدل رائده، وهو الذي يسيره أينما سار، أما الذي عنده طمع مادي فسيجره هذا الطمع ليقول: إن هذا المنكر معروف ويبرر للعاصي معصيته، وهذا ما ستجره إليه المصلحة المادية، وهي من المصائب التي تحدث في المجتمع فيما يتعلق بتلك القضية.
وأن يحتسب أجره على الله، وإذا فعل ذلك فسوف لن يرى في أي عمل في هذا المجال ما يثقل عليه، وسيسهر وسيتعب وسيتواضع للخلق ويرحمهم، وسيبذل ما يستطيع لإيصال كلمة الحق إلى المحرومين منها.
– أن يأخذ بمبدأ القدوة الحسنة؛ فالقدوة الحسنة هي التي تؤثر في النفس في أكثر الأحيان ما لا تؤثره الكلمة، ولذا فلا بد من أن يكون ملتزما في نفسه، كما قال الله تعالى حكاية عن شعيب: ?قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىَ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ? [هود:88]، بل إنه عز وجل ذم الذين تخالف أفعالهم أقوالهم في قوله: ?يَا أَيُّهَا الَذِينَ آَمَنوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ? [الصف:2-3].
تلك هي الشروط التي يجب أن تتوافر في الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر.
ويؤكد الدكتور صالح السدلان على أنه ينبغي أن يكون الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر على جانب من الدين والخلق والصفات الجميلة والأفعال الحميدة، وأن يكون بعيدا عن التشدد والتكلف، وينبغي أن يتصف بما يأمر به بعيدا عما ينهى عنه.
الأمر بالمعروف هل يختص بفئة معينة:
وهنا قضية مهمة، وهي: هل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يختص بفئة معينة، أم أنه متاح للجميع؟ وما هي حدود الإنكار وكيفيته؟
الدكتور صالح السدلان يحدثنا عن ذلك فيقول: إن كل مسلم مخاطب بالأمر والمعروف والنهي عن المنكر، وهو ما دل عليه قوله تعالى: ?كُنتُمْ خَيْرَ أُمةٍ أُخْرِجَتْ لِلناسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنونَ بِاللهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهم منْهُمُ الْمُؤْمِنونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ? [آل عمران:110]، وقال فيه صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده؛ فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان».
إذن: فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وظيفة كل مسلم ومسلمة، ولولاها لضاع الدين، وبها استحقت أمة محمد أن تكون خير أمة أخرجت للناس، ويشترك فيها الناس كل بحسب قدرته.
ويرى الدكتور السدلان: أنه إذا رغب بعض الشباب في المساهمة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتحمسوا لذلك، فينبغي تحقيق مطلبهم هذا، وتمكينهم منه، ولكن تحت ضوابط وشروط، وتحت قيادة ذات خبرة ومعرفة في هذا المجال، مع التنبيه على عدم اندفاعهم، وتحمسهم على وجه يترتب عليه مضار ومفاسد تشوه وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ويفصل الدكتور الدريعي مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيقول: إن على الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يستحضر في ذهنه تلك الدرجات التي بينها الرسول عليه الصلاة والسلام في هذا الباب، حيث قال عليه الصلاة والسلام: «من رأى منكم منكر فليغيره بيده؛ فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان».
فالدرجة الأولى هي مهمة الولاة والمسؤولين، أي: الإمام ومن ينوب عنه في هذا الباب، وقضية التغيير باليد يسبقها الإعلام والتوجيه والتوعية؛ إذ لا يؤخذ الناس على غرر وعلى جهل، ولا بد من دراسة سبب المنكر ثم معالجته بالتوجيه والنصيحة أولا، ثم بالعفو ثانيا، إلا في ما لا يعذر فيه كسرقة مثلا أو زنا أو شرب خمر، وغير ذلك من المنكرات المعروفة من الدين بالضرورة، فهذه عندما يقارفها شخص في بلد إسلامي يطبق عليه الحد، وهذا شأن ولاة الأمر.
أما الدرجة الثانية: فهي للعلماء وطلبة العلم والدعاة والعارفين بالأحكام الشرعية، فهؤلاء لهم الحق أن يبينوا حكم الله، ولكن بالأساليب المرغبة، كل على قدر عقله وفهمه، فإذا خاطبنا عالما بدين من الأديان لا يكون وزنه كالجاهل، ولعل قصة معاذ رضي الله عنه عندما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن فقال له: «إنك ستأتي قوما أهل كتاب»، يعني: تهيأ لهم بالإجابة عن تساؤلاتهم ومناقشاتهم، فهم سيناقشونك عن علم بالكتاب، فإذا لم تكن مؤهلا فلا يجوز لك أن تدخل معهم في حوار، ولذا قال تعالى: ?قلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا من دُونِ اللهِ فَإِن تَوَلَوْاْ فَقُولواْ اشْهَدُواْ بِأَنَا مسْلِمُونَ? [آل عمران:64]، وهذه المرحلة هي مهمة أناس معينين، وليست مهمة الغوغائيين ولا الجاهلين ولا العابثين أو منتهزي الفرص؛ إذ قد يدخل في هذا الباب بدعوى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من له أغراض سيئة في المجتمع، يريد إثارة الشبهات أو تفكيك الأمة وتمزيقها من الداخل، أو التحريش بين الناس وإثارة العصبيات والمذهبيات، أو من ليس لديه القدرة على بيان الحقيقة فيسيء إلى الدين أكثر مما يحسن.
أما المرحلة الأخيرة فهي الإنكار بالقلب: وهذا لكل مسلم ومسلمة، فإن لم تكن مسؤولا تنفيذيا أو عالما شرعيا، وترى أن هذا حرام بحكم فطرتك السليمة وبحكم ما تسمعه من الموجهين والمعلمين فموقفك هنا موقف المتألم قلبيا، والقصد منه هو اعتقاد حرمة هذا الحرام واعتقاد عدم مشروعيته؛ فإن رأيت ارتكابا للممنوع ضاق صدرك وتألمت وظهرت علامات الإنكار عليك فهذا من دلائل الإيمان.
وهذه الدرجات الثلاث تجعل الأمة كلها مشتركة في هذا الباب لكن كل على حسب قدرته، وتعالى الله القائل: ?فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ? [التغابن:16].
أما عمل اليد فهو ليس عمل كل واحد منا؛ فعملية الإتلاف أو عملية الأذى -إن صحت تسميتها بهذا الاسم- لا تتأتى إلا ممن وضعت بيده هذه المسؤولية، وهؤلاء لهم حق الإتلاف أو الضرب أو التأنيب.
أما عامة الناس وطلبة العلم فليس من حقهم أن يسارعوا لإتلاف شيء لم يؤذن لهم فيه من قبل السلطة القائمة على أمر الدين، وقد يحدث بهذا شر وفتنة، ونحن في غنى عن ذلك، بل يطلب من الجهة المختصة أن تتولى هذا الأمر فالفوضى والفتنة مما لا يقره الشرع.
وكما ترى فإن هذا الأمر مبني على ما إذا كانت الدولة تقوم على أمر الحسبة وترعاه وتعتني به، لكن يا ترى ما العمل في الدول التي لا تعطي هذا الأمر أهمية ولا تتبنى أمر الحسبة؟!
يرى الدكتور مناع القطان: “أنه إذا افتقد أمر الحسبة -كما هو الشأن في أغلب الدول الإسلامية اليوم إلا من عصم الله- فإن هذا لا يسقط فرضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو فرض كفاية ولا يعذر الناس بإهمال الحاكم لهذا الواجب، بل عليهم التعاون فيما بينهم والقيام بهذا الواجب الكفائي، وإلا كانوا جميعا آثمين. وهذا هو السند الشرعي الذي تستند إليه الجمعيات الإسلامية التي لا توجد فيها ولاية الحسبة، فكيف إذا كانت الدولة تساند أهل الشر والفساد، وتفسح المجال للزائفين والملحدين وأصحاب المبادئ والأفكار المنحرفة، وتضيق الخناق على الدعاة إلى الله، وتكتم الأفواه، وتبطش وتقهر؟”
أما الدكتور محمد الدريعي فله رأي آخر بالنسبة للمجتمعات التي لا تحكم بالشريعة الإسلامية فيقول: “إن هذه المجتمعات لها أساليب أخرى من نوعين:
الأول: إذا كانت الأجواء مفتوحة ومهيأة للكلمة فنلقيها في مظانها في وسائل الإعلام والمناهج التعليمية وفي الأندية وغيرها.
الثاني: إذا لم يكن للكلمة سماح بإطلاقها، في تلك المجتمعات فإن القدوة الطيبة التي تتمثل بحسن السلوك والسمعة والمعاملة الحسنة ستكون داعية لك”.
ولكن إذا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إنما يفعل طاعة لله ورسوله، فما حكم هذا الراتب الذي يأخذه العامل في هذا المجال من قبل الدولة؟ وهل يعتبر أخذه حراما بناء على أنه يأخذه لتبليغ شرع الله وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر؟
يزيل هذا الإشكال الشيخ الدريعي بقوله: “إن الذي يعمل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ويكون موظفا بذلك من قبل الدولة فإن الراتب الذي يأخذه ليس مقابل أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر بل هو مقابل تفرغه لهذا العمل وتهيئته له، وكل منا مطالب بأن يستغني بقواه الجسدية والعقلية ليكسب لقمة العيش، فلا يمكن أن يكون الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر عالة على المجتمع يسألهم ويستجديهم، كما أنه قد لا يستطيع أن يجمع بين العمل في هذا المجال الذي فرغ نفسه له وبين كسب لقمة العيش وإعالة أسرته، لذا كان هذا الراتب الذي يأخذه هو في الحقيقة نتيجة لهذا التفرغ الذي حصل منه”.
المصدر: الموقع العربي العملاق