محمد علي شاهين
الحسبة في الإسلام:
عرّف ابن خلدون الحسبة بأنّها: “وظيفة دينيّة من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذي هو فرض على القائم بأمر المسلمين”.
وجاء في اصطلاح الماوردي أنّها: “أمر بالمعروف إذا ظهر تركه، ونهي عن المنكر إذا ظهر فعله”.
وقال تعالى: ?وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ? [آل عمران:104].
الفرق بين المتطوّع والمحتسب:
وجد الماوردي أنّ بين المتطوّع والمحتسب تسعة أوجه:
1- أنّ فرضه متعيّن على المحتسب بحكم الولاية، وفرضه على غيره داخل في فروض الكفاية.
2- أنّ قيام المحتسب به من حقوق تصرّفه الذي يجوز أن يتشاغل عنه، وقيام المتطوّع به من نوافل عمله الذي يجب أن يتشاغل عنه بغيره.
3- أنّه منصوب للاستعداء إليه فيما يجب إنكاره، وليس المتطوّع منصوبًا للاستعداء.
4- أنّ على المحتسب إجابة من استعداه وليس على المتطوّع إجابته.
5- أنّ عليه أن يبحث عن المنكرات الظاهرة ليصل إلى إنكارها، ويفحص عما ترك من المعروف الظاهر ليأمر بإقامته، وليس على غيره من المتطوعة بحث ولا فحص.
6- أنّ له أن يتخذ على إنكاره أعوانًا؛ لأنّه عمل هو له منصوب، وإليه مندوب؛ ليكون له أقهر, وعليه أقدر، وليس للمتطوّع أن يندب لذلك أعوانًا.
7- أنّ له أن يعزّر في المنكرات الظاهرة لا يتجاوز إلى الحدود، وليس للمتطوّع أن يعزّر على منكر.
8- أنّ له أن يرتزق على حسبته من بيت المال، ولا يجوز للمتطوّع أن يرتزق على إنكار منكر.
9- أنّ له اجتهاد رأيه فيما تعلق بالعرف دون الشرع، فيقرّ وينكر من ذلك ما أدّاه اجتهاده إليه، وليس هذا للمتطوّع، فيكون الفرق بين والي الحسبة وإن كان يأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبين غيره من المتطوّعين، وإن جاز أن يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر من هذه الوجوه التسعة(1).
علم آداب الحسبة:
هي من جملة الواجبات, ولا بد وأن يكون المحتسب عالماً بمواقع الحسبة, وأن يكون ورعًا حسن الخلق؛ إذ العلم والورع لا يكفي في اللطف والرفق ما لم يكن لصاحبه حسن الخلق، ومن آدابها: تقليل العلائق؛ حتى لا يكثر خوفه ويقطع الطمع حتى تزول عنه المداهنة، وهذا العلم من العلوم المتعلقة بالعادات ذكره في مدينة العلوم, وقد تقدّم الكلام عليه أيضًا في علم الاحتساب(2).
شروط المحتسب:
أجمل الفقهاء المسلمون وفي مقدّمتهم الشيزري صاحب كتاب: (نهاية الرتبة في طلب الحسبة) الشروط الواجب توافرها في المحتسب, ومنها: أن يكون فقيهًا عارفًا بأحكام الشريعة، وأن يعمل بما يعلم؛ بحيث لا يكون فعله مخالفًا لقوله، وأن يقصد في قوله وفعله وجه الله تعالى، وطلب مرضاته، مخلصًا النية، لا يشوبه في طوّية رياء ولا مراء، وأن يكون مواظبًا على سنن رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-، مع القيام على الفرائض والواجبات، وأن يكون من شيمته الرفق، ولين القول، وطلاقة الوجه، وسهولة الأخلاق عند أمره للناس ونهيهم، وأن يكون عفيفًا عن أموال الناس، متورّعًا عن قبول الهديّة من المتعيّشين وأرباب الصناعات؛ لأنّها رشوة، وعليه أن يلزم أعوانه وغلمانه بما التزمه بهذه الشروط، وأن يكون بالغًا، عاقلاً، ذا رأي وصرامة وخشونة في الدين، وعلم بالمنكرات الظاهرة، وأن يكون عالمًا من أهل الاجتهاد، عفيفًا منزّهًا عن قبول الرشوة.
وقد تولّى الرسول -صلى الله عليه وسلم- الحسبة بنفسه، وقلّدها غيره، واتبعها من بعده الخلفاء، ثم صارت ولاية من ولايات الإسلام، ونظامًا من أنظمة الحكم التي جرى عليها الولاة والحكام، وعيّن الرسول -صلى الله عليه وسلم- سعيد بن سعيد -رضي الله عنه- على سوق مكّة لمراقبتها، كما استعمل عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- على سوق المدينة.
وتذكر المصادر: أنّ الخليفة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- كان يشرف على أسواق المدينة بعد توليه الخلافة، وأنّه ولّى إحدى الصحابيات الشفاء بنت عبد الله العدوية على سوق المدينة، وكانت لها عنده منزلة كبيرة، حتى إنّه كان يقدّمها في الرأي، وتولّت السيدة سمراء بنت نهيك الأسديّة هذا المنصب أيضًا، وقد أدركت الرسول الأعظم محمدًا -صلى الله عليه وسلم- وعمّرت طويلاً، وكانت تمرّ في الأسواق تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتضرب الناس على ذلك بسوط معها، كذلك كان الخليفة علي -رضي الله عنه- يمرّ في الأسواق, ينهى عن الغش في الكيل والميزان، ويوصي أصحاب السلع بأخذ الحق وإعطاء الحق(3).
علم الاحتساب:
عرّف صاحب: “كشف الظنون” علم الاحتساب بأنّه “علم باحث عن الأمور الجارية بين أهل البلد من معاملاتهم اللاتي لا يتم التمدن بدونها, من حيث إجرائها على قانون العدل, بحيث يتم التراضي بين المتعاملين.
وعن سياسة العباد بنهي المنكر وأمر المعروف.
بحيث لا يؤدّي إلى مشاجرات وتفاخر بين العباد, بحسب ما رآه الخليفة من الزجر والمنع.
ومباديه بعضها فقهي وبعضها أمور استحسانيّة ناشئة من رأي الخليفة.
والغرض منه: تحصيل الملكة في تلك الأمور.
وفائدته: إجراء أمور المدن في المجاري على الوجه الأتم.
وهذا العلم من أدق العلوم, ولا يدركه إلاّ من له فهم ثاقب وحدس صائب؛ إذ الأشخاص والأزمان والأحوال ليست على وتيرة واحدة, فلا بد لكل واحد من الأزمان والأحوال سياسة خاصّة, وذلك من أصعب الأمور.
فلذلك لا يليق بمنصب الاحتساب إلاّ من له قوّة قدسيّة مجرّدة عن الهوى: كعمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه-، ولذلك كان علمًا في هذا الشأن كذا في موضوعات لطف الله.
وعرفه المولى أبو الخير بالنظر في أمور أهل المدينة بإجراء ما رسم في الرئاسة, وما تقرر في الشرع ليلاً ونهارًا سرًّا وجهارًا, ثم قال: وعلم رئاسة السياسة المدنيّة مشتمل على بعض لوازم هذا المنصب, ولم نر كتابًا صّنف فيه خاصّة، وذكر في الأحكام السلطانيّة ما يكفي، أقول فيه كتاب: “نصاب الاحتساب” خاصّة ما ذكر فيه مؤلّفه: أنّ الحسبة في الشريعة تتناول كل مشروع يفعل لله تعالى: كالأذان, والإقامة, وأداء الشهادة مع كثرة تعدادها؛ ولذا قيل: القضاء باب من أبواب الحسبة، وفي العرف مختص بأمور.. فذكرها إلى تمام خمسين”(4).
مهمّة المحتسب:
إذا كانت الحسبة وظيفة دينيّة من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلا ينبغي أن يقصر أمرها ونهيها على حقوق الله، وما حدّه من حدود، بل يشملان في الحسبة حقوق البشر، والحقوق المشتركة بين الله وعباده.
وقد أجمل الدكتور القوصي مهام المحتسب في التالي: مراقبة التجار وأرباب الحرف، كإجبار الطبيب على دفع ديّة المريض الذي يموت بسبب سوء علاجه، ووضع الشروط على الحرف التي تتطلب النظافة، وتتصل بالطعام والشراب: كالعجّانين, والسقائين, والجزّارين, والحلوانيين.. وغيرهم، ومراقبة الأسعار والموازين، ومنع التلاعب في الأسعار، أو الغش في الكيل والميزان، ومنع الاحتكار، ومراقبة أبنية السوق وطرقاته، وأن يجعل لكل صنعة سوقًا، وأن يجعل على أهل كل صنعة عريفًا من صالح أهلها، خبيرًا بصيرًا بغشوشهم وتدليسهم، ومراقبة الأخلاق العامّة: كمنع شرب الخمر، ومنع تعرّض الرجال للنساء في السوق، وعدم طرح الأقذار عل جوانب الطريق، وإرسال الماء من المزاريب إلى الطريق، ومراقبة العبادات؛ إذ يأخذ المسلمين لصلاة الجمعة والجماعات والأعياد، ويمنعهم من الإفطار في رمضان، وعنايته بنظافة الجوامع، وإظهار هيبة الإسلام، كما يراقب المحتسب حسن معاملة العبيد والإماء والرفق بالحيوان، وعدم تسخيره فيما لا يطيق، ويرعى الأطفال اللقطاء، ويمنع معلمي الصبيان من ضرب صبيانهم ضربًا مبرّحًا، ويمنع الحمّالين وأهل السفن من زيادة التحميل خوفًا من غرق السفينة(5).
وكان المحتسب يأخذ على الأطباء، وأصحاب المهن الطبيّة عهد (أبقراط): ألاّ يعطوا أحدًا دواءً مضرًا، ولا يركّبوا له سمًّا، ولا يصفوا التمائم عند أحد من العامّة، ولا يذكروا للنساء الدواء الذي يسقط الأجّنة، ولا للرجال الدواء الذي يقطع النسل، وليغضّوا أبصارهم عن المحارم عند دخولهم على المرضى، ولا يفشوا الأسرار، ولا يهتكوا الأستار.
ويحيل على رئيس الأطباء من يريد مزاولة الطب من الكحّالين، والمجبّرين، والجرائحيّين.. وغيرهم للامتحان, بل وإعطائهم إجازة العمل.
وذكر محمد ابن الأخوة، صاحب: (معالم القربة في مسائل الحسبة): “أنّ المحتسب كان يمتحن الكحّالين بكتاب حنين بن إسحق (العشر مقالات في العين), قبل أن يأذن لهم بالتصدّي لمداواة أعين الناس؛ أما الجرائحيّون فيجب عليهم معرفة كتاب جالينوس في الجراحات والمراهم، وأن يعرفوا التشريح وأعضاء الإنسان.
يقول الفقيه ابن عبدون الأندلسي: “يجب ألا يترك أحد يتسوّر في شيء لا يحسنه، لا سيما صناعة الطب الذي فيه إتلاف المهج”(6).
وذكر القفطي، وابن أبي أصيبعة: “أنّ الخلفاء كانوا يباشرون مهمّة المحتسب بأنفسهم في بعض الأحيان، ويقومون بتطهير هذه المهنة العلميّة من الجهلة والمتطفّلين عليها، وتحدّثوا عن رواية امتحان المأمون لصيادلة بغداد، وعن امتحان المعتصم بالله العبّاسي للصيادلة في معسكره.
ورأى الماوردي في أحكامه: أنّ من واجبات المحتسب مراقبة المتسوّلين، ومنع الأغنياء من طلب الصدقة، وتأديبهم إذا لم يمتنعوا، وإعلامهم بأنّها محرّمة على المستغني عنها، وإذا ما رأى السائل ذا جلد وقوّة على العمل زجره وأمره أن يحترف عملاً ما، فإذا أقام على التسول عزّره وأدّبه حتى يقلع عنه، وعليه منع التكسّب بالكهانة واللهو والتأديب على ذلك، وأخذ أهل الذمّة بما شرط عليهم، وعليه أن يمنع عنهم من يتعرّض لهم بأذى، ويؤدّب من خالف ذلك، ويمنع المحتسب كشف حرمات المنازل، والاستطالة عليها؛ حتى إنّ محتسب الكوفة لم يسمح للمؤذن بصعود المئذنة إلاّ إذا كان كفيفًا.
المحتسب يستنفر الناس للجهاد:
ذكر كمال الدين بن أبي جرادة كيفيّة النفير بطرسوس، وكيف كان يجري أمره، قرأت بخط أبي عمرو القاضي في كتابه قال: “يركب المتولي لعمل الحسبة أي وقت وقع النفير من ليل أو نهار ورجالته بين يديه ينادون بأعلى أصواتهم أجمع صوتًا واحدًا يقولون: النفير يا أصحاب الخيل والرجالة، النفير حملكم الله إلى باب الجهاد. وإن أراد إلى باب قلميه أو إلى باب الصاف أو إلى أي باب اتفق وتغلق سائر أبواب المدينة وتحصل مفاتيحها عند صاحب الشرطة, فلا تزال مغلقة حتى يعود السلطان من النفير ويستقر في داره، ثم تفتح الأبواب المغلقة كلّها، ويطوف المحتسب ورجالته الشوارع الجداد كلّها، فإن كان ذلك نهارًا انضاف إلى رجالته عدد كثير من الصبيان وساعدوهم على النداء بالنفير, وربما احتاجوا إلى حشد الناس لشدّة الأمر وصعوبة الحال, فأمر أهل الأسواق بالنفير، وحضهم على المسير في أثر الأمير أين أخذ وكيف سار، ويكون مركز صاحب الشرطة إذا وقع النفير مع رجالته الموسومين به عند الباب الأوّل الذي يلي المدينة الذي يخرج منه الناس إلى النفير، وكذلك المحتسب, إلاّ أنّ المحتسب يتردّد في الأسواق إذا طال أمر النفير وتأخّر خبره, ويبعث على اللحوق بمن سار مع الأمير وبمن توجه إلى النفير، فلا يزال الأمر على هذا حتى يعود السلطان إلى دار الإمارة، ويخرج إلى النفير قوّاد الرجّالة معروفون متى عقد السلطان لقائد من الفرسان فبعثه للقاء من ورد من ذلك الوجه أضاف إليه قائدًا من قوّاد الرجّالة وأتبعه”(7).
وظيفة المحتسب وظيفة القضاء:
“عندما تولى منصب الاحتساب بمصر مصطفى كاشف كرد، طلب قوائم مشتروات التجّار، ونظر في مكايلهم فضاق خناق أكثر الناس من ذلك؛ لكونهم لم يعتادوه من محتسب قبله، وكأنه وصله خبر ولاة الحسبة وأحكامهم في الدول المصرية، فإنّ وظيفة أمين الاحتساب وظيفة قضاء، وله التحكّم والعدالة والتكلّم على جميع الأشياء وكان لا يتولاها إلاّ المتضلّع من جميع المعارف والعلوم والقوانين ونظام العدالة, حتى على من يتصدّر لتقرير العلوم, فيحضر مجلسه ويباحثه، فإن وجد فيه أهليّة للإلقاء أذن له بالتصدّر أو منعه حتى يستكمل، وكذلك الأطبّاء والجراحيّة حتى البياطريّة والبزدريّة ومعلمو الأطفال في المكاتب ومعلمو السباحة في الماء والنظر في وسق المراكب في الأسفار وأحمال الدواب في نقل الأشياء ومقادير روايا الماء مما يطول شرحه، وفي ذلك مؤلف للشيخ ابن الرفعة وقد يسهل بعض ذلك مع العدالة وعدم الاحتكار وطمع المتولي وتطلّعه لما في أيدي الناس وأرزاقهم”(8).
الشرطة:
“وظيفة هامّة في الدولة الإسلاميّة، ترتبط بالقضاة, وتساعدهم في تنفيذ الأحكام الشرعيّة وإقامة الحدود، وكان يطلق على صاحب الشرطة: صاحب الليل، وصاحب المدينة؛ لأنّه يقوم بحفظ النظام، ويساعد الوالي على استتباب الأمن في المدينة، ويقبض على الجناة وأصحاب الفساد والشر لتقديمهم إلى القضاء، وكانت توكل إلى كبار القوّاد والموالي المخلصين لهم”(9).
وسمي الشرط؛ لأنّهم جعلوا لأنفسهم علامة يعرفون بها الواحد شرطة وشرطي بسكون الراء فيهما, وقال أبو عبيد: “سمّوا شرطًا؛ لأنّهم أعدّوا من قولهم أشرط من إبله وغنمه, أي: أعد منها شيئًا للبيع”(10).
قال ابن خلدون في مقدمته: “وكان أصل وضعها في الدولة العباسيّة لمن يقيم أحكام الجرائم في حال استبدادها أوّلاً, ثم الحدود بعد استيفائها؛ فإنّ التهم التي تعرض في الجرائم لا نظير للشرع إلاّ في استيفاء حدودها, وللسياسة النظر في استيفاء موجباتها؛ بإقرار يكرهه عليه الحاكم إذا احتفت به القرائن؛ لما توجبه المصلحة العامّة في ذلك، فكان الذي يقوم بهذا الاستبداد وباستيفاء الحدود إذا تنزّه عنه القاضي يسمى صاحب الشرطة، وربّما جعلوا إليه النظر في الحدود والدماء بإطلاق، وأفردوها من نظر القاضي.
ونزّهوا هذه المرتبة وقلّدوها كبار القواد، وعظماء الخاصّة من مواليهم، ولم تكن عامّة التنفيذ في طبقات الناس إنّما حكمهم على الدهماء وأهل الريب، والضرب على أيدي الرعاع والفجرة، ثم عظمت نباهتها في دولة بني أميّة بالأندلس ونوعت إلى شرطة كبرى، وشرطة صغرى”(11).
وجرت عادة العباسيين على اختيار صاحب الشرطة من علية القوم، ومن أهل العصبيّة والقوّة، وكانت مهمّة الشرطة الكبرى الضرب على أيدي الزعماء, وعلى أيدي أقاربهم في الظلامات، والصغرى تحكم في الرعاع وعامّة الناس.
واجبات الشرطة:
أجمل الأستاذ أنور الرفاعي، في كتابه القيّم: (الإنسان العربي والحضارة) واجبات الشرطة بما يلي: “حفظ النظام، وحفظ الأمن، مراقبة أماكن اللهو واللعب, ومنع ما يقع فيها من مخالفات، وتنفيذ أوامر السلطان، وتنفيذ أوامر القضاة، وإدارة السجون”(12).
كما أوكل إليها حراسة بيت المال، والنظر في الجرائم، ومراقبة الأماكن العامّة، ومساعدة عمال الخراج، ومراقبة أبواب المدن، والنظر في الحدود، وكان صاحب الشرطة ينوب عن الأمير إذا غاب، وعلى العموم فقد كان أصل وضعها لمن كان يقيم أحكام الجرائم في حالة استبرائها أوّلاً، ثم الحدود بعد استيفائها.
شروط صاحب الشرطة:
ذكر ابن أبي الربيع صاحب كتاب: (سلوك المالك في تدبير الممالك) ما ينبغي أن يكون عليه صاحب الشرطة من خصال فقال: “أمّا صاحب الشرطة فينبغي أن يكون حليمًا مهيبًا، دائم الصمت، طويل الفكر، بعيد الغور”.
وأضاف قائلاً: “وأن يكون غليظًا على أهل الريب في تصاريف الحيل، شديد الفطنة؛ وأن يكون ظاهر النزاهة غير عجول، وأن يكون نظره شزرًا، قليل التبسّم، غير ملتفت إلى الشفاعات؛ وأن يأمر أصحابه بملازمة المحابس، وتفتيش الأطعمة وما يدخل السجون؛ ويجب عليه عمارة سور المدينة وأبوابها، ولمّ شعثها، ومعرفة من يدخلها”.
العسس أو حرّاس الليل:
نظام أمني في الدولة الإسلاميّة، مهمّته الطواف بالليل؛ لتتبع اللصوص، وطلب أهل الفساد.
وفي لسان العرب: “عس يعس عسسًا وعسًا, أي: طاف بالليل ومنه حديث عمر -رضي الله عنه- أنّه كان يعسّ بالمدينة, أي: يطوف بالليل يحرس الناس ويكشف أهل الريبة والعسس اسم منه: كالطلب وقد يكون جمعًا لعاسّ كحارس وحرس والعسّ نفض الليل عن أهل الريبة”(13).
وأوّل من استن نظام العسس الخليفة الراشد عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فكان يعسّ بالمدينة يحرس الناس، وينفض الليل عن أهل الريبة ويكشفهم.
ويروي ابن سعيد المغربي: أنّه كان للأندلس دروب تغلق ليلاً، وتحرس بواسطة رجال الشرطة المسمون (بالدرّابين), وأنّ كلّ واحد كان معه سلاح وكلب وسراج.
“وأجاز فقهاء الأندلس في عهد المرابطين فرض ضريبة أطلق عليها: (التعتيب), كان الغرض منها تأمين الأموال الكافية لترميم الحصون والقلاع والأسوار حول المدن الرئيسيّة، ومن حصيلتها كانت تقوم بالإنفاق على أرزاق الجند والموظّفين، وإنشاء المشروعات العامّة، ونفقات الحملات العسكرية، وشراء الأسلحة والمعدّات الحربيّة، وترتيب العسس والدرّابين لحراسة الأسواق والطرقات والدروب.. وغير ذلك”(14).
سبق في ميدان التنظيم المدني:
حدث بمراكش أيام الموحدين سنة (571هـ) طاعون شديد، فكان الرجل لا يخرج من منزله حتى يكتب اسمه ونسبه وموضعه في بطاقة يضعها في جيبه، فإن مات حمل إلى أهله بالموضع المذكور في البطاقة.
وتستخدم الجيوش في زمن الحرب الآن بطاقة معدنيّة، يعلّقها الجنود في سلسلة معدنيّة خفيفة بصدورهم، مع إضافة الرقم العسكري، والزمرة الدموية، والدين؛ لتسهيل إسعاف الجرحى، وإجراء المراسم الدينية لمن يقتل منهم.
ويعلّق الأستاذ محمد المنوني في كتابه: (حضارة الموحّدين) على هذه البطاقة فيقول: “هذا النوع من (الكارني) الذي سبق الموحّدون إلى استعماله كاف في الإعراب عن عظمته، ناطق بعبقرية الموحّدين في ميداني الابتكار والنظام”(15).
المصدر: مجلة غرباء:
_______________
1- أبو الحسن الماوردي, الأحكام السلطانية والولايات الدينية (ص:260).
2- صديق حسن خان, أبجد العلوم الوشي المرقوم في بيان أحوال العلوم (2/ 36).
3- د. الكروي, ود. عبد التواب شرف الدين, المرجع في الحضارة العربية الإسلامية (ص:93).
4- حاجي خليفة, كشف الظنون (1/ 15).
5- د. عطية القوصي, الحضارة الإسلامية (ص:50).
6- د. أمين توفيق الطيبي, دراسات في تاريخ صقلية الإسلامية (ص:132).
7- كمال الدين عمر بن أحمد بن أبي جرادة, بغية الطلب في تاريخ حلب (1/ 188).
8- عبد الرحمن الجبرتي, تاريخ عجائب الآثار في التراجم والأخبار (3/ 565).
9- د. محمد حسين محاسنة, بناء الدولة العربية الإسلامية (ص:129).
10- محمد بن أبي بكر الرازي, مختار الصحاح (1/ 141).
11- عبد الرحمن بن خلدون, مقدمة ابن خلدون (ص:277).
12- أنور الرفاعي, الإنسان العربي والحضارة (ص:235).
13- محمد بن مكرم بن منظور, لسان العرب (6/ 139).
14- د. حسين يوسف دويدار, المجتمع الأندلسي في العصر الأموي (ص:374).
15- محمد المنوني, حضارة الموحدين (ص:94).