الحسبة والنظام الإداري
الكاتب: د. مصطفى كمال وصفي
تقديم:
يقرر الإمام ابن قيم الجوزية في كتابه:”الطرق الحكمية”: “أن جميع الولايات ترد إلى الحسبة”. فهي -في أصلها- أمر بمعروف ظهر تركه, أو نهي عن منكر ظهر فعله.
ولم يستثن من ذلك سوى أعمال التوثيق، أي: أعمال كتابة الإشهادات, وتحرير الأحكام.. ونحو ذلك، فقد أضاف هذه الأعمال إلى هذا الأصل العام الكبير، مبينًا أن الولايات: إما أن ترد إلى هذا أو إلى ذاك.
ونظرًا لاستغراق الحسبة لمعظم الولايات، وبسطها ظلها على جل الولايات الإسلامية، وأن ولاية التوثيق -إذا نظرنا إلى موضوعها ومادتها- إنما تنصب إلى تقرير وتحرير وإثبات ما هو من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإننا نجد -في النهاية- أن الحسبة هي الأساس الظاهر للولايات الإسلامية.
أي: أن النظام الإداري الإسلامي -الذي تديره هذه الولايات العامة- أساسه العام هو الحسبة. فهي قطب الرحاة فيه, وحجر الزاوية في بنائه.
ما هو النظام الإداري الإسلامي؟ وقيام الأفراد به:
قبل أن نسير في عرض الموضوع نحب أن ننبه إلى حقيقة قد تغيب عن الكثيرين, وهي: أن النظام الإداري الإسلامي لا يقوم على الجهاز الحكومي فقط كما هو الحال في النظام الحديث، بل هو يقوم -بصفة أساسية- على الأفراد.
فالنظم الحديثة تجعل ولاية إدارة المرافق العامة احتكارًا للسلطة, وهي وحدها التي تقوم بها بصورة “سلطة عامة”, تمارس على الأفراد ما نسميه: “بالامتيازات الإدارية”, وهي وسائل خاصة تتسلط بها على الأفراد وتقهرهم بها؛ لتتمكن من السير بالمصالح العمومية المتمثلة -في النظم الحديثة- في تسيير المرافق العامة.
وأما إذا قام الفرد بخدمة من الخدمات العادية: (كالنقل الحر، أو بيع الأدوية والأطعمة والضروريات) فإنه لا يتمتع في ذلك بالامتيازات الإدارية المذكورة، ولا يقوم بهذه الأعمال كسلطة عامة، وبالطريقة والوسائل التي تقوم بها الحكومة لو أنها قامت بذات هذه الأعمال.
فأما في الإسلام فإن الأصل هو أن يتولى الأفراد المرافق العامة كلها, وسبب ذلك أن القيام بالمصالح عندنا فرض كفاية، وأنه إذا تخلف المسلمون عنها فإنهم يأثمون جميعًا, فتفاديًا لهذا الإثم العام يقوم الأفراد عندنا في الإسلام أصالة عن أنفسهم بأعمال هي من النوع الذي تقوم به الدول العصرية, فالأفراد عندنا مكلفون مباشرة بأن يعبدوا الطرق, وينشئوا الجسور, ويقيموا المستشفيات والمدارس والمساجد.. ونحوها مما يلزم الحاجة العامة.
نعم؛ إذا كان بيت المال قادرًا على ذلك قام به, ولكن إذا لم يكن بيت المال قادرًا عليه، أو أهمله، فإن ذلك لا يعفي الأفراد من واجب إقامتهم لهذه المصالح ورعايتهم لها، ولا يكون تخلف السلطة العامة عنها عذرًا لهم في فسادها.
وقد ترك هذا آثارًا ظاهرة في الأحكام؛ منها: قيام نظام الوقف كنظام أساسي في الشريعة الإسلامية, فالواقع أن الوقف هو “تنظيم مالي” للإنفاق على مرفق من المرافق الإدارية العامة, فهي كلها مصالح عامة مما يلزم الجمهور ويحتاجون لها كخدمات عامة في حياتهم, فالأوقاف ترصد على العلاج والتعليم والإحسان والدفن والمصالح المختلفة, وهي كلها في حقيقتها وجوهرها من قبيل الخدمات الإدارية التي تقوم بها الدول الحديثة, وذات طبيعة إدارية محضة إذا نظرنا إليها بمعيار نظرة النظم الحديثة, وإنما واجهت الشريعة واجب الإنفاق الدائم على هذه الخدمات بوسيلة مناسبة, هي: إيجاد المصرف المالي الدائم عليها؛ باعتبارها جهات بر لا ينقضي.
ومنها: أحكام إصلاح الطرق والجسور والأنهار وكريها وتطهيرها, فإن الشريعة الإسلامية تنظر إلى الطريق العام وكأنه ملك مشترك بين المنتفعين, وكذا الحال بالنسبةللمساقي ومجاري المياه والأنهار, وقد صرح الأحناف بأن هذه الحالة تعتبر “شركة إباحة” بين هؤلاء المنتفعين، وعلى هذا الأساس ألقت عليهم الواجب المباشر والتكليف بذات الالتزامات التي تقوم بها السلطات الإدارية العامة في النظم الحديثة.. وهكذا يمكن القول في سائر الاحتياجات العامة, فلا شك أن الناس يأثمون إذا تركوا أنفسهم في مشقة تهدد أمور حياتهم؛ فإنهم إذاخلت قريتهم أو ناحيتهم من طبيب -مما يهدد حفظ النفس والنسل- فإنهم يأثمون حتى يستقدموا طبيبًا, وحتى يندبوا من أبنائهم من يقوم بملء هذا الفراغ.. وهذه وظيفة إدارية حقيقية, وتقوم بها الدول في النظم الحديثة ويقتصر دور الأفراد في ذلك على أن يجأروا بالشكوى والتذمر من الحكومة دون أن يقوموا إيجابيًا بهذا العمل؛ لأن النظم الحديثة لا تتصور أن يكون للأفراد ولاية على المرافق العامة إلى هذه الدرجة.
أهمية الحسبة في النظام الإسلامي:
إذا كان الأفراد عندنا يقومون بالمرافق العامة في الإسلام، فإن ذلك يتطلب تمكينهم من الوسائل التي يقومون بها بذلك؛ إذ ليس من المعقول أن يقوم الإنسان بواجب يتكلفه بلا وسائل.. ولا يستقيم النظام ولا يتزن إلا بتمكينه من تلك الوسائل, وهذه الوسائل هي التي يكون منها صلب الحسبة, ونحن إذا لم نعترف بها للفرد في الإسلام، اختل توازن النظام الإداري الإسلامي، وعدم وسائله الحقيقية التي يتحقق بها, ولا بد إذن لاستقامة الحياة الإسلامية بوسائلها الإسلامية الحقيقية الأصلية الصحيحة من الاعتراف بنظام الحسبة كعنصر عملي إيجابي فعال؛ لإقامة النظام الإداري الإسلامي على وجهه الصحيح.
النظم الحديثة والحسبة:
أما النظم الحديثة فهي تقوم على أسس وأصول تجعلها تستغني عن الحسبة, وتجعل السلطة كلها في يد الدولة، وإن كان ذلك يؤدي إلى أضرار جسيمة, فالدولة عندهم هي الواضعة لجميع النظم, فهي -في تعبيرهم- تنشأ نشوءًا ذاتيًا بذاتها, فإذا نشأت على هذا الوجه فإنها تحدد النظام تحديدًا ذاتيًا, وتحدد القوانين تحديدًا ذاتيًا, وتصدرها استنادًا إلى سلطتها الوضعية المطلقة, وبذلك فإن السبب في احترام هذه القوانين وقوتها عندهم هو أنها صادرة عن الدولة, فعلت شكلها فقط ولا بحث وراء ذلك في العدالة إلا إذا لم يوجد قانون؛ ولذلك فإن اعتبارات السلطة والتحكم قوية جدًّا في تلك النظم, ولكنها تترك للإنسان مجالا خاصًا في شؤونه الخاصة الداخلية على وجه مطلق, وبذلك فهي تترك للأفراد مجال حرياتهم الخاصة والشخصية والفردية -في حدود القانون-, وتقيد مساهمتهم في الحياة العامة بشكل يكاد يجعل هذه المساهمة لاغية ولا قيمة لها.
وأما في مجال الحقوق العامة فهذه النظم العصرية شديدة الوطأة على الفرد؛ بسبب أنها تجعل الدولة وحدها هي المحتكرة الأولى للسلطة, ففي الحقوق الدستورية: لا يملك الفرد في النظم العصرية أن يباشر شيئًا بصفة الفردية الخاصة, بل كل حقوقه معلقة ومنوطة ومقيدة بأن يمارسها بصفته عضوًا في هيئة من الهيئات, ولا يتأتى له الاستقلال بكيانه في شيء, ففي استعماله لحقه في الانتخاب يدلي بصوته -أيا كان قيمته- كعضو في الهيئة العامة للناخبين, ويتكون القرار النهائي الصادر بإنجاح الفائز من مجموع الأصوات التي أبديت في الانتخاب, وكذا في المشروعات والقرارات التي يقرها البرلمان.. أو نحوه من مجالس السلطة التشريعية المكونة من نواب منتخبين عن الشعب، فإنها كلها تصدر بقرار من الأغلبية، وكذا قرارات المجالس، كمجلس الوزراء فما دون، واللجان داخل مجلس الشعب أو خارجه, وفي أنواع الإدارات المركزية والمحلية والمتفرعة.. كل ذلك يكون بالأغلبية, ولا يملك فرد بصفته الخاصة شيئًا.
وهذا التصوير البراق يخفي حقيقة مؤلمة: هي أن هذه الأشكال كلها تنطوي على التحكم والاستبداد.. فإن الانتخابات التي تدور بين حزبين فأكثر إنما تدور على أساس برنامج يضعه كل حزب, وهذا البرنامج يضعه واحد هو رئيس الحزب، أو -بالكثير- بمشاركة القلة من أصحاب القوى والنفوذ في الحزب, وتأتي المجالس الشعبية -التي تحوز السلطة التشريعية- لتنفذ هذا البرنامج؛ لأنها نجحت على أساسه.. وينظر إلى المعارض داخل الحزب نظرة خاصة قد تطيح به.. وهذا هو الحال في المجالس بأنواعها، وفي مجالس الإدارات العامة كمجالس المؤسسات العامة، ومجالس الإدارات الخاصة، وتسير الحياة سيرًا احتكاريًا في ثوب خادع من حرير الحرية الناعمة, حتى أصبحت الوسائل القابضة من أهم مظاهر الحياة الحديثة, وأصبح التحكم والاحتكار في الحياة العامة والخاصة من أعقد العيوب التي تعاني منها الحياة العصرية, وأصبح الكيان الحقيقي للفرد هو لا شيء.. وصفر بلا رقم صحيح أو كسر..
وفي النظام الإداري وجدت هذه الظاهرة بأقسى صورها في البداية؛ إذ الحقيقة أن النظم الوضعية تحتقر الفرد, وتضحك عليه وتخدعه؛ للحصول على النفوذ والسلطان بواسطة الكوادر والأغلبيات العددية.
وفي البداية قيل: إن أساس النظام الإداري، والمبرر الذي يسوغ وجوده -كقانون استثنائي يعطي الإدارة امتيازات القهر والجبر على الأفراد- هو احتياج الإدارة لهذه الامتيازات ذاتها, فجعلت الامتيازات واعتبارات السلطة والحاجة إلى إعلاء الصالح العام على الصالح الخاص أساسًا لذلك القانون.
وهذا الأساس كان شديد التجاهل والقسوة على الأفراد, فكان يبرر الوسائل الإدارية مهما كانت شدتها، كالشروط غير المألوفة في العقود الإدارية والتنفيذ المباشر بالطريق الإداري بصورة متوسع فيها.
وكان من الطبيعي أن يتعدل هذا الأساس نحو احترام الناس والشعور بوجودهم, فقيل بأن الأساس الذي يبرر وجود قانون إداري مخصوص, (يتصف بصفات الشدة السابق ذكرها), هو ضرورة تسيير المرافق العامة, فإن هذه الضرورة هي التي, قالوا: إنها تبرر قيام قانون إداري إلى جانب القانونين المدني والتجاري اللذين ينظمان علاقات الأفراد, وكان ذلك في منتصف القرن الميلادي الماضي.
وكان اتخاذ مبدأ “تسيير المرافق العامة” أساسًا للقانون الإداري أكثر شعورًا بالجمهور واحتياجاتهم, فلم يقتصر هذا القانون على تنظيم الامتيازات الإدارية، بل أبصر بنواح من مصالح الشعب، وذلك على أساس أن المرافق العامة هي خدمات تؤدى إلى المنتفعين بها، وأن لهم حقوقًا في الطعن على ما يخل بهذا الانتفاع، وأنه يجب أن تراعى أوضاعهم كهيئة لها كيان خاص في مقابل هيئة الإدارة في كيانها.
ونشأت في هذه النظم الوضعية كثير من النظريات والوسائل التي كانت تعتبر تقدمية في وقتها, وكانت موضع فخرهم واعتزازهم الشديد, ثم تطور الزمان مرة أخرى, فقد وجدوا أن انفصال السلطة عن الشعب لهذه الدرجة التي قام عليها نظامهم من قبل، يجعل صراعًا حقيقيًا بين العنصرين، وهما في الحقيقة أمة واحدة.
فإن السلطة تسعى لمصلحة المجموع, والشعب يسعى لمصلحة المجموع, وأنهما يتلاقيان في هدفهما وغرضهما, وأن الحقيقة -كما تكشفت لهم- هي أن الحكومة يجب أن تعمل وفقًا “للروح الشعبية”.
وإنه لا فائدة من الكيان الفردي إلا إذا انفعل وتحمس بهذه الروح العامة –أي: الروح الشعبية-, التي يجب أن تعمر كيان الأمة وتجعلها متحمسة ومنفعلة بالعقيدة العامة والإيمان العام الذي يرتبط به الجميع.
ولم يكن لحديث الإيمان محل قبل ذلك إلا في مناسبات خاصة: كأوقات الحروب والثورات، أو الخطب التي لا معنى لها عندهم..ولكن حدث منذ أوائل هذا القرن أن بدأت أوروبا.. وغيرها بالشعور بضرورة الإيمان, وبأن تقوم على أساسه روح شعبية تدفع الجماعة إلى الأمام.
فالموظف يجب -وهو يعمل- أن يشعر أن عواقب إدارته وآثارها تعود عليه, وأن صالحها وسيئها إنما ينصرف إليه وإلى أسرته في صميم حياته الخاصة ومختلف ما يحتاج إليه.
وكذا القاضي فإنه يجب أن يعلم أن آثار العدالة تعم الجميع وتناوله فيمن تنصرف إليه من المواطنين, وإذا ساعد اليوم على إرساء الظلم فستدور عليه دوائره غدًا.
وكذا المشرع الذي يسن القوانين، فإنه سينطبق عليه كمن ينطبق عليه من عامة الشعب, وبذلك تكون السلطة من الشعب وإلى الشعب؛ إذ يتولاها الموظف أو القاضي أو المشرع كفرد من الشعب يعمل بروحه الشعبية, وعالمًا بأن مآل عمله إليه وإلى أفراد أسرته وأهله كجزء من الشعب.
وبهذا بدأ النظام الإداري يتجه إلى أن يقوم على أساس الروح الشعبية، وإن كان هذا الاتجاه لم يستقر تمامًا, ولم يتأسس بعد على وجهه؛ لأن الواقع أن “الإيمان” والحاجة إليه في تلك البلاد لم يتغلغل إلى صميم الناس بعد، وما زالوا في غفلة لاعبين، وإنما عرف مفكروهم ومنظموهم أخيرًا قيمة الحاجة إليه، وشرعوا في التنبيه له والتنظيم على أساسه, وبديهي أن “إيمانهم” كإيماننا.. وهذا موضوع آخر لا نريد أن نخوض فيه الآن؛ لضيق المجال, وقد ظهرت آثار هذه الاتجاهات الشعبية في الوسائل الجديدة التي بدأت تظهر في مجالات الأعمال العامة.
من ذلك: توسيع حقوق الأفراد في الطعن في القرارات العامة، حتى أراد البعض أن يقرر ما يسمى “بالدعوى الشعبية”, وهي أخت دعوى الحسبة وقرينتها، ولكن الأفكار الوضعية الكليلة لم تحتمل مثل هذا التقدم الشديد.
وكذلك أنشئت شخصيات رقابية كبرى -لها هيمنة على السلطات في مختلف النواحي في الغالب- من طراز جديد لحساب الروح الشعبية وأهمها شخصية “أمبودزمان” في السويد، وشخصية مقاربة منها في فرنسا أنشئت في سنة (1973م) ميلادية باسم الوسيط (انترميديير), ومنها شخصية “المدعي الاشتراكي” في مصر، وهم جميعًا يعملون على إعلاء الروح الشعبية وحمايتها، ولكن مكانة هؤلاء الأشخاص وقوة شخصيتهم وإنتاجية وسائلهم تختلف اختلافًا حسب الظروف، وهي كلها لم تقرر تقاليدها وحدود علاقاتها بالسلطات التقليدية:التشريعية, والقضائية, والتنفيذية, وما زالت أوضاعها تثير الكثير من المشاكل والبحوث التي لم يستقر الرأي فيها بعد..
واتجهت طرق الإدارة إلى العناية “بالإدارة الشعبية” بإشراك العمال والمنتفعين أو المستهلكين في مجالس الإدارة, ومساهمة الشعب في تكوين القرارات العامة.
وهذه الوسائل الشعبية أيضًا قشرية وليست حقيقة؛ لأن العامل أو المستهلك الذي يجلس في مجلس الإدارة يكون ضعيفًا إلى جانب المديرين الحقيقيين الذين يعلمون حقيقة الحال, ويطلعون على أصول الأوراق في حينها, ويتناولون الوقائع فور حدوثها، ويباشرون الإدارة اليومية ويتمتعون بنفوذ فعلي في المشروع.. فضلًا عن أنه لا يعين ولا يبقى في هذه المجالس إلا الشديد الولاء والخضوع.. وإلا أسفر الأمر عن نزاع خطير، وخاصة في حالة وجود نقابات وتشكيلات مقابلة.. وبذلك إما أن تسفر هذه الاتجاهات عن أوضاع صورية -وهو الغالب-, أو تسفر عن منازعات وصراع لا ينتهي..
الوضع في الإسلام:
الأساس الذي يرتكز عليه النظام الإسلامي كله -في جميع نواحيه- على الإيمان بالتوحيد, وهو إيمان يرتكز على العمل بما أنزل الله تعالى من نصوص الكتاب والسنة, وتحري المصالح والمقاصد الشرعية التي يدور الاجتهاد في إطارها.
فالإيمان عندنا نية وقول وعمل, والالتزام بالعمل بما أمر الله به، ومنع ما نهى الله عنه، هو التزام إيجابي عندنا في الإسلام؛ بسبب ما بيناه من أنه مقرر على وجه فرض الكفاية التي يأثم الجميع بتركها، والذي يولد حالة من التضامن العام بين الجميع في إقرار أحكام الله وإعلانها.
وهذه الظاهرة العامة توجد فوارق شديدة من مركز الفرد المسلم في المجتمع الإسلامي، ومركز الفرد المواطن في المجتمع الحديث:
أولاً: أن الحقوق والحريات في المجتمع الإسلامي هي تكاليف وليست تمتعًا ذاتيًا كما في المجتمع العصري.
ومن أجل ذلك عنيت كتب أصول الفقه بأبواب “التكليف”, ونظرت إلى مراكز الأفراد على أنها وسائل في سبيل الله سبحانه وتعالى.
فالفرد يجاهد بنفسه وماله في سبيل الله، ويجب أن تتوجه نواياه نحو الإخلاص لله.
ومن أظهر ما يظهر فيه ذلك: أن يراقب صالح عامة المسلمين وصالح الكافة في أعماله، وهذا يجعله أصيلاً في متابعة المصالح العمومية.
ثانيًا: أن الفرد في المجتمع الإسلامي لا يمارس حقوقه فقط كعضو في هيئة، بل بصفة أصلية مباشرة, وقد يتأتى أن يمثل الفرد المسلم في المجتمع كافة المسلمين؛ بما يقوم به؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: «ذمة المسلمين واحدة, ويسعى بها أدناهم».
قيل: أي: أقلهم كالمرأة والرقيق، وقيل: أقربهم؛ لأنه أولى بأن يجير ويبادر, وقد استند الفقهاء إلى هذا الحديث في أبواب الإمامة, ولكن أراه -والله أعلم- أولى بأن يعمل به في مختلف الأبواب؛ لما قلناه من أن إقامة المصالح فرض كفاية يسد مسد قيام الكافة به, ولذلك فقيامه بالمصلحة على هذا الأساس يكون عن المسلمين جميعًا، وهم يعتمدونه ما دامت طبقًا لما أنزل الله, وما تدور عليه المصالح الشرعية بلا خفاء؛ لوضوح أسس النظام الإسلامي وثباته.
ثالثًا: أن ما تقدم استتبع أن يمكن المسلم من وسائل إيجابية للقيام بما تقدم، بأن يستعمل إمكانياته كوسائل لتحقيق ما أمر الله به ومنع ما نهى الله عنه, وهذه الوسائل الخاصة هي محل الكلام في الحسبة وطرقها ومراتبها, فإن صلب هذا الباب وقوامه هو تحقيق هذه الطرق وهذه المراتب على وجه يحقق المصالح الشرعية المقصودة, ويوازن بين مختلف المصالح التي تعتمل حولها النوازل.
وقد تصل هذه الطرق إلى درجة أخذ الحق باليد وتغيير الباطل بالفعل المباشر، بأن يقوم المسلم بتغيير المنكر بيده؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: «من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده…» الحديث.
ويختلف ذلك من مذهب إلى مذهب، وفي الغالب بسبب الدرجة الحضارية التي عاش فيها المذهب؛ إذ إنني لاحظت -والله أعلم- أن أحكام مذهب عاش في الأطراف وفي الجماعات التي لم تنتظمها دول قوية كمذهب الإباضية مثلاً, تختلف عن أحكام المذاهب التي عايشت الدول القوية كالحنفية مثلاً؛ إذ إن الأولى تسمح للمسلم دائمًا أن يغير بيده، بينما تتجه الثانية في الغالب إلى أن يقوده إلى السلطان أو الحاكم (القاضي), وبعضها الآخر -وهو الغالب- يضع حكمًا احتياطيًّا بصفة دائمة إذا لم يوجد سلطان أو حاكم.
ولا يكاد يوجد خلاف في المذاهب في إتلاف آلات اللهو والكفر وإراقة الخمر عند القدرة وأمن الفتنة, وهذه كلها من وسائل “التنفيذ المباشر” بالمصطلح الحديث, وهو لا يجوز في القانون الحديث، فلا يسمح للإنسان فيه أن يسترد ماله من غاصب -وهو جائز عندنا في الإسلام-, ولا يجوز في القانون الحديث بأي حال “أخذ الحق باليد” على حد تعبيرهم, ومن أجل ذلك فإن النظم الحديثة تعتمد على الدولة فقط, وتنهدم تمامًا بانهدامها، بينما يبقى الإسلام ما استدار الزمان وتغيرت أحواله, وما كان الله ليجعل قيام الإسلام رهين أحوال الدولة, وإلى الله ترجع الأمور. وكذلك فإن الإسلام يزود الفرد بوسيلة قضائية عظيمة القيمة هي دعوة الحسبة.
وفي الواقع فإن هذه الدعاوى الثلاث التي عرفها النظام الإسلامي، وهي الدعوى القضائية العادية، ودعوى الحسبة، ودعوى المظالم، تهيئ حماية كاملة للتطبيق الإسلامي بتكامل وتكفل حماية ممارسة الفرد لواجباته الشرعية بمأمن تام وتوازن بالغ.
فإنه إذا قام المسلم -مثلًا- بإتلاف آلة للفسوق فإن هذا العمل المباشر يقوم مقام رفعه الدعوى أمام القاضي بطلب إتلافها, واستصدار الحكم اللازم, وتنفيذه فورًا على الفاسق، الذي يكون في الواقع، مدعىً عليه في الأصل.. ولكن هذه الوسيلة الباهرة تضطر هذا الفاسق إلى الابتداء بالدعوى والتقدم بها إذا تظلم من إتلاف آلته, أو منعه بالقوة عن فسوقه.. ويصير المسلم الذي منعه عن هذا المنكر وكأنه المدعى عليه فيها، ولا يخفى ما يتمتع به المرفوع عليه الدعوى من امتياز في الإجراءات، وما يتكلفه رافعها من صعوبة.. كما أنه إذا كان المنتظر -بسبب تطبيق قواعد الإسلام على وجهها الصحيح- أن الدعوى التي يقيمها الفاسق في هذه الحالة سيكون نصيبها الرفض والخسران، فإنه -في الواقع- سيضطر إذن إلى عدم الاعتراض والسكوت، مما يؤدي إلى جدوى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ما دام القضاء والسلطة يؤيدان من يقوم بها.
وبذلك تؤدي هذه الوسائل وظيفتها بأمان تام من الفتنة، ولو أنها نفذت تنفيذًا جبريًا بالطريق المباشر بين الأفراد.
هذا ولا يفوتنا قبل الانتهاء من هذه الملاحظات البسيطة على نظام الحسبة والنظام الإداري أن ننوه بأن كل الولايات الإدارية المعاصرة هي من قبيل الحسبة أيضًا, فالنيابة العمومية والرقابة الإدارية والشرطة والقضاة والمفتشون والمعلمون والقائمون بالإعلام والتوعية وحماة النظام من أي نوع, ومنفذوه والقائمون بالمرافق العامة هم آمرون بالمعروف وناهون عن المنكر وقائمون بالحسبة.
وأما الأعمال التنفيذية البحتة –ومنها: أعمال التوثيق السابق ذكرها- فلا يعتبرها القانون الحديث أعمالًا إدارية بالمعنى المفهوم, بل هي -في نظره- أعمال مادية لا ترقى إلى مرتبة التصرفات الإدارية.
وبذلك فمن الممكن -بل الواجب- الإفادة من أصول نظرية الحسبة في الدول العصرية الإسلامية مع ما بيناه من التعويل على الفرد في إقامة النظام الإداري على ما بيناه.
_________
http://www.alukah.net/culture/0/70306/