الحفاظ على السفينة من شعائر الإسلام
الحمد لله رب العالمين، الملك الحق المبين، إله الأولين والآخرين، وجامع الناس إلى يوم الدين، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
من المعلوم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شعيرةٌ عظيمة من شعائر دين الإسلام، بسببه نالت هذه الأمة الخيرية، وبه تميزت عن سائر الأمم، قال الله- تبارك وتعالى-: ?كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ? [آل عمران:110]، وأهل الإيمان وصفهم الله -تبارك وتعالى- في القرآن بأنهم: ?وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ? [التوبة:71]؛ بينما وصف الله -تبارك وتعالى- أهل النفاق بأنهم: ?يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ? [التوبة:67]، فالذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فيه صفة من صفات المؤمنين، ومن قام بالمعروف والنهي عن المنكر مكَّنه الله ونصره، وأيَّده الله وسدَّده، قال الله -تبارك وتعالى-: ?وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيز * الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ? [الحج:40-41].
فالأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر والأخذ على يد السَّفيه حصنٌ حصين من المحن، ودرعٌ قوي من الشُّرور والفتن، وأمانٌ تحفظ به حرمات المسلمين، به تظهر شعائر الدين، ويعز أهل الإيمان، ويذل أهل المعاصي والطغيان، فالواجب على المسلمين أن يأمروا بالمعروف وأن ينهوا عن المنكر، كل على حسب استطاعته، على درجات الإنكار المعروفة، وقد بينها خير الأنام -صلى الله عليه وسلم- كما في حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه ومن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان»(1)، فإذا فشا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تميَّزت السنة من البدعة، وعُرف الحلال من الحرام، وعُلم الواجب والمسنون، والمباح والمكروه، ونشأ الصغار على المعروف وألفوه، وابتعدوا عن المنكر واشمأزَّت نفوسهم منه، ولا بد من تحلي الآمرين بالمعروف، والناهيين عن المنكر بالرفق والحلم والعلم والحكمة، ليكون لعملهم الأثر المطلوب.
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس هو مخصص على أناس معينين كما هو متعارف عند كثير من الناس، بل هو لازم لكل أحد من الناس لحديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- المتقدم، فيجب على كل أحد رأى منكراً أن ينكر على فاعله، وليتعاون الجميع حتى نحافظ على السفينة من الهلاك والغرق؛ لأنه إذا أُعلن المنكر في مجتمع ولم يجد من يقف في طريقه فإنه سيقوى ويكثر الخبث، وعند ذلك يحلُّ بالأمة العذاب والهلاك، ففي الصحيحين من حديث عن زينب بنت جحش رضي الله عنهن: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- دخل عليها فزعا يقول: «لا إله إلا الله ويل للعرب من شر اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه»، وحلق بإصبعه الإبهام والتي تليها، قالت زينب بنت جحش فقلت: يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: «نعم إذا كثر الخبث»(2)، ويقول أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- بعد أن حمد الله وأثنى عليه: “يا أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية وتضعونها على غير مواضعها ?عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ? [المائدة:105]، قال عن خالد: وإنا سمعنا النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: «إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب» وقال عمرو عن هشيم: وإني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي ثم يقدرون على أن يغيروا ثم لا يغيروا إلا يوشك أن يعمهم الله منه بعقاب» (3)، وقد لعن الله -تبارك وتعالى- بني إسرائيل بسبب تركهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: ?لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُون * كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ? [المائدة:78-79]، وعن حذيفة -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «والذي نفسي بيده لتأمرون بالمعروف ولتنهَون عن المنكر أو ليوشِكنَّ الله أن يبعثَ عليكم عقاباً منه، ثم تدعونه فلا يُستجاب لكم»(4).
يقول الإمام النووي -رحمه الله تعالى- مبيناً أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأنه سبب لدفع النقم، وتركه والتخلي عنه سبب لحلول النقم: واعلم أن هذا الباب أعني باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد ضيع أكثره من أزمان متطاولة، ولم يبق منه في هذه الأزمان إلا رسوم قليلة جدا وهو باب عظيم به قوام الأمر وملاكه، وإذا كثر الخبث عم العقاب الصالح والطالح، وإذا لم يأخذوا على يد الظالم أوشك أن يعمهم الله -تعالى- بعقابه، فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم، فينبغي لطالب الآخرة والساعي في تحصيل رضا الله -عز وجل- أن يعتني بهذا الباب، فإن نفعه عظيم لا سيما وقد ذهب معظمه ويخلص نيته ولا يهابن من ينكر عليه لارتفاع مرتبته فان الله -تعالى- قال: ?وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ? [الحـج:40]، وقال -تعالى-: ?وَمَن يَعْتَصِم بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ? [آل عمران:101]، وقال -تعالى-: ?وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ? [العنكبوت:69]، وقال -تعالى-: ?أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ? [العنكبوت:2-3](5).
فبذا تظهر أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحاجة الناس إليه، إذ هو أصل عظيم من أصول قيام حضارة الإسلام، حتى أن بعض أهل العلم عده الركن السادس من أركان الإسلام، فلا قيام لشريعة الإسلام بدونه، ومما يدل على أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حديث أبي ذر -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «يصبح على كل سلامي من أحدكم صدقة، فكل تسبيحة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة، ويجزئ من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى»(6).
ثم إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حماية للبيئة من التلوث؛ لأن إتاحة الفرصة لأهل الرذيلة بممارسة رذيلتهم يلوث البيئة والمجتمع، ويجعل الإنسان الذي يريد الصلاح لا يستطيع أن يكون كما يجب؛ لأن العقبات أمامه كثيرة؛ ولذلك لما في إظهار المنكرات الأخلاقية والفكرية في المجتمع سبب لتعريض المجتمع للانهيار والدمار وفشوا الرذيلة ووقوع الفتنة قال الله -تبارك وتعالى-: ?وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ? [الأنفال:25]، ولا سبيل لإنقاذ السفينة من الغرق إلا بممارسة هذه الشعيرة العظيمة، وإن العلماء والدعاة وطلبة العلم والولاة والمعلمين هم رُبان السفينة، فعليهم أن يقودها إلى بر الأمان ويقوموا بواجبهم خير قيام.
وعلى الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، أن يبدأ بنفسه، فيكون قدوة للآخرين، فقد عاب الله -تبارك وتعالى-من يقول ولا يفعل: ?يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ? [الصف:2-3]، وعن أسامة بن زيد -رضي الله عنه- قال: قيل له ألا تدخل على عثمان فتكلمه؟ فقال: أترون أني لا أكلمه إلا أسمعكم؟ والله لقد كلمته فيما بيني وبينه ما دون أن أفتتح أمرا لا أحب أن أكون أول من فتحه ولا أقول لأحد يكون علي أميرا إنه خير الناس بعدما سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتاب بطنه، فيدور بها كما يدور الحمار بالرحى فيجتمع إليه أهل النار فيقولون: يا فلان ما لك؟ ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فيقول: بلى قد كنت آمر بالمعروف ولا آتيه وأنهى عن المنكر وآتيه»(7).
نسأل الله -تبارك وتعالى- أن يستعملنا في طاعته وأن يجعلنا من حملت هذا الدين الذابين عن حياضه، الآمرين بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن يجعلنا من العاملين بكتابه وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- الواقفين عند حدوده بمنه وكرمه، والحمد لله رب العالمين.
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) رواه مسلم برقم(49).
(2) رواه البخاري في صحيحة برقم (3168) ورقم (3403)؛ ومسلم برقم(2880).
(3) رواه أبو داود برقم(4338)؛ والترمذي برقم(2168) وقال: وهذا حديث صحيح؛ وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب برقم(2317).
(4) رواه الترمذي في سننه برقم(2169)، وقال الألباني حسن لغيره في صحيح الترغيب والترهيب برقم(2313)
(5) انظر: شرح النووي على مسلم (2/24).
(6) رواه مسلم برقم(720).
(7) رواه مسلم برقم (2989).
المصدر: المختار الإسلامي.